تنهي جل المراجع الوجود الإسلامي ومؤثراته في شبه الجزيرة الايبيرية مع تسليم غرناطة، متناسية أن زوال السلطة لا يعني زوال المكون البشري للمجتمع، بكل حمولته الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة والاثنيّة المؤثرة. هنا تسلط محررة (الكلمة) الضوء على الوجود التاريخي المورسكي والتغيرات التي عانت منها عمارته حتى الطرد الإقصائي.

سكن المورسكي وحفريات في السيرة الحضور

(مقاربة جماليّة تاريخيّة)

أثير محمد على

 

1- حاشية تاريخية
يتعالق الفن أو المنجز الثقافي الأندلسي عامة، والمورسكي على نحو الخصوص، مع التاريخ وحوليات الأيام بكثافة ملفتة للانتباه، حتى أن الباحث الذي يحاول أن يجتلي معالم الأثر المورسكي وخصوصيته الفنيّة وتعابيره الثقافيّة، يجد نفسه مستغرقاً في تفاصيل الحدوث التي أثرت على سيرة هذه الجماعة البشريّة، وما خلفته من ملامح تدلّ عليها بلا لبس في شبه الجزيرة الايبيريّة.

كما هو معروف سقطت غرناطة في عام 1492 بيد الملكين ايسابيلا وفيرناندو، وهو نفس العام الذي وصل فيه كولومبوس إلى العالم الجديد بتمويل من السلطة المتحدة لتاجي قشتالة وأرغون. بمعنى أنه عامٌ بالغ الدلالة في التاريخ العالمي، فسقوط مملكة بني نصر وضع الحدّ لوجود السلطة الإسلامية واستمراريتها في شبه الجزيرة الايبيرية، وهو يشير أيضاً إلى دخول اسبانيا إلى تخوم أوروبا بتطلعها نحو الشمال، كقوة تاريخيّة مهيمنة بفعل تدفق الثروات إليها من ذهب وفضة العالم الجديد. وكل ذلك مقابل خروج العرب كقوة فاعلة ومؤثرة في التاريخ.

وكلما زاد اقتراب حكم العاهلين فرناندو وايسابيلا من الفضاء السياسي الأوروبي كلما ابتعدت شبه الجزيرة الايبيريّة عن أندلس الأديان الثلاث، نحو اسبانيا محاكم التفتيش والتنصير القهري وأحادية العقيدة، والتعتيم على معنى الزمن الأندلسي بالكامل وتجنب أية ذكرى خصبة تتأتى منه(1).

كثير من المراجع تنهي الوجود الإسلامي ومؤثراته في شبه الجزيرة الايبيرية مع تسليم غرناطة من قِبل الملك أبو عبد الله الصغير (1460؟-1527)، متناسية أن زوال السلطة لا يعني زوال المكون البشري لمجتمع الدولة، بكل حمولته الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة والاثنيّة المؤثرة في الفلك الذي يدور معيشها اليومي على مداراته. وهنا أود أن أسلط الضوء على الوجود المجتمعي المورسكي في شبه الجزيرة الايبيريّة، والذي استمر بشكل مباشر ومادي حتى بدايات القرن السابع عشر، وتحديداً إلى حين الطرد الإقصائي الذي امتد رسمياً من سبتمبر 1609 حتى فبراير 1614، دون أن يفوتني التنويه إلى أن مؤثر ما هو إسلامي (وما هو يهودي كذلك) مابرح وجوده يناور بخفاء على طريقته الخاصة، مبتعداً عن المباشرة والإعلان، حتى إمكان القول أنه يحايث البنية العميقة للهوية الثقافيّة الاسبانية إلى جانب المصادر الثقافية التي تشكل المسيحيّة الكاثوليكيّة واحدة من محتوياتها، الأمر الذي أكدت عليه وتناولته سلسلة من الدراسات الهامة، الحرة باستقلاليتها الفكرية؛ أذكر منها دراسات المؤرخ أميريكو كاسترو (1885–1972) في كتابه المرموق "اسبانيا في تاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود"(1948)، وأبحاث المستعربين بدرو مارتينث مونتابث (1933-) وكارمن رويث برابو (1947-) في مؤلفهما المشترك "أوروبا الإسلامية"، ومؤلفات الباحثة لوثي لوبث-بارالت (1950-) في كتابها "أثر الاسلام في الأدب الإسباني"، وصولا إلى دراسات خوان غويتسولو (1931-) كـ"حوليات إسلامية"(1982)، وغيرها من الأبحاث العلمية الأكاديمية المرموقة التي قدمها، ومازال، أساتذة في المراكز البحثية المختلفة.

إلى كل ذلك وفي الجانب المتطرف، لم يعترف الخطاب الأحادي البعد بأي تجاذب أو جدل مؤثر بين العناصر البشرية في اسبانيا المسلمة، لذلك يمكن تشبيهه بــ"خطاب الفصل العنصري"، فهو خطاب يضم السرديات الكبرى الملفقة للماضي الإسلامي وثقافته، والتي اُختلقت اعتبارا من القرن السادس عشر للقول بتواشج التاريخ الاسباني مع ما هو ماقبل إسلامي (روماني أو قوطي)، أو مابعد إسلامي (الماضي الامبراطوري لحكم كارلوس الأول وفيليب الثاني)(2) بغية تشديد القول على "نقاء الدم المسيحي" في هذه البقعة من الدنيا من الشوائب الثقافية والدينية، يهودية كانت أم إسلامية، وعليه لا يستغرب أن يصكّ مع بدء التنصير الجماعي القهري سنة 1502، مصطلحي "المسيحي القديم" و"المسيحي الجديد"، وهذا الأخير هو المعمّد حديثا سواء كان اليهودي أو المسلم.

هكذا يتم التعتيم على القرون التي تواشجت فيها جدلياً وتفاعلت وتعشّقت كافة المكونات البشرية في شبه الحزيرة الايبيرية مابين أخذ وردّ، توافقات وصراعات، سلام وحروب، سجالات وتحالفات، تعايش وتوتر، هدنة وتقاتل، مقايضة وتمثّل، تبادل وتكافل، تقارب وتسامح، علوم وخرافات، معرفة وعرفان، عقل وإيمان، وزواج مختلط وهجنة اثنية وثقافية وفنية... إلخ.

* * * *

2- نحو اقتفاء الأثر المورسكي
اعتادت الأبحاث آن تناولها للمنجز الفني والمعماري الأندلسي على التملي والتفكر العلمي والنقدي في الصروح الحضاريّة الأندلسيّة البائنة، المهولة بفنيتها الشكليّة وعمق مفهوم "الجميل" في محتواها، والتي تشفّ منها روحانيّة الرؤية الإسلاميّة وتنعكس عبرها فلسفة جمال رسالته السماوية؛ فتعددت المواضيع الخصبة في المكتبة العربيّة حول قصر الحمراء، ومسجد قرطبة، ومدينة الزهراء، وقصر اشبيلية، وقصر الجعفرية، ومئذنة الخيرالدا، وعموم روائع العمارة الدينيّة في الأندلس، أو العمارة المرابطيّة، أو الموحديّة... الخ؛ أو تم التدقيق في تفاصيل من البنية المعماريّة والتصاميم التشكيلية والفنية المختلفة، من مثل فن المقرنصات، أو الزخرفة، أو الزليج ... إلخ.

حسناً، دراستي هذه لا تفارق الاهتمام بمقاربة "الجميل" الأندلسي، بل تسير بذات الاتجاه الذي سارت عليه معظم البحوث العربيّة، إلا أن مساربها تبتعد عن اتخاذ الآثار الشامخة، والمركزية العمرانيّة المبهرة للأدوار التاريخيّة الأندلسيّة المختلفة موضوعاً لها، وتحاول أن تقتفي أثر ما خلفه ذلك الإنسان المورسكي الذي ألقَتْ به المحن التاريخيّة على قارعة الهامش، خارج حاشية المتن المجتمعي، في أزمنة الأفول الحضاري العربي، حينما ثقلت ظروف الحياة على المسلم، وعلى خلفه من أبناء وأحفاد في شبه الجزيرة الايبيرية.

دراستي هذه تحاول تلمس ما بقي من عمران أُسقط من اعتبارات التأريخ عموماً، أو لم يمنح الانتباه الكافي، ربما لمفارقته القياس المكرس، ومعيارية العظمة التي وجهت عنايتها لعمارة العهود الأندلسيّة المجيدة؛ رغم أنه عمران، بل "تركة" تبوح بتعبير فني ثقافي مفرد، وتنطق بمآثر جماليّة ذات معنى وجودي بليغ. ومثالها الذي سأتناوله في هذه الدراسة، انطلاقاً من المشاهدة العيانية المتكئة على منجز البحث العلمي في هذا المجال:

- البيت المورسكي في غرناطة.

- الكهوف السكنيّة المورسكيّة وراء المنعطفات في الأعالي الجبليّة في وادي-آش.

- الأطلال السكنية في الضياع المورسكيّة المهجورة في "وادي القلعة" في بلنسية.

وهي عمارة تلخص على التوالي ضراوة المراحل التي مرت على سيرة المروسكي:

- التعدّي الثقافي.

- الملاحقة الثقافية.

- الطرد الإقصائي الثقافي، أو "التطهير العرقي" بالمفهوم المعاصر.

* * * *

3- توضيح لابد منه.. تحولات المسلم إلى المدجن فالمورسكي
حسناً، قبل أن أتابع موضوع دراستي أود أن أوضح معاني بعض الأسماء-المفاهيم أتداولها في دراستي، مثل المسلم المورو، والمدجن، والمورسكي:

1-3- المسلم الأندلسي.. المورو
عرف المسلم في النصوص القروسطية المكتوبة، أو المتناقلة بالتواتر الشفاهي، باسم "المورو". ودون الدخول في الجذور اللغوية والتاريخ الاجتماعي-اللساني للمصطلح، أشير باختصار إلى أن "المورو" كلمة تعود فيما يبدو إلى اللغة اللاتينية، وقصد بها سكان الشمال الأفريقي عموماً. ومع السياقات التاريخية المختلفة للوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الايبيرية (منذ 711م) تم تداول المصطلح كمرادف لـ"المسلم" بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الاثني أو الثقافي، سواء كان توصيفاً للأمازيغي أو العربي أو حتى لتلك العناصر البشرية التي تعود أصولها البعيدة إلى "السكان الأصليين" على تنوعهم هو الآخر، ممن اعتنق الإسلام وذاب تماماً في الثقافة الأندلسيّة.

وفي معرض الحديث هنا، أدل على أن العناصر البشرية المسلمة المتحدرة من زواج مختلط لأمهات مسيحيات، أو من أصول مسيحية، عرفت باسم "المولدين". أما تعبير "المستعربين" فتم تداوله للإشارة إلى المسيحيين الذين عاشوا في ظل الحكم الأندلسي، وغالبا ما كانت ميولهم نحو الثقافة الأندلسية شديدة الوصال، من خلال عاداتهم وأسلوب حياتهم وإتقانهم للغة البيان، إلى جانب اللغة الرومانثيّة الأندلسيّة (وهي لغة تنحدر من اللاتينية الممتزجة بكلمات عربية).

2-3- المدجّن
في العصور الوسطى في شبه الجزيرة الايبيرية، كانت التغيرات مستمرة في الخريطة الجيوسياسية بفعل الحروب بين الممالك المسيحية من جهة والقوى السياسيّة الإسلاميّة من جهة أخرى. مما كان له الأثر في بقاء طائفة من المسلمين في الأراضي التابعة للحكم المسيحي والمنتزعة من السيطرة الاسلاميّة، ودعيت هذه الأقلية بـ"المدجنين".

ومع الأخذ بعين الاعتبار التفوق الحضاري الإسلامي في ذلك الوقت، فإن السلطة المسيحيّة قلّدت النموذج الإسلامي على نحو ما، إضافة لدوافعها الاقتصادية، فترك المسلم المدجّن بسلام في موطنه، وتمتع بنظام خاص يسمح له بممارسة معتقده والحفاظ على قيمه الاجتماعية والثقافية. ولهؤلاء المدجنين المسلمين يعود الفضل الكبير في حقن الثقافة التي عاشوا وسطها بتلك الخلاسية الأجمل والتي تميز الثقافة الاسبانية اليوم.

ولهم يدين تاريخ الفن والعمارة بما يعرف بـ"الطراز المدجن" El estilo mudéjar، سواء في العمارة المدنية أو الدينية، المسيحية أو اليهودية، من بيوت وقصور وأديرة وكنائس ومعابد وحصون وتصميمات داخليّة (جصية محملة بزخرف هندسي وتوريق تزييني Ataurique، أو تصاميم خشبية كالأسقف alfarjes)، وصولا لفن الترصيع Taracea الخاص بالأثاث والصناعات اليدوية والأغراض ذات استعمال شخصي (كالأسلحة البيضاء، والحلي، والزجاجيات، والموزييك الخشبي أو الصدفي، والصناديق العاجية أو المعدنية أو من الخشب الملون...).

تحققت كلها بعد أن خططت ونقشت ونفذت على أكتاف المهندسين والبنائين وأدي الصناع والمهرة المسلمين المدجنين (alarifes, albañiles, alfareros, alamines) وفق مرجعيات معمارية وفنية تعود للحضارة العربية الإسلامية المتفوقة حينئذ، والتي اعتبرت ذائقتها الجمالية المعيار السليم والأرفع والأسمى للاحتذاء في تلك الأزمنة(3).

وتدل السجلات التوثيقية أن حرفة النجارة وما يتبعها من ديكورات فنية كانت حصرياً بيد الحرفيين المدجنين حتى القرن السادس عشر، ومن بين المدن التي اشتهرت بحرفة النجارة المدجنة تأتي طليطلة في الطليعة (على قدم المساواة مع شهرة غرناطة بني نصر لاحقا).

وعرفت العمارة المدجنة أوجها في القرن الثالث عشر (في كل من اسبانيا والبرتغال). وتصنف ضمن مدارس لها ميول معمارية وذائقة مميزة. من بينها أذكر مدرسة أرغون التي تختص بنزعة تلونية تحضر في الجدران المعمارية الخارجية، بفعل إدراج الزُليج الملون مع الآجر كمادة بناء وتعبير جمالي يعتمد التصميم الهندسي والنباتي.

في معرض الحديث هنا، أشير إلى أن الفضل يعود لمسلمي الأندلس في إدخال صناعة الآجر والزُليج Azulejos (السيراميك أو القيشاني) إلى شبه الجزيرة الايبيرية، وازدهارها ومنحها هوية مفردة، وابتكارات ووصفات ومعالجات جديدة للحصول على مروحة لونية واسعة وبريق متنوع أثناء معالجة الطين المشوي مع أكاسيد معادن(4).

وكل من يزور المتاحف المخصصة للزليج في شبه الجزيرة الايبيرية (كاشبيلية ولشبونة) لابد أن يبدأ رحلته مع أول أقسام صناعة الزليج، وهي القاعات التوضيحية المخصصة لهذه الصناعة في المرحلة الأندلسية، وسيرورة تطوراتها ومهاراتها ونقوشها وقوالب صبّها وأدواتها المختلفة، قبل أن ينتقل لورثتها في الأقسام التالية. ومن المثير للانتباه أن تاريخ صناعة الزليج يشير للتاريخ الثقافي الهوياتي بشكل من الأشكال، سواء في البرتغال أم في اسبانيا، تاريخ يشتبك بالصلصال المشوي كما لو أنه تاريخ تبلور هوية.

ولا يفوتني هنا التنويه إلى أنه، وعلى شاكلة الأساليب والطرز الأخرى المكرسة في تاريخ الفن الغربي مثل القوطي، والرومانسكي، والكلاسيكي، والباروكي، عرف الطراز المدجن في القرن التاسع عشر والعشرين تجديدات حداثية، وإعادة احياء لجمالياته ومميزاته الفارقة، وعليه أدرج تاريخ الفن إلى جوار القوطية الجديدة، والرومانسكية الجديدة، والكلاسيكية الجديدة، والباروكية الجديدة ... المدجن الجديد Neomudéjar(5)، وما ذلك إلا لقوة المدجن التاريخية والثقافية والفنية والتي لم يستطع أي مقصد سلطوي يقوم على إلغاء "الآخر" من إزالة آثارها الوجودية؛ ففي الواقع الاسباني الذي أتناوله هنا، إلغاء "الآخر" يعني إلغاء لـ"الأنا"، ولوجودية "الأنا" في التاريخ، ولأهم العوامل التي شاركت في نسج هويتها الثقافية والفنية وذاكرتها الجمعية؛ فاسبانيا الإسلامية برهنت أنها من القوة بمكان لا يمكن شطبه وتجاهله؛ وحتى أولئك الذين كرسوا جهدهم وفعلهم في هذا السبيل، هم في المعنى العميق لنكرانهم، أو التخفيف من مؤثر "اسبانيا المسلمة"، واختلاقهم لهوية "الأنا" مقابل "الآخر/ العدو"، يشيرون في حقيقة الأمر إلى أنهم لا يستطيعون الخلاص من هذه الـ"اسبانيا المسلمة"، وما ذلك إلا لأن "الأندلس التاريخيّة" هي واقع جدلي وفعل حدث في التاريخ لا في المنامات والاستيهامات والخرافات.

3-3 الموريسكي
بعد سقوط غرناطة بدأت قضية المورسكيين في التاريخ. قضية لم تحسم أخلاقياً حتى اللحظة الراهنة. فمن هو الموريسكي؟!

حفظت معاهدة تسليم مملكة غرناطة حق المسلمين فيها بممارسة شعائرهم الدينية، وتعهدت بعدم المس بعاداتهم وحرية تحدثهم بلغتهم. وكان من التبعات الأولى لتغير السلطة تحوّل المسلم القاطن في مملكة غرناطة إلى "المدجن" لخضوعه للحكم المسيحي الجديد.

بداية، عمد المطران تالابيرا إلى سياسة التبشير المتأنيّة المتكئة على الإقناع، إلا أن التعصب وانعدام التسامح دفعا بالكادينال ثيسنيروس سنة 1499 إلى تسريع عملية التنصير، والتضيق على مسلمي غرناطة. فثار أهل حي البيازين على الاضطهاد والتمييز، المبرمج والممنهج، الذي مورس عليهم وانتفضوا ضده؛ حينها استغل العاهلان الملكيان الأمر، واعتبرا ردة فعل أهل البيازين الاحتجاجية على تصرفات الكاردينال ثيسنيروس الظالمة، انتهاكا ونقضا لبنود معاهدة التسليم. واستثمرا الفرصة لتأييد تسريع التنصير في غرناطة، ومن ثم إصدار القرار بالتنصير الإجباري لكافة مدجني قشتالة (1502)، ولحقهم مدجني بالنىسيّة (1520-1522)، وما لبث أن سيق مسلمو أرغون (1526) لمصير غيرهم من المناطق التي طبقت عليها سياسة الاختيار بين التنصير أو الرحيل عن شبه الجزيرة الإيبيرية(6). وهؤلاء المتنصرون قهرا عرفوا بـ"المورسكيين". و"المورسكي" هي صيغة تصغير لـ"المورو" بالاسبانية، واستخدمت لأول مرة في القوانين التي صاغها الكاردينال ثيسنيروس (1502) وخصّ بها هذه الأقليّة، وتتضمن بعداً تحقيرياً في سياق المرحلة التاريخية التي نتحدث عنها.

أما استخدامي لنفس المصطلح في وقتنا الراهن، فهو يلتقي مع سياق التحدي والمقاومة، لا مع الإذلال والتصغير من الشأن، كما لو أنه محاولة لإعادة الاعتبار لـ"المورسكي"، أو "المورو الصغير"، وأنا أشدد على اللاغياب ... لاغياب المورسكي وحضوره في الذاكرة.

حسناً، هي قصة "المسلم" الأندلسي المتحول إلى "المدجن" تحت الحكم المسيحي، فـ"الموريسكي" بعد زوال الحكم العربي الإسلامي.

* * * *

4- الظروف المحيقة بثقافة المورسكي
طوال القرن السادس عشر وحتى قرار الطرد كانت الحكومة تعمل على القضاء على الخصوصيّة المورسكيّة بسنّ قوانين متتابعة تحد من حرية ممارسة المورسكي لثقافته ودين أسلافه، وكل ما يتعلق بشرائع لها ارتباط بالدين الإسلامي، فحُوّلت معظم المساجد إلى كنائس، وصُودرت الأوقاف الإسلامية، وأُحرقت الكتب الدينيّة والفكريّة، وفُرضت ضرائب حصرية محجفة، وسُنت القوانين التي تحرم الختان والتسمية بأسماء إسلامية وتُنهي عن امتلاك العبيد والأسلحة، وقُيدت حرية التنقل؛ كما صَدرت تشريعات تطال الأطعمة وذبح المواشي (حُرمت الأضاحي الشعائرية)، وتم التجسس على نوعيّة أكل المورسكي (ومراقبة من يمتنع عن أكل لحم الخنزير)، وأُخضع الزواج والولادة والتعميد والدفن لرقابة صارمة، كما أُخضع الاطفال لتربية الدين المنتصر التبشيرية وتم تشجيعهم عفوياً على التجسس على أبائهم، وأُعلنت مراسيم تحظر ارتداء الملابس والحلي والتمائم وكافة الرموز التقليدية، وأُجبر السكان على ترك أبواب البيوت مفتوحة أمام التلصص التفتيشي، ومُنعت الحمامات لارتباطها بالوضوء، وحُظر استعمال "الحناء" من قبل النساء، وتُم الترصّد على أداء القيم الموروثة وعادات الأجداد، وصولاً لنواميس تحظر اللغة العربية، تحدثاً وكتابةً، وتمنع الاحتفالات والأعياد والتعبيرات الفنية الخاصة من غناء ورقص (منعت رقصة الزّمرة La Zambra، وأغاني Las Leilas في نهاية الأمر)، دون نسيان التهجير الجماعي بإطراد لمورسكي غرناطة وبعثرتهم في المناطق الداخلية المختلفة، بغية تشتيت تواصلهم وإعاقة وصالهم الثقافي فيما بينهم، مما أدى لفقدان الكثير من الممتلكات والأراضي ومعها الحرف وكثير من المهن والصنائع، إلى ما هنالك من تغيرات في عمق البنية الاجتماعية بفعل تحريمات تتغيا القضاء على المنابع الثقافية والدينية والاثنية، دون أية كفالة تسهّل الدمج، وتحقق الاندماج بمجتمع الدين الواحد الجديد، أو حتى تجنب قدر التهميش القاسي فيه(7). لكل ذلك ازدهرت الأدبيات المنمطة التي كرست الارتباط الجوهراني بين الجماعة المورسكيّة وبين المسيحي السيء، والتقية، واللاأخلاق، والانحراف، واللصوصية، والكذب، والقرصنة، وقطاع الطرق، وسوء النية، والخسة، والشعوذة، والهرطقة، والبدع.

وكما هو متوقع، مع سياسة الإقصاء ورفض "الآخر"، أو بالأصح في الحال الاسبانية رفض تنويعات "الأنا" المتعددة، فقد كثير من المورسكيين مصدر رزقهم، وحياتهم المألوفة تاريخياً، وتحول معظمهم قسرياً إلى فئة خارج الهامش المجتمعي، فئة تعرف اجتماعياً بالحضيض، واقتصادياً بماتحت البروليتارية، فئة مقتلعة الجذور الدينية والاجتماعية وملاحقة في صميم وجودها الديني والثقافي، الأمر الذي يمكن أن يفهم منه دوافع انتفاضات الأقلية المورسيكة بين الحين والأخر، وقياماتها الثورية في أماكن متعددة مع استفحال الأمر عليها وتدهور بيئتها وطرق حياتها وتعبيراتها الفنية والثقافية(8).

* * * *

5- البيت المورسكي في غرناطة
من الملفت للانتباه أن الكثير من المصطلحات المعمارية والتسميات الخاصة بأقسام البيت التقليدي المتداولة في اللغة الاسبانية تعود بجذورها إلى اللغة العربية، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على أن من كان يمسك بحرفة البناء والنجارة والرقش والفخار والتبليط وصناعة الأبواب ذات الصفائح البرونزية والتوريق والنقش الكتابي كانوا من المهرة المسلمين، المدجنين والمورسكيين، قبل أن تورث هذه المهن إلى الأجيال اللاحقة.

يعتبر البيت المورسكي في غرناطة امتداداً لمعمار الدار الذي عرف خلال حكم بني نصر، وعليه فإن هندسته تستجيب للمنطق الإسلامي ولكيفية التنظيم الاجتماعي لمعيش المسلم الأندلسي في الفضاء المديني. وهو عمارة سكنيّة بالغة الأهمية في مجمل عمران مدينة غرناطة(9). وما زال حي البيازين يحتوي على حوالي 30 بيتاً مورسكياً تعود للقرن السادس عشر، وتشكل دليلاً هاماً ليس فقط من الناحية المعمارية لمقاربة بنيتها الجماليّة ووظيفتها النفعية المنزلية، وإنما كذلك لدلالتها المعرفيّة التاريخيّة على التحولات التي مرت على مدينة غرناطة الإسلامية بعد سقوطها، وعلى حي البيازين الذي جمّع فيه المورسكيين بعد تسليم المدينة. ومن هذه المنازل يشتهر "دار ثفرا" Casa de Zafra، و"دار أورنو دي أورو" Casa Horno de Oro، و"دار ديل شابيث" Casa del Chapiz، و"دار ياغواس" Casa Yaguas.

فيما يلي سأحاول مقاربة مميزات البيت المورسكي الأهم، وكيفية الاعتداء على بنيته المادية والمعنوية، من خلال:

1- توجه المسكن المورسكي.

2- المدخل El Zaguán.

3- الفناء.

4- الرواق.

5-1- توجه المسكن المورسكي
يتكئ البيت المورسكي على مفهوم البيت الإسلامي الأندلسي، وقوله جلّ جلاه: "والله جعل لكم من بيوتكم سكناً"(النحل:80). لذلك فالبيت هو المسكن المادي، وخلية معمارية اجتماعية، وفضاء تتحقق فيه سكينة المسلم، وخصوصية حياته اليومية، وحميمية معيشه المنزلي.

ينفتح المسكن الإسلامي على "الداخل" وينغلق على "الخارج". وهنا أود القول أنني أتفق مع الدراسات التي تستبين معرفة عدة حضارات لهذا النوع من التوجه، إلا أن تبني الإسلام للبيت المحجوب نسبياً عن "الخارج" العمومي والمستنكر لاستعراض محتواه أمامه، والمنفتح على مركز داخلي هو عبارة عن صحن سماوي، له هويته الإسلامية وعلامته الفارقة في الإيعاز بحرمة الدار، وحق المسلم بممارسة حريته الفردية ضمن الأطر التي ترسم الشريعة هيكليتها العامة؛ فكما هو معروف يشكل "الخارج" الفضاء السياسي العام، وأما "الداخل" فهو الفضاء الحميمي الخاص. والهندسة المعمارية للمنزل الإسلامي تعكس كيفية تنظيم صلة "الداخل" مع "الخارج" الأوسع؛ كما تنظم العلاقة بين سكان الداخل بمختلف أفراده (من رجال ونساء) في فضاءات البيت الداخلية.

ومثال على هذا التقسيم نراه بوضوح من خلال الصالة الرئيسية التي تحمل بعداً اجتماعياً تمثيلياً، ففيها يستقبل رجال الأسرة زوارهم من الفضاء العام، وعليه تنفصل هذه الصالة تراتبياً ومعنوياً عن الأقسام الداخلية الأخرى التي تدور فيها يوميات النساء رغم انفتاحها على الفناء. ومن الممكن استعمال النساء للصالة الرئيسية في البيوت المتواضعة كفضاء خاص بهن في يومياتهن، إلا إن وجود الزوار من الرجال يفرض تحولها لصالة ذكورية ويتطلب خروج النساء منها، أو وجودهن خلف ستر وحجاب فيها.

إن الاتجاه المنفتح على الداخل في التصميم المنزلي يبرر اختفاء النوافذ أو الفتحات من الجدر الخارجية عموماً، باستثناء تلك الفتحات التي تقع في الطوابق العلوية والمزودة بمشربيات خشبية، أو خوص جصية، ذات تصميمات هندسية تؤمن التهوية ودخول الضوء ولكنها قبل أي شيء تسهل الرؤية لمن هو في الداخل (خاصة النساء) ويعيقها لمن هو في الخارج(10).

ومن المألوف أن نصادف في غرناطة بيوتاً تقع عتبات مداخلها في أزقة لا منافد لها (زقاق سدّ) تدعى بالاسبانية adarves (جمع كلمة "الدرب")(11)، مما يعني أن المرور في هذه الأزقة للدخول للبيوت، يبقى حكراً على سكانها أو الجيران أو أصحاب الحاجة منها، ويجعلها بمأمن من المتسكعين، كما تحدّ من عبور المشاة ممن لا حاجة فعليه لهم بدخول هذا الزقاق الخصوصي، الذي يفعل فعل برزخ انتقال من "كينونة البيت" إلى "كيان الحي" (أو الرباط Arrabal) في المدينة (La Medina) بكل ما فيها من عمران ديني (الجامع Aljama)، وسياسي (القصر Alcázar)، وتجاري (السوق El Zoco)، إضافة إلى عمران الحمامات والخانات والنزل (الفندق El Fonda، La Alhóndoiga) وأبواب المدينة ... وصولا للمقبرة (Maqbara).

في العهود الاسلامية السابقة، تحكمت بتنظيم العلاقة بين الدور المختلفة أعراف متفق عليها بين الساكنة، وأخرى تتبع قوانين حقوقية ساهم القضاء في البت والحكم فيها. من مثل العرف التوافقي بين سكان الزقاق الواحد على عدم الاعتداء على حق الجار في الضوء والتهوية وعليه كان لارتفاع الجدران الفاصلة واتجاهها قيمة في هذا الموضوع، كذلك مسؤولية التصريف الصحي للمرحاض أو لـ"بيت الماء" حسب التسمية الأندلسية، واتصاله مع الشبكة الصرف الصحي التابعة للحي. أما القضاء فقد تدخل في الأمور المتنازع عليها بين الساكنة على العمران، من مثل الاعتداءات على ما يتعلق بحرمة الديار واحترام حق الجيرة وراحتها، فتدخل القضاء، مع مشاورة الفقهاء، ومراعاة المذهب المالكي الذي قلما خالفه أهل الأندلس(12)، لوضع الحد بين الحق والباطل على هدى الحديث النبوي الشريف "لا ضرر ولا ضرار"(13).

5-2- المدخل (El zaguán "إسطوان-ة البيت")
مدخل البيت المورسكي هو ردهة بشكل كوع الذراع عامةً (زاويته تصل إلى 90 درجة)، وفي حالات أخرى هو ردهة بابها الخارجي المحازي للشارع لا يقع على نفس الخط الذي يقع عليه الباب الداخلي المؤدي إلى الفناء. ومن البديهي أن الغاية من تصميم المدخل على هذه الشاكلة هو ستر مضمون البيت عن أعين الخارج، واستجابة لمفهوم الاستئذان في الإسلام، فهو ردهة انتظار وإذن بالمرور:

﴿ يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غيَر بيوتِكم حتَّى تَستأْنِسُوا وتُسلِّمُوا على أهْلِها ذَلِكُم خيرٌ لكُم لعلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لم تَجدُوا فيها أحدا فلا تَدْخُلُوهَا حتَّى يُؤْذَنَ لكُمْ وإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هو أَزْكَى لَكُمْ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (النور: 27،28).

وعادة ما كانت ردهة المدخل مزودة بمقعد أو بضعة مقاعد للاستراحة العابرة؛ وفي بيوت الأسر المتواضعة استخدمت ردهة المدخل كمساحة لاستقبال الزائرين من الرجال ممن لا يؤذن لهم بدخول البيت (باعة، أصحاب الحاجة...) أو حيز تشارك فيه رجال الدار لأداء بعض النشاط المنزلي، أو الأشغال البيتية الخاصة بهم، أو تشاركوا مع أقرانهم وجيرانهم في ممارسة بعض الصناعات الحرفية اليدوية. وفي البيوت المورسكية التي تعود لعائلات مفقرة فاستعيض عن ردهة المدخل بممر ضيق معتم(14).

أما واجهة الباب الخارجي فجرت العادة على تصميم عقده (غالبا على شكل قوس الحدوة التقليدي) مؤطراً بإفريز أو حيّز Alfiz مستطيل يزين داخله بالزخارف الاسلامية المألوفة، وعموماً مالت الحلية المعمارية لواجهة البيوت نحو البساطة والتواضع والابتعاد عن استعراض مظاهر الغنى والتفاخر والبهرجة، فلم يكن خارج البيت يدل على المرتبة الاجتماعية أو الاقتصادية لأهل البيت عموماً. وإن كان من الممكن في بعض الاحيان الاستدلال على ذلك من خلال التدقيق في العناية بنوعية ومهارة الزخرف البارز الذي يحيط في منافد الدار الخارجية فقط(15).

5-3- فناء البيت المورسكي
يعتبر الفناء المكشوف (أو وسط الدار، أو الباحة الداخلية، أو الصحن السماوي) من أهم أقسام الدار، لكونه يعكس حوار العمارة المنزلية الإسلامية مع قيمها الروحيّة ومحتواها الفكري. وتفرّد فناء البيت الأندلسي منذ القرن العاشر بهوية إسلامية لا يمكن نكرانها ويعرف بها، وتناقلت تصميماته الأجيال الاسبانية المتعاقبة حتى راهن اليوم كأسلوب حياة داخل البيت، بسبب وظيفته النفعية وقيمته الجمالية المرهفة، وبغض النظر عن أصول مرجعياته الإسلامية.

تتميز أرضية الفناء بكونها مرصوفة بالبلاط الأجري، أو بالحجارة الملساء للبيوت الأكثر تواضعا، في المساحات غير المخصصة للنباتات.

ومنذ مرحلة مبكرة، تعود لعصر الخلافة في قرطبة، زود الفناء برصيف جانبي مبلط يحاذي الغرف، ويرتفع عن أرضية الباحة بنحو بسيط. واستخدمت البلاطات الأجرية عموماً في رصف أرضية الفناء (وعموم المنزل) لأهميتها في العزل الحراري، ومقاومتها لمختلف العوامل المناخية والتأكل الناجم عن الاستخدام اليومي. وتحكمت بنوعيتها وكيفية رصفها (شكل التبليط) الحالة المادية لصاحب البيت؛ فإما أن يكون الرصف بسيطاً يتشكل من بلاطات آجرية صغيرة مربعة (15سم وسطيا)، أو مستطيلة تتموضع بشكل متداخل، أو أشكال أخرى عرفت على مرّ المراحل الأندلسيّة مثل البلاطات المتعددة الأضلاع.

غالبا ما كان الأندلسي يميل إلى قياسيات البلاطات الآجرية الصغيرة لرصف الفناء؛ وقد يدرج معها بلاطات أخرى من الخزف الملون الزليج (واستعمل أيضا الطين المشوي مع المينا المزجج)، وقد تصل أرضية باحة الدار إلى أن تشكل حصيرة هندسية بصرية، تميل للبساطة المتناغمة الألوان والتشكيلات التزينية. وتنسجم مع الزليج الذي يكسو جدارن الغرف المشرفة على الباحة على ارتفاع متر ونصف المتر تقريباً.

ومن المرجح أن هذه الذائقة تأتي انسجاماً مع طبيعة التفكير التزييني الإسلامي الأندلسي الذي يميل إلى العناية التكوينية التي يشترك بها "المستوي" و"الفراغ" معاً، مضافاً لهما عامل "الزمن" مع اختلاف أوقات التلقي.

اعتنى الصانع والفنان المسلم بالتفاصيل التزينية المتكررة والمتكاثرة، المتفرقة والمجتمعة، وبدقائق الزخرف من التشكيلات الهندسية والنباتية المجردة، التي تبدو في حالها المفرد بلا أهمية للمتلقي الذي لا يرى أن الشكل هو المضمون، وعليه لا يستبين من الشكل محتوى لفلسفة روحية يقوم عليها هذا الفن وذائقته(16).

إن العنصر الدقيق هو وحدة مستقلة بذاتها، يدخل في علاقة خفيّة توصله وتشبكه مع العنصر الجمالي الكلي الأكبر منه، وتمنحه تلك السمة بأنه عنصر قائم بذاته، إلا انه يتجه منفتحاً نحو الكل الذي يُرى، والذي بدوره يحافظ على انفتاحه إلى لانهائية تُعرف (بالعرفان) دون أن تُرى ... وهكذا إلى لانهائية سرمدية مطلقة إلى الله تعالى. فخطوط الزخرف (النافرة أو الغائرة) المشغولة فوق لوح صلب (آجر، خشب، معدن، جلد)، تتحرك وتتشابك، وفق مقاييس رياضية هندسية محسوبة، ومن حركتها هذه تبث الحياة في الثبات وفي الكون التشكيلي المنفتح، معشقة السكون والحركة في تكامل وتناسق. كما أن التلقي البصري للتشكيلات التزينية النباتية المجردة (من ورق، ثمر، زهر، غصن) يؤدي إلى تجاوز الاحساس بالذبول نحو الدوام والبقاء. ما يدهش حقا هو استخدام الخزّاف والمصمم الأندلسي عامة لتدرجات لونيّة دقيقة الفوارق بغية الحصول على المؤثر البصري المطلوب، والمناسب لأذواق المستهلكين.

قبل أن انتقل إلى الفقرة التالية، أود أن أقول أنني لا أتفق مع الرأي التنميطي الشكلاني الذي يتردد على لسان عدة من المختصين الأوروبيين بتاريخ الفن، وأقصد به القول أن "الفن الإسلامي يخاف الفراغ فيمتلئ بالزخرف والتزيين" والذي يلخصه المصطلح اللاتيني Horror vacui (بالاسبانية Horror al vacío)، "الفزع من الفراغ"(17).

وعدم اتفاقي مع هذا الرأي يتأتى أن هذا القول يصح على الفن الباروكي الاسباني، المضاد للإصلاح، المثقل بفكرة الموت والعدم (باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح)، هذا إن لم نتحدث عن مثالية بخسه لمتع الحياة ومباهجها لصالح خلاصٍ تبلغ ذروته رهبنة متعالية؛ ولا ينطبق على الفن الإسلامي وروحانيته، التي لا تناقض فيها بين الاستمتاع بالدنيا وبين عبادة الله ضمن إطار الحلال. وهذه النزعة الزخرفية بجانب من جوانبها هي تجل إبداعي فني واحتفاء بهيج بثنائيات المعنى والمادة، بالروح والجسد. من جانب آخر، لا أعتقد أن "الفراغ" يخيف الفنان المسلم، لأنه (أي الفراغ نفسه) جزء مكمل للامتلاء في التزيين الفني؛ هذا إن لم نتحدث عن كونه يتمظهر بصرياً ويتحرك بتشكيلية خاصة به بالتوازي مع انسيابية الخط التزييني، مرافقا له بكافة الاتجاهات نحو ماهو علوي إلهي.

حسناً بالعودة إلى محور الموضوع الذي أتناوله، أشير إلى أن الفناء الأندلسي زود ببئر، أو نافورة (فسقية) مستديرة أو مربعة الشكل أو متعددة الأضلاع، تحولت لتشكل بركة مستطيلة في البيت الغرناطي أثناء حكم بني نصر، إضافة لمساحات مرزوعة تشدد على استحضار الطبيعة في الدار، فزرعت في الفناء الأشجار (الليمون، البرتقال، الرمان)، والنباتات الفواحة (الآس، الحبق) والأزهار العطرية (الياسمين، الورد) حسب مساحة البيت، وزرعت القرب الآجرية (الأصص) وعلقت على الجدران.

يستبين المرء من الفناء الداخلي للبيت الإسلامي الأندلسي، غير المسقوف والمنفتح عمق على السموات في الأعالي، إشارة نسبية تذكر ساكنه بمفهوم الجنة المطلق، وعليه فإن انغلاق البيت عن الخارج، وتضيقه الظاهري حول الداخل، يتسع على رحابة مفهوم السموات الإسلامي، ويغدو البيت منفتحاً بقاطنيه ودون وسيط على مفهوم المطلق اللامتناهي المتجلي في كل زمان ومكان؛ ولعل هذا المضمون العمراني الإسلامي يلتقي مع فكرة غياب الاكليروس أو الواسطة الكهنوتيّة بين الفرد المؤمن وربه تعالى.

إضافة لكل ذلك، فإن فناء الدار المبلط مع بركته وجنينته يشكل لوحة جمالية حيوية بأبعاد خمس (الطول والعرض والارتفاع والزمان) تمتزج في تلقيها وتشارك حواس المخلوق. فمن علو الجدر البيض الخارجية التي تفصل البيت عن الشارع، مروراً بردهة المدخل، تنفرج فسحة الفناء عن باحة من ضوع الأزهار، واهتزازات الهواء والنسمات، وتدرجات ألوان المزروعات وتبدلاتها بتبدل الفصول وحركة النور والظلال على مدار اليوم ... تنفرج عن باحة من توقيع أمواه تتدفق من النافورة أو البركة، وخرير خفي واهن يصدر من الأرضية حين تزويد بعض البيوت بقنوات سطحية ضيقة تجري فيها الأمواه، مما يؤمن شبكة من التكيف والترطيب المحبب في الأشهر الحارة، ومن النافل للقول أنه إلى جانب الوظيفة النفعية لهذه القنوات تتدفق جمالية رفيعة الذائقة.

وتم التلاعب على صوت المياه، وانسكابها من الحوض الرئيسي في البيت الأندلسي؛ ومن الملاحظ ميل الأندلسيين، خاصة أهل غرناطة، إلى دفق الماء من فوهات ضيقة نوعا ما، مما يجعل وقع طرطشاتها خافت الصوت، ينسكب بهرمونية مهدئة للنفس، ويعمل كعنصر استرخاء وسكينة، ويحتاح للسكون وصفاء الروح للاصغاء له.

وفي الدور التي كانت تقع في مناطق تسمح لها بالتوسع والامتداد، كان من الممكن أن يكون للبيت أكثر من "صحن سماوي"، تتوالد تبعاً للإمكانية المادية لأصحاب البيت والمساحة المتاحة لذلك.

ولعب فناء الدار الإسلامي الأندلسي دورا مؤثراً في أجناس الأدب والفن الإسباني كافة وعلى مرّ الأزمنة، خاصة الشعر والموسيقى والفنون التشكيلية ليس لحواره مع الحواس الخمس فقط، بل لأبعاده الماورائيّة العرفانية كذلك.

5-4- الرواق
في البنية التقليدية الأولى للبيت الأندلسي كانت أبواب الغرف تنفتح مباشرة على الفناء، وحينما تم تشييد الطابق الأول أضيفت إلى بنية البيت الأندلسي، اعتبارا من القرن الثاني عشر، أروقة مقنطرة (الغاليري).

وفي المرحلة الموحدية بدأت العناية بالرواق تظهر على نحو خاص، وأثناء حكم بني الأحمر في غرناطة لم يكن الرواق مكتمل الإحاطة بالفناء المستطيل، واقتصر وجوده على جانبين متقابلين فقط (الرواق الشمالي والجنوبي)، واختلف عدد عقوده تبعاً لمساحة الفناء. وحملت الرواق دعائم آجرية عادة ذات قاعدة مربعة في الضلع الطويل، وأعمدة حجرية ذات تيجان نصريّة في الضلع القصير. وصُعد إلى الغرف في الطابق العلوي بسلالم جانبية ضيقة تكاد لا تلاحظ. وكان الطابق الأول يكاد يكرر الطابق الأرضي من حيث عدد الغرف ومساحتها.

توجه البيت الإسلامي الأندلسي نحو التوسع العمودي، كحاجة وضرورة، لازدياد عدد السكان والوافدين المسلمين إلى مملكة غرناطة، بفعل الحروب وتوسع سلطة الملكين ايسابيلا وفرناندو، على حساب الأراضي التابعة للحكم الإسلامي. وبالتالي برزت أهمية الرواق على نحو غير مسبوق وأضحى يحيط بالفناء من أضلعه الأربع في كل طابق، وزودت الطوابق العلوية بدرابزين خشبي؛ وعليه تحول الرواق ليكون أحد خصائص المسكن المورسكي(18).

* * * *

6- مآل عمارة البيت المورسكي
في أوائل الفترة اللاحقة لتسليم مدينة غرناطة، ولبضعة سنوات، حافظ البيت المورسكي على هوية عمرانه، بل تمّ التشديد على العناصر المعمارية الأندلسية الإسلامية، كما لو أن هذا التشديد يعكس مقاومة تلك الذات المسلمة، التي حدست بسوء المصير الوجودي، فأكدت على وجودها وعمرانها رغما عن السواد الذي يلوح في الأفق، خاصة مع عزل الجماعة المورسكية في أماكن متقاربة للسيطرة عليهم (مثل حي البيازين) ... الخ.

طالت سلسة القوانين التفتيشية الرديكالية المعيش اليومي للمورسكيين، وأخضعت سلوكهم للرقابة بعد التنصير الجماعي القهري، وحرمتهم من شراء العقارات والأراضي في غرناطة، بغية تفريقهم لاحقاً واحلال "المسيحي القديم" مكانهم، فوزعت مساحات واسعة على النبلاء والفرسان لقاء خدماتهم للتاج المنتصر.

أما الخضوع للقانون الذي يجبر المورسكي على ترك باب داره مفتوحاً لتسهيل عمل الرقابة، والتأكد من أنه لا يمارس شعائر أو عادات لا تتوافق مع التنصير، فقد استدعى تحولات في تعامل المورسكي مع عمارته المنزلية وفضائه الأسري، ولم تكن بواعث هذا التغير متأتية بحال من الأحوال من طروحات هندسة العمارة ومجالاتها، وإنما بدواعي بعيدة كل البعد عنها(19).

بناء عليه، وبما أن المدخل التقليدي بعد تجاوز العتبة لا يسمح بسرح البصر لرؤية الداخل المنزلي، لأنه كان بشكل كوع الذراع، فإن الأمر تطلب إجراء تعديلات معمارية تتوافق مع "قانون الباب المفتوح" الجائر، ففتح مدخل مباشر من جدار الصالة الرئيسية المحاذي للشارع، وكما ذكر سابقا كانت الصالة الرئيسية في الطابق الأرضي تتصل بفسحة الدار السماوية؛ وعليه فإن المدخل الجديد وفر إمكانية الترصد والتلصص من الشارع لما يجري في باحة المنزل.

وفي حالات عدة، وربما كدفاع عن بقايا ما يمكن أن يسمى الصالة الرئيسية، تم بناء حائطين على جانبي ردهة المدخل الجديد، أي تقسيم الصالة الرئيسية إلى غرفتين تحاذيان المدخل، وتتصلان به بباب؛ أو تستعيضان عن ذلك بتحويل الخزائن الجدارية في كل من هاتين الغرفتين إلى باب ينفتح على الفناء.

بالطبع كان لهذه التعديلات تداعيات انتربولوجية ودينية مباشرة وحاسمة المعنى:

- أولاً، انهيار كل من الوظيفة التراتبية والتمثيلية للصالة الرئيسية. فهي مكان مخصص للرجال، ولها وظيفة تراتبية فيما يخص داخل البيت، وتمثيلية فيما يخص خارج البيت.

- ثانياً، تحطيم مبدأ حرمة الدار، وانتهاكها بانكشاف الفناء الداخلي وسفوره بالإكره.

- ثالثاً، انهيار مبدأ الاستئذان ودلالته الدينية، والسلوكية الأخلاقية الإسلامية.

- رابعاً، الأهمية الجديدة التي اكتسبها الطابق العلوي لبعده النسبي عن أعين العابرين، أدت لتغير في أسلوب الحياة الأسرية المدينية المألوفة لقرون في فسحة الفناء، والتي أضحت مساحتها أقل مما هو متعارف عليه في تاريخ الثقافة المورسكية.

- خامساً، اعتمدت المساكن التي بنتها المجموعة البشرية الوافدة إلى غرناطة، تحت مسميات "المسيحي القديم"، على المهرة من البنائين والنجارين وأصحاب الورش المختلفة المورسكيين في بناء بيوتها، وتشير الوثائق لدوام المؤثرات المورسكية في الديكور الخشبي الداخلي على سبيل المثال حتى القرن الثامن عشر. وعليه لم تطرأ على جماليات الفناء أية تعديلات هامة، فيما عدا اتساع المساحة المخصصة للسلالم المرتقية للطابق العلوي، واختفاء الأعمدة الأجرية المربعة القاعدة والمستندة مباشرة على الأرض لصالح أعمدة حجرية توسكانية، إضافة لتعديلات في واجهة المداخل التي طلب أصحابها الجدد، خاصة من الأسر التي ادعت النبالة والشرف (أو من الأثرياء الجدد الحاصلين على ألقاب الفرسان لمأثرهم المختلفة وخدماتهم في الصراع مع المورو)، بوضع شعار النبالة أو وسم رفعة العائلة(20)، الدال على "نقاء الدم"، والنسب النبيل المنتصر وعلو المرتبة الاجتماعية، وسط الزخرف الجصي المورسكي المحيط بالمدخل. وهذا الاستعراض والكشف في واجهة البيت المورسكي، يتناقض مع الأصول الإسلامية التي تؤكد تواضع الزماني أمام اللازماني، كما يشيح الوجه عن ميل البيت المورسكي الأندلسي إلى استنكار مظاهر التفاخر في واجهة المنزل الخارجية، فـ"لامالك إلا الله"، و"لاغالب إلا الله".

- سادساً، أدى انهيار الأعراف التوافقية القديمة بين ساكنة الدور، ومحاكمة من يتستر على أية ممارسة ثقافية أو دينية ممنوعة إلى فقدان الثقة والشبهة وزعزعة العلاقة بين المورسكيين ("عديمي الشرف" وفق منطق نقاء الدم) وبين جيرانهم المصنفين ضمن شريحة "المسيحي القديم" و"مالكي فضيلة "الشرف". مما كان له أعمق الأثر في نظام القيم القضائي الذي يفصل في المنازعات الأهلية وتسمع فيه كلمة من "عنده شرف"، وتُأخذ ضد "عديم الشرف"(21).

وعليه فإن تحولات البيت المورسكي العمرانيّة تحكي على طريقتها بداية معاناة المورسكي وسيروة الاعتداء على روحانيته الدينية، وإمكانية ممارسته لثقافته الموروثة.

* * * *

7- الكرمن الغرناطي وتداعيات في حبكة السيرة
مع ثورة الموريسكيين وتفاقم العنف سنة (1568)، أخضع سكان غرناطة للتهجير الجماعي، فرحّل حوالي 80000 ألف فرد عنها، مما أدخل حي البيازين في إيقاع متسارع من الخراب والتقوض، نتيجة لاخلاء البيوت وترك المباني المختلفة مهجورة. فمن 30000 ألف فرد مسجل كساكن في حي البيازين وفق إحصاء سنة 1560، معظمهم من المورسكيين، يشير إحصاء عام 1620 إلى 5000 فرد يسكن الحي، أغلبيتهم بالطبع من "المسيحيين القدماء".

وفي هذه المرحلة، أي مع بدايات القرن السابع عشر، ظهر في حي البيازين شكل من البناء المنزلي يختلف عن البناء المورسكي الحضري المألوف الآنف الذكر، إلا أنه وطيد الصلة مع شكل من أشكال الأبنية السكنية الريفية الذي عرفتها مملكة غرناطة الإسلامية. وهذا النوع السكني يعرف حالياً باسم "الكرمن" Carmen، وهو من العلامات البنائية الفارقة التي تعتز بها مدينة غرناطة، وينتشر الكرمن بكثافة في حي البيازين(22).

يعود الاسم "كرمن" إلى لفظ Carme، الذي يعود بدوره إلى الجذر العربي "كرم" Karem. لغوياً يتصل الاسم بالحقول المزروعة بكرمة العنب، وبمقتضى تاريخ مملكة غرناطة أيام بني زيري وبني الأحمر، هو نمط من المعمار الريفي تملكه أسرة واحدة، ويقع خارح أسوار مدينة غرناطة، وعرف انتشاراً واسعاً في الغوطة السهلية Vega de Granada منذ القرن الحادي عشر(23).

وجاء ذكر هذه المزارع-العزب أو الكروم السكنية في مؤلفات تاريخية عدة، منها أرجوزة خطها ابن ليون التجيبي (1282-1349) في الهندسة الزراعية، وتحمل عنوان "ابداء الملاحة وانهاء الرجاحة في أصول صناعة الفلاحة"؛ كذلك ورد ذكر "الكرمن" في كتابي لسان الدين بن الخطيب (1313-1374) "اللمحة البدرية في الدولة النصرية" و"الإحاطة في أخبار غرناطة" في القرن الرابع عشر، من بين كتاب آخرين ذكروه وبينوا كيفية بناء "الكرمن" الغرناطي الريفي في تلك الأوقات المبكرة قبل سقوط الممكة الإسلامية(24).

يمتاز "الكرمن" بوجود عقار سكنني مبني من الآجر، وقد يكون مزوداً برواق وبرج في إحدى جوانبه، بينما تمتد قطعة الأرض أمامه، وهي غالبا منفصلة عن الخارج بسياج مرتفع، وتوزع على مساحة الأرض الحدائق، والممرات الظليلة، والنوافير والبرك albercas، والسواقي acequias، وبساتين الخضار، والأشجار الحراجية مثل شجر الميس Almez، والأشجار المثمرة، دون نسيان وفرة كرمة العنب، لدورها بتأمين الظل حين تعريشها فوق الممرات إضافة لجمال دوالي أعناب عناقيدها، ومن هنا تأتي الكلمة العربية "كرم" التي تطلق على هذه المزارع.

وعليه فـ"الكرمن" هو مسكن-مزرعة ريفية، امتلكتها على الأغلب الفئات الموسرة، للتصييف أو لقضاء أوقات الاستراحة والترفيه، ولم يكن الغرض من هذه المزرعة السكنية إنتاجياً زراعياً بأي حال من الأحوال، وإنما اقتصر جني ثمرها على الاستهلاك الأسري عموماً.

قبل أن أتابع الحديث عن الكرمن، أشير إلى أن هذا النوع من المزارع-العزب والبساتين الترفيهية القريبة من المدينة، والذي لم تعرفه أوروبا حتى عصر النهضة وفي ايطاليا تحديداً، يعود إلى تواريخ أندلسية مبكرة، وإن تحت مسمى مختلف من مثل yanna, bustan y almunya (من الجذر العربي الجنة، والبستان، والمُنية على التوالي)، وأشهرها مُنية الرصافة Almunia de Alrruzafa في الموقع الذي رأى فيه عبد الرحمن الداخل (731-788م) نخلة مغتربة مثله عن أرض شامه، فألقى قصيدته المشهورة في الحنين وبنى إلى جوار النخلة دارة-مزرعة واسعة له(25). وعرفت مزارع المُنية الأندلسية أوج ازدهارها في القرن الحادي عشر مع وضوح فرز النخبة الحضرية كفئة اجتماعية واقتصادية مهيمنة تتجه إلى ملكية العقارات الريفية.

بالعودة إلى غرناطة، بدأت مرزعة "الكرمن" تأخذ طابعاً حضرياً بعد خلو البيازين من معظم سكانه الأصليين، ونتيجة للخرائب التي طالت الحي، حينها تمكن السكان الجدد، على قلتهم، من إعادة تأهيل بعض الأبنية المتداعية، وضم فناءات متعددة من البيوت المورسكية القديمة إلى بعضها البعض لتشكيل المزرعة-الحديقة المتدرجة، بفعل علو الحي ووقوعه على تلة متفاوتة ومتباينة الارتفاعات (700-800 متر فوق سطح البحر).

وبالطبع، اختفى الفناء القديم بالكامل من البيت-الكرمن، وحلت محلة الحديقة الأمامية الوافرة الأزهار والكثيفة الأشجار؛ ولكن بقي السور (بارتفاع 2 متر) يحيط بالكرمن ويفصله عن الشارع، مما اكتسب كرمن البيازين صورته الهوياتية التقليدية الأقدم التي تعرف له، قبل التدخلات الباروكية والرومانسية في طرازه المعماري وتصميم حدائقه اعتباراً من النصف الثاني من القرن السابع عشر.

بكل الأحوال، خاصة في تلك المرحلة الحدودية زمنياً، أعود لأطرح السؤال-الجواب: كيف للثقافة تلك الأرض أن تفر من عمقها الجدلي!! كيف لها الفرار من سفر الأشكال الفنية والمعمارية (وهي تتزاوج وتندمج وتتصالب) في الزمان والمكان!! كيف الفرار من مكون من مكونات هويتها الأهم لقرون!! هوية تنفتح على شدة المعنى في السياق الإسلامي.

* * * * *

8- مابعد ثورة البشرات.. تواشج السكن الكهفي في وادي-آش مع المقاومة
وادي-آش، أو Guadix بالاسبانية، اسم مركب من "وادي" بمعنى "نهر" العربية، و"أكشي" Acci الاسم الروماني القديم لهذه الحاضرة. وتقع في الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة الايبرية، وإلى الشمال الشرقي من مدينة غرناطة.

في راهن اليوم تحتوي وادي-آش على كاتدرائية ضخمة تثير تساؤل الزائر عن سبب قيام صرح ديني من مقام "كاتدرائية" في بلدة صغيرة كوادي-آش(26)، فمن المتعارف عليه في اسبانبا اقتصار وجود الكاتدرائيات عموماً على المدن الكبرى ذات الأهمية التمثيلية دينياً. وهنا أود أن أشير إلى أن تجربتي الخاصة في التعرف على ماهو أندلسي، إضافة لتفكيك الأسطرة التي قام عليها خطاب السرديات المتعصبة الأحادية البعد، جعلتني أحدس، متجاوزة اللجوء إلى قوائم التعداد السكاني وديموغرافيته، أن هناك علاقة مضطردة بين التأكيد الهاجسي على البناء الديني المسيحي في القرن السادس عشر في مكان ما، وبين كبر نسبة الوجود الإسلامي في نفس المكان. وفي حال وادي-آش وعند مراجعة نسبة التعداد السكاني في إحدى الاحصائيات القشتالية التي أجريت سنة 1571، يلاحظ أن نسبة المورسكيين تبلغ 4758 من عدد سكان وادي-آش، بينما يصل عدد "المسيحيين القدماء" إلى 1476 فرداً(27).

جاء ذكر البلدة في المصادر العربية المختلفة لأهميتها الاستراتيحية كما الثقافية، الأمر الذي يعكسه عمران قصبتها الذي يعود للقرن الحادي عشر؛ إضافة للأسماء الفكرية والأدبية التي سطعت فيها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر؛ أسماء من مثل ابن طفيل (1116-1186)، و"لابس الخرقة" أبو الحسن الششتري المولود في قرية تابعة لوادي-آش (1213-1270)(28)؛ وفي معرض الحديث هنا لا أنسى الشاعرتين حمدة بنت المؤدب (ت.1204) وأختها زينب بنت زياد بن تقي (؟)(29).

عرفت وادي-آش كافة مراحل الحكم الإسلامي، وتنقلاته حتى خضوعها سنة 1232 لحكم بني نصر، لتأخذ نصيبها في الصراع على السلطة في مملكة غرناطة بين أبو عبد الله الصغير، ووالده أبو الحسن علي بن سعد (؟-1485)، ومن ثم عمه أبو عبدالله محمد الثالث عشر (1444-1494)، المعروف بالزغل والملقب بـ”El Valiente” (الشجاع، الباسل) في الأدبيات القشتالية.

في عام 1488، سلم الزغل وادي-آش للتاج المتحد من قشتالة وأرغون، بعد سقوط مالقا (1487)، وقبل تسليم غرناطة من قبل أبو عبدالله الصغير. لتبدأ سيرة مقاومة هذه الحاضرة وتحويل ملامحها الدينية والثقافية بما يتوافق مع قوانين المنتصر. وكان للأحداث التي مرت على مدينة غرناطة بعد السقوط أثرها المباشر على وادي-آش، حتى أن مصيرها ارتبط بكل ما جرى في مدينة غرناطة إضافة لمشاركتها الفعلية في القيامات والانتفاضات المورسكيّة.

في ضيعة بزنار Béznar الواقعة في "وادي الإقليم" Valle de Lecrín في ريف غرناطة الجنوبي، وخلال فترة أعياد الميلاد سنة 1568، بدأت أول شرارة لثورة البشرات، كردة فعل مباشرة على الاستغلال الاقتصادي الجائر والمتصاعد من قبل الطغمة الحاكمة والفئات المحدثة التاريخ في غرناطة والتي تدعى بـ"المسيحيين القدماء"؛ أما أسباب الثورة العميقة فتكمن في الاحتقان المستمر والظروف القاسية التي أخضعت لها الأقلية المورسكية، بغية اقتلاعها من جذورها وانتمائها الثقافي والديني والاثني والمكاني وصولاً للسكني. ولم تكن هذه الثورة إلا دليلاً واضحاً على فشل السياسية السلطوية التفتيشية التي تتغذى من التزمت وانعدام استيعاب العلاقة بين المختلف والوحدانيّة السماوية، فتعمل على رفض الاختلاف، وإزالته جذرياً بوحدة قهرية متعالية لاتعرف لـ"لتسامح الديني" من معنى.

امتدت الثورة إلى معظم جبال البشرات والسلاسل المحيطة برونده (إلى الجنوب الغربي من غرناطة) ودامت لمدة عامين، قبل القضاء عليها وإخمادها بوحشية ارتكبت فيها فظائع رهيبة طالت البشر والشجر والحجر. واعتدي على كل مايمت بصلة للمورسكي، قتلاً وأسراً واغتصاباً واستعباداً وبيعاً في سوق الرق، إلى كل ذلك لم توفر القوات السلطوية جهدها في تقويض الضياع وتهديم البيوت وتحريق المحاصيل، وتبديد معالم المكان المورسكي في جبال البشرات ... إلى ما هنالك من بطش قاده منطق "الغالب الجديد".

وليس من المستغرب بمكان، وكما تشير العديد من المراجع، كانت إجابة المورسكي المضطهد ضد "المسيحي القديم" والاكليروس ورموزه المتمثلة في العمران الكنسي حادة العنف، دون نسيان ممثلي السلطة من جباة الضرائب وموظفي القضاء والتجار؛ وهنا لا أود أن أبرر العنف، ولكني أود فهم دوافعه والكيفية التي تواجه فيها الأقلية المسحوقة التي تعامل بشكل لاأخلاقي (تبعا للقانون الديني أو الدنيوي) قدرها، حتى يغدو فعلها إحدى تجليات الجماعة اليائسة والمهدَّدة في وجودها التاريخي. فحينما تعامل أحدهم بلاأخلاقية، وهذه اللاأخلاقية تهدد وجوده البشري والثقافي والديني، عليك أن تتوقع ردة فعل صارخة توصف بـ"لاأخلاقية"، ودون أن ننسى أننا هنا لا نتعامل مع ملائكة وكائنات أثيرة، بل مع بشر من لحم ودم وإحساس ووجود.

أثناء الثورة انضم قسم من مورسكي مدينة وادي-آش والقرى المحيطة إلى الثورة، بينما أحجم قسم آخر عن الانضمام لأسباب مختلفة: جزء منهم بسبب فقدان الروابط أو هشاشتها مع مورسكيي الجبال الأكثر وعورة، وجزء آخر تردد وطلب حماية السلطات المحلية من أعمال العنف المتفجرة؛ فكان ردها بحملة سطو ونهب غوليّة طالت الممتلكات المورسكيّة، وبلا تمييز بين من حمل السلاح أو لم يحمل، مما أدى لتضامن وتأييد السواد الأعظم من المورسكيين في وادي-آش للثورة في نهاية الأمر.

من أهم نتائج العنف المتفشي في وادي-آش بعد سنة على قيام ثورة البشرات هو استعباد العديد من المورسكيين، خاصة النساء والأطفال، ذكوراً وإناثاً، فازدهر العرض والطلب على المورسكي في سوق تجارة العبيد. أما من نجا من العبودية فقد فرض عليه بعد الثورة، كما في غرناطة والبلدات القريبة، الخضوع لقرار الحكومة المبرم بالنفي الداخلي، والتهجير نهائياً إلى المناطق الداخلية كقشتالة واكسترامادورا من بين مناطق أخر، بغية تشتيشهم وإعاقة تواصلهم وإمكانية تشاركهم بالحس الثقافي الإثني المشترك كما ذكر سابقاً(30).

بالتأكيد، وكما تشير كثير من دراسات المؤرخين الاسبان، كانت النكسة من نصيب الاقتصاد الحكومي بالمجمل جراء تنفيذ قرار الترحيل القسري، لفقدان العامل البشري للصنائع والحرف والورش والفنون المميزة في المنطقة؛ وهنا أود أن أشير للسرعة المهولة في سيرورة تحول معظم المورسكيين إلى فئات الحضيض المفقرة، والواقعة إلى هامش الهامش المجتمعي.

فيما يلي سأحاول أن أستبين أحد أنواع المساكن المورسكية المفردة في تاريخ الفن والعمارة، والتي عرفتهما المرحلة التالية على ثورة البشرات كصيغة من صيغ مقاومة الملاحقة التفتيشية.

* *

9- "السكن-الكهف" المورسكي في وادي-آش
قال تعالى: "وكانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين" (الحجر: 82)

وقال تعالى: "تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا" (الأعراف: 74).

يطلق اليوم اسم "حارة الكهوف" El barrio de las cuevas في وادي-آش على الميراث السكني المأهول من "حجارة وفراغ كهفي" متناثر في شماريخ الجبال المحيطة في ضواحي البلدة، ويبلغ عددها حوالي 2000 منزل-كهف تحتل 200 هكتار من المساحة الأرضية بناها المورسكييون وورثتهم بعد الطرد. وتصنف وادي-آش، مع بلدتي بسطة ووشقر Paza y Huéscar، كأكثر المناطق التي تحتوي كهوفاً مأهولة في العالم.

وتحمل هذه المغاور قيمة رمزية دالة على مصير الجماعة المورسكيّة، ووثيقة حجرية معرفية منحوتة تحكي فصلاً من فصول السيرة المورسكية. ويتبدى عمران البيت-الكهف المورسكي كأمثولة تكوينية تتوضح عبرها علاقة ساكنيه-أهل الكهف مع (المكان-الوطن)، وصلتهم مع (الانتماء-المعتقد)، وهم يواجهون خطر الدمار والزوال والفناء. وهنا تقع علينا كبشر وثقافات مسؤولية المحافظة عليه وحمايته من الغياب النسيان، على حد سواء مع العمارة الأندلسية المكرسة، والممثلة للأوج الحضاري سياسياً ودينياً وعسكرياً ( من قصور ومساجد وقلاع)، ذاك أن المؤسسة الثقافية والفنية العربية تميل لنسيان جماليات هذا النوع من الهندسة المعمارية الشعبية، وتتجنب الحديث عن مواصفاتها المعمارية المفارقة لنموذج البيت الأندلسي، وتتجاهل الأطروحات المعمارية التي اقترحتها وأشادتها أثناء تعاملها مع واقع مشحون بشرائع مخالفة للوجدان.

من جانب آخر، تتيح عمارة البيت-الكهف مقاربة مفهوم "المكان المقاوم"، ليس في سياق العصر الذي بنيت فيه فقط، بل في كذلك في عصرنا المعولم الذي يتكئ على استنساخ مفهوم "البيت-اللاسكن" أو المنزل الفاقد للهوية وللشخصية المميزة؛ كما أنها بحلوهها المعمارية البدئية المبكرة تبدو كصيغة معمارية مابعد حداثوية تعكس زمنها وتفيض عنه لتحاور راهننا المعماري بقوة بساطتها، و"كيتشها" الذي يحطم الحدود بين "المبتذل" و"الرفيع" في في فقه لغة الفن والمعرفة العمرانية المكرسة(31).

بعض الدراسات الأكاديمية تشير إلى أن مدينة وادي-آش عرفت بناء الكهوف قبل القرن السادس عشر، ولفترة تعود لحكم الموحدين لها (1147-1269)، حيث اعتاد السكان على حفر بضعة كهوف متواضعة، أشبه بتجويف فراغي في الجبال التي تقع في ضواحي المدينة بغية تخزين الحبوب والمحاصيل، أو كاسطبلات لايواء الحيوانات. ولم تستخدم هذه الكهوف للسكن البشري الدائم بأي حال من الأحوال حينئذ، واقتصر استخدامها كاستراحة مؤقتة وملجأ للرعيان وعابري السبيل تقيهم العوامل المناخية، وفي بعض الأحيان للحراسة الأمنيّة الدفاعية. وهذه المغاور الموحدية مازالت قائمة، وهي مهجورة غير مسكونة، وتقع في القمم الأبعد من المرتقيات الصخرية، ومازالت تدعى بـ"كهوف المورو" Cavarrones del moro. في حين أن الكهوف التي تشكل الأحياء السكنية تعود للقرن السادس عشر وهي من صنع يدّ المورسكيين(32).

بكل الأحوال، يدفع انتشار الكهوف في المنطقة السكنية للحدس أن ذاكرة المورسكي، خاصة ساكن وادي-آش، احتفظت بتقنية حفر الجبال وتعمير الكهوف، ولابد أن هذه الذاكرة حضرت على نحو ملح بعد ثورة البشرات، حين نفي وهجّر سكان المنطقة من المورسكيين وبعثروا في الشتات الداخلي؛ ذلك أن البعض منهم، ومع مرور الوقت وهدوء الحال النسبي، تسلل من جديد وعاد إلى المناطق الأم التي هجّر منها، والبعض الآخر قادته صدف الفرار إلى وادي-آش، فاشترك مع من يتقاسم معهم المصير المورسكي في بناء مأوى لهم وراء المنعطفات الجبلية المعزولة، بعد أن ضاقت بهم سبل العيش ضمن الحدود الرسمية داخل سور المدينة، لتداعي البنية الديموغرافية فيها وقبل أي شيء بسبب مناخاتها التجسسية الطاردة ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً للموريسكي. فبدأوا باستعادة تقنية الحفر في منعرجات الأعالي العصية على الوصول، ليكون لهم فيها سكناً يقيهم العيون المتلصصة التفتيشية، ويستطيعون بذلك ممارسة يومياتهم الشعائرية كما الاجتماعية بحرية نسبيّة. ولفهم منطق هذه الأحياء في سياقها التاريخي في القرن السادس عشر (رغم قيمتها المعمارية والفنية والسياحية المكتسبة في الوقت الراهن) يمكن مقارنتها مع الشريط الأبعد من أحزمة الفقر أو مساكن الصفيح العشوائية في المدن المعاصرة.

من جانب آخر، أود أن أنوه لما يمكن أن أطلق عليه "التغاضي" أو "التساهل"، من قبل بعض من "المسيحيين القدماء"، تجاه عودة هؤلاء المورسكيين إلى وادي-آش، بسبب حاجتهم الملحة ليد عاملة حرفية ماهرة ورخيصة الثمن، بعد انهيار الاقتصاد المديني والريفي.

هذا المسكن-الكهف الذي أشاده المورسكي، انطلاقاً من الكهف الموحدي في الذاكرة، أخذ يتطور ويقدم حلولاً معمارية خاصة به، اعتبارا من تجربة المعيش اليومي، وما تتطلبه من حاجات وتمليه من ضرورات، إضافة لحلول لعبت في توجهها الطبيعة الجغرافية والمناخية والجيولوحية للمنطقة دوراً كبيراً. والنتيحة التي نراها الآن حين التأمل في المساكن-الكهوف، مشهدية تتواشج فيها الطبيعية مع الثقافة في مفرد وحدة لامثيل لها.

فالمورسكي المهمش والملاحق ترك لنا أحجية في "العمارة المقاومة"، أحجية لابد من فهم تقنيتها الهندسية في سياق السيرة، ذلك أن جماليات التشكيلات الكهفية وسط المنظر الطبيعي-الثقافي، تشير إلى:

- تعبير مادي نفعي عن ملجأ أو مأوى سكني.

- وتعبير لامادي يحتضن فيه الفضاء المنزلي (السكن-الغار) الأرض ويتشبث بأحشائها.

* *

10- تقنية حفر ونحت السكن-الكهف المورسكي
استثمر المورسكي خلاصة المؤثرات المناخية الباردة عبر الأدوار الجيولوحية المختلفة في منطقة وادي-آش، والتي أدت لترسب صخري سيليكاتي، قوامه طبقات طينية غضارية مائلة، ومندمجة تماماً مع التضاريس الصخرية. ولهذه المنحدرات الطينية المتكتلة التي اتسمت بليونة نسبية وجه المورسكي عنايته، وأخذ يحفر بفأسه المدبب متتبعاً طبقات الصوت، ومصغياً لترجيع ضربات الفؤوس (من الكتامة إلى درجات صوتية متنوعة)، بما يدل على الصخور أو الكتل الطينية، فتتحدد بموجبه جهة الحفر وصلاحيتها، بتجنب الصخور والحفر في الكتلة الطينية.

بداية كان العمل يبدأ على تشكيل واجهة البيت-الغار، وذلك بحفر حاد كما لو أنه قص في ميولة المنحدر، حتى تلوح الواجهة وتأخذ شكلاً قائماً، ومن ثم تبدأ عملية تمهيد الأرض شيئاً فيشيئاً لتشكيل فسحة المسكن الخارجية المخصصة لليوميات التي تمارس في الهواء الطلق أمام الواجهة.

يلي تشكيل فسحة المسكن-الكهف، الحفر في وسط الواجهة للحصول على تجوير المدخل بما يخدم التوسع اللاحق وإزالة الركام المتقوض وتجنب الانهيار. ويجب أن يتم العمل بوتيرة متسارعة وخبرة معرفية للطبيعة الأرضية، ذلك أن تماس الطبقات الطينية الرطبة اللدنة مع الهواء يؤدي إلى جفافها وبالتالي قساوتها وصلابتها؛ الأمر الذي يجعل عملية الحفر أكثر صعوبة فيما لو تأخرت، إلا أن هذه الميزة تغدو إيجابية مع الانتهاء من تكوين المنزل-الكهف، خاصة أن الطبقة الخارجية، التي تشكل ظهر الكهف، هي طبقة كتيمة ونفاذيتها للماء منخفضة جداً. بمعنى أن المسكن-الكهف يتميز بـ:

- قساوة الجدران الداخلية العازلة، ذات السطح الخشن، والتشكيل السقفي المقوس.

- انعدام نفاذية الجدران الخارجية (السقف والواجهة) بسبب صغر المسامات الغضارية.

الأمر الذي يحمي من الوكف، ويوفر مناخاً داخلياً معتدلاً تتراوح درجات حرارته بين 18-20 درجة مئوية تقريباً على مدار السنة، ويحمي من قرّ الشتاء كما قيظ الصيف.

أول نتائج العمل على هيكيلة البيت-الغار الداخلية هو الحصول على تجويف المقصورة الرئيسية، المزودة بباب ونافذتين في الواجهة (متوسط سماكة الواجهة حوالي 2م) لتأمين التهوية والإضاءة، وتخدم هذه المقصورة كمكان للطبخ وصالة معشية تجتمع فيها الأسرة (لاحقا جعل المطبخ في أحد الأركان).

بعدها يبدأ العمل على إظهار التجويف الثاني، بمتابعة الحفر خلف منفذ داعم مقوس وواطئ (بارتفاع 1.5-2م)، إلى العمق من الصالة الرئيسية، حتى تظهر هيكيلة الغرفة الثانية. ويمكن متابعة الحفر على التوالي حتى تكتفي الأسرة من حاجتها من الغرف المتوالدة، والمتناقصة في حجمها ومساحتها تباعاً مع التقدم في عمق البيت-الكهف. ولا ننسى أن المورسكي صمم للمسكن-الكهف خزائن جدارية ذات رفوف anaqueles لحفظ الطعام والمؤونة، والمواعين وأدوات العمل، والفرش إلى ما هنالك. وفي فترات لاحقة، تم خرق السطح العلوي للبيت-الكهف بفتحة عمودية بنيت عليها فوهة آجرية، خدمت كمدخنة تتصل بالمدفأة أو موقد الطبخ. ومن الملاحظ أن منظر هذه المداخن مدرج في المشهدية الجبلية تماما كما لو أنها جزء لا يتجزأ من الطبيعة الأم. وفي حالات متنوعة، تمت عمارة بيت-كهفي من طابقين متدرجين، وخدم سطح الطابق الأول كشرفة للطابق الثاني(33).

أما فيما يخص الطرقات والدروب في جوبات هذا الحي، فقد استثمر المورسكي الشعاب الجبلية والممرات التي حفرتها مياه الأمطار في العصور الماضية، في تشكيل البنية التحتية الترابية التي توصل البيوت-الكهفية ضمن شبكة لا يعرف تفاصيلها إلا أهل الكهف في تلك الأوقات العصيبة.

وظف المورسكي في عمران السكن-الكهفي المواد الخام الطبيعية المتاحة في منطقة وادي-آش، وأضاف ابتكاراته وحلوله وتصميماته الفنية المتأتية من الظروف الصارمة ومقاومة الانقراض الذي أحاق به.

ومن الملاحظ أن العمران الذي يقوم على التشييد بغية تكوين الفراغ الاجتماعي في البيت المورسكي التقليدي، انقلب إلى عمران يقوم على الحفر والنحت لتكوين فراغ ثاوي في العراء الجبلي، كما لو أنه بصمة دهرية غائرة على كتف وادي-آش ... بصمة ناطقة وشاهدة على ما كان، كما هو وثيقة مادية لتراث معماري وذاكرة ثقافة.

أما ورثة المسكن-الكهف بعد أن غادرها أصحابها الأوائل، فهم المكون المجتمعي الهامشي هو الآخر، وأقصد هنا: الأقلية الغجرية. ولذلك حكاية أخرى. حكاية تناقلتها الأجيال عن تقارب بين المورسكي والغجري بفعل قدر الهامش الذي سلط عليهما. فكانت حكاية الهامش الذي يحاور الهامش، حكاية المورسكي الذي يتخفى في كثير من الأحيان بأعطاف الغجري، يقطع الطرقات يجول الدروب كبائع جوال وراء لقمة البقاء. هي حكاية من يموت وهو يسلم ما تيسر له من مفاتيح وجودية لهامش آخر يعرف كيف يتألم معنى التهميش ويتقاسمه معه.

حسنا، كيف يمكن أن تفهم كثير من التعابير الفنية الاسبانية، التي تؤدى في المناخ الغجري دون التحقق من الصلات التي وحدّت وجع ومخاتلة الهامش المجتمعي الغجري ومثيله المورسكي في هذه المرحلة!! كيف يمكن فهم النص الأكثر دنيوية عبر رقصة الفلامنكو المعروفة بـla zambra mora "الزمرة الموريّة" وصدح كثير من مقامات غناء الغجر التي تقترب غناء الليل المورسكي Las Leilas دون فهم ذلك التعشق ما بين الغجر وثقافة المورسكي في لحظة احتضار هذا الأخير!!(34).

* * * *

11- الضياع المورسكية المهجورة في "وادي القلعة" في إقليم بلنسية
(قرى لاثوبيتا L´Azuvieta، وبني علي Benialí، ولاروكا La Roca نموذجاً)

اعتبارا من 1502، كان صدى ما يحدث لمورسكيي غرناطة وقشتالة يصل المناطق الأخرى ذات الكثافة السكانية المدجنة متأبطا الأقاويل باحتمال سوء المصير للمسلمين. وبما أن عماد اليد العاملة الريفية في الاقطاعيات الكبيرة في كل من أرغون وبلنسية تشكل أساساً من المدجنين، فقد استنفرت طبقة النبلاء والأعيان المالكة مخافة فقدان الأدوات البشرية الرخيصة العاملة في إنتاجها الزراعي، فتوسطت لدى السلطات للحصول على ضمانات بتركهم على حالهم. وكان لهذا التسامح المقنع أثره في بقاء الساكنة الريفية من المسلمين في الاقطاعيات الواسعة في الشرق المتوسطي لشبه الجزيرة الايبرية.

من جانب آخر، كان النفور الذي يتكئ على حجج تبسيطية لاعقلانية تزعمتها ذهنية محاكم التفتيش، يتأجج في الأوساط الشعبية تجاه المورو، متزامناً مع تنافس حاد بين الفئات الحرفية من جهة والصانع المدجن المقصى من بنيتها التنظيمة من جهة أخرى(35). فإلى جانب المشاعر المناهضة المتعصبة، تبدت دوافع أخرى للاقصاء مثلتها حرفية المدجن ومهارته الرفيعة التي اعتبرت عاملاً مزاحماً، كذلك اكتفائه بأجر رخيص بخس طالما أنه أجر من ينشد البقاء(36).

شهد التاريخ الاجتماعي في بلنسية صراعاً اقتصادياً بين الطوائف الحرفية المدينية من جهة والنبلاء ملاك الأرضي من جهة أخرى، كانت نتيجته تمرداً مسلحاً من قبل "الأخويات الحرفية" Germanías ضد النبلاء (1520-1522)، دفع المدجنون ضريبته الأقسى، سواء آن استخدامهم كأداة عسكرية في قوات أسيادهم من ملاك الأراضي، أو أثناء مهاجمة أحيائهم المدنية ومستقراتهم القروية في الاقطاعيات المختلفة من قبل "الأخويات الحرفية"، والتي أعملت فيهم النهب والقتل والتنصير القهري (الاختيار بين القتل أم التنصر تحت تهديد السلاح المسلط)(37). مما أدى لاندلاع انتفاضة مورسكية اعتصم أفرادها في معاقل الجبال ومغاورها الأبعد، لتبدأ بشن حرب عصابات بين كر وفر، واستمرت القلاقل وسوء العلاقات حتى هدوء الحال النسبي سنة 1526 ولثلاثة عقود تالية، دون أن تغض السلطات ومحاكم التفتيش "المضادة للإصلاح" بصرها عن سلوك المورسكي وتتعقب ممارساته الدينية أو الثقافية، مع إزكاء الخطاب الفوقي والعدائي تجاهه، خاصة مع تفشي الإشاعات والسرديات التي تدعو للتخوف منه، بفعل تنامي الشكوك بتواطئه مع قطاع الطرق والقرصنة البحرية المستفحلة، والتآمر مع السلطة العثمانية كطابور خامس، وتورطه المشبوه مع بروتستانت منطقة بيرن ... سرديات واصلت تأججها في العقود الأخيرة من القرن السادس عشر إلى أن قررت حكومة الملك فيليب الثالث المركزية في 4 أبريل 1609، وبموافقة رجال الاكليروس، طرد المورسكيين الشامل من موطنهم الذي لم يعرفوا سواه(38).

على التوالي، سأحاول أن أستبين خصائص المسكن الريفي المورسكي اعتبارا من زيارتي لأطلال بضعة ضياع وقرى aldeas, alquerías مهجورة في "وادي القلعة" Vall d'Alcalà، الواقع في المنطقة الساحلية "مارينا آلتا" Marina Alta شمال مدينة لَقنْت (اليكانته Alicante) التابعة لإقليم بلنسية حسب التقسيم الإداري الحالي.

يشير المشهد البانورامي لمجمل "الحقل البصري" وصمت الأعالي، إلى أن "وادي القلعة" هو واحد من وديان عدة تشق الجوبات الجبلية الساحلية، ويتميز كغيره من الأودية المجاورة (مثل "فال دي غاينيرا" Vall de Gallinera، و"فال دي إبو" Vall d´Ebo، و"وادي الأغوار" Vall Laguar)(39) بسيماء ملامح ريفية تحيطها رؤوس صخرية ترتفع عن سطح البحر (حوالي 800م)، مما أدى لسيروة حياة قروية شبه منعزلة، حافظت على تراثها المعماري والثقافي الطبيعي على نحو ملموس دون أن تصيبها تدخلات مدنيّة المراحل المتلاحقة. حتى أن بعض الدراسات البيئوية تعتبرها "الرئة الخضراء" لمنطقة "مارينا آلتا"، إضافة لدورها الأهم كاحتياطي مياه لكافة الأرياف والبلدات المحيطة بها.

وجدت في المنطقة دلائل أركيولوجية من العصر الحجري القديم، وأخرى من العصر البرونزي، كذلك من المرحلة الرومانية، إلا أن الفضل في ازدهارها واستصلاحها الزراعي يعود للمرحلة الإسلامية بلا أدنى شك، حيث تشير وثائق تاريخية مكتوبة إلى أن بناء سلسلة القلاع والقرى فيها بدأ في القرن الحادي عشر، إلا أن شاهدة قبرية عثر عليها في المنطقة تؤكد على أن "وادي القلعة" عرف توجوداً بشرياً إسلامياً في القرن العاشر (942م)، مع شديد الاحتمال أن يعود هذا الوجود الإسلامي لمرحلة تاريخية سابقة تصل إلى 726م حسب بعض المراجع وبفعل تقدير عمر اللقى الخزفية، بمعنى أن الزمن الإسلامي في "مارينا آلتا" يضم كافة مراحل وتحولات المورو إلى المدجن فالمورسكي. وبما أن المسكن الإسلامي متضمن في ثقافة المورسكي فإن هذه العمارة متواشجة مع العمران الريفي الإسلامي ومثال عليها في المرتفعات الساحلية لـ"مارينا آلتا".

تضم الوديان الجبلية قرى متفرقة، يرتبط كل منها بأرض زراعية، كما تتصل بالقلاع القريبة التي كانت مستقراً للحاكم أو لمالك الأرض، وقواته العسكرية التي تدين له بالولاء وتعمل في مهام الحماية والدفاع وما تتطلبه أزمنة الحرب. واشتهرت هذه المنطقة كما غيرها في الممالك الإسلامية بنظام السواقي acequias والنواعير وشبكة الري التي توسع المسلمون في تخطيطها وشقها ومدّها إلى الأغوار والسهول والشعاب الريفية، بغية إيصال مياه السقاية إلى الأماكن الزراعية المختلفة حتى تلك الأكثر وعورة.

بعد احتلال بلنسية سنة 1238م من قبل خايمة الأول ملك أرغون (1208-1276)، حافظت المرتفعات الصخرية الأكثر وعورة الممتدة بين منطقتي "مارينا ألتا" و"مارينا باخا" على حكمها من قبل القائد المسلم محمد أبو عبد الله بن هُذيل الصغير، المعروف باسم الأزرق (1208-1276)، مقابل دفع المكوس أو الضريبة للتاج المنتصر. ومن مقر سكنه الرئيسي في إحدى قرى "وادي القلعة"(40) أدار الأزرق حكمه على أراضيه، إلا أن الإنهاك الضريبي المستمر على الساكنة المدجنة، دفعت به للثورة على الملك خايمة الأول ثلاث مرات: الأولى سنة 1244، والثانية بين 1248 و1258، والثالثة سنة 1276 حيث لقي حتفه في مدينة الكوي بعد حصار من قبل قوات قدمت من مدينة شاطبة. ولواقعة مقتل الأزرق في الكوي تعود أصول الاحتفالات المعروفة باسم Moros y cristianos "مسلمون ومسيحيون" كاحتفاء شعبي بفروسية الأزرق ونبل محتده. وما زالت هذه المواكب تقام حتى الآن في جنوب شرق اسبانيا رغم نسيان أصلها الأول.

بعد موت الأزرق، الحاكم المسلم الأخير على المنطقة، ملكت الأراضي ولثلاثة قرون متعاقبة من قبل سادة إقطاعيين ينتمون إلى نبلاء بلنسية(41)، حافظ خلالها المدجنون على قراهم ووضعهم كفلاحين ومزارعين حتى بعد سقوط غرناطة وتحولهم لمورسكيين، فتابعوا استثمار الأرض واستطلاحها وتحويلها لتربة منتجة رغماً عن الطبيعة الصخرية القاسية للجبال.

أما بالنسبة للقرى موضوع هذه الدراسة: "لاثوبيتا"(42)، و"بني علي"، و"لاروكا"، فهي جزء من كل يطلق عليه اسم despoblados moriscos "القرى المورسكية غير المأهولة"، مما يعني أن آخر ملكية عرفتها هذه القرى تشير إلى المورسكيين ممن سكن تلك الأرض حتى 1609م. وسبب اختياري لهذه القرى، إضافة لمعياريتها المعمارية العالية بامتياز، فإن الوصول إليها أهون من غيرها، لوجود طريق اسفلتي، ومن ثم طريق ترابي منبسط مناسب للسير على الأقدام، على النقيض من قرى مورسكية أخرى صعبة المسلك بسبب التفاوت الحاد في ارتفاع منحدر الدرب الترابي وخطر الانزلاق، خاصة أن زيارتي الأخيرة لها، بغية تسجيل ملاحظات من المشاهدة العيانية، ترافقت مع أيام ممطرة.

حسناً، يمكن القول أن كل قرية تتألف من تجمع عمراني، يتكون بدوره من بضعة نوى سكنية مبنية مباشرة فوق أرض صخرية. وتحيط بالقرية الأراضي الزراعية المستثمرة، خاصة في مدرجات أو مصطبات حجرية. أما تقييم هندسة عمارة هذه القرى فيتطلب التشديد على دور البيئة الطبيعية التي كان لها الأثر الاكبر في معيارية تشييدها، فهي تجمعات غير متسقة وفق مخطط مسبق؛ ربما لأنها بنيت وفق ما أتاحته الطبيعة، وطوبغرافية الأرض، وتضاريس المنطقة المتفاوتة الانحدار؛ رغم ذلك من الممكن تبصر هوية واضحة وتقنية بنائية مميزة لها.

ومن الملاحظ، أنه رغم قسوة العوامل الطبيعية وكرور الأزمان، فإن المساكن الريفية المهجورة مازالت ماثلة، ولم تندثر بالكامل، فعزلتها في الأعالي جعلتها بمنأى عن التقويض المقصود، كما أن وقوعها على قاعدة صخرية حماها من الاعتداء بغية استثمار مكانها لغايات زراعية، وتم الاكتفاء في بعض المراحل بالاستفادة منها كحظائر للحيوانات.

من جانب آخر، ورغم تعدد أسباب ديمومة السكن المورسكي في "وادي القلعة" حتى اليوم، لا يمكن أن يغفل عن عامل صلابتها ومقاوتها العالية، الأمر الذي يفسر تكرار فكرتها المعمارية وتجذرها لدى السكان الجدد الذين تعاقبوا على المنطقة بعد طرد المورسكيين. رغم أن عملية الطرد تعني في السياق التاريخي الذي أتناوله القطيعة مع كل ما يمت للمورسكي بصلة، الأمر الذي يفترض حدوث صيرورة معمارية في هندسة البيت الريفي الجديد، إلا أن الواقع الثقافي الريفي الموروسكي، كما جدارن سكنه الإسلامي في "مارينا آلتا"، برهن أنه أقوى من المحاق الغياب، وعليه استمر حياً في المكون المعماري الثقافي للمنطقة رغم التقلبات التاريخية التي مرت على المسلم، والمدجن، والمورسكي، سواء بعد السيطرة عليها من قبل الملك خايمة الأول الأرغوني، أو موت واليها الأزرق، أو بعد الطرد الأخير. حال تبرهن عليه المعاينة المباشرة كما دراسات هندسة العمارة الريفية المحلية في هذه المنطقة على قلتها، والتي تشير إلى أنه لم يكن هناك نقطة معمارية قطعية فاصلة بين ماقبل ومابعد الطرد، فالسكان الجدد كانوا يكررون نموذج البناء الإسلامي الريفي وتقنياته بلا تغيرات فارقة حاسمة(43).

في كل الأحوال، لفهم ومعرفة هذه التغيرات الطفيفة الحاصلة على البيت المورسكي من قبل السكان الجدد، القادمين من جزيرة مايوركا، لابد من الإشارة إلى أن تعديلات هؤلاء كانت محكومة بالمناخ ومواد البناء الطبيعية المتوفرة، الأمر الذي كان يراعى في المسكن المورسكي. إضافة إلى أن الثقافة المعمارية للوافدين الجدد من جزيرة مايوركا في القرن السابع عشر (تاريخ وصولهم إلى "مارينا ألتا") تتلخص في عمران حضري عرف منذ القرن الثالث عشر الطراز القوطي الكتلاني (الباحة في العمق الخلفي من الدار)، إلا ان المراجع تشير إلى استمرارية البيت الأندلسي-المايوركي الأقدم عمرا بالنسبة للمدينة المايوركية عموماً(44)، وحضوره في الريف بشكل شديد الوضوح (الفناء الذي يتوسط الدار أو يتموضع بين عنبرين مسقوفين)، وإن بشكل أكثر بساطة فيما يخص العقود. وعليه من الضروري القول أن السكان الجدد المستقدمين من مايوركا، كانت ثقافتهم على إلفة مع العمارة السكنية الإسلامية، وبالتالي فإن قبولهم وتكيفهم الثقافي مع المسكن المورسكي الريفي في وديان "مارينا ألتا" قوي الاحتمال والتغيرات التي أحدثوها غير حاسمة من الناحية المعمارية.

12- مواصفات السكن الريفي المورسكي في "وادي القلعة"
غالباً ما حلّت في كل من التجمعات الريفية في "وادي القلعة" إحدى الأسر الممتدة، ففي أمثلة عديدة يشير اسم القرية إلى الجد المؤسس الذي تنحدر منه العشيرة، أو الأسرة الكبرى (مكونة من عدة أجيال من ذوي القربى). فالضياع المورسكية لم تعرف الاستقلال الذي كان يتطور في مناطق قريبة أخرى (خاصة السهلية) باتجاه الأسر النووية الأصغر (تقتصر على أب وأم وأولاد). ومن المرجح أن لضرورة مشاركة أفراد الأسرة الممتدة في أداء العمل الزراعي، الأثر الأكبر في هذا التكتل القروي، خاصة في منطقة وعرة منعزلة، إضافة لما كان لهذا التجمع قرية-أسرة ممتدة من أهمية في تعزيز الشعور بالأمن والانتماء، وضمان استمرار السلوك والقيم الثقافية والدينية في مواجهة ظروف اجتماعية واقتصادية لم تكن ملائمة دائماً، لاسيما أثناء الأزمات وفقدان الأمان.

تم تشييد النوى السكنية في كل قرية تبعاً لبنية معمارية بسيطة، وتتكون بشكل عام من طابق أرضي رباعي الزوايا. وتتجاور المساكن ضمن مسافات قريبة، وبعضها يتلاصق ويترتب في نسق واحد، ويمكن التنبؤ أن هذه المساكن أخذت تتكاثر وتتوسع مع ازدياد عدد أصحابها. وحين لا تلتصق المساكن ببعضها البعض كما هو الحال بالنسبة للتوزيع السكني في ضيعة "لاثوبيتا"، فإن البناء المنفصل يتشكل على حدة من نوى عمرانية أصغر متلاصقة فيما بينها. وأحد هذه الأبنية المتلاصقة لا يحافظ على نسق مستقيم واحد بل يتألف من واجهة رئيسية يتبع حائطها لعدة مساكن، ثم ينحرف بزاوية منفرجة ليتبع مساكن أخرى (ربما السبب هو ما فرضته حدود الأرض الصخرية المناسبة للبناء، مما يعني توفير تكاليف الأساسات والابتعاد عن التربة الزراعية). وهنا يحضرني القول أن "لاثوبيتا" تقدم المثال الأفضل من حيث محافظتها على وضعها وحالها المورسكي قبل الطرد مباشرة، وتؤكد الوثائق الكنسية والضريبية على وجود 17 عائلة مورسكية مسجلة فيها سنة 1609، أي قبل تجميعهم القسري مع غيرهم من أقرانهم من القرى الأخرى، وترحيلهم مشياً على الأقدام إلى مدينة دانية الساحلية ليعمدوا بحراً قافلة الطرد الأولى إلى الشتات.

كما أشرت سابقاً، شيد معظم بنيان دور الضيع فوق جلمود صخري غير مستو، لذلك فإن تعقب تموضع الحيطان المباشر على الأرضية الصخرية يعاني من تفاوتات ملحوظة، ففي بعض الأماكن توجد تجاويف صخرية أسفل الجدار تمّ ردمها، في حين عانت أماكن أخرى من بروزات صخرية تم إدماجها مع عمارة الحائط الكلية.

استثمر سكان الأرياف حجارة المنطقة لبناء مساكنهم. وتدل معاينة أشكال وأحجام الحجارة (رغم تأكل سطحها الأحجار الخارجي) على تدخل بشري حرفي من قبل الحجّار (نقّاش الحجر) في تشكيل الحجارة الخام وتشذيبها وفق المراد منه على مساحة الحائط وأركانه المختلفة. واستخدم ملاط كلسي لاصق لحجارة الحائط، ولملء الفراغات بينها كي تلتئم وتلتحم مع الكل. ويتكون الملاط من خليط من التربة والرمل وكسر الأحجار الصغيرة وشظايا القرميد والممزوجة مع الجير والماء بنسب محددة ومعايرة دقيقة.

تشير الملاحظة العيانية، وبمساعدة القراءة العلمية لبصمات مراحل التشييد من قبل بعض الباحثين(45)، إلى أنه جرى استعمال تقنيات مختلفة في نفس التجمع السكني، فبعض الجدران تحتفظ بآثار استخدام تقنية القالب المتكون من ألواح خشبية (حدد ارتفاعها مجتمعة من قبل المختصين بـ80سم)؛ فعند فحص بعض الجدارن بتأن يمكن اقتفاء الأثر الأفقي الدال على حيز تلاصق الألواح الخشبية.

ويمكن للمراقب أن يستبين أنه تم التناوب في بعض أنحاء الحائط بين صب الملاط المخلوط مع كسر الحجارة فقط (خرسانة من الكلس)، يعلوه على التوالي رص صف من الحجارة الملتئمة معاً بالملاط. أما حين غياب هذه البصمات فإن ذلك يدل على رصّ الحجارة لتكوين المداميك الافقية بشكل مباشر، أو ربما على استخدام المطمار وحبل مشدود مساعد على التحقق من الاستواء الأفقي.

ويبدو أن أوجه الحجر الأربع (المرقدان واللحامان) استعملت في إنشاء مداميك الحائط. ومن الملفت للانتباه أنه تم اتباع أشكال تموضع مختلفة لمداميك الحجارة المرصوصة (حتى لنفس الحائط) مع المحافظة على ارتفاعها، فبعض الحجارة شبه المدورة مرقدها أفقي حيث تتموضع بعد لصقها بالملاط بصف متوالي، وحجارة أخرى لها شكل متطاول مرقدها أفقي كذلك وتتموضع بصف مستطيل خيطي، وأخرى صغيرة متطاولة تموضعت بشكل سنبلة أو ما يشبه العمود الفقري لسمكة، وفي حالات أخرى رصّت الحجارة كيفما اتفق ودون مراعاة تكوين شكل مقصود للمدامك إلا أنه يحاذر قوى الجاذبية ونقاط الدعم.

أما نواصي الحائط فتتكون عموماً من حجارة الترويسة، وهي أكبر من غيرها، ومنحوتة بعناية ودقة، وتشكل حافتها في حائط البناء زاوية قائمة، بما يعني أن كل ناصية تساهم فيما يمكن أن نعتبره رابط ركني يساعد على ثبات وتوازن مجمل البنيان. ويتبع ترتيب حجارة النواصي قانوناً خاصاً، ففي حال انتهى صف حجارة ناصية حائط أول للاتصاق مع الوجه الخارجي لناصية الحائط الثاني، فإن الصف التالي لحجارة ناصية هذا الأخير ينطلق من الوجه الداخلي لناصية الحائط الأول، بمعنى أن حجرة كل ناصية تتموضع بشكل معكوس لما تحتها، وهكذا تشكل حجارة النواصي المتقاطعة والمتعشقة فيما بينها صلة وصل متينة فيما بينها.

ويصل متوسط سُمك أو ثخانة الحائط إلى 45سم مما يساعد على العزل الحراري، ويبلغ ارتفاعه في حال كان لطابق أرضي إلى 2,40م ولطابقين إلى 5م على نحو التقريب، مع الأخذ بعين الاعتبار أن انهيار أجزاء من الحيطان لا يدع مجالا للحسم بشأن الأبعاد.

ومن خصائص المسكن الريفي المورسكي في هذه المنطقة وجود طابق علوي يتكون من غرفة؛ ففي إحدى الأبنية عثرت على درج حجري خارجي في ضيعة "بني علي"، الأمر الذي يدل باعتقادي على وجود طابق ثان انهار مع الزمن. وندرة أثر الدرج على الجدران يدعو للتفكير أن الصعود للعنبر أو للغرفة الواقعة في الطابق الثاني كان بواسطة سلم خشبي يخترق كوة في السقف. ويعتقد بعض الباحثين أن خلو الغرفة العلوية من أي أثر لتقسيمها يرجح أنها ربما استخدمت لتخزين الحبوب وحفظ المنتجات الزراعية، والتي غالبا ما كانت تشحن وتفرّغ عن طريق النوافد العلوية(46).

ومن الواضح خلو حائط الطابق الأول في أغلب مساكن القرى من الفراغات التي تدل على النوافذ عموماً، والاستثناء نادرـ وعثرت على نافذتين صغيرتين ساكفهما حجري، الأولى في "لاروكا" والثانية في "بني علي"؛ ولا أستطيع الحسم فيما لو كانتا تعودان للمرحلة المورسكية أم لمرحلة تالية على الطرد كونها (ربما) تشذ عن المعيارية الجامعة لعمارة "القرى المورسكية غير المأهولة"؛ في حين تحتل بعض النوافذ أو فتحات الضوء والتهوية مكانها في بعض جدران الطابق الثاني.

أما الفراغ الوحيد الموجود في حائط الطابق الأرضي فيشير إلى المدخل الخارجي (فيما لو كان في الواجهة)، أو إلى باب العنبر المطل على الفناء(47). وتتشكل فراغات العبور أو المداخل من أقواس حجرية نصف دائرية عموماً، تستند على دعامتين ويتم ترتيب مفاصل القوس بشكل شعاعي، كما توجد مداخل يتألف كل منها من دعامتين جانبيتين Jamba يتكئ على جزءهما العلوي ساكف خشبي مستقيم، يسندهما ويسند المدامك العلوية. وفي إحدى بيوت قرية "بني علي" يعلو الساكف الخشبي أحجار صغيرة تصطف كما لو أنها قوس يتوج المدخل.

يحتل الفناء (أو الباحة) المساحة الأوسع من الدار (غالباً ثلاثة أرباع المساحة الكلية)، ويليه في العمق العنبر (الصالة) المسقوف بالقرميد والموازي للواجهه الرئيسية، ومن المحتمل العثور على عنبر ملحق بالعنبر الرئيسي (غرفة)، ويلتصق به على التوالي أو على شكل حرف (L ويمكن أن يتكاثر البناء ويبنى عنبر ملتصق ثالث مشكلا حرف (U) حول باحة الدار (كما هو الحال في إحدى التجمعات السكنية في لاثوبيتا). من الممكن القول أن العنابر أو الغرف الملحقة كانت تتكاثر حين زواج الأبناء واستقلالهم شبه النسبي ضمن التجمع السكني المورسكي.

غالبا ما تميز الفناء بسمة عمومية تقاسمتة الساكنة التي تجمعها القرابة العائلية، فخدم الفناء لتسهيل أداء كافة الأعمال المنزلية الريفية التي تجرى في الهواء الطلق. أما قلة عدد العنابر الرئيسية فيدفع للترجيح أنها خدمت للاستراحة، والنوم، وورشة عمل داخلية، ومطبخ ومستودع ... ووزعت جميع هذه الفضاءات داخل العنبر الرئيسي والملحق.

تتميز مساحة العنبر (الصالة) المسقوفة بأنها مربعة أو مستطيلة الشكل، يتفاوت ارتفاع جداريها الطولانينن (واحد أعلى من الآخر)، وذلك كي يثبت فوقهما سطح السقف المائل. ويتكون السقف من لويحات من الآجر الأحمر (لكل منها سطح مقعر يقابله آخر محدب)، وتستند مجمل تكوينات السقف اللوحية على حصيرة من القصب المفروش فوق جذوع أشجار خشبية مشذبة توصل بين الجدارين المتفاوتي الارتفاع. ومازال السقف الموجود في التجمع السكني الغربي في "لاثوبيتنا" شبه محافظ على هيكيليته المعمارية(48). ويتموضع الأجر الأحمر المستخدم في التغطية باتجاه واحد نحو باحة الدار، لتسهيل انسراب وتصريف مياه المطر؛ ولتدفئة عنابر الدور من غوائل البرد القارس في أشهر الشتاء المثلجة استعمل وجاق الحطب ومنقل الجمر. وهنا يحضرني القول إلى أن تصنيع الفحم الطبيعي كان يشكل إحدى المصادر الاقتصادية للساكنة، إضافة للمنتجات الزراعية الأخرى (حبوب، بقول، أشجار مثمرة كالزيتون والتين)، ومنتجات قطعان الحيوانات الرعوية (خاصة الماعز).

وفي قرية لاثوبيتا مازالت آثار قاعدة معصرة الزيت Almazara منقوشة على سطح نفس الصخرة التي بنيت عليها البيوت، حيث تتبدى بوضوح للناظر شكل دائري حفر في مركزه الفجوة التي يرتكز عليها محور مكبس المعصرة، أما المحيط فقد حفرت عليه قناة تتفرع منها مسارب أربع تفضي لفجوات لابد أنها كانت تزود بمواعين ينزّ إليها الزيت وينسرب. وفي معرض الحديث هنا أذكر أن ضيعة لاثوبيتا تقع على الضفة الجنوبية من نهر "جيرونا" Girona، حيث بنيت عليه قنطرة توصل إلى طاحونة tahona أو ناعورة noria، مازالت بصمتها مرئية بوضوح من خلال سطح صخري دائري الشكل كان يشكل قاعدتها الأساسية.

أما بالنسبة لغياب العنصر الجمالي المادي (الزخرف) من العمارة المورسكية في هذه المنطقة، فأعتقد أنه يجد له تفسيراً في أن تمثل الجمال في الحياة الجبلية الريفية المنعزلة، التي يدور معيش يومها حول آفاق البقاء والاستمرار المرتبط بحوليات الفصول وتقلبات المناخ، يختلف عما هو في الريف السهلي المنفتح عموماً. فالجمال في "القرى المورسكية غير المأهولة" كان يرتبط بما هو نفعي، وتوجزه العبارة الفلسفية الكلاسيكية (الجمال-الخير). وأحدس أن حاجة الساكنة إلى الجمالي كان يجد له متنفساً في الطقوس المرتبطة مع خير المواسم والحصاد والوفرة، رغم التضيق السلطوي الثقافي الفني، ولذلك مقاربة جمالية تاريخية أخرى.

من جانب آخر، أعتقد أن فعل البناء في الظروف المجدبة التسامح هو بحد ذاته جمال لا بد من تقدير معناه في التاريخ. أما اختفاء الدلائل على العمارة الدينية في المرحلة المورسكية من هذه التجمعات القروية فأمر مفهوم، فالملاحقة الدينية والثقافية وأهوال المعاناة كانت تشتد مع الزمن.

وبعد تنفيذ التطهير العرقي بالطرد الإقصائي، لم يدم الوقت مطولاً حتى فرغت هذه القرى من الوافدين الجدد الذين هجروها بعد قرن من الزمان؛ لتترك على حالها إلى اليوم وتتحول لشاهد تاريخي مورسكي عمراني متواضع، يحكي عن ساكنة ريفية هامشية مجهولة لم يحفظ لها التاريخ المجيد التليد اسماً ولم يذكر لها ألماً. شاهد بالغ القيمة لمنظر ثقافي طبيعي يتواشج فيه فعل الإنسان المادي مع المحيط والبيئة العضوية. شاهد مهدد بالزوال فيما لو لم يتم الحفاظ عليه وإنقاذه من النسيان بتسليط الضوء على خصوصيته ومعناه.

أخيراً أود أن أقول أن حكومة بلنسية المحلية أشارت لضرورة حماية "القرى المورسكية غير المأهولة" من يد العبث سنة 2012 بسبب أهميتها الثقافية ومشهديتها الثاوية في مرتقيات الطبيعية. وحالياً يوجد مسار ثقافي سياحي للسير على الأقدام يربط بين القرى والغيران والحراج ويسهل التوقف والتفكر أمام بانوراما الزمان والأنواء المفرقة للجماعات.

وعليه أختم دراستي بنقل ما سطره باحث اسباني ممن سار على الدرب المورسكي:

"آن أسير بين شعاب الجبل، وحين أبصر أطلال بيت مورسكي هجره أصحابه منذ حوالي 400 سنة، أميز تلك الحياة اليومية وإلفة خاصة ... وأفكر بأن أحداث الماضي التي نسردها كما لو كانت محض بيانات تاريخية جامدة شكلية، هي أحداث تحكي عن كائنات بشرية لها مشاعر مثلي؛ فالدرب الذي نسير عليه والمناظر التي نعبرها في أوقات فراغنا للاستمتاع بها، كانت بالنسبة لبشر آخرين درب آلام. أمرٌ يتحتم علينا عدم نسيانه"(49).

"عدم النسيان" هو القول الذي أحاول أن أفضي إليه..

(نشر جزء من هذه الدراسة في "ضفة ثالثة")

* * * *

الهوامش
(1) منح بابا الفاتيكان الملكين الكاثوليكيين رخصة إنشاء محاكم التفتيش سنة 1478. وبناء على هذه الرخصة البابوية أقيمت محاكم اسبانية دائمة في كل من اشبيلية وقرطبة (سنة 1482)، وفي سرقسطة وبلنسية (1482)، وفي برشلونة (1484)، وفي طليطلة (1485)، وفي بلد الوليد ومرسية وحزيرة مايوركا (1488)، وفي كوينكا (1489)، وفي لاس بالماس في جزر الكناري (1505)، وفي لوغرونيو (1512)، وفي صقلية (1513)، وفي غرناطة(1526)، وفي ليما والمكسيك (1569)، وفي سانتياغو دي كومبوستيلا (1574)، وفي كارتاخينا دي انيدياس (1610). ولم يتم إلغاؤها نهائيا إلا سنة 1834.

(2) خلال فترة مايعرف في السرديات القشتالية بـ"حروب الاسترداد" اتكئت سلطة فرناندو وايسلابيلا وسلالتهما الملكية على التأكيد على الماضي القوطي والروماني، بينما شدد الخطاب التاريخي خلال ديكتاتورية فرانكو على الماضي الامبراطوري لكارلوس الأول وفيليب الثاني.

(3) حتى أن الزائر للكنيس اليهودي في طليطية أو قرطبة يحتاج لفترة للتروي قبل أن يستنتج أنه في فضاء ديني يهودي لا إسلامي، وذلك للفن المدجن الذي يخيم عليه. أما المثال الأرفع على المدجن فنجده في عمارة القصر الملكي في اشبيلية Real Alcázar de Sevilla.

(4) استعملت أكاسيد القصدير للحصول على اللون الأبيض، والكوبالت للحصول على الأزرق، والنحاس للون الأخضر، والمنغنيز للون الكستنائي والأسود، والحديد للون الأصفر. أما وصفة السيراميك الايطالية معروفة في راهن اليوم فتعود جذورها إلى الوصفة الأندلسية. انظر ويلسون، إيفا: الزخارف والرسوم الإسلامية، تر. آمال مريوم، دار قابس، بيروت، د.ت.

(5) من أمثلة المدجن الجديد في العمارة أذكر: "مدارس اغري" في مدريد، و"ساحة اسبانيا" في اشبيلية، و"مسرح مانويل دي فايا" في قادس.

(6) Véase. Caro Baroja, Julio: Los moriscos del Reino de Granada, Ensayo de Historia Social, Madrid, Instituto de Estudios Políticos, 1957; Domínguez Ortiz, Antonio y Vincent, Bernar: Historia de los moriscos, Vida y tragedia de una minoría, Madrid, Alianza, 1978.

(7) Véase. Barrios Aguilera, Manuel y Sánchez Ramos, Valeriano: «Los moriscos del Reino de Granada», En Moliner Prada, Antonio (ed.), La expulsión de los moriscos, Barcelona, Nabla, 2009, pp. 65-108; Mendiola Fernández, Mª Isabel: Usos, costumbres y normas en la tradición de la minoría morisca, pagina web, pdf. http://e-spacio.uned.es/fez/eserv/bibliuned:RDUNED-2011-9-5100/Documento.pdf

(8) Véase. Barrios Aguilera, Manuel: «Granada morisca, la convivencia negada, Historia y textos», Granada, Comares, 2002.

(9) Pérez Ordóñez, Alejandro: «Arquitectura doméstica tradoandalucí y morisca, Aproximación al modo de familia y a su plasmación en arquitectura y el urbanismo de los siglos XIII al XVI», Trabajo de investigación tutelada, Codirigido por Rafael López Guzmán y Julio Navarro Palazón, Consejo superior de investigación científicas (CSIC), Escuela de estudios árabes, Granada, 2008, p.97.

(10) تظهر من الجدر الخارجية تحت القرميد في بعض البيوت الاندلسية، والمورسكية منها غرف أو بلاكين بارزة مؤطرة بكسوة خشبية، تدعى ajimeces وهي اسم محرف من الكلمة العربية "الشمسية".

(11) Pérez Ordóñez… op. cit., p.27.

(12) انتشر المذهب الفقهي المالكي في الأندلس منذ التواريخ الإسلامية الأولى، وروعي في المسائل الفقهية وشؤون العمران. ولم يخرج عن تعاليم الإمام الماكي إلا في قضايا قليلة مثل السماح بزرع الشجر في صحن السماوي في المسجد، فاتبع حينها رأي الإمام أوزاعي لتوافقه مع الحس الجمالي الأندلسي والذي لا يرى حرجا في حضور الشجر في الصحن السماوي.

  1. خلاف، محمد عبد الوهاب (دراسة وتحقيق): وثائق في شؤون العمران في الأندلس، "المساجد والدور"، مستخرجة من مخطوطة الأحكام الكبرى للقاضي أبي الاصبغ عيسى بن سهل الأندلسي، مر. محمود علي ومصطفى كامل اسماعيل، المركز العربي الدولي للإعلام، ط1، القاهرة، 1983، ص4-5.

(14) Pérez Ordóñez… op. cit., pp. 29-30.

(15) مارتينث مونتابث، بدرو. رويث برافو، كارمن: أوروبا الإسلامية، سحر حضارة ألفية، تر. ناديا ظافر شعبان، مؤسسة الفكر العربي، ط1، بيروت، 1991، ص82.

(16) عكاشة، ثروت: القيم الجمالية في العمارة الإسلامية، (تاريخ الفن: العين تسمع والأذن ترى)، ط1، دار الشروق، القاهرة، 1994، ص47-48.

(17) صادفت توصيف الفن الزخرفة الاسلامي بأنه "يخاف الفراغ" في حديث عدد ممن يعمل دليلا سياحيا للآثار الأندلسية. كما أن ويكيبيديا (بالاسبانية والانكليزية والفرنسية والايطالية) في تعريفها لاستخدامات تاريخ الفن لمصطلح Horror vacui تشير إلى الارابيسك وفن التزيين الاسلامي كأحد أمثالته. وأعتقد أن هذه المقاربة شكلانية صورية لا تتعلق بالمعنى العميق للزخرفة الاسلامية.

(18) Pérez Ordóñez… op. cit., pp. 98.

(19) Ibíd., p.97.

(20) ) Ibíd., pp. 98-99.

(21) Kamen, Henry: La Inquisición Española, Una revisión histórica, editorial Crítica, Barcelona, 2011, pp. 223-224.

(22) Bruno Alcaraz, Masáts: «Un Carmen en Granada, una vivienda hispano-musulmana», pagina web, pdf: http://portal.uned.es/pls/portal/docs/PAGE/UNED_MAIN/LAUNIVERSIDAD/VICERRECTORADOS/EXTENSION/PRUEBAREVISTA/NPUBLICADOS/NUMERO0/FIRMAS_N1/UN_CARMEN_EN_GRANADA_POR_BRUNO_ALCARAZ_MASATS_2.PDF

(23) ) García Gomez, Emilio: «Sobre agricultura arábigo-andaluza», in Al-Andalus X, 1945, pp. 127-146.

(24) http://www.qantara-med.org/qantara4/public/show_document.php?do_id=225&lang=ar

يلخض ابن ليون التجيبي في أرجوزته جودة الزراعة بتوافر مقومات أربع، هي الأرض والماء والسماد والعمل:

وهي الأراضي والمياه والزبول* *والعمل الذي بيانه يطول

ويفضل المزرعة السكنية التي:

تنظر للقبلة والباعل* *قرب وللصهريج والبشر اعتلا

أو عوض البئر تكون ساقية* *بالماء من تحت الظلال جارية

وما له بابان فهو أستر* *وراحة الساكن فيها أكثر

ثم يلي الصهريج ما لا يسقط* *ورقه من كل ما ينشّط

(52) مطلع قصيدة الحنين المشهورة لعبد الرحمن الداخل:

تبدت لنا وسط الرصافة نخلة* *تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت شبيهي في التغرب والنوى* *وطول التنائي عن بني وعن أهلي

نشأت بأرضٍ أنت فيها غريبة* *فمثلكِ في الإقصاء والمنتأى مثلي

(26) بدأ بتشييد كاتدرائية وادي-آش مكان المسجد الرئيسي للبلدة في القرن السادس عشر وفق الطراز النهضوي كتأكيد دلالي لانتماء اسبانيا للتاريخ الأوروبي، والذي كانت ايطاليا مهده النهضوي فنياً ودينياً، وانتهى الصرح الكنسي في القرن الثامن عشر بطراز باروكي وهو الطراز الفني المميز للحركة المضادة للإصلاح الديني والذي تزعمته اسبانيا بامتياز منذ القرن السابع عشر.

(27) Garrido García, Carlos Javier: «Guadix y su tierra durante el primer año de la rebelión de los moriscos (1569)», Guerra y esclavitud, p.74. Edición electrónica en pdf, 2010.

http://cepedrosuarez.es/docs/boletines/B24_2011_05_GARRIDO.pdf

(28) يعتبر أبو الحسن الششتري أول من أدرج الزَّجل في الأوارد والأناشيد الصوفية، كما كان محي الدين بن عربي أول من أدرج استعمال الموشح في شعريته الصوفية.

(29) من أشعار حمدة بنت المؤدب في وادي-آش:

أباح الدمعُ أسراري بوادي* *له للحسنٍ آثار بَوادي

فمن نهرٍ يطوف بكل روضٍ* *ومن روض يرف بكل وادي

ومن بين الظباء مهاةُ انس* *سبت عقلي وقد ملكت فؤادي

لها لحظ ترقدهُ لأمـرٍ* *وذاك الامر يمنعني رقادي

إذا سدلت ذوائبها عليها* * رأيت البدرَ في افق السواد

كأن الصبح مـات له شقيق* * فمن حزنٍ تسربل بالحداد

(30) Garrido Garcíaop. cit., pp. 74-75.

(31) انظر بهنسي، عفيف: من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن، دار الكتاب العربي، دمشق، ط1، 1997.

(32) Navarro Valverde, Francisco Antonio y MEDINA SUÁREZ, Javier: «Arquitectura etnográfica en las comarcas de Guadix-Baza (Granada)», Gazeta de Antropología, revista electrónica.

http://www.ugr.es/~pwlac/G25_50FranciscoA_Navarro-Javier_Suarez.html

(33) Ibíd.

(34) Urdiales Viedma, María Eugenia: «La cueva: ¿vivienda marginal?, Análisis en Benalúa de Guadix», Cuadernos Geográficos de la Universidad de Granada, nº 15, 1986-1987, pp. 165-196.

(35) اتبعت سياسة الإقصاء من قبل الروابط الحرفية بصرامة تجاه المورسكي، والزنجي، والعبد، واللقيط، والمدان من قبل محكمة التفتيش.

(36) Domínguez Ortiz, Antonio y VINCENT, Bernar: op. cit., pp.183-186.

(37) اعتبرت السلطات أن تنصير المدجن أثناء تمرد الأخويات الحرفية نافذ لاعودة عنه رغم أنه تحت تهدد السلاح ومخافة القتل. في هذا السياق أشير إلى أنه في فتوى لابن تاشفين جاء فيها أن الذين أسلموا خوفا يقبل إسلامهم، وإذا رجعوا عن الإسلام لهذا السبب يعذرون "إذ لا ملامة عليه (من رجع إلى النصرانية) في أن يفر من الظلم بالخديعة والتلاعب".

(38) بلغت النسبة الاجمالية لعدد سكان الأقلية المورسكية الـ30.3% من مجموع سكان مملكة بلنسية سنة الطرد 1609.

(39) يتكون وادي "فال دي لاغاينيرا" من ثمان قرى سكنية ذات أصول مورسكية مازالت حية هي:

Benirrama, Benialí, Benitaya, Benisivà, La Carroja, Patró, Llombai y Benissili.

(40) في قرية "القلعة دي لاخوبادا" Alcalá de la Jovada (تعرف في الوثائق العربية باسم "بني بولقاسم") تقوم كنسية الضيعة على أطلال المسجد القديم في ساحة البلدية، إلى جوار بيوت شيدت مكان دارة الأزرق. ويحتفظ أحد أركان ساحة الضيعة حالياً بذكرى حاكمها الأزرق من خلال ماء يفيض من فم تمثال رأس مسلم برونزي، يذكر بالأزرق، وتصله المياه من الأعالي من خط شبكة القنوات العربية القديمة.

(41) أول السادة من الاقطاعيين حمل لقب بارون وهو من عائلة "كتلا دي باليريولا"، ثم ملكت المنطقة من قبل الكونت "دي ريال" بعد إلحاقها بأراضيه الواسعة، ثم تبعت ملكتها لدوقية "بيّا إرموسا".

(42) لعل اسم L´Atzuvieta يتأتى من كلمة "الزاوية" العربية ومن ثم تصغيره بالكتلانية. أي أنه يعني "الزاوية الصغيرة".

(43) Soler Estrela, Alba: «La arquitectura de los despoblados moriscos en los valles de la Marina Alta», Tesis doctoral dirigida por FRANCISCO JUAN VIDAL, Universidad de politécnica de Valencia, mayo 2009, p. 36.

(44) Ibid., p. 33.

(45) Véase Torro, Josep y Ivars, Josep: La Casa Hispano Muselman, Aportaciones de la arquiología, La vivienda rural mudéjar y morisca en el sur del País Valenciano, Granada, 1990; y Soler Estrela, Alba, La técnica del tapial en las fortificaciones y despoblados de Sharq al-Andalus, Un estudio arquitectónico constructivo, Actas del Sexto Congreso Nacional de Historia de la Construcción, Valencia, 22-24 octubre, 2009. (46) Torro, Josep y Ivars, Josep: op. cit., pp. 78-79.

(47) أو ربما كان باباً داخلياً بين الغرف المختلفة وهي حالة نادرة؛ وأرجح أنها تعود لمرحلة لاحقة على الطرد فرضها تقسيم العنبر الواسع إلى غرف من قبل السكان الجدد.

(48) من المرجح أن السقف الموجود في لاثوبيتا بني في مرحلة لاحقة على الطرد وربما قبل هجرة السكان الجدد. بكل الأحوال أهميته تتأتى من كونه يكرر نموذج السقف المروسكي المثالي، وعليه فإنه يخدم كشاهد على عمارة السقف الريفي في هذه المنطقة.

(49)) Pinto Baldó, Manuel: Las rutas de los moriscos por la Marina durante la expulsión, SARRIÀ, Revista d´investigació i assaig de la Marina Baixa, pp. 43.