إن هذه الرواية الأشبه بأحجية تستفز المتلقي لفك شفراتها، كسرت قيود المألوف فهي المعادل الموضوعي لما يحدث في عصرنا الحالي رغم تعدد لوحاتها وتعدد شخوصها وتزاحم أحداثها فاستخدم الروائي الحلاج قناعاً ليرصد من خلاله للمتلقي السلبيات والإيجابيات بل أيضا الخرافة التي تعبث بالوعي الجمعي للمجتمع

جماليات التجريب في «رواية الحلاج»

للروائي محمد سامي البوهي

نجـلاء نصيـر

مما لاشك فيه أن إميل زولا (0 Email Zola 1920_184) يعد الأب الروحي لمصطلح التجريب في مجال الابداع الأدبي وذلك من خلال روايته "الرواية التجريبية " حيث طبق فيها أسس الاتجاه العلمي الطبيعي في مجال الرواية ،فضلا عن ذلك طبق فيها معظم الفرضيات التي استقاها من داروين وكلود برنارد موشجاً الصلة التي انقطعت بين العلم والطبيعة .

جاءت الرواية في مائتن وأربع وثمانين صفحة مقسمة إلى إحدى عشرة لوحة معنونة وتحت العنوان مقطع من شعر الحلاج الصوفي .

فالرواية أشبه بالأحجية التي تستفز المتلقي لفك شفراتها فالعنوان "الحلاج " وإن كان في ظاهره المباشر يعني الصوفية نسبة إلى الحلاج الذي ولد (244هـ_857م)ت (309هـ_922م)ببغداد فقد حكم عله القاضي أبو عمر المالكي بالقتل بعد أن رأى كفره ومروقه وتماديه في الضلال على حد زعمه وأمر الخليفة المقتدر بإنفاذ الحكم على أن تقطع يداه ورجلاه من خلاف ،ثم يضرب عنقه ،ثم يحرق ويلقى برماده في نهر دجلة.

فالروائي استدعى الحلاج من مرقده لنحلق معه في سماء رحلة ابداعية من السحر والخيال من خلال عدة تقنيات ومنها عتبات النص التي تتجلى في الغلاف الذي يعد العتبة الأولى فالغلاف لم يعد وسيلة لحفظ المتن وحفظ إسم مؤلف العمل فحسب بل يعدد فضاءً إيحائياً فجاء لونه درجة من درجات البرتقالي الغامق الذي يرمز في علم النفس اللوني إلى لون البعد والآفاق يشجع على التخيل الهادىء والتأمل الباطني ويخفف من حدة الثورة والغضب.. وهو يعبّر عن سمو النفس والنبل والمثالية والصمت، ويرمز إلى الصدق والحكمة والخلود والثبات والإخلاص.فالغلاف جاء بسيطاً يحاكي عنوان الرواية فعنوان الرواية زركشه رسم تعبيري لصوفي باللون الأسود ليلفت المتلقي للعنوان في الأسفل إسم الكاتب باللون الأبيض بارزا ً على الظل الأسود،وعلى الدفة الثاية يخبرنا الرواي العليم بضمير المتكلم عن "الحلاج الذي غزل بيديه أخبار مدائن قد مضت فاصطفاه صاحب الأسرار ليكمل غزل حكايته ..." فالغلاف يوضح للمتلقي أنه سيبحر في رحلة الأسرار .

وجاء الإهداء مباغتاً للمتلقي "إلى العتق " الذي كلما ابتعد عني ؛كبلني " فالمفارقة تتجلى في الاهداء المذيل بأسماء أبناء المؤلف حنين وياسين .

فالعتق هو التحررمن العبودية فكيف يكون العتق سببا في قيود المؤلف ؟

ثم نتتبع كلمة الكاتب ص:7"ليس الطريق وحده ماياخذك ...."

فالكاتب يقر في كلمته أن النور وحده هو ما يجمع النهايات والسؤال الذي يطرح نفسه أي نور يقصده المؤلف ؟

في ص:9 يستلهم الروائي قصيدة للحلاج في العشق الإلهي ، فالرواية تعبر عن رؤية خاصة للمؤلف عن موقفه من الحياة بلورها في روايته ، فأول ما يلفت المتلقي استلهام التراث الديني فالحلاج الصوفي : الحسين بن منصور محمد محمي أبو عبد الله ويقال له أبو مغيث الفارسي البيضاوي الصوفي (244هـ_857م)(ت309هـ_922هـ)، دامت محاكمة الحلاج تسع سنوات قضاها بالسجن يعظ السجناء ، ويحرر بعض كتاباته ،وكان مما أخذ عليه نظريته في تقديس الأولياء التي عدوها ضربا من الشرك وبعض أقواله التي حملوها على محمل الزندقة والشرك وفي عام 922م أخرج الحلاج من محبسه وجلد جلداً شديداً ،ثم صُلب حياً حتى فاضت روحه إلى بارئها وفي اليوم التالي قطعت رأسه وأحرق جثمانه ،ونثررماده في نهر دجلة ، وقيل إن بعض تلاميذه احتفظوا برأسه .ومن المعروف أن القاضي أبو عمر المالكي هو من حكم بقتل الحلاج في عهد الخليفة العباسي " المقتدر"

والإمام الغزالي دافع عن الحلاج بقوله :" إن شُطحه كانت لعجز لغته عن التعبير عما يجول بنفسه المغذبة من الحب وشتات الوصل بالذات الإلهية "

فالروائي أيقظ الحلاج من مرقده في ص:11"انطلق ملاك من السماء الرابعة"

وهنا يتجلى التناص الديني فالملاك ذكره ابن الأثير في "أسد الغابة "في ترجمة أبي معلق

فالملاك حمل قمراً على جناحه الأيمن ثم قذف به في نهر الفرات وبعد ان اغتسل منه العارفون وفاضت الدموع تندماً وشقت مجراها نحو النهر امتزجت بثرى الحلاج ، ومن ثم عاد الحلاج للحياة عاريا فدخل الكوخ فرأى " كتابا مفتوحاً جواره مسبحة وعمامة خضراء وجلباباً أبيض وبردة سوداءوعصا ورجلاً عجوزا...."ص (11) وتجلت كرامات الحلاج بأن "سقاه من كفه جرعة فارتوى ضم العجوز لصدره العاري فانتشى "ص(11).

فالعجوز طلب ماء الحوض وماء الحوض يكون يوم الدين ترى أي رمزية يريد المؤلف أن يرسل بها للمتلقي فالحلاج الذي حكم عليه بالصلب والقتل جاء من الجنة فظلمه قومه ولكنه عاد من الجنة ينظر لإشارة العجوزللكتاب ويموت قبل أن تخرج من فمه الكلمة الاخيرة . وحمله ملاك السماء الرابعة وارتفع .فما كان من الحلاج إلا أن "ستر جسده العاري بالجلباب وراسه بالعمامة،وزاد ستره بالبردة السوداء ....." ص(12)

مد يده يلتقط الكتاب ،فلمعت أحرفه وأضاءت لكن قبل أن يهم بقراءة كلمة واحدة .اختفت الأحرف جميعها " لكن الحقيقة الأخيرة "قرأها جهراً ثم اختفت ، لكنها صعدت صارت نجماً......فعاشوا هائمين بين شوق وعشق "ص(13)

فالحلاج الذي عاد للحياة من جديد طاف في بغداد بقصر المقتدر بالله الذي أمر بصلبه فالتناص القرآني يتجلى في قول المؤلف "فالسلطان اليوم لصاحب السلطان "

تناص مع قول الحق "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " غافر الآية 16

فمنذ اللوحة الأولى "تشاكي " تلك الدمية الدموية التي حملت عنوان اللوحلة الأولى تخير البوهي بيتين من شعر الحلاج

أقتلوني يا ثقاتي ** إنَّ في قتلي حياتي

ومماتي في حياتي **وحياتي في مماتي

فالدمية الدموية كانت من اختيار ابنه ياسين ثم يأخذنا معه إلى أرض واهي رحلة البحث عن "المجهول الذي يطاردني منذ عثرت على تلك المخطوطة الناقصة التي بدلت حياتي وحولتها إلى استغراق في الفضول .." ص(18) وتبدأ الرحلة منذ بحثه عن منزل "الدكتور إمام" فالبطل "مازن"الذي يلعب دور الراوي العليم "أستاذا في تكنولوجيا المعلوماتوالمخطوطات فالمخطوطة عثر عليها مع" أحد الأطفال يلعب بين أنقاض أحد البيوت القديمة ..." ص(24)

فالدكتور إمام قدم إليه كتاباً ضخماً بلا عنوان صفحاته فارغة "إلا من نقطة توقف سوداء وضعت في نهاية صفحته الأخيرة .

فالكتاب والمخطوطة بمثابة لغزين كبيرين فالدكتور إمام قال له :حينما يقابلك من يكتب صفحاته ستدرك أنك تسير في الطريق الصحيح ....عندما تعود سأضع لكتابك عنواناً مناسباً

وبدأت رحلة البحث عن الحقيقة المطلقة عبر صفحات الرواية من خلال رسالة تسلمتها نهاد زوجته بها "قطع صغيرة من الرقاع وكـأنها مزقة نزعت من المخطوطة، كتب عليها بخط ملحمي قديم (اذهب إلى الدرب الأصفر ستجده في انتظارك ) ص(35)

ينقلنا البوهي معه من لوحة إلى أخرى نتنقل بين الدرب الأصفر ،أرض نبو ،الطريق إلى واهي وجبل الجنون ،إلى حيث لا أعلم ،ارتداد ،حقائق مهملة ،القافلة الأخيرة ،مآرب أخرى،عتق.

نسج الكاتب صراعاً مماثلاً لصراع الحلاج فمأساة الحلاج كانت في التماهي مع الحقيقة المطلقة ومع العشق الفلسفي لله الذي تجاوز كل الحدود فالحلاج خرج عن المألوف واستخدم لغة خاصة تحولت إلى السيف الذي دق عنقه ، وكأن الكاتب يريد أن يسير معه المتلقي عبر رحلة من أحد عشر فصلاً متمثلة في لوحات يلعب فيها زمن الاسترجاع دوراً هاماً وينتقل بنا عبر الأماكن بحثا عى الحقيقة المطلقة ، وباستخدام تقنية التناص مع الحلاج الذي يتجلى أيضاً في أبيات شعره التي تتصدر اللوحات تؤكد على ثقافة الكاتب

فضلا عن ذلك التناص القرأني في قوله تعالى :"إذا قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحدَ عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " يوسف الآية :4

لكن الروائي في ص: 42 كتب الآية الثالثة والصحيح الآية الرابعة

التناص مع تشاكي بطل سلسلة أفلام الرعب الأمريكية وباب زويلة الذي "علق قطز رؤوس رسل المغول ..."ص:43

واستخدم التناص الشعري ص: 48_49 شعر عاطف علي عبد الحافظ

فالرحلة مع صندوق الدنيا والساحر الأرستقراطي ، وكوب اللبن الذي طلب منه أن يشرب منه ثلاث جرعات ص:50 _51

نجد أن الكتاب محرك أحداث الرواية والبطل يسير مع الشفرات التي ترسل إليه مع الشخوص تارة ،وتكتب ثم تمحى بعد قراءتها تارة أخرى ،كما يتغير اللغز بين لحظة وأخرى .

فأحداث الرواية تحبس الأنفاس والرمزية والتناص والزمكانية تلعب دوراً هاماً في تشكيل هذا العمل فروح الصوفية توشح صفحات الرواية "فما أجمل أن يكون الله هو صديقك حينما تتخلى عنك كل الأجساد الآدمية ....."ص: 63

ومن الشخصيات أيضا القسيس في ص: 65،67 وفي ص:93 صوره الروائي كالحارس له

والتناص الديني مع الإنجيل :"أطلبوا تعطوا إسألوا تجدوا .اقرعوا يفتح لكم "اصحاح 7 من انجيل متى يتكررص: 99

ومن الشخصيات أيضا:

_ فتاة القطار التي كانت تردد ستتمنى مني كسرة خبز يوما ص:67

_جموع القبالا "فالهاربون من الخيط الأحمر الذي غزلته جموع القبالا على جباهنا ليسحروا الناس .."ص: 68

فالروائي يستدعي الشخصيات التاريخية "فمررت بجزيرة فيلة حيث اصطفت كهنة معابد إيزيس ..."ص: 71

وفي لوحة أرض نبو تناص قرآني في قول الروائي :"اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " سورة ص الآية 42

والتناص القرآني مع سورة يس"وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى "يس الآية 20

في قول الروائي :حتى جاء من أقصى المدينة رجل "ص: 112

وقوله تعالى :"لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " المائدة 101 مع قول الروائي ص: 119 "لا تسأل كثيراً فتظلم .

والتناص قول الله تعالى:" وادخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" سورة النمل الآية 12 يقول الروائي ثم عادت إليَّ بيضاء من غير سوء ص: 199

وتتجلى رمزية اللون الأحمر "احذر الخيط الأحمر لأنه سيحرقك .."ص:75

فيرمز اللون الأحمر لجهنم فهلاك المرء في جهنم .

تزوج البطل "مازن في أرض نبو وأنجب يوسف الطفل الذي سيولد من رحم الحقيقة كما جاء في مخطوطة الخلود .

وفي جبل الجنون

يأخذ المتلقي معه لمشهد مقتل عمر المختار ص:121

فروح الصوفية تتجلى في قول الروائي :أجهشت بالبكاء بعدما رأيت الله .ولأنه خالق الحب وخالقي .فلم أستح أن أقصده طالبا حبا ..."ص: 156

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن أين تكمن الحقيقة المطلقة التي يرتحل من أجلها مازن ؟

"الحقيقة الكبرى التي جئت أبحث عنها ،إنها الحقيقة التي لا مناص منها ولا هرب منها إلا إليها ،إلى الحياة الرائعة التي تملأ الأرض بالخير والحب والجمال والمطر ،إنها الثورة على ما صنعوه لأنفسهم وعبدوه ،وظنوا أنه إلههم ...."ص:174

فالحقائق التي نبحث عنها "نحن نصنعها كما نصنع الداء "ص:219

وبعد رحلة طويلة يتنقل فيها المتلقي مع الروائي عبر مغامرات لفك شفرة الكتاب الملغز يأتي في ص 237 ليفك لنا شفرة اللغز

"فالطفل الذي ظل يطارده بين شوارع الحكاية هو ابنه يسو ،كل فتاة التقاها هي نهاد زوجته بنت الرجل العسكري الصارم ،وكل إمرأة طرحت عليه سؤالاً هي أمه التي غابت عنه وظل يبحث عنهاسنوات طوال ،وكل رجل التقاه يطرح نفسه على الطريق هو أبوه الذي مات وترك له عصاه ينهل من مآربها ،وكل شيخ علمه الحكمة هو الدكتور إمام الذي أهداه كتابه

هذا وينتظرعودته ليضع له العنوان وكل من رآهم على هيئتهم فقد رآهم أما إبراهيم فهو مازن ومازن هو إبراهيم حامل الماء والسلاح .."

فالحقيقة التي يبحث عنها تكمن في "حقيقة الحب والخير والجمال " ص:241

والمفارقة التي تحملها الرواية هي أن من أهداه الكتاب "رجل ميت بالفعل "ص:266

فشخوص الرحلة حاضرة في اللوحة الأخيرة عتق التي تحمل الرقم الحادي عشر وهو زمن الرحلة " فالقسيس وفتاة القطار ونهاد ومانو وفتاة الواحة والقاضي وفتاة الثلج ورجل المحيط ثم إبراهيم " كلهم اجتمعوا في اللوحة الأخيرة .

فالحقيقة التي يبحث عنها الروائي تكمن في قيم حب والخير والجمال ، والمدينة الصاخبة هي المعادل الموضوعي للدنيا .

اللغة

قدم الروائي رحلته بلغة عذبة جاءت مزيجاً من الانزياح ، والغموض كما وظف تقنية التناص في خدمة النص الروائي فحملت الرواية عطر التاريخ والأسطورة

ولم تخل من اللغة الشعرية فضلاً عن توظيف الأرقام 3_8_11_12 امتزج فيها الديالوج مع المنولوج الداخلي للبطل .

فضلاً عن ذلك حفلت الرواية بالوصف فالرواية تحولت إلى سلسلة لوحات فنية تشد انتباه المتلقي .

وكأن محمد سامي البوهي حول قلمه لعدسة لاقطة تلتقط المشاهد في كل لوحة من اللوحات ومن الملاحظات الهامة أن اللوحات كان يمكن أن تنفصل عن بعضها البعض لكن الكتاب والرقاع يمثلان الخيط الذي يربط بين تلك اللوحات المنفصلة .

فالرواية كسرت قيود المألوف فهي المعادل الموضوعي لما يحدث في عصرنا الحالي رغم تعدد لوحاتها وتعدد شخوصها وتزاحم أحداثها فاستخدم الروائي الحلاج قناعاً ليرصد من خلاله للمتلقي السلبيات والإيجابيات بل أيضا الخرافة التي تعبث بالوعي الجمعي للمجتمع لذلك حملت الروايا رمزية تجعلها مفتوحة على قراءات متعددة وهذا يحمد للروائي .