ينطلق الباحث المغربي من عدد من المعايير التي وضعها يحيى حقي لتحضر الرواية وعالميتها، ليبرهن على تحقيق رواية (دنيا) لتك المعايير، لأنها نجحت في محاكاة الواقع محاكاة جمالية؟ فهي رواية جريئة في كشفها المشاكلَ الاجتماعية الجاثمة على نفوس الجميع، تنتصر لقيم بديلة، قيم الحداثة المتجددة، وبالأخص لقيمة الفردية.

علوية صبح والرواية

دراسة في النقد الروائي

عبد اللطيف الزكري

في أواسط السبعينيات، التف أربعة مبدعين ونقاد كبار، وهم: عبد الوهاب الأسواني، رجاء النقاش، أحمد عباس صالح، وفؤاد دوارة، وأجروا حوارا عميقا وممتعا مع الأديب المصري، الذائع الصيت، يحي حقي. وجاء حوارهم تحت عنوان (أدبنا يعاني من الميوعة والسطحية)1، ولقد انهالوا عليه بأسئلة متبصرة عارفة بحقيقة ما يحياه أدبنا العربي الحديث من مراوحة بين الوثبة الخلاقة وبين الارتداد على الذات إلى درجة التلاشي، ومن أهم الأسئلة التي طرحت على يحي حقي في هذا الحوار الماتع، سؤال بادر به فؤاد دوارة قائلا ليحي حقي:«أدبنا الحديث . . ماذا ينقصه ليصبح أدبا عالميا؟ »2. وقد أجاب يحي حقي بذكاء لافت وفكر ثاقب قائلا«أدب الأمم المتحضر وصل إلى الغايات النهائية في الكشف عن النفس البشرية، وعن المشاكل الاجتماعية، والقضايا الروحية والفلسفية، ويخيل لمن يقرأ أدبنا الحديث أننا لا نزال في منتصف الطريق، كلامنا وسط . . فالأصل عندي هو بلوغ الغايات الممكنة لطاقة الإنسان، وحين نبلغ هذه الدرجة سنجد أدبنا الحديث يحتل مكانة في المكتبة الغربية.

أما الآن، فما زالت القضايا في أدبنا غير مدروسة باستيعاب وعمق إنساني يوافق العصر الذي نعيش فيه. إنها ما زالت أشبه بموضوع إنشاء يكتبه تلميذ متخرج من مدرسة ابتدائية بالقياس إلى بحث يكتبه خريج جامعة . . . لذلك أعلق أهمية كبيرة على الترجمة، لأنها هي التي تبصرنا بالمستويات التي بلغها الأدب لدى هذه الأمم المتحضرة»3. وبهذا القول أنهى يحي حقي إجاباته حول أسئلة محاوريه، وهو قول حقيق بالتأمل جدير بالمعاينة النقدية، لمعرفة مآل الأدب العربي الحديث، بعد هذا الحوار مع يحي حقي. هل تحققت آماله المعقودة على هذا الأدب؟ وهل بلغ مستوى العالمية؟ بمعنى آخر، العمقَ الإنساني، الذي يجعل قارئ الأدب العربي- الجديد خاصة، يجد فيه، مهما كانت هوية هذا القارئ، آمالَه وذاتَه ورؤاه وعيشه وتمثله لعلائق مستويات الحياة وقضاياها الكبرى التي يعانيها ويحياها إنسان اليوم، إنسان العالم الجديد الذي نعيش تحت سقفه؟

أجد في أعمال علوية صبح الروائية (مريم الحكايا- دنيا- اسمه الغرام) تحقيقا إبداعيا لتطلعات يحي حقي العالمية حول أدبنا العربي الحديث، ولإبراز ذلك وتجليته جماليا ونقديا، أُقْصِرُ دراستي على رواية (دنيا)4 وستقوم دراستي لهذه الرواية على الأبعاد الثلاثة الكبرى الواردة في قولة يحي حقي الواسمة للأدب الرفيع العالمي المتحضر:

1- الكشف عن النفس البشرية.

2- كشف المشاكل الاجتماعية.

3- كشف القضايا الروحية والفلسفية.

إن رواية (دنيا) لعلوية صبح جديرة بهذا التصنيف: تصنيفها باعتبارها من الآداب العالمية، من الرواية المنطوية على طاقة جمالية كبرى، كاشفة لما ينغل في المجتمع العربي اللبناني، ولما يمور في هذا المجتمع من مشاكل اجتماعية إنسانية معقدة تعقد الحياة الإنسانية المعاصرة ذاتها، وهي بذلك تكشف عن تمثل واع لقضايا الروح وفلسفة الحياة التي يحياها هذا الإنسان العربي، في مجتمع محتقن بالاحترابات والصراعات من كل نوع، لا تُنْسي هذا الإنسانَ رغائبه ومطامحه وتطلعاته واستيهاماته الجنونية في أن يحيا الحياة التي يرغب. فكيف قام التمثيل الروائي باسترفاد حيوات هذا الإنسان اللبناني العربي؟ ما الذي يسم رواية (دنيا) بميسم التحضر والعالمية؟ وكيف نجحت الرواية- هاته في محاكاة الواقع محاكاة جمالية؟ وما هو التصور الفكري والجمالي الذي تنطوي عليه رواية(دنيا)؟

أولا: الكشف عن النفس البشرية:
إذا كان «الفن هو الجيش الذي يتقدم الإدراكُ الإنساني بواسطته تقدما عنيدا نحو المستقبل، بمساعدة تقنيات تتميز على الدوام بجدتها وضخامتها.»5 فإن رواية علوية صبح (دنيا) تحتشد بهذا الإدراك الإنساني العميق، وتنطوي على (تقنيات) جمالية روائية لافتة بنوع التمثيل الذي تقترحه وبطرائق التشغيل الفني لهذا التمثيل الروائي. أولى هذه التقنيات وأكثرها لفتا للانتباه، تقنية (الملاءمة الجمالية) ونعني بها تضافر عالَمَيْ (الواقع) و(الفن) تضافرا تمازجيا ينصهر فيه (الأفق الجمالي) ويجلو (الواقع المعيش) فيصبح هذا الأفق، بكل ما يتسم به من سمات التشويق الآسر، الذي يراود ما هو شائع وعرضي وعابر ومنفلت، ويجعله جوهريا في رؤيتنا للعالم. وتتبدى هذه (الملاءمة الجمالية) في التساوق الشائق بين تعقيد الحياة التي تحكي عنها الرواية، وإلباس هذا التعقيد بلبوسات التجريد الفني الروائي، الذي يترقرق مع المنامات والهواجس والأحلام والعتمة المتربصة التي تجثم على المدينة: «كأن الحكاية منام! حتى الآن لا أعرف. الوقت تجاوز منتصف الليل. الأوراق البيضاء التي قرأتها صارت مصبرة تلالا واكواما إلى جانبي على الكنبة. خلال الليالي الأخيرة لي في هذه الغرفة، وفي هذا المبنى بالذات كنت أقرأ فصول الرواية، ما إن أنتهي من إطعام مالك وتنظيفه بالصابون والماء وفرك أسنانه بالمعجون، وغسل فمه في سريره، وإعطائه الدواء لينام نظيفا وشبعانَ مثل الأطفال. ولم يتبق لي منها سوى النهاية التي أخاف أن أقرأها. وإن لم أقتل الكاتبة في الفصل الأخير، فالحكاية لن تكون حكايتي. فأنا أعرف كيف أثأر قتلا، وعائلتي تأخذ بالثأر لأسباب أقل بكثير من كشف أسرار النساء. ترى من التي كتبت أسراري على هذه الأوراق الناصعة البياض مثل وجهي؟ سألت نفسي هذا السؤال وقد حيرتني الكاتبة. أنا التي تروي وصديقتي وجارتي فريال تأخذ عني الكلام أحيانا. والكاتبة كتبت كل ما كنا نحكيه أنا وفريال كل مساء إحدانا للأخرى من أسرار وحكايات بعد أن ينام مالك بسلام. وما أثار استغرابي أنها كانت تحلم بمناماتي في مناماتها، مثلما كنت أحلم أنا بمنامات أبطال الحكاية.»6

فها إن رواية (دنيا) تتكئ على تقنية (الملاءمة الجمالية) فتجعل (حياة الرواية) متشابكة ومعقدة اعتمادا على التمثيل الروائي بما يشابه (تعقيد الحياة) التي تحكي عنها الرواية، وها إن التباسات الملاءمة الجمالية، تنهض على التجريد الفني، إلى حد الإغراء في الإخفاء، فلا نعود- نحن القراء- ندري من الساردة؟ ومن الروائية؟ وأيهما تتحكم بروائية الرواية؟ - خاصة وأن التناوب الحكائي يقوم على الإظهار حينا والإخفاء حينا آخر- فليست (دنيا) وحدها من يجهل (المصير)، وإنما نحن القراء المنغمسون في هذا العالم الروائي الحافل المحتشد بالحياة وكشوفاتها النفسية البشرية، من يجهل أيضا هذا (المصير) المرتقب والمنتظر والوشيك الوقوع في كل آن. إن الروائي الحق هو الذي يستطيع خلق (عالم مخصوص) في روايته، كما يقول أمبرتو أيكو في كتاب (اعترافات روائي ناشئ)7، وليس سهلا خلق عالم روائي- مخصوص- وجعله يضاهي العالم القائم، إن لم يكن يتفوق عليه، لأن قدرات الكتابة الإبداعية، هي قدرات الطاقة الإنسانية على الابتكار والإبداع، هذه الطاقة التي كان يحلو للروائي الفرنسي جوستاف فلوبير تشبيهها بقدرات الخالق على صنع هذا العالم الذي نحيا فيه. إن الصنعة الفنية- الروائية هي ابتكار لايقل في روعته وجماله عن أي ابتكار أضفى على المعيش الإنساني طلاوة الحياة وعذوبتها.

قد يكون متيسرا وفي متناول أي كان الحديث عن (أبطال) رواية (دنيا) لعلوية صبح، لكن هذا اليسر يخفي مكرا فنيا جماليا كامنا في اللعبة الجمالية لهذه الرواية، فـ(مالك) البطل (المشلول) منذ بداية الرواية، هو أيضا (الرجل المتسلط) كما تقول الرواية في أعطافها التالية لهذه البداية، والبداية ذاتها موشومة بهذا التداخل والتمازج بل والانصهار الفني بين من تحكي وقائع الرواية ومن يكتب تلك الوقائع، ومن ثمة فالحكي (السرد) والكتابة الروائية متواشجتان كأنهما شيئ واحد (من المنظور الجمالي) لأن هذه الكشوفات النفسية البشرية التي تتدفق في رواية (دنيا) هي كشوفات يشارك فيها القارئُ الروائيةَ المتخيلة والحقيقية معا، فالتباس الحكي ومعه الكتابة الروائية، ينمان على تجديد في الإبداع الروائي العربي، ينتقل من تلك (التجريبية- الروائية) المألوفة في إنتاجات روائيي الستينيات وما تلاها من عقود- تجديد يُرِينا أن الرواية العربية في بداية الألفية الثالثة يَزْخَرُ بالجديد الوثاب الناهض على مقولات جمالية مستخلصة من هذه الحياة الجديدة التي يحياها إنسان العالم المعاصر، وإذا كانت رواية (دنيا) تستدعي (من ضمن ما تستدعي) حياة المجتمع اللبناني في زمن (الحرب الأهلية) وما بعده، بكل احتراباتها وصراعاتها وقذاراتها البشرية، فإنها تفعل ذلك لتعبر عن (سخط) يضاهي رواية فيليب روث (الروائي- الأمريكي) التي تحمل العنوان إياه.

لقد أكد يحي حقي أن الأدب المتحضر- الأدب العالمي- هو الذي يستطيع الكشف عن النفس البشرية، وهذا ما برعت فيه رواية (دنيا)، فصورت نماذج كثيرة لنفوس بشرية (مقهورة) وأخرى (قاهرة)، نفوس بشرية متلهفة لتحقيق نزواتها ورغائبها، وأخرى زاهدة كل الزهد في تحقيق هذه الرغبات (جنسية) كانت (سوية) أو (مِثْلِيَة)، رغبات (طبيعية) أو (شاذة). وعالم الرواية حافل بالأسرار التي تنطوي عليها الحياة الإنسانية الدافقة اللاهبة بنار القوى المتعاركة المتصارعة، المتآلفة المتضامنة. إنها رواية (الحقيقة) التي طالما هفا إليها كل أدباء (الحداثة) في الآداب الإنسانية كلها.

ثانيا: كشف المشاكل الاجتماعية:
تقول سوزان سونتاغ بحق:«ما من نوع أدبي بحاجة ماسة إلى المراجعة والتجديد المستدامين أكثر من الرواية.»8 ورواية (الحرب) اللبنانية استطاعت تحقيق تراكم في الإصدارات الأدبية، بوأها، في العالم العربي مكانة هامة، أثارت دارسي الرواية بمختلف صنوفهم وأجيالهم، بيد أن رواية (دنيا) تقوم على (معادلة فنية جديدة) في تمثل (مجتمع الحرب) بلبنان، وتكفي نظرة متأملة مقارنة بين روايتي (حجر الضحك) لهدى بركات و(دنيا) لعلوية صبح، لمعرفة الجديد الإبداعي التي جاءت به هذه الروائية المنتسبة إلى مطلع الألفية الثالثة. ولهذا نرى الجديد في رواية (دنيا) ليس تقنيا حسبُ، بل وأساسا في (جمالية التمثيل الروائي) الذي تسترفده هذه الرواية في (محاكاة) واقع (المجتمع اللبناني) إبان احترابه السياسي والاجتماعي. إن فترة (الحرب الأهلية) أو في الفترة التالية لها وما خلفته تلك الحرب من ندوب نفسية واجتماعية غائرة عند الجميع، ممن عانوا من تلك الحرب ومن دمارها الخطير. بيد أن تصور الروائية (علوية صبح) لحال المجتمع اللبناني- هذا التصور الفني النقدي الجمالي الثائر على الأوفاق والمواضعات الاجتماعية- يجعل إسهام رواية (دنيا) في كشف المشاكل الاجتماعية، ذا خصوصية روائية ينبغي الالتفات إليها وإيلاؤها ما تستحقه من اهتمام في المتابعة والاستقصاء، وبالأخص استقصاء الأبعاد الروائية الفنية الجمالية، وما تكتسبه من دور في تعريفنا بما ينغل في المجتمع اللبناني من مشاكل حادة لها من الخصوصية بمقدار ما لها من التفسير والكشف للمشاكل الاجتماعية.

تتبدى كشوفات رواية (دنيا) الاجتماعية أكثر ما تتبدى في العلاقات والوشائج التي تربط الأفراد والجماعات فيما بينهم بروابط التكافل الاجتماعي أو الاقتتال والتسلط والقهر، وهي ظواهر اجتماعية تنم على التغير العام في النسيج الاجتماعي وتجعل الرواية (الأسرة) كما (الأفراد) نماذج لاستجلاء هذه المشاكل الاجتماعية: مشاكل الزواج والعلاقات الزوجية ومكانة الأفراد الأسرية ووضعيات المرأة والرجل في هذه الأسرة وفي ذاك المجتمع. إلا أن القارئ الحصيف لا بد وأن تثيره هذه النبرة الحداثية التي تسري في أوصال الرواية مثلما يراد لها أن تسري في أوصال العلاقات الاجتماعية، وتكمن الحداثة، هنا، في الانتصار لما يسميه بتراند راسل- الفيلسوف الإنجليزي- بالفردية (أو الفردانية) وهو يحلل هذه المقولة الحداثية الفلسفية في كتابه الهام (الفرد والسلطة)، وإذا ما استحضرنا عالم الرواية –موضوع حديثنا هذا- رواية (دنيا) ألفينا الفرد (امرأة) كانت أم كان (رجلا) رازحا تحت قهر (السلطة) بكل أشكالها (اجتماعية وسياسية ودينية)، وتعمل رواية (دنيا) على الإعلاء من سلطة الفرد في مقابل (السُلَطِ) الأخرى المناوئة لحرية الفرد ورغباته وتطلعاته وأحلامه بحياة (جميلة) جديرة بالعيش مثلما يقول الشاعر التركي الشهير ناظم حكمت.

إن علوية صبح في رواية (دنيا) تكشف المشاكل الاجتماعية التي تمزق (الفرد) وتطوح به وبالأسرة في أتون الحمى الاجتماعية، ولذلك لا عجب ان كانت هذه الرواية تشخص (المشاكل الاجتماعية) بقدرات فنية عالية. والرواية عموما- أي رواية- «كما لا يمل جميع النقاد الذين يمدحونها من تذكيرنا وتقريعهم الكتابَ المعاصرين الذين ينحرفون عنها، تُعْنى بالإنسان في المجتمع. إنها تجسد شريحة من العالم وتضع (شخصياتها) ضمن هذا العالم»9 ورواية( دنيا) تفعل ذلك، إنها تُعْنى بالفرد المنسي، المنبوذ، المُقْصى، غير المرغوب فيه، وليس (البطل) (مالك) إلا واحدا من هؤلاء، وهم كُثْرٌ في الرواية، ومع ذلك لا يتشابهون وإن تقاطعت مصائرهم وتلاقت في الندوب التي تحفرها الوقائع والأحداث الصاخبة في نفوس الشخوص التي تعاني دوما من هذه الندوب، وتلاحقها وتطاردها شروخ الحياة في متاهاتها الكبرى والصغرى سواء بسواء.

فـ(دنيا) (البطلة) كذلك تعاني إحباطات شتى، وصراعات في القيم التي تتمثلها من المجتمع الذي ولدت ونمت وعاشت فيه، المجتمع الذي يُعْلي (الرجل) على (المرأة) بسلطة هي إلى (الوهم) اقرب منها إلى (الحقيقة). وحتى أولئك (الرجال) الذين يبدون كمصارعين أقوياء إنما يفعلون ذلك مع (رجال) من طينتهم هَوَتْ بهم الحياةُ إلى الخذلان والضعف والذل؛ أما أولئك (الرجال) الذين يرون في (فحولتهم) انتصارا تاما على (المجتمع) الذي يحيون فيه، فإن قُوى الحياة الخفية، تحطمهم وتذلهم وتجعلهم يعيشون ضَعْفهم، كما لم يفكروا أبدا. إن الحياة، هي في النهاية، الأقوى، ولذلك فجميع شخوص رواية (دنيا) (رجالا ونساء) إذا ما مارسوا الحياة بفلسفاتهم (الفردانية) استطاعوا الانتصار في الحياة التي يَحْيَوْنَها مهما بدت انتصاراتهم (صغيرة)، لا تقارع قُوى الحياة الخفية، القوى الهدامة التي تطوح الكل في مهاوي الفناء والزوال والنسيان.

إن رواية (دنيا) تقاوم كل هذا، وبالأخص تقاوم (النسيانَ) بلعبة (الذاكرة) الماكرة التي تلتقط التفاصيل والوقائع الدالة على عظمة الإنسان كما على خسته وانحطاطه وابتذاله. إن وضع الرواية العربية، في مطلع الألفية الثالثة، في تبدل وتجدد، تدل عليه هذه الرواية (دنيا) لعلوية صبح، وهي رواية جريئة في كشفها المشاكلَ الاجتماعية الجاثمة على نفوس الجميع، إنها رواية تنتصر لقيم بديلة، قيم الحداثة المتجددة، وبالأخص لقيمة (الفردية) أو (الفردانية) مع إيمانها العميق بضرورة تثوير بنى المجتمع وقيمه وتطلعاته، أو ليست الدنيا منام؟ فَلِمَ لا نَحْلُمُ بمجتمع جديد؟

ثالثا: كَشْفُ القضايا الروحية والفلسفية:
إن الميسم الجمالي الأكبر الذي يسم رواية (دنيا) لعلوية صبح، هو ثورتها على الرواية التي تسرد (قصة) (فقط)، وترسم شخصيات استنادا إلى التقاليد الروائية الشائعة منذ القرن التاسع عشر، وكل ما تشجبه هذه الرواية يقوم (بديلا عنه) تمثيل جديد للواقع باستكناه ما هو معتم في أغوار الروح والنفس البشرية، وهي إذ تفعل ذلك في الرؤيا الفلسفية التي تشيدها، تفعل ذلك أيضا في التقنيات الجمالية التي تتأسس عليها هذه الرؤيا، ومن هنا ذلك التلاحم المنصهر الذي يسميه الفيلسوف هانز جورج جادامير بـ(انصهار الأفق الجمالي) في كتابه (الحقيقة والمنهج). ولعله لهذا الذي ذكرنا- ولهذا وحده، وهو كاف- ينبغي القول، بصراحة نقدية شفيفة، إن رواية (دنيا) لعلوية صبح، رواية تنتصر لما هو جديد في كل شيئ: في فلسفة الحياة الروحية والمادية، وفي فلسفة فن الرواية- بمعنى فن جمالية الرواية، إنها تؤسس لجمالية روائية جديدة، يحق وسمها بـ(جمالية الأشكال الجديدة) سواء كانت أشكال ممارسة الحياة وعيشها أم أشكال كتابة رواية هذه الحياة.

إن رواية تنجز هذه الجدة، يحق وسمها بـ(الرواية العربية الجديدة) بما تمتلئ به هذه الجدة من منجزات جمالية إبداعية، في الرؤية إلى الحياة، وفي النظر إلى جمالية الرواية ذاتها، أي فلسفتها لفنية الكتابة والإبداع والممارسة الأدبية10. هل أقول، إذن، إن التقنيات الفنية الروائية التي تقترحها علوية صبح في منجزها الروائي هذا (دنيا) هي تقنيات خلاقة لاتوجد في الشكل الفني الجمالي للرواية وحده، وإنما تقدم أطروحة جديدة للقيم الإنسانية الجديدة أيضا. إن الثورة على الأعراف الروائية السائدة، وبالأخص على تقنية الراوي العليم بكل شيئ، وابتكار علاقات جديدة بين القارئ والروائي صاحب الرواية، علاقات تبزغ فيها شخوص جديدة كل الجدة (الساردة والروائية)، وقضايا روائية جديدة (الحكاية والكتابة) والوشائج الفنية الجمالية التي تصل بين مختلف هذه المبادئ الجمالية الجديدة جدة لافتة، أقول إن هذا الإنجاز الروائي وحده يستحق منا الاهتمام والمواكبة النقدية والاحتفاء الجمالي الملائم.

وأعترف، في ختام، هذه القراءة، أني تمثلت مرارا نظرية ناتالي ساروت (عصر الشك) الذي تنتصر فيه لنظرية الرواية الجديدة في فرنسا، على أني وجدت نفسي إزاء (عصر شك) جديد توحي به رواية (دنيا) لعلوية صبح، وتومئ إليه إيماءات إبداعيةً خلاقة، تنتصر للحداثة بكل قيمها الملائمة للإنسان الجديد في هذا المجتمع العربي القديم. ولقد وجدتُ أيضا، طموح أديبنا العربي الكبير يحي حقي في أدب عربي متحضر عالمي قد تحقق بكل تلك المقولات، التي أشار إيها في ختام الحوار الذي انطلقنا منه في قراءتنا النقدية هاته.

 

الهوامش:

(1) نشر الحوار أول مرة في مجلة الدوحة. يناير1976. الصفحات:31- 32- 33- 34 وأعيد نشره في كتاب الدوحة(ظلال الذاكرة). العدد57. 2016. من صفحة 89إلى صفحة 99.

(2) نفسه.

(3) نفسه.

(4) علوية صبح:دنيا(رواية). بيروت. دار الآداب. الطبعة3/2010.

(5) سوزان سونتاغ: ضد التأويل ومقالات أخرى. ترجمة نهلة بيضون. بيروات. منشورات المنظمة العربية للترجمة. الطبعة1/شباط(فبراير). 2008. ص 145.

(6) علوية صبح:دنيا. م. س. ص. ص:5/6.

(7) أمبرتو أيكو: اعترافات روائي ناشئ. ترجمة سعيد بنكراد. الطبعة الأولى. المركز الثقافي العربي. بيروت. الدار البيضاء. 2014.

(8) سوزان سونتاغ. مرجع مذكور. ص 147.

(9) سوزان سونتاغ:المرجع السابق. ص 147.

(10) نفسه. ص. ص. 150/151.