يتناول الكاتب قضية "النوع" الأدبي المنطلقة من فكرة محاكاة الواقع، وكيفية تطورها في السردية، ومن ثم انتقالها إلى السينما. ويسلط الضوء على محاولة بعض النقاد الهرب من التقيّد بالنوع والتجنيس، حتى يستطيعوا تصنيف الأعمال الأدبية الحديثة أو حتى العصيّة على التصنيف.

قضية «النوع» في الأدب والسينما

تنظيرات مُتهافتة تجاوزتها التجارب الإبداعية

محمد عبد الرحيم

منذ أرسطو الذي فرّق في «فن الشعر» ما بين الملحمي والشعري والنثري، نشأت قضية النوع الأدبي، المنطلقة في الأساس من فكرة محاكاة الواقع. ومع التطور الزمني في أشكال السرد تطورت الأنواع السردية، بحيث أصبحت عدة صفات أسلوبية تجتمع تحتها مسميات مختلفة لشكل أدبي أُطلق عليه نوع. حيث كان العالم في مفهوم القاص أو المبدع أو الشاعر عالما مفهوما معقولاً يمكن محاكاته، بل يمكن تغييره أيضا، وما زالت في هذا المفهوم آثار من التصور الأرسطي للفن على أنه تمثيل أو محاكاة للواقع. وانتقلت هذه المسميات مع بعض الاختلافات في الظروف الإنتاجية خاصة إلى السينما.

من ناحية أخرى نجد أن بعض النقاد حاولوا الهرب من التقيّد بفكرة النوع واللجوء إلى الأجناس الأدبية أو المجموعات، حتى يستطيعوا تصنيف الأعمال الأدبية الحديثة أو حتى العصيّة على التصنيف. فقد اعتبر إدوين موير على سبيل المثال كل من «أوليس» جويس و«زمن بروست المفقود» بأنهما يمثلان نمطاً فذاً!

النوع أو الجنس الأدبي
النوع هو مجموعة من التوقعات والتعليمات حول نمط البناء الذي يتوخاه المرء والطرق التي يقرأ بها التتابعات، ويضرب جوناثان كولر في مقال بعنوان «نحو نظرية لأدب اللانوع» مثالاً لهذه التوقعات وطريقة التلقي، في أنه يحوّل خبرا صحافيا إلى مقاطع تنتمي لقصيدة النثر. فما جاء في الجورنال كالآتي:

«بالأمس على الطريق السابع كانت عربة مسافرة بسرعة ستين ميلاً في الساعة، اصطدمت بشجرة جميز، كان ركابها الأربعة قد قتلوا». ليصبح الخبر...

«بالأمس على الطريق السابع كانت عربة

مسافرة بسرعة ستين ميلاً في الساعة، اصطدمت

بشجرة جميز كان ركابها الأربعة قد قتلوا»

فهنا أصبح الحادث العابر تراجيديا نموذجية

* * *

صخب التنظير

التنظير دوماً لاحق على التجربة الفنية، يحاول جاهداً أن يستقي منها القواعد العامة، ويؤصل هذه القواعد لتبدو قوانين حاكمة للفن أياً كان شكله، ويأتي الفنان ليكسر هذه القيود/ القواعد، فيحاول النقد مرة أخرى احتواء ما حدث بالنسبة إليهم من اضطراب. محاولة وضع قواعد -من الفلسفة بوجه خاص- لتطبيقها على الأدب/ الرواية. يبدو ذلك على سبيل المثال في افتراضات رالف كوهين في مقال بعنوان «هل توجد أنواع ما بعد حداثية» بوجود لنظريات النوع ما بعد الحداثي، كاقتراح للأنواع وإنتاج أشكال جديدة من أشكال السرد، يكمن أساسها في تجاوزات النوع التقليدي، وكذلك مؤلفات علمية قد تجمع ما بين المقالة والسيرة الذاتية والشذرات، فهناك العنصر الذاتي والأساس الإيديولوجي. ويطلق كوهين اسم «نظرية الأنواع التجميعية» فناقد النوع لا يستطيع دراسة العمل الآن، إلا من خلال هذه التجميعات، فكيف تتفاعل وتنتج نصاً، وما الفارق بينها وبين تجميعات أخرى. الأمر يقترب هنا من فكرة الأجناس الأدبية، التي تبدو كمظلة أوسع تعوّض قصور فكرة النوع، وهو ما يؤكده إدوار الخراط عند حديثه عن مصطلح «الحساسية الجديدة» منطلقاً من فكرة أن الفن لم يعد محاكاة للواقع ولا حتى موازياً له، بل أصبح عالماً قائماً بذاته، إلا أنه يميل إلى فكرة التصنيف حسب الأجناس، فيذكر أنه يرى أن هناك فوارق أو خصائص تحسم هذه المسألة أو المشكلة، بمعنى أنه حتى مع استيعاب وتمثل منجزات الفنون الأخرى، إذا كانت السردية غالبة على النص فهو ينتمي إلى القص أو الرواية، وإذا كانت الإيقاعية غالبة على النص ولو كان فيه سرد أو غيره من منجزات هذه الفنون فهو شعر. أما إذا غلبت الحوارية على النص فهو مسرح، وإذا غلبت المشهدية على النص فهو سينما.

النوع وفق رؤية ما بعد الحداثة
ما بعد الحداثة هي الإقرار بفشل عملية نقل الواقع من خلال الأدب/ الفن. مهما بدت عملية النقل هذه حيادية أو صادقة، وهي ليست كذلك ولن تكون. لذلك فهي تفضي إلى قراءة (الواقع) بكليته من خلال اللغة، ذات العلاقة الاعتباطية في الأساس، وأصبحت إحالات لإحالات أخرى لا تنتهي، فلا توجد مرجعيات أو ثوابت. وتأتي ما بعد الحداثة لتنادي بالتعددية. وهذه التعددية تعني عدم تفضيل جانب على آخر. وكانت التعددية سبباً في انفراط عقد الأنواع الأدبية وتداخلها، إذ فقدت هذه الأنواع عدة سمات تميزها بعضها عن بعض، أحد أهم هذه العناصر أو السمات هو الإيهام بالواقع. فالواقع في مفهوم الفنان دائماً شيء يُخلق، فهو لا يوجد مُسبقاً. فنقاد ما بعد الحداثة يرفضون تحديد الأنواع وتصنيفها، لأنها ليست نتاجاً لخصائص شكلية ثابتة وملازمة لنصوص النوع، بل أنها نتاج لعلاقات التشابه والاختلاف بين الأنواع، وما يحدد الدلالة والنوع هو الثقافة المُتغيرة، ومن ثم سيظل تحديد النوع في حالة اعتباطية مؤقتة. ومن منطلق هذه الرؤية إلى العالم تعددت التقنيات السردية وتنوعت، بحيث لم يعد من الممكن حصرها أو التنبؤ بها من خلال القارئ أو الناقد، ولم يعد الروائي يحفل سوى بعالم يُشيّده وفق خياله، ويتوسل في ذلك كافة الأساليب التي يراها متفقة مع وجهة النظر أو الرؤية هذه.

النص بديل للنوع
لذلك يطوّر إدوار الخراط الأمر أكثر ويتحدث عن أدب (عبر نوعي) بحيث يصبح التوازن المحسوب بين الإيقاع والسرد والحوار، وأن تنصهر هذه الأشكال معاً خالقة نصاً جديداً، فالأمر لا يتوقف على تجاور أشكال لنصوص أو تواليها، بحيث تبدو منفصلة عن بعضها، حتى لو كانت توحي بدلالة داخل بنية النص. فالكتابة عبر النوعية هي الكتابة التي تحفل بتناصات متشابكة من حكايات إلى أمثال، نوادر، قصص، مسرحيات، روايات، شعر، وكذلك الامتزاج مع أنشطة فنية وغير فنية كالسينما، أو الصحافة، بحيث تفقد هذه الكتابة انتماءها لنوع أدبي واحد. وهكذا حل (النص) محل (النوع)، ويرى الباحث أن مُسمى (النص) هو ما كان يبحث عنه موير عندما وصف عملي جويس وبروست بأنهما ينتميان إلى ما سماه بـ .. النمط الفذ.

النوع في السينما
النوع، الجنس، النمط... مصطلحات يتم اللجوء إليها لإجراء عملية تصنيفية، وصفية في المقام الأول، يتم من خلالها استنتاج ثيمات وتكرارات في العمل الفني يكون من خلالها كشفرة ورسالة بين العملية الإنتاجية والمُتلقي، بحيث تصبح توقعات المتلقي من الأهمية في مشاهدة الفيلم واستقباله وفق الثيمات التي تم الاتفاق عليها مسبقاً، من خلال خبرة المشاهدة لأعمال سابقة مُماثلة. الأمر الآخر بشأن هذا التصنيف يبدو وظيفياً، وهنا يتم اللجوء لعملية من الاستنباط السوسيولوجي وتطبيقه على مجموعة من الأفلام تشترك في صفات معينة، ومنها تدور التحليلات حول كيفية ظهور هذا النوع ودلالته في فترة معينة، وأسباب ذلك، سواء كانت اقتصادية أو سياسية، ومدى تأثيرها اجتماعياً في عملية الإنتاج نفسها، أو في مناخ عام يرغب في استهلاك هذا الشكل أو التركيبة من الأفلام.

التصنيف وارتباطه بعملية التسويق
فخلال السنوات الأولى من الإنتاج السينمائي، كانت الأفلام يتم تعريفها عن طريق طولها ومضمونها. وبينما كانت مصطلحات الأنماط الأدبية تنبع في جوهرها من البحث النظري أو لأهداف علمية في التصنيف، فإن مصطلحات الأنماط السينمائية الأولى كانت وسيلة تفاهم مختصرة بين موزعي الأفلام وأصحاب دور العرض. فالمسألة تجارية في المقام الأول، وكان ارتباطها بكيفية تسويق الفيلم في دور العرض، الأمر الذي امتد بعد ذلك إلى آليات وطرائق صناعة الفيلم، فهناك أسواق ضخمة وضغوط لإعادة الأفلام الناجحة ، وبالتالي يتم تسويقها حسب النوع، وإنتاجها بطريقة تحتفظ بالملامح الأساسية لهذا النوع أو ذاك، وخلق مناخ للمتلقي يستطيع فيه استقبال الفيلم بتصورات مسبقة، أي طرق صناعة وتوزيع واستهلاك، ففي البداية اقتصر الأمر على تصنيف مستمد من اللغة الأدبية أو المسرحية كالكوميديا مثلاً، أو وصف بسيط للموضوع كأفلام الحرب، ثم استخدم لوصف النمط مسميات مستقاة من طريقة صنع الأفلام وإنتاجها كأفلام الحيل والتحريك والمطاردات والجريدة السينمائية، ثم تطور الأمر ليصبح تفرعات من نوعين كبيرين هما الميلودراما والكوميديا.

ويزداد الأمر عند الحديث عن النمط من خلال عملية الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، ثم أصبح من خلال اعتماد تكرار موتيفات الحبكة وأشكال الصورة وتحولات السرد المحددة، إضافة إلى تقاليد تذوق الأفلام التي يمكن توقعها من قِبل المشاهدين بشكل مسبق. فنظام تمويل الاستديو كان يتطلب توليفات وأنماطاً ذات مواصفات قياسية معيارية، تتكرر المرّة تلو الأخرى في خط الإنتاج على قواعد منتظمة ومتوقعة. وفي ذلك العصر لم يكن صنع الأنماط من أجل تحقيق نوع خاص من إشباع المتفرج، لكنه كان يقع دائماً في دائرة عملية صنع سلعة مطلوبة لدى الجماهير. ورغم أن التقسيمات مُستمدة من لغة الأدب وتنظيراته النقدية، إلا أنها في عالم الفيلم لم تكن كذلك، فالأجناس الأدبية تمثل تسلسلاً هرمياً أوجده النقاد والدارسون، بينما تمثل الأجناس الفيلمية استجابة الاستديوهات لمتطلبات السوق، لذلك لا يوجد تسلسل هرمي للأجناس، بل فقط أنواع من الأفلام تنجح وأخرى لا تنجح، كما أن ما ينجح في فترة معينة قد لا ينجح في فترة أخرى.

فالفيلم الناجح سيصبح بدوره مدعاة لتشكيل نمط من خلاله/ نواة تجتمع حوله الأفلام اللاحقة، التي تتمثله، سواء من خلال تكرارات السرد وسمات الشخصيات وما شابه، حتى يتم ترسيخه في وعي وخبرة المشاهد. مسألة المشاهد/ المتلقي أصبحت من الأهمية في ما بعد، كمستهلك لسلعة يجب إرضاء ذوقه واهتماماته. هذا من ناحية المتلقي، أما من ناحية النقد فقد وفرت مظلة النوع سهولة في التناول وعقد المقارنات والنَسْخ وإعادة تقديم أفلام جديدة، أي الوصول إلى مصادرها أو تنويعاتها، ومدى التشابه والاختلاف أو الانحراف عن النمط المتأصل المستقر.

الوظيفة الاجتماعية لفكرة التصنيف
من ناحية أخرى تبدو المشكلة في حالات تداخل الأنماط، فهي ليست نقية تماماً كأفلام الغرب الأمريكي أو الفيلم نوار من حيث الشكل الطقسي والأيقوني في الأول، والتباين اللوني وطريقة تناول الشخصيات في الثاني. لذا نجد في العديد من تنويهات الأفلام ونشراتها وصف الفيلم من خلال عدة أجناس، كدرامي موسيقي جريمة، وما شابه من هذه الصفات. كما أنها في حالة تغير وتطور مستمر، سواء أرسى قواعدها منتج العمل أو الناقد، فيأتي دائماً صانع العمل ليُغيّر من طبيعة النوع الفيلمي وتطويره. هذا من ناحية الصناعة والتقنية، أما التحليل السوسيولوجي ــ وهو أمر خارجي عن الفيلم ــ تتواتر التحليلات والاسقاطات التي من خلالها يمكن رصد عكس آمال وتطلعات المجتمعات في فترة زمنية معينة. كموضة الأفلام الاستعراضية في الأربعينيات كمهرب من آثار الأزمة والركود الاقتصادي، والفيلم الأسود انعكاس لحالة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأفلام الخيال العلمي تجسيداً لتوترات الحرب الباردة والقلق النووي. هذا التصنيف يؤدي وظيفة اجتماعية يراها الباحث متجسدة في الحلم السينمائي كهروب من واقع متأزم، أو تصدير صورة موهومة تريد جماعة ما أن ترى نفسها من خلالها أمام العالم/ المجتمع الأمريكي بوجه خاص. فالأمر مرتبط في تحليل العلاقة بين مجموعات من الأفــــلام والثقافات التي صُنفت في إطارها وعُرضت في ظلها، فالتصنيف مشروط بوضع الفيلم في سياق مادي وزمني خاص. فالأنمــــاط تقوم بوظيفة طقسية كإتاحة حل متخـــيّل للأسئلة التي تثيـــرها التناقضات في المجتمع. فالويسترن هو حوار بين القيم الأمريكية المتعارضة للحرية والعمل الجماعي، في ما يرى فريق آخر أنها شكل اقتصادي من الإيديولوجيا. أي الوقوع في شرك قائمة الأوليات كما تراها الصناعة أو جماعات المصالح المشتركة/ الدولة. فالويسترن على سبيل المثال عبارة عن تبرير الاستيلاء على الأرض، بحجة إرساء قواعد القانون.