يصور القاص المصري ببراعة ودقة وعمق أشجان امرأة عاقر وأحزانها من خلال سردٍ يقترب كثيراً من الرسم التفصيلي للمحيط والمكان والمشاعر والطقوس الشعبية المتعلقة بهذه المعضلة الإنسانية الشائكة في بيئة قرية صغيرة، من خلال ذات العاقر وعالمها الداخلي الشجن ومشاعر البشر المحيطين بها.

أُمُّ الغَريب

صفوت فوزي

(1)

فَاضَت أشجانُها وهي تخترقُ الحواري والدروب التي كانت تتثاءب قبيل العتمة. هبَّاتُ ريحٍ باردةٌ تتسلَّل إلى الجسد النحيل، تلطم فتلات جلبابها البفتة المنحولة، ورائحةُ المساء الرطبة تملأ خياشيمَها.

اقتربت من التوتة المعوجَّة التي تمدُّ ظلالَها على الجسر، وهي تُفسِح خطاها مخلِّفةً وراءها صمت الدار ووحشته. السؤالُ الحارق يتردد في أعماقها: لماذا تضنُّ عليها الطبيعة بما تجود به على سائر النساء؟ لو أنَّها أعطت لرجلها الولد الذي كانت نفسه عندما تزوجها تائقةً إليه، والابنة التي كان اسم "سعاد" ينتظرها.

أوجعتها سخونة قلبها التي سَرَت في صدرها حارقةً ناهشةً.

سبع درجاتٍ من حجرٍ أشهب وسَمَته أقدامُ أجيالٍ من الهابطين عبر السنين بنحتٍ أملس ولامعٍ في الدرج العتيق بين الجدارين الراسخين. السقفُ المُقبَّبُ الخفيضُ يلثم جبهتكَ إذ تنحني لدخول المغارة. عتمةٌ دافئةٌ مكسوَّةٌ بالنعومة الصَّبور لغبارِ عشرات السنين تحتوي الهابطين لجوفِها. أنفاسُ آلافِ العابرين من هنا تحدِّق بكَ. أوجاعُهم ساخنةً طريةً لم تَزَل. هسيس تضرُّعاتهم الأسيانة يتسرَّب إلى مسمعك. حجارة الحيطان لها رهبةٌ خاشعةٌ، يهمس حانيًا بالدعاء كلُّ حجرٍ، والسكون عميقٌ في غبش المساء الزاحف.

تتلاحق نبضاتُ قلبِها وهي تهبط متمهِّلةً. ينتفض قلبُها في صدرِها انتفاضاتٍ موجعةً، ورائحةُ البخور واحتراق الشموع في الحيِّز الضَّيِّق تضمُّها، تحتويها. لا لوم هنا ولا عتاب.. فقط محبةٌ تدومُ. وها هي من تحت جلبابها الأسود، حبَّاتُ عَرَقٍ تجمَّعت منسالةً على قناة ظهرِها.

لم تَشَأ أن ترفعَ عينيها نحو السَّماء، بل أحنت رأسَها في خشوعٍ وقرَعت على صدرِها. فاضت أعماقُها بزفرةٍ شقَّت صدرَها إلى حنجرتِها في معاناةٍ موجعةٍ. نضَحت في صوتها مرارةُ عمرٍ كاملٍ وهي تهتف: يا من يشرقُ بشمسِه على الأشرار والأبرار، المُنعِم على الجميع من ندى السماء وخيرات الأرض. حملي أثقل من الجبل. اللهمَّ ارحمني أنا عبدتُكَ، أعطِني سؤلَ قلبي، أزِل عاري من بين النساء.

ذراعاها الآن قوسان مرتجفان بالتسبيح والضَّراعة، بينهما وجهها فتيلةٌ مدخنةٌ توشك أن تعطي من ذات نفسها.

في الضوء الشفيف، كانت دموعٌ غزيرةٌ تغسلُ الوجهَ المُجهَد، وهي تستنفدُ في الرُّكنِ بكاءَها الصامت مُسندةً رأسَها إلى الجدار.

 

(2)

في غبش الفجر، قبل أن تشرئبَّ أعناقُ الديكة لمصافَحَةِ صباحٍ جديدٍ، تشقُّ طريقَها فتبين بوضوح آثارُ قدميها فوق التراب الذي ختمه ما امتصَّه من ندى. بكات ماكينة الطحين الغامضة تأتيها رتيبةً متتابعةً، تلقي بها إلى آفاقٍ نائيةٍ. تتلبَّسُها روحٌ مخنوقةٌ حزينةٌ. تجتاحها الوحشةُ وذلك الحزنُ الشفيفُ الذي تجاهدُ لتقمَعَه أو تحيدَ عنه. مشيتُها متعثِّرةٌ ذليلةٌ، كما لو كانت حركتُها المُقيَّدة تضطربُ في كابوسٍ بشعٍ تنهشُها فيه يدٌ متملِّكةٌ قادرةٌ.

أسلمتها الدُّروبُ والحواري المتعرِّجة إلى طريق النهر. على ضفَّتِه انحنت، بعنايةٍ وتدقيقٍ تنتقي بعضَ الأعشابِ النابتة على حافَّته.. تتأمَّل في عطفٍ كاملٍ كلَّ نبتةٍ، تودِعها كلَّ آمالِها ولهفتِها ووجعِها المدفون في الصمت لا يفهمه أحدٌ.

في وسط الدار، تستقرُّ حلَّةٌ مليئةٌ بالماء فوق وابور جاز مشتعل. في عين العدو ألقت حفنةَ ملحٍ، لمحت الملح للحظة مستقرًّا في قاع الحلة. أضافت إليه أوراقًا خضراء معتمة، وأخرى حمراء بنفسجيَّةً، وثالثةً إسفنجيَّةً متورِّمةً بسائلٍ أبيض شفَّاف. سارَعَت بإحكامِ غِطَاء الحَلَّة، والتَّمتَمَات المتحشرِجَة تنزفُ من شَفَتَيها. تنهَّدت بارتياحٍ قدريٍّ قديمٍ.

الخرقةُ المتَّسخةُ القديمةُ، التي كانت يومًا هدمةً سترت الجسد، بعد العمر الطويل في الخدمة، ترقدُ الآن في ركن الحائط. أمسكت بها غطاء الحلة النحاس. رفعت الغطاء. يتدفَّقُ البخارُ المتصاعدُ في مويجاتٍ متتابعةٍ بيضاء خضراء مائلة للزرقة الكابية. تركتها تبرد قليلا. أشعلت بخورها يملأ الأركان.

في وسط الطشت تنتصب عاريةً. تصب الماءالدافئ ببطءٍ وعنايةٍ على الجسد الذي يضوي الآنَ في الضوء الوسنان. كان وجهها متفصِّدًا باللون الأحمر الغامق، وصلوات الهمهمة المكبوتة لا تكاد تبين ممتزجةً بهديل الحمام فوق السطح.

بيدين عارفتين متحنِّنتين يُجفَّف جسدُها. ينضو عنها ما علق بها من أوجاع الروح والجسد. يرفع يده لتستقرَّ على النحر الوضَّاء. يهبط بها بهدوءٍ إلى ليونة الثديين. تتَّسع بسمتُها وتتأوَّه في دلال. يطيل النظر إلى العينين. العينان سوداوان. الحاجب رفيع. الرموش سوداء طويلة. الرموش تتلاقى وتنفرج. ضغط على يدها. تثنَّت ونعَّمت الكلام وضربته على كتفه بأُلفَةٍ. لسعَهُ صوتُها الناعم المُنغَّمُ السَّاخن. يحوم بسبَّابته بين الحلمتَين النافرتَين، فتنزلق هي إلى أسفل، مُنسابَة البدن. يميل نحوها ليخطف قبلةً، فيواجه لهاثَها الحميم. يسعى باليد الأخرى ليُحكِمَ السيطرة على الجسد المتطلب الذي يصرخ فيه بكلِّ عطش السنين وعناد الريح: هُيِّئتُ لكَ.

 

(3)

المرأة الغجريَّةُ، مدملكة القوام، تسير مزدانةً بوشمِ الخطوط الخضراء في ذقنِها. مرفوعةَ الثوبِ عند الصدرِ بثديين قويّين. فوق رأسِها يستقرُّ المقطف. الترتر المُلوَّن يملأ طرحتَها. عقد الخَرَز الطويل يضوي متمايلًا في عنقِها، وهلالُ الذَّهبِ المُثبَّتُ في أنفِها يهتزُّ بشدَّةٍ كلما ارتفع صوتُها منغِّمةً نداءَها: "أضرب الوَدَع واوشوش الدَّكر".

أنزلت الغجريَّةُ مقطفَهَا في وسط الدار. أخذت بعضَ الماء في إناء. خلطته بمسحوق الوشم، وراحت تتمتمُ بدعواتٍ مدغومةٍ غير مفهومة.

أوصتها برشِّ الماء على عتبةِ الدار وفي الزوايا والأركان. من ورقةٍ مطويةٍ صنعت عروسةً راحت تخزها وخزاتٍ عديدةً متتابعةً وهي تتلو تعاويذها الغامضة. أخيرا ناولتها حجابًا مطويًّا لتضعه تحت الوسادة عند النوم. وهي تلملم حاجياتها مغادِرةً كانت تردد: تسعة أشهر بالتمام والكمال ويتمُّ المراد من ربِّ العباد.

 

(4)

الزمنُ البليد يزحف غير مبالٍ، وسماء جافية خاصمها المطر. تعبرني المواسم وأجراني فارغة. خاب طبُّ العطارين، وفشلت وصفاتُ العجائز المجرِّبات. ترابُ الأضرحة البعيدة، وعقد الأحجار الذي ادَّخرته الجدَّات لدفع أكبر المصائب لم يجديا نفعًا، ولا بلَّلا ريقي الناشف بنداوة الأمل. كلُّ التعاويذ راحت سدى. كلُّ الأشياء لها طعمُ الرَّماد. لا فرحة تهز القلب، والحسرة تعكم صدري وتقبض روحي.

تنعطف الحارةُ الضيِّقةُ يسارًا لتسلِّمَكَ لبراح الحقول. أبو قردان عائدٌ ليقضي ليلَه فوقَ أشجار الجميز العجوز، جماعات، جماعات، كأثوابِ القماش الدبلان تحملها الريح. هناك– عند المُنعطف– يقبع بيتُها الخفيض، تعلو سقفَه أعوادُ الغابِ المصفرة والمسودة، المتساندة على فروع خشبٍ قديمةٍ ترقد– خليَّة البال– على الحيطان الواطئة. تتدلَّى من فوقها عيدانُ قشِّ الأرز وأعواد الحطب.

درجاتٌ حجريَّةٌ تهبِطُها إلى جوفِ الدار المعتم. من فتحة النافذة الضيقة– عبر قضبان الحديد الرأسية الصدئة– بالكاد تلمح أرجلَ الأطفال المتحلِّقين تجلجل أصواتُهم في صخبٍ: يا أم الغريب.. يا أم الغريب.

من نافذتها المُطِلَّة على الحارة تلمح الوجهَ المتغضِّن والعينين الثقبين واليد الناحلة المعروقة تمتد ببطء راعش بالحلوى الرخيصة للأطفال المنتظرين.

من عمق الذاكرة تجيء– حميمةً ودافئةً– نتف من صور وحكايا. صبيَّةً كانت حين شاركت رفيقات سنِّها نفسَ النداء ونفسَ الولع بحلوى العجوز، وتساءلت معهن عن سر "الغريب" ابن هذه المرأة الذي لم يَرَه أحدٌ قط. يدفعها فضولُها إلى أن تسأل أمَّها.

مسَّدت شعرَها المُجعَّد الخشِن فيما فاضت عيناها بحنانٍ بكرٍ وهي تتحسَّس كلماتها: المرأة عاقرٌ لا أولادَ لها، لكنَّ نساء القرية أطلقن عليها هذا الاسم وصرن ينادينها به جبرًا لخاطرها ومداواةً لروحها المنكسرة ورجاءً أن يعطيها اللهُ الطفلَ الذي تتوق إليه.

انتبهت إلى دخول الليل المبكِّر، شعرت بابتراد الجو، ورَأَت الظلمة تتكاثف من حولها. ترفع عينين ضارعتين معاتبتين ومُفعَمَتَين بالترجي نحو سماءٍ نائيةٍ. يبهظها الشعور بالقهر فتهبط بالبصر من انفساح الزرقة السماوية إلى كآبة الجدران المقبضة.

ريحٌ عفيَّةٌ لطمت النافذة فأغلقتها. بدت الحجرة كخيمةٍ من غبار لا يتحرك. من خلف الشيش كانت تداري دموعها المنسابة فوق خدَّيها، دانية من الاقتناع بقطع الرجاء حتى لا يُرهقَها الأملُ.

دفقةٌ من نورٍ انبثقت في ملاسة العتمة. أضاءت جانب وجهها. متهلِّلًا كان رغم الحزن الضارب فيه. تلتمع العينان برجاء وليد، وثمة ابتسامة واهنة في ركن الفم لم تَزَل.