يرى الناقد المصري أن الرواية تعزف علي ثلاثة أوتار، تتواشج بعضها مع بعض. الوتر الأول، الحالة الإنسانية التي تعيشها أسر عديدة في الريف. والثاني أفعال الشرطة التي كانت، ولم يزل يعاني منها الوطن المصري. أما الوتر الثالث، فهو اللايقين، أو الشك الذي يعيشه الإنسان في كل مكان.

«فاطمة» عمرو العادلي .. تعيش الماضي في الحاضر

شوقي عبدالحميد يحيى

يحكم العمل الأدبي، زمنين، يتحكما في رحلته عبر وجوده.. قصرت المسافة بينهما ، أم بعدت. أما الزمن الأول، فهو زمن الخلق، أي المناخ الذي يولد فيه العمل، حيث يمكن قراءة المبدع ومناخه المحيط ، فترة الميلاد. أما الزمن الآخر فهو زمن القراءة. وهو بالتالي ليس زمنا واحدا، وإنما هو أزمنة ممتدة بامتداد تعدد القراء ، وتعدد أزمنتهم. فكل من يقرأ العمل. يبحث فيه عما يحط به، وعن من يشغلون فترته الزمنية. وكأن العمل الإبداعي هو المرآة التي تعكس ما حولها ، أينما لمستها يد ووجهتها.

ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلي قراءة أحدث روايات عمرو العادلي الروائية "اسمي فاطمة"[1]، والتي يُرجع المنطق زمن كتابتها لعامين –علي الأقل- قبل تاريخ نشرها، في بداية العام 2017 . أي أنه لم يكن قد مر علي اندلاع الثورة الحقيقة، والمُزلزلة، في مصر في العام 2011 كثير من الوقت، الذي يجعلها ماثلة في الأذهان، وفي الوجدان، لم تزل. فتكون القراءة حول البحث الجاد عن جذورها، وأسبابها المُحركة، هي الدافع، مثلما حاولت التجارب الروائية الصادرة في تلك المرحلة، والتي من ضمنها بالطبع رواية الكاتب ذاته في "الزيارة"[2]، والتي لعب فيها علي تقنية الزمن في بنائها، وهو ما يمكن أن نتبينه في هذه الرواية الجديدة أيضا. بينما يمكن قراءة الرواية بزمن قراءتها، حيث لا يملك القارئ إلا أن يمسك بالمرآة، يديرها حوله ليري واقعه من خلالها، ليتبين أن الزمن لم يتغير، وأن الحاضر لا يختلف عن الماضي – إن لم يكن أسوأ -. وهو أيضا ما يعطي الرؤية البعيدة للرواية.

وقد نجح عمرو العادلي في التعبير عن تلك الرؤية بطريقة فنية تمثلت في حالتين، أولاهما أن الرواية تبدأ وتنتهي في المحكمة، حيث تُحاكم الساردة "فاطمة" علي جريمة قتل، مؤكد ذلك في مراحل الرواية المختلفة، بتذكيرنا دائما، بأننا ما زلنا داخل المحاكمة، وكأن الزمن لا يمر، وإنما مازلنا واقفين عن نفس اللحظة، لحظة البداية الروائي، والبداية الزمنية الواقعية.

وأما الثانية ، فهي أن السرد يدور منذ البداية، وحتي النهاية كمنولوج، يغوص حينا في قاع الساردة، ويخرج حينا لأرض الواقع. متأرجحا بين ماضيها وحاضرها، بين بدايات ومسببات فعل القتل، ونتائجه. معلنة أن المشكلة ليست مشكلتها الفردية، كإنسانة، وإنما لابد من توسيعها لتشمل مجتمعا بأكمله، عاش ويعيش مآساة، كانت سببا في زلزلت المجتمع، وما يمكن أن تعيده مرة أخري.

تعزف الرواية علي ثلاثة أوتار، تتواشج بعضها مع بعض، لتكون في النهاية معزوفة تشجي القارئ، وتسير به عبر التشويق، ليصل في النهاية لحالة الإشباع.

أما الوتر الأول، الحالة الإنسانية التي تعيشها أسر عديدة في مجتمعنا، خاصة في الريف.

"فاطمة" فتاة لم تتجاوز مرحلة الطفولة بكثير. فما أن وصلت الثامنة عشر من عمرها، حتي انتزعوها من أحضان اللعب واللهو الطفولي، ليزوجوها من "خالد"، رائد الشرطة، والذي يرشحه زيه، ورتبته، للإقتناع والموافقة المباشرة. تتسلح فاطمة بنصائح والدتها في الحفاظ علي رجلها الذي تطير معه علي أجنحة الخيال إلي القاهرة حيث يعيش في "حي الزهور"، القريب من مطار القاهرة الدولي، ليصبح الطيران والتحليق، علي مرمي البصر منها. غير أنها لا تستطيع الطيران. بل يغوص بها "خالد" إلي قاع الغموض والتوهان والخديعة. الحد الذي يصل بها في النهاية لقتله.

ولقد لعب العادلي دورا كبير في خلق عناصر التشويق التي تربط القارئ بالعمل، ويجعله باستمرار في حالة ظمأ وتشوق القراءة، بتقديم أطراف تغيرات كبري ستحدث- خلال الرواية -، ويمهله كثيرا قبل أن يروي ظمأه، طالبا منه التمهل. فنجد مثلا في نهاية فصل بينما الساردة مسترسلة في سرد حكايتها::

{ حكاية جدتي ليست هي الموضوع، ولكنها كانت ضمن مقدمة مثل مقدمات الكتب التي كان أبي يحتفظ بها في مكتبته. أما الموضوع نفسه فسيأتي بعد قليل}ص40. لينتقل إلي فصل جديد قد يكون بعيدا عن حكاية الجدة، التي يمكن أن يأتي بعد عدة صفحات.

أو أن يطلب من قارئه الصبر عليه قي الحكي، فنجد في نهاية فصل آخر:

{أعرف بأن نقل المشاعر بين الناس عن طريق الكلام أمر مرهق، لكني أريد أن تنصتوا إليَ ولو قليلا من الوقت}ص103.

إلا أن هذه الفقرة، وغيرها كثير، بما ينسحب علي شخصية الساردة "فاطمة" ويؤكد إرتفاع المستوي الثقافي لها ، وهو ما لايتفق مع المتاح لنا عن شخصيتها ، الريفية، والمتزوجة في سن الثامنة عشر. ولم نتعرف علي أي مستوي تعليمي لها. حتي وإن كانت الإشارات تشير إلي إتاحة والدها لها بقراءة بعض ما يكتبه من قصص. إلا أننا لم نتبين شغفها مثلا بهذه القصص، أو نتعرف علي تأثير الأب الذي جاءت شخصيته سلبية لدرجة كبيرة، فجاء ظاهر شخصية "فاطمة" غير باطنها. وما يدفعنا للنظر إليها بالبعد الرمزي الذي جاء علي حساب البعد الإنساني، وما يوضحه الاستماع إلي العزف علي الوتر الثاني.

وأما الوتر الثاني فأفعال الشرطة التي كانت، ولم يزل يعاني منها الوطن المصري.

رغم ما تسلحت به "فاطمة" من تقاليد ريفية، من أن الزوجة عليها أن تصنع من نفسها تحت الطلب لزوجها. وهنا يغمز الكاتب فيما يشبه التحذير، والكشف عن طبيعة إتجاه العمل نحو السلطة القمعية، فتقول فاطمة:

{محاولات إسعاده المستمرة كانت تأتيبنتائج عكسية، فكلما أطعته وحاولتُ امتصاص غضبه زاد عنفه أكثر وتكون لديه إحساس زائف بأنه صاحب حق}ص156.

إلا أنها تتعرض للكثير من المفاجآت، التي تبدل حالها. وأولها أن زوجها عقيم لا يستطيع الإنجاب، غير أنه يوهمها بأنها هي التي لا تستطيع الإنجاب، ورغم ذلك هو يتمسك بها.

وتكتشف – فاطمة - أن زوجها، ضابط الشرطة، يتعامل مع أمين شرطة مفصول، غير أنه يتمتع بكل امتيازات الشرطة وهو في الخدمة، نظير خدمات يقدمها لرجال الشرطة الحاليين، وبالطبع كلها عمليات مشبوهة. فعندما يثير هذا الشيخ المريب النظرات والتصرفات لديها تسأله عمن يكون، فيجيبها:

{ طه هذا كان أمين شرطة تم فصله عن العمل لأسباب أخلاقية، لكني أؤكد لك أنه مظلوم، وأؤكد لك أيضا أن السلطة في أي مكان لا تنسي أبناءها، حتي لو كانت أخلاقهم تحتاج لترميم، لأنهم مخلصون لما تريده السلطة، ولا يهم بعد ذلك ماذا يفعلون}ص197.

وتزيد مساحة التساؤل لدي فاطمة. فتسأل عن الدور الذي يمكن أن يقوم به هذا الذي لاتجد راحة في التعامل معه، لتكشف عن ذلك الدور القذر الذي يلعبه رمز الفساد هذا (الشيخ) المزيف، وكأنه يشير أيضا إلي الكثير من الشيوخ المزيفين، الذين يبدون في أعين الناس بالورع وهم ليسوا إلي شيوخ (عيرة). ليجيبها:

{ هذا هو أداتنا الإعلامية في المكان. هو يُقنع العملاء بالشراء. فهو كما ترين شيخ مفوه لا تنقصه الفصاحة في الكلام. ونحن لا نحتاج لشئ أكثر من ذلك}ص189. وكأن العادلي يرمي إلي الكثير من الوجوه الإعلامية التي وضعت نفسها تحت تصرف الدولة. وليزيد من توسعة أفق التأويل، ومساحة الرؤية، لتشمل الوطن بأكمله، وتدعو القارئ ألا يتوقف عند الرؤية المباشرة. وهو أحد الأدوار الرئيسية للإبداع عامة.

ثم تكتشف أن زوجها أصلا هو الآخر مفصول من الشرطة، لكنهم أيضا سمحوا له بالاستيلاء علي الكثير من الأراضي التي يبنيها مقابر ويتاجر فيها عن طريق "الشيخ طه" أمين الشرطة المفصول، حيث في محاولة لإقناعها، يبوح لها خالد:

{قطعة الأرض هذه مِلك بعض ضباط الشرطة. اشتريناها بتسهيلات من التجار. وهؤلاء التجار لهم مصالح أخري لدي الحكومة، الناس تخدم بعضها. قسمنا الأرض إلي قطع، وقسمنا القطع إلي عيون، وقسمنا العيون إلي مقابر صغيرة تُباع بالتقسيط}ص186.

وتصل ذروة مأساتها، عندما يقوم "الشيخ طه" أمين الشرطة المفصول بدور "فرج" في رائعة نجيب محفوظ "الكرنك" – حيث يعيد للأذهان وقائع الرواية والفيلم، بل وقائع مرحلة بأكملها كان للشرطة، وأجهزة الأمن عموما، فيها دور كبير في حدوث النكسة، وكأننا نتخوف من نكسة من نوع جديد. حيث يذهب الشيخ طه إلي منزل خالد في غيابه، ليقوم بتخديرها والاعتداء عليها ، لتستيقظ وتتكشف لها المأساة، وبينما لم تفق من ذهولها ، يأتي زوجها ومعه "بدرة بيضا" حصل عليها من الشيخ فرج، وأن هذه البودرة هي التي ستأتي بالبشارة بعد إسبوعين.. وينام خالد معها.. لتظهر النتيجة بالفعل بعد إسبوعين.. وتعيش حالة التوهان والحيرة.. من والد من في بطنها؟.

ويفتح الكاتب لنا مجال التأويل، ليؤكد ضرورة النظر لأبعد من القراءة المباشرة، فيعبر عن الدنس الذي وجدت نفسها مرغمة له، بفعل (الشرطة). ففي الوقت الذي عجز فيه "خالد" عن منحها ما تحتاجه كأنثي محترمة، فقد كان – كالمتعمد – هو من سمح لغيره أن يروي ظمأها (المعنوي)، فيعبر علي لسانها في جملة موحية:

{بدأت أكره هذه الكلمة ، المصلحة، وإزداد كرهي للرجل الغامض ذي الشفة المشقوقة. شعرت بالظمأ مرة أخري بعد أقل من نصف ساعة، طلبت من خالد الماء، ولم يسمعني أيضا، للمرة الثانية، لا يريد خالد أن يروي ظمئي، أو ربما لا يريد أن يسمعني.}ص199. لتجد الرجل الغامض الجالس في الكرسي الخلفي لسيارتهما، يمد لها يده بالماء.

لمسة أخري يدوس بها الكاتب علي الجراح . فلم يكتف بأن الشرطة في العموم تتاجر في القبور، وكأن مهمتها قد أصبحت تسير بالناس إليها، خاصة بعد تعدد حالات الوفاة في حجز الأقسام، بل إنها قد أماتت الأحياء أيضا. فعندما ذهب خالد بفاطمة لتتعرف علي أملاكه في المقابر، ينصرف خالد مع الشيخ طه، لتقف فاطمة تتأمل المكان و{ أثناء تفقدي المكان رأيت شابا يقف أمامي ... كان يرفع يديه بالدعاء وأمامه لوحة رخامية مكتوب عليها اسم، اقتربت من اللوحة وقرأت الاسم "المغفور له محمود عبد الله نسيم" ثم أسفل اسمه آية قرآنية بالخط الكوفي. اقتربت منه وسألته:

هل هذا قبر والدك؟

أنزل الشاب ذراعيه إلي جنبه:

لا. فوالدي مات منذ عشر سنوات.

ومن يكون إذن محمود عبد الله نسيم هذا ؟

التفت الشاب إلي بالكامل:

أنا

انقبضت للوهلةالأولي، ثم ابتسمت:

وهل أنت ميت؟}ص190.

ليجيب القارئ بنفسه عن السؤال : نعم مات الشباب أحياء، بفعل تصرفات الشرطة.

 

وأما الوتر الثالث، فهو اللايقين، أو الشك الذي يعيشه الإنسان في كل مكان. حيث كانت فاطمة كثيرة الأحلام. فقد تداخلت الأمور بين الوعي واللاوعي، دون أن تستطيع التفرقة – وربما نحن القراء – بين ما هو حقيقي واقعي، وما يدور بأعماقها.

فتري فاطمة خالدا آخر، شاب بجلباب أبيض، يطرق بابها، ويطلب (عيش ناشف). ثم يختفي. ويعود ليظهر من جديد، ويكرر الطلب، وقبل أن تندهش، يخبرها بأنه يطلبها ليطعم بها الطيور الجائعة. فتبدأ في التعاطف معه. وتأخذها فكرة الرحمة بالطيور، وتصعد السطح، الذي أخبرها ذو الجلباب الأبيض أنه يسكنه، غير أنها لا تجد حجرة في السطح، ولا تجد خالدا في الأساس. لكنها تجد ورقة مطوية، تفتحها لتجدها خطاب من جارتها ، الممثلة كريمة شوقي، إلا أنها لا تعلم أيهما ، هل هي كريمة شوقي الأم الممثلة، أم ابنتها "شوق" التي تتقمص شخصية أمها، المهم أن الورقة خطاب موجه إلي "خالد ذو الجلباب الأبيض، فتتأكد أن خالد موجود بالفعل:

{ لم أكن الوحيدة التي تري خالد، فهي أيضا رأته، لا أعرف هل هي كريمة شوقي أم شروق ابنتها التي تتوهم بأن روح أمها تلبستها؟ لا يهم أن أعرف ذلك الآن، المهم أن خالد موجود بالفعل، وأنه ليس مجرد خيالات شكلتها أحلامي}ص205.

وعندما تذهب إلي محل الزهور الذي كان كبيرا في الحي، تتعرف من صاحبه أن هذا الحي كان كله ملكا له ولأخيه، خالد، واستولت عليه الحكومة. تعود فاطمة إلي بيتها ، وترسم صورة من الخيال، لذلك الشاب ذو الجلباب الأبيض "خالد" وتعود بها إلي محل الزهور الذي رأته في هذه المرة قد (صَغُر). فيندهش صاحب المحل ويخبرها بأن هذه الصورة لا تشبه أخوه خالد، لكنها هي بالفعل صورة خالد. ليتحول خالد الصورة هو البديل الذي كانت تتمناه فاطمة لخالدها. ولم تقتنع بأن خالد الصورة مجرد طيف في خيالها، وإنما هو خالد بالفعل الذي رأته وتحدثت معه. فتكتب له خطابا، تكشف فيه عن مكنون هذا ال"خالد":

{لقد رأيت فيك ما أبحث عنه في هذه المدينة الغريبة، المساحة الكبيرة الشاسعة التي تبتلع الخيال، أبحث عنك يا خالد منذ أن كان فراشي يبتل في الصباحات، أبحث عن معني للخير والرقة والنفسالهادئة، آه، نسيت، والجمال ................................ لا أعرف هل ستصدق كلماتي أم لا، فأنا معي خالد، وأحتاج إلي خالد آخر، والخالدان لا يجتمعان في رأسي أبدا، بينهما دائما فروق كثيرة}ص201.

وبالربط بين خطاب فاطمة، والخطاب الذي وجدته باسم كريمة شوقي، يفتح لنا العادلي قوسا جديدا في مجموع أقواسه المتعدد، ففاطمة ليست وحدها التي تحلم، أو تعيش الحلم في الحقيقة، أو المثال في الواقع، و لننظر– أيضا - إلي فاطمته، كرحلة من القرية إلي المدينة، أو من المثال، إلي الواقع، أو من المأمول إلي المتاح، لتتسع الرؤية ويتسع الفضاء الروائي.

إلا أن الصورة الأكثر تماهيا بين الواقع والخيال، هي تلك الفعلة لأمين الشرطة معها، فلم تعرف هي علي وجه اليقين أنه فعلها. فهي تعي جيدا أنه جاء إلي البيت، وطلب طلبات غريبة، وبعدها وجدت نفسها علي سريها، وبقميص ليس قميصها، وأن الشيخ طه، غير موجود. ثم جاء زوجها، في نفس الوقت واجتمع بها، وبالفعل تم الحمل بعدها، فمن يكون أب الوليد؟ خاصة إذا ربطنا بين استقبالها لحكاية "أم خالد" مع الخنزير "عم فاطمة"، حيث تحكي لها أم خالد أنها كانت زوجة لرائد شرطة في بلدهم، وكان زوجها عقيما، وكان لعمها (فاطمة) علاقة بها وزوجها، وكان يتردد عليهم. وفي ليلة ،وفي أثناء غياب زوجها جاء عمها، وتصرف نفس تصرفات أمين الشرطة، ثم وجدت نفسها قد حملت بخالد.

فنري فاطمة تشككت في الحكاية متسائلة، ولماذا لا تكون أم خالد هي التي سلمته نفسها؟ ليغيب اليقين، ويسود الشك بين الواقع والمُتخيل. خاصة أن لعمها "الخنزير" قد تشككت فيه أبضا، من تصرفات أمها معه. فهو من زَوَجَ أمها -أم فاطمة – من أبيها بالقوة، وأمها التي سعت لأخذ موافقة عمها علي زواجها من خالد، ويومها لبست أفضل ما عندها، وكانت الفرحة بادية عليها حين الدخول عليه، أي ان العم كانت له سطوته علي الأم والأب معا. فما الذي يمنع أن تكون هي أيضا (ابنة عمها) وليست ابنة أبيها. خاصة في ضوء وجود والدها الباهت الدور في حياتهم، وأن الرأي الأخير للعم وليس للأب. علي الرغم من أن الأم هي التي أطلقت علي العم "الخنزير" . وهي التي أخبرتها بأن هذا الخنزير عند تزويجها من أبيها، أصر علي أن تكون الليلة ببيته، وأنه كان يتلصص عليهما في تلك الليلة.

لتتحول العلاقات كلها إلي علاقات مشبوهة، وليست يقينية، فخالد جاء من رجل غير أبيه، وهي جاءت من رجل غير أبيها، وابنها جاء من أب غير أبيه. الأمر الذي يمكن في النهاية أن تكون هي نفسها "فاطمة" قد تزوجت من أخيها من أبيها. وكأن الكاتب أراد أن يوحي لنا بأنه إذا كانت الأم غير مشكوك فيها، فليس بالضرورة أن يكون الأب هو الوالد، فضلا بالطبع عما يمكن اكتشافه من فساد في المنظومة الشرطية، من بداياتها وحتي منتهاها.

الحياة المركبة

. وحيث أنها قادمة من الريف والطفولة، وليس لها من أصدقاء أو معارف في القاهرة، حتي من تعرفت عليهم في محيط البيت. كانت كلها تعارفات خارجية، فلم يكن أمامها إلا الأحلام ، التي تداخلت مع الواقع، حتي لم تعد تثق أو تحدد ما هو الواقع وما هو الحلم أو التهيؤ في حياتها. وتعبر هي عن تلك الرؤية في {لا أشعر بأنني أشبه الناس في شئ، أري أمام المرآة صورتي تعكس كل الرؤي والألوان والروائح الماخوذة من نفسي، ثم تعطيها لي علي هيئة ناس وأحداث وزمن يمر، يبقي هذا التصور ينسخ عالمي الداخلي بشكل مستمر}ص68.وأيضا يأتي السؤال علي لسانها {لماذا لا يوجد عضو في الجسم اسمه الخيال؟}. ليحدد لنا أن الخيال في حياة الساردة، بعدا آخر من أبعاد شخصيتها، تحددت في العديد من المواقف، حيث رأينا ما يحدث بالداخل، له إرتباط بما يُري في الخارج، وكأنها الموسيقي التصويرية التي تعبر عن الرؤية الداخلية. فمثلا عندما بدأت حقيقة خالد في التكشف لها، وبدأت التغيرات تطرأ عليها، من الرغبة في إرضائه، ومحاولات خلق العلاقة السوية، إلي موت تلك الرغبة، والتفكير في الخلاص من تلك العلاقة، نري المنظر في الخارج، في حوض الأسماك حيث بدأت السمكة الكبيرة التي تُركت بلا غذاء، في إلتهام سمكة صغيرة، وفي قفص العصافير التي انحبست في قفصها سنتين، قد ماتت إحداها، ووقفت الأخري عليها.

وبعد أن فعل أمين الشرطة فعلته معها، وجاء خالد، ليبدأ دوره. تتحول فاطمة إلي (طفي سيجارة) في صورة إيحائية :

{ أشعل خالد سيجارة بعد أن هده تعب الحومان من حولي، زفر الدخان في وجهي، ثم ابتسم وحرك فكه كأنه يمضغ شيئا:

بعد عشرين يوم

أبعدتُ الدخان عن وجهي:

ماذا سيحدث؟

النفاية أصبحت بطول السيجارة

سوف نذهب إلي الطبيب. هذه وصفة مجربة من باكستان. جاءت بنتائج مبهرة مع لواءين من قبل.

ونذهب للطبيب. لماذا؟

كي نري الولد يتحرك كعقلة الإصبع فوق شاشة الأشعة.

الولد؟

وسقطت النفاية الطويلة فوق بطني.}ص228.

وقد استخدم الكاتب ذلك الإسلوب ليحدد لنا ذلك الازدواج في حياتها، فعشنا مستويين من الحياة معها. المستوي الأول، أو المباشر، أو الواقعي، هو حياتها الجديدة كزوجة لرجل شرطة، اكتشفت معه أن الظاهر شئ، قد يكون مغريا للفتيات، والباطن عفن وفاسد. وقد تكشف لها ذلك منذ اللحظات الأولي لها معه. حيث ما أن علمت أنه مسافر بها من القرية إلي مكان في القاهرة إسمه "حي الزهور" حتي راحت تبني الأحلام، وتتصور أنها مقبلة علي تلك الخضرة والزروع والورود. إلا أنها ما أن بدأت في دخول ذلك الحي، حتي كان الأسفلت والكاوتش المحروق والرجل المجذوب مهلهل الثياب ثم {لم أجد أية زهور من حولي، فقط شجرة ذابلة قصيرة لم أتبين نوعها في الظلام}ص79.

إلي أن تقولها صريحة {بل إن حي الزهور نفسه، مجرد مرآة لنفسي..}ص194.

رحلة إبداعية، جمعت بين التلقائية التي ولدت المعايشة والمتعة القرائية، والحبكة المحكمة، التي وسعت من الفضاء الروائي، عشناها مع فتاة تقول "اسمي فاطمة" ، لكننا عشنا معها ومع عمرو العادلي، حيوات كثيرة، اتسعت من فرديتها لتشمل وطنا بأسره يعاني بمعاناة "فاطمة"، تسعي للمثال، لكن الواقع يرفضه، فتستحضر الماضي ببراءته لتعيشه داخل نفسها متقوقعة، ورافضة لزيفه وخداعه. وليرتبط الهم الخاص بالهم العام في تجانس وانسجام.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

[1] - عمرو العادلي – اسمي فاطمة – رواية – الدار المصرية اللبنانية – ط1 – 2017.

[2] - عمرو علي العادلي – الزيارة – رواية – دار أكتب للنشر والتوزيع – ط1 عام 2014.