تكشف دراسة الباحثة الألمانية عن أهمية عمل ماركس التأسيسي، لا في الكشف عن بنية عمل الرأسمالية العميقة وما بها من خلل فحسب، وإنما برفد دراسة هذا الموضوع المهم بالكثير من الإضافات التي نهلت من معينه، وسعت للتغلب على ما به من فجوات أو أخطاء، وتواصلت حتى اليوم.

«رَأس المال» واهميته

اُلريكا هيرمان

ترجمة فادية فضة ود. حامد فضل الله

دفع كتاب "رأس المال" ملايين من القراء المهمتين الى الاحباط، فبداية الفقرة الأولى شاقة وغامضة1: إن ثروة المجتمعات، التي يسود فيها نمط الانتاج الرأسمالي، تظهر "كتجمع هائل من السلع"، وتشكل السلعة الفردية نواته الأولى. لذلك يبدأ بحثنا بتحليل السلعة"2. لقد عرف كارل ماركس نفسه بأن الفصل الأول من كتابه عصي على الفهم. فقد كتب معتذراً في مقدمة الطبعة الأولى "كل بداية صعبة، وهذا ينطبق على كل عِلم". يتساءل المفسرون حتى اليوم، لماذا بدأ ماركس أساساً بموضوع "السلعة"؟ كان الأنسب من الناحية التعليمية والتحليلية، أولا وصف استغلال العمال وتاريخ الصراعات الطبقية3. حيث يجد القارئ نفسه على الفور داخل الموضوع. لقد أختار انجلز لاحقاً منهجا مغايراً لشرح النظرية الماركسية4.

كان لعمل ماركس الاساس "رأس المال" بالرغم من اسلوبه الغامض قوة جذب هائلة، فهو لايزال من أكثر الكتب مبيعا، ووصلت أرقام المبيعات إلى درجة يستطيع فقط ان يحلم بها الاقتصاديون في الوقت الحاضر. لا يزال يسحر ماركس القارئ حتى يومنا هذا، فقد كان المُنظّر الأول، الذي وصف ديناميكية الرأسمالية بشكل صحيح. إن الاقتصاد الحديث هو عملية مستمرة. والدخل ليس مضموناً بالإطلاق، بل ينشأ أولا عن طريق الاستثمار المتواصل.

رَأس المال كعملية:
كان ماركس أول من عَرفَ، كيف يتشكل جوهر الماركسية: النقود تُستثمر من أجل انتاج السلع. وعند بيعها يجب تحصيل المزيد من النقود، وهكذا يتحقق الربح. "نقود ــ سلعة ــ نقود" هي في الواقع المعادلة العامة لرأس المال. ليس تلبية الاحتياجات الضرورية، وانما التراكم هو الهدف في حد ذاته. يستوجب على الرأسمالي ان لا يرتاح أبدا ولا يستطيع التمتع بالإنجازات التي حققها، بل يجب استثمار الارباح من جديد، إذا أراد البقاء في المنافسة.

"تداول النقود كرأس مال (...) هو غاية في ذاته، فالانتفاع بقيمته موجود فقط داخل هذه الحركة المتجددة باستمرار. إن حراك رأس المال بالتالي لا حد له". ربما يعتقد رجل الاعمال بأنه يستطيع بمفرده ان يتخذ قرارات مهمة، ولكن في الواقع هو مجرد منفذ للنظام ولاستغلاله الدائم: "كحامل واعٍ لهذه الحركة يصبح مالك المال رأسمالي. ويكون بشخصه أو بالأحرى جيبه، هو نقطة انطلاق ونقطة عودة المال (...). فالرأسمالي (يعمل) باعتباره شخصية، رأسمالها الموهبة والوعي والاِرادة". في هذا السباق الدائم (سباق الفئران)، لا يتعلق الأمر بالربح الفردي "وانما فقط بحركة الربح التي لا حدود لها".

يصبح المال فقط رأس مال إذا تم استثماره، وبالتالي يتحقق الربح. أما إذا بقي قابعا في الخزينة، فهو لايزال هو المال ــ ولكن في الواقع لا قيمة له. أو كما عبر ماركس بقوله "ان زيادة القيمة التي لا حدود لها والتي يسعى المكتنز للمال لتحقيقها من خلال محاولة انقاذه من التداول، يصل اليها الرأسمالي الحصيف دائما، بدفع المال من جديد للتداول". إن تأكيد ماركس بأن الاستغِلال كسلسلة متواصلة وعملية منظمة، أعطى لمصطلح "رأس المال" معنى جديداً. لقد نظر الاقتصاديون حتى ذلك الحين، الى الاقتصاد كشيء ثابت. واعتبرت النقود والآلات كثروة "في حد ذاتها"، يمكن للمرء موازنتها بسهولة. لم تكن لدى ماركس هناك قيم متاحة، بطريقة أو بأخرى. يتكون رأس المال أولا، عندما يتم الإنتاج، وعندما تصدر السلع، التي يمكن بيعها بربح.

كان ماركس مفتونا بالتقدم التكنولوجي وتُحمسه لأصغر الاختراعات. "عرضت في أحد المعارض الصناعية في لندن عام 1862 آلة أمريكية لصناعة أكياس الورق، تقطع وتلصق، وتطوي، وتنجز 300 قطعة في الدقيقة الواحدة". لم ترتفع الكفاءة التقنية في الإنتاج الصناعي فحسب، بل ايضا في الزراعة. وكما ذكر ماركس "يقوم محرك المحراث البخاري، في ساعة واحدة بإنجاز حراثة بقيمة 3 بنس، أو ربع شلن، أي ما يعادل عمل 66 شخصا بقيمة 15 شلن في الساعة"، وحسابياً يعني ان الانتاجية تضاعفت الى 3960 مرة. لقد كان ذلك مذهلا.

لكن ما الذي يحرك ديناميكية الرأسمالية التي لا تهدأ؟ لماذا لا يمكن للرأسماليين الجلوس بشكل مريح في منازلهم والتمتع بأرباحهم؟ لم يخطر على بال النبلاء في ظل النظام الاقطاعي مطلقا ان يستثمروا أموالهم باستمرار في الإنتاج. فقد قاموا بدلا من ذلك، ببناء القلاع، احتفلوا بالمهرجانات ونشطوا كرعاة للفنون. لقد كان الرأسماليون جشعين. حتى لو كانوا أثرياء، أرادوا أن يصبحوا أكثر ثراءً ووسعوا مصانعهم. ويبدو أن التراكم يتحول إلى غاية في حد ذاتها، أو كما صاغها ماركس في أحد أكثر اقواله شهرة:
"تراكم، تراكم ! ذاك موسى والأنبياء".

جدلية رأس المال:
إن ضغط الانتفاع الدائم كان في حاجة إلى تفسير، وماركس أول من أدرك، بأن التكنولوجيا تلعب دورا رئيسيا. فهي تنشر منطقها وديناميكيتها الخاصة، بمجرد استخدامها بشكل منتظم. يعتبر كل مستثمر شراء آلات جديدة لديها إنتاجية أعلى من انتاجية مصانع المنافسين، أمراً جذابا. عندما ينتج صاحب المصنع سلعه بتكلفة أقل، بإمكانه ايضاً بيعها بسعر أرخص – يحصل على ارباح إضافية، والتي أطلق عليها ماركس "فائض قيمة مضافة". ولذلك يحذو المنافسين حذوه على الفور، إذا كانوا لا يريدون الانهيار. ولذلك يستثمرون أيضا في آلات جديدة، ويعود فائض القيمة المضافة الى الاختفاء.

لذلك يخضع كل رأسمالي أيضا لـ "قانون المنافسة الإلزامي"، ومدفوعا من منافسيه ليوسع إنتاجه حتى لا يغرق. ومع ذلك، وبذلك تتشبع معظم الأسواق في نهاية المطاف، ولا يمكنها استيعاب سلع اضافية أكثر. لن تنجو من اقصاء المنافسة الا الشركات التي تنتج بالأرخص. وهى في معظمها شركات كبيرة، لأنها تستفيد من ظاهرة يطلق عليها الاقتصاديين اليوم، "زيادة عوائد الحجم الكبير": كلما زاد عدد القطع، قلت تكلفة التكنولوجيا المستخدمة للقطعة الواحدة. انطلق ماركس بالفعل ضمنيا من "زيادة عوائد الحجم الكبير" هذه، وبالتالي كان الاقتصادي الأول، الذي وصف بوضوح إن الرأسمالية تميل إلى احتكار القلة: سيتم ازاحة الشركات الصغيرة، حتى تتم سيطرة عدد قليل من الشركات الكبيرة على الاقسام برمتها. أو كما عبر ماركس عن ذلك: "مصادرة الرأسمالي من قبل الرأسمالي" و"تحول كثير من رؤوس أموال صغيرة الى رؤوس أموال كبيرة" لدى القلة.

ما زال تحليل ماركس صحيحا حتى اليوم، كما يتضح من أحدث الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاءات الاتحادي: تمثل الشركات الكبيرة نسبة واحد في المئة فقط من جميع الشركات الألمانية، لكنها انتجت في عام 2012، 68 في المئة من إجمالي المبيعات. وأنتجت في نفس الوقت 81 في المئة من جميع الشركات الصغيرة معا – أي في عام 2012، ستة في المئة فقط من المبيعات5. يتميز الاقتصاد الألماني بالمغالاة في التركيز. وتسيطر عدد قليل من الشركات الكبيرة على سلسلة بأكملها، من المواد الخام حتى التسويق. إن الرأسمالية جدلية بشده: تدفع المنافسة اصحاب الأعمال، حتى لا تبقي شيئا من المنافسة.

نظر ماركس برضى إلى عمليات التركيز هذه. وأعرب عن أمله بأن تدمر الرأسمالية نفسها بنفسها – فمن مصادرة الرأسماليين لبعضهم البعض لن يبقى سوى عدد قليل من رجال الأعمال. "كلما ضرب رأسمالي يقتل العديد دائما" مما يسهل الثورة: في النهاية يجب على "الجماهير" ازالة "عدد قليل من المغتصبين". "سيتم مصادرة المصادرين". كما هو معروف، جاء الأمر مختلفا، وقد أثبتت الرأسمالية بشكل ملحوظ قابليتها على الديمومة أكثر مما اعتقد ماركس. كان احتكار القلة من الشركات الكبرى مستقر بشكل ملحوظ. لذا أين هي الاخطاء في تحليله؟

الخطأ الأول: العمال ليسوا فقراء:
اعتبر ماركس بأن الثورة الشيوعية حتمية، لأنه لم يكن يتصور، بان يستفيد العمال من الرأسمالية. جاء في ختام "رأس المال" على هذا النحو: "تنمو كتلة من البؤس والقهر والاستعباد، والانحطاط والاستغلال". توقُع ماركس حصول الفقر المطلق، لا تزال دعابة للنقاد حتى اليوم. هكذا سخر، بول سامويلسون (Paul Samuelson) الحائز على جائزة نوبل: "يرى المرء، العمال مع سياراتهم وأفران الميكروويف، وخاصة لا يبدو عليهم الفقر6". هذا استهزاء رخيص. فمن السهل دائما ان تكون في النهاية أكثر ذكاءً. عندما ظهر "رأس المال" في عام 1867، كان كثير من العمال يعانون من الفقر المدقع. لم يجد ماركس صعوبة بالاستشهاد بالمقالات الصحفية أو التقارير البرلمانية الرسمية، التي تشجب الظروف المعيشية للبروليتاريا.

ان فقر الطبقات الدنيا كان يمكن حتى قياسه بوضوح – من طول الجسم. بسبب سوء التغذية، انخفض متوسط طول الجنود الإنجليز ما بين 1830 و1860 بنسبة اثنين سم7. كان الجيش أيضا في القارة الأوروبية، يشعر بالقلق، بعدم وجود ما يكفي من الأفراد الصالحين للخدمة العسكرية. نقل ماركس بابتهاج الإحصاءات الرسمية : "كان المقاس العسكري (القامة) عام 1780 في ولاية سكسونيا: 178 سم، الآن 155سم. في بروسيا هو 157سم. بناء على ما نقلته "الصحيفة البافارية" في 9 أيار/ مايو 1862 عن الدكتور ماير (Dr. Meyer)، الذي حدد بعد 9 سنوات، معدل المتوسط، فمن بين 1000 شخص من المجندين في بروسيا هناك 716 مجند غير صالح للخدمة العسكرية: 317 بسبب نقص القامة و 399 "بسبب عيوب خلقية.

بدأت القفزة لمجتمع الرفاهة الحديث قبل وقت قصير من وفاة ماركس. ارتفعت الأجور الحقيقية بشكل ملحوظ في حوالي عام 1880، وكان ذلك أساسا بفضل النقابات. تنامت قوة شرائية جماعية جديدة والتي غيرت الرأسمالية مرة أخرى. وهو ما أسفر عن نشوء المجتمع الاستهلاكي. لا يمكن تصور الرأسمالية اليوم دون الاستهلاك الجماهيري، حاليا تشكل المنتجات الاستهلاكية نحو 75 في المئة من الناتج الاقتصادي8. لو لم ترتفع الأجور الحقيقية، لكان قضي على الرأسمالية في القرن التاسع عشر، وربما لم تصل الى أبعد من (بناء) السكك الحديدية.

مكن الطلب الهائل للعمال على وجود منتجات جديدة وطفرات نمو جديدة والتي لم يكن ممكناً تحقيقها اطلاقا عن طريق نمط حياة الأثرياء فقط. كما لخص المؤرخ إريك هوبسباوم (Eric Hobsbawm) ذلك: "لم تكن رولز رويس، وانما نموذج فورد Ford T هو الذي أحدث ثورة في صناعة السيارات9." ذاك كان المستقبل. لم يتمكن ماركس أيضا من معرفة، أن طبقة وسطى كبيرة سوف تتطور.

الخطأ الثاني: يوجد استغلال – لكن ليس فائض القيمة:
كان ماركس مقتنعا بأن الاستغلال ينتمي بالضرورة الى الرأسمالية. ويبدو أن هذا يثبت ايضا نظريته حول "فائض القيمة"، والتي تتألف من عنصرين. أولا، يُفترض أن العمل وحده يخلق القيمة. أن قيمة أي انتاج يجري تعريفه من خلال، كم من الوقت اللازم لإنتاجه. إن ما يسمى بمصطلح قيمة العمل لم تأتٍ من ماركس، بل كانت قد وضعت بالفعل من قبل الاقتصاديين الليبراليين آدم سميث (Adam Smith) وديفيد ريكاردو (David Ricardo). لكن نظر ماركس بمنطق أبعد من سلفيه، من خلال إدخاله العنصر الثاني: "فائض القيمة". وهي تأتى، لأن العمال يمكن أن يعملوا أطول بكثير مما هو ضروري لوقت العمل، لضمان بقائهم على قيد الحياة. انطلق ماركس في كثير من الأحيان من أمثلة حسابية افتراضية، بأن ست ساعات عمل كانت كافية لإنتاج السلع، التي تحتاج إليها عائلة من الطبقة العاملة من الغذاء والكساء وشقة متواضعة. في ذلك الحين، كان العمال يكدون اثنتي عشرة ساعة عمل في اليوم، مما يمكن الرأسمالي من الاحتفاظ بالساعات الست المتبقية. كان "فائض القيمة" هذا هو ربحه.

عرف ماركس بأن نظريته في فائض القيمة كان لديها نقطة ضعف رئيسية – وربما هذا هو السبب، خلف عدم اكماله المجلد الثاني والثالث من "رأس المال". لقد تصارع ماركس في الواقع مع "مشكلة التحول" كما يطلق عليها اليوم. لم يتمكن ماركس من أن يفسر، كيف أن قيمة سلعة تترجم بثمنها. فيبدو عدم وجود علاقة ضرورية بين البنية العميقة لقيم السلع وسطح الأسعار.

نشأت "مشكلة التحول" هذه، لأن الرأسمالية الحديثة لا تستخدم العمال فقط وانما الآلات أيضا. إلا أن نظرية ماركس في فائض القيمة كانت تفترض، أن العمل البشري فقط يخلق القيمة. بخلاف ذلك فإن الآلات لا يمكنها انتاج قيمة جديدة – فقيمتها مخزنة. كانت الآلات مثل كل السلع تقدر، قيمتها بقدر ساعات العمل التي اتخذت لإنتاجها. مع خضوع الآلات للاستهلاك تم تحويل هذه القيمة بشكل متناسب على السلع التي أنتجت بها. يترتب على هذا النموذج، بأن أقسام مختلفة من الصناعات تنتج فوائض قيمة كثيرة ومختلفة، حيث لا يستخدم في كل مكان نفس القدر من القوة البشرية والتكنولوجيا. وهكذا فإن كثافة اليد العاملة في قطاع البناء هي أكبر بكثير من صناعة السيارات، والتي تُسيَّر خطوط الانتاج فيها تقريبا بلا عمال. ولأن العمل البشري عند ماركس هو الذي ينتج فائض القيمة فقط، بالتالي فإن الأرباح في صناعة البناء والتشييد ستكون مرتفعة بشكل خاص - ومنخفضة بشكل أخص في صناعة السيارات.

لا يعمل الاقتصاد بالطبع هكذا، وهو ما أدركه ماركس ايضاً. يجب أن يكون الريع في قطاع البناء وفي شركات السيارات مماثلا – وإلا لكانت شيدت المنازل فقط ولم يتم إنتاج اي مزيد من السيارات. لم يجد ماركس عناء لشرح مقبول لمعدل الارباح الموحدة. ولكن للأسف فإن فائض القيمة لم ترد من جديد: يميل الرأسماليون للاستثمار بشكل خاص في القطاعات التي تدر أرباحاً عالية. ولكن إذا زاد العرض على السلع فإن أسعارها تنخفض – والايرادات تهبط مرة أخرى. يضمن التداول المستمر للمال ضبط معدلات الربح في جميع القطاعات. في نهاية المطاف يقوم الرأسماليون بحساب بسيط، كما لاحظ ماركس ايضا: يحسبون تكاليف انتاجهم – ويضيفون عليه الربح. وهكذا يأتي السعر الذي يريدون تحقيقه في السوق. ولكن أين هو فائض القيمة؟ هنا لم يقدم ماركس جوابا.

لقد اتخذ الاشتراكي الألماني إدوارد بيرنشتاين (Eduard Bernstein) بالفعل 1898موقفه، نتيجة لتلك النتائج النظرية: واقترح الاستغناء تماما عن "البناء الفكري المحض" المسمى فائض القيمة[1]. فأدرك بيرنشتاين بشكل صحيح، لا حاجة لفائض القيمة للتنديد بالاستغلال: كانت الأرقام الرسمية، إزاء "إحصاءات الدخل"، كافية تماما لفضح التفاوت الشديد. كون الاستغلال "تجريبيا، يمكن في الواقع العملي التحقق منه وهذا لا يتطلب أي دليل استنتاجي11". قدم بيرنشتاين عرضا مخططا بيانيا، لبرنامج بحثي، تم اتخاذه بداية بعد مائة سنة: بدأ فريق من الباحثين في محيط الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي (Thomas Piketty)، اعتباراً من عام 1998 التدقيق في البيانات الضريبية في عشرين دولة، تشمل الدخل والثروة للنخب. قام بيكيتي بنشر النتائج المجمعة في عام 2014 في كتابة الأكثر مبيعاً في العالم "رأس المال في القرن الحادي والعشرين،"*** عنوان ليس من قبيل الصدفة يلمح الى ماركس.

ترجع بيانات الضرائب لدى بيكيتي - تبعا للبلد المعني – حتى القرن الثامن عشر، وتظهر كيف أن عدم المساواة كانت مستقرة على مدى القرون الثلاثة الماضية: تركزت الثروة، في كل الدول الغربية لدى عدد قليل من العائلات.12 في حين أن أوضاع العمال والموظفين كانت أفضل بكثير من وقت ماركس، لكن توزيع الثروة لم يصبح أكثر عدالة. بينما رأس المال أصبح أكثر تركزاً.

الخطأ الثالث: المال ليس سلعة:
كان ماركس الاقتصادي الأول، الذي وصف بشكل صحيح دور المال في الاقتصاد الرأسمالي: يتم استثمار الأموال في إنتاج السلع، لكي يحصل المرء لاحقاً على المزيد من المال، بالتالي يحقق ربحا. معادلته (نقود – سلعة- نقود) وضعت النقاط على الحروف عن، ماهية ما تشكله الرأسمالية. لم يفهم ماركس في نهاية المطاف، كيف يعمل المال. وبقي يتخبط في مستنقع من التناقضات لأنه كان يعتقد خطأ بأن المال نوعا من السلعة. وتبع نتيجة لذلك، بأن مصطلح قيمة العمل يجب أن ينطبق على المال أيضا، "يتم تحديد قيمته الخاصة من خلال وقت العمل المطلوب لإنتاجه". يمكن أن تبدو هذه الفكرة معقولة، طالما تتألف النقود أساسا من الذهب أو الفضة. بالطبع هناك تكلفة ساعات العمل لاستخراج المعادن الثمينة، ولنقلها وصياغتها. ولكن حتى في حياة ماركس ظهرت الأوراق النقدية، والتي كان لها أيضا قيمة، رغم ان إنتاجها يكاد لا يكلف شيئا تقريبا. وقف ماركس أمام هذا اللغز، لماذا كانت للأوراق النقدية قيمة ثمينة ايضا.

لم يدرك ماركس بأن المال عُرف اجتماعي. المال هو، ما هو مقبول كمال. كل شيء يمكن أن يصبح مالا: الذهب والفضة والتبغ أو المحار، وكذلك الشيك والأوراق النقدية أو الحسابات الجارية أيضا. المجتمع يحتاج فقط ان يتوافق على ما يعتبره المال – وهكذا يصبح مالا. هذه المعرفة ليست جديدة، فقد صيغت بالفعل من قبل الفيلسوف القديم أرسطو: "ويطلق عليه اسم" المال" (نوميسما nomisma) لأنه لا يدين بوجوده على الطبيعة، ولكن لأنه" أكد على وضعه" (نوموسnomos) ولأنه يخصنا، إذ أردنا تغييره، أو وضعه خارج التداول.13

وبما أن ماركس أعتقد بأن المال يساوي الذهب، لكنه لم يستطع أن يشرح بشكل قاطع كيفية عمل القروض ولم يخرج عن نطاق الجزئيات إلا في المجلد الثالث من "رأس المال" الذي نشر بعد وفاته. حتى الماركسيين المقتنعين يساورهم اليأس: "ويعبرون بصراحة، هذه الفصول مبعثرة، على الرغم من انها تحوي أفكارا محفزة للغاية.14 كان ماركس أسير ورطة: وبما أنه اعتقد بأن المال سلعة، اصبحت كمية المال بالنسبة له محدودة. وأخيرا لا يمكن للمرء أن ينمي الذهب كما يشاء. وعرف ماركس في الوقت نفسه بأن الاقتصاد لا يمكن أن ينمو إلا إذا زاد المعروض من النقود – ودوما منح المزيد من القروض. ولكن من أين تأتي هذه الأموال الإضافية، وما هو سبب احتفاظها بقيمتها؟ بقيت هذا المسألة بالنسبة لماركس دون حل.

لقد افترض ماركس، بانه يجب التوفير أولا قبل ان يكون الاستثمار ممكناً. لقد كان يعرف بنفسه، بأنه لن تكون هناك أي سكك حديد "فالتراكم" الخالص، أي توفير الأصول، لن يكون أبداً كافيا لتوفير مجموع المبالغ الضرورية لبناء السكك الحديدية: كان احتياط رأس المال لخطوط السكك الحديدية الألمانية عام 1840، حوالي 58,8 مليون مارك، وفي عام 1850 لم يتجاوز 891,4 مليون مارك.15 خط السكة الحديد كان ثورة تقنية التي نشأت، بالمعنى الحقيقي للكلمة، "من العدم". حيث كانت في الماضي حقول فقط، فجأة أصبحت مسارات خطوط السكك. إلا الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز(John Maynard Keynes) وفَّر وصفا صحيحا لكيفية حصد القروض "من العدم"، وهكذا فقط امكانية تمويل النمو.

بيد أن ماركس، كان في حيرة. وبتعبير أدق، العاجز، إذ كتب: "سيظل العالم بدون سكك حديد لو كان عليه الانتظار حتى يحصل التراكم الذي قد يجلبه بعض الرأسمال الخاص، ليتسنى بدء التعامل في بناء السكك الحديد. لكن التمركز، أي عن طريق الشركات المساهمة، تمكنت من ذلك بلمح البصر". هذا الوصف صحيح فالشركات المساهمة نشأت لتمويل السكك الحديد. ومع ذلك، لم يكن هذا حلاً للغز المال. فالشركات المساهمة تعمل ايضا في الأساس برأسمال أجنبي، اي بقروض أجنبية. ويظل السؤال باقيا وهو ما لم يستطع ماركس الإجابة عنه: من أين أتت كل هذه الأموال؟

حتى العبقري يمكن أن يخطئ:
لقد أخطأ ماركس في بعض النواحي، ولكنه كان واحدا من المنظرين الأكثر ابتكارا على الإطلاق، كما تُبين بالفعل صدى اعماله الهائل. كتب الاقتصادي الأمريكي جون كينيث غالبريث (John Kenneth Galbraith) بسخرية: "لو لم يخطئ ماركس بشكل خاص، لكان أختفى تأثيره بسرعة. والعديد من الآلاف الذين كرسوا أنفسهم بتفان لإثبات أخطائه، لكانوا قد بحثوا عن وظائف اخرى".16 إن فضل، قيمة ماركس الدائمة، هي في وصفه لأول مرة بشكل صحيح لديناميكية الرأسمالية. الاقتصاد الحديث هو عملية مستمرة. الملكية لا وجود لها في حد ذاتها، وإنما توجد قيمتها فقط، عندما يتم إعادة تدويرها باستمرار. لا يمكن ابدا ضمان الدخل، الا إذا استثمر باستمرار.

لم تنتشر الرأسمالية الحديثة بالكامل، عند حياة ماركس. ولقد أدرك مع ذلك بأن الرأسمالية تميل إلى التمركز وعلى الدوام سوف تحل التكتلات الكبرى محل الشركات الصغيرة - حتى يتم القضاء على المنافسة إلى حد كبير. الرأسمالية هي ليست مجرد اقتصاد سوق، تتنافس فيه العديد من الشركات مع بعضها البعض. بل يسيطر احتكار القلة، ويهيمن عدد قليل من الشركات على الصناعات الرئيسية. علاوة على ذلك فإن ماركس كان الأول الذي فهم كيف ان التكنولوجيا حاسمة. الآلات ليست إلا أدوات الإنتاج - الابتكارات التقنية تحدد الرأسمالية. كل رجل أعمال يجب أن يستثمر باستمرار في العمليات والمنتجات الجديدة، إذا اراد البقاء على قيد الحياة وزيادة أرباحه. لقد كانت رؤى ماركس عصرية جداً، حتى أنها جعلت اقتصاديا آخرا- جوزيف شومبيتر (Joseph Schumpeter مشهوراً. أذ يُشهد للمنظر المحافظ حتى اليوم، بأنه "قدم أقوى التأويلات تأثيرا لشرح الراسمالية."17 ولكن قام شومبيتر في الواقع، بتفصيل أكثر لنظريات ماركس فقط، مع توفير استعارات جذابة، وحذف فائض القيمة - وقدم بطلا جديدا: رجل الأعمال.

لقد بين ماركس إجمالاً فقط، كيف يُحسّن الرأسماليون منتجاتهم أو عمليات الإنتاج، بينما يحددها شومبيتر الآن بخمسة متغيرات، التي يمكن اعتبارها ابتكاراً: منتجات جديدة وتكنولوجيا جديدة، وفتح أسواق جديدة، ومواد خام جديدة أو هيكل تنظيمي جديد.18 وبفضل هذه الابتكارات، يمكن لرجال الأعمال الحصول على ارباح إضافية، التي يطلق عليها شومبيتر "الارباح المضافة" ولم تعد "فائض القيمة المضاف" كما كانت هي عند ماركس. فكما هو الحال عند ماركس، فإن صاحب المشروع لا يمكن أن يفرح طويلاً بالأرباح الاحتكارية، أذ يظهر على الفور "سرب" من المقلدين الذين يأخذون هذا الاختراع، ويختفي الربح المضاف – وهذا ما هو مألوف حتى الآن.

لقد جاءت فروقات تتعلق بوصف الشخصيات. بالنسبة لماركس، فإن الرأسمالي عبارة عن "قناع شخصية"، الذي تتجسد فيه القوى الكامنة. بينما عند شومبيتر، فإن رجل الأعمال يسمو الى "النخبة" الإبداعية. بالنسبة له "صاحب المشروع" هو مخترع، ومبدع وهو زعيم ناشط، يريد اقامة "مملكته الخاصة" فهو مكافح بالفطرة، يريد أن يثبت تفوقه، ولديه ارادة "للفوز" و"متعة في التصميم". وكدخيل فهو يسبب بأن تحل "عاصفة التدمير الخلاق" والتي تجعل الرأسمالية في اضطراب مرة أخرى، وتحركها الى الأمام.

إن هذه المبالغة الجامحة عن النخبة الإبداعية ليست غريبة فحسب، بل انها لم تكن اصيلة. فهي مجرد نقيض لأطروحة ماركس فقط، كما ولم يكن هذا ممكنا من دون نظريته. لقد حاول شومبيتر "قلب ماركس رأساً على عقب"، كما وصف ذلك أحد مؤلفي سيرته الذاتية.19

ومع ذلك، ندين لشومبيتر بأنه على الأقل قدم إضافة هامة: فقد وصف بشكل صحيح دور القروض وتوصل الى أن النمو اقتصادي لا يحصل، إلا إذا تم انشاء المال "من لا شيء". ومع ذلك، فهو لم ينجح كذلك في تطوير نظرية شاملة للاقتراض، على الرغم من انه قد مكث سنوات لتأليف كتاب عن المال. ولم ينشر أبدا. لقد كان الموضوع معقد جدا.20 لا ينفي شومبيتر أبدا بأنه أخذ أفكاره الأساسية من ماركس فحسب، بل أثنى على سلفه على نطاق واسع: "كان ماركس كمنظر اقتصادي قبل كل شيء، رجل مثقف جدا. (…)وقارئ نهم وعامل لا يكل. وقد فاته عدد قليل جدا من مساهمات لها أهمية(…) وتعمق باستمرار في جوهر المادة ".1[2]

توصل شومبيتر إلى استنتاج وهو ما زال صحيحا حتى اليوم: "وصف ماركس عملية التحول الصناعي بشكل واضح، وأدرك دورها المركزي أكثر وضوحا من أي اقتصادي آخر في زمانه".22

 

الهوامش

01 Siehe auch Ulrike Herrmann, Kein Kapitalismus ist auch keine Lösung. Die Krise der heutigen Ökonomie oder was wir von Smith, Marx und Keynes lernen können, Frankfurt/M. 2016, S. 119 ff.

02 Karl Marx, Das Kapital. Erster Band, in: Marx-Engels-Werke (MEW), Bd. 23, Berlin (Ost) 1962, S. 49. Im Folgenden werden die Seitenzahlen direkt im Text angegeben und verweisen auf diese Quelle.

03 Vgl. David Harvey, A Companion to Marx’s Capital, London 2010, S. 9.

04 Siehe Friedrich Engels, Die Entwicklung des Sozialismus von der Utopie zur Wissenschaft, in: MEW, Bd. 19, Berlin (Ost) 1962, S. 189–228.

05 Siehe Statistisches Bundesamt (Hrsg.), Statistisches Jahrbuch 2015, Wiesbaden 2016, S. 511.

06 Zit. nach Hans Bürger/Kurt W. Rothschild, Wie Wirtschaft die Welt bewegt, Wien 2009, S. 18.

07 Vgl. Şevket Pamuk/Jan-Luiten van Zanden, Standards of Living, in: Stephen Broadberry/ Kevin H. O’Rourke (Hrsg.), The Cambridge Economic History of Modern Europe. Volume 1, 1700–1870, Cambridge 2010, S. 217–234, hier S. 226.

08 Siehe Statistisches Bundesamt (Anm. 5), S. 319.

09 Eric Hobsbawm, The Age of Empire: 1875–1914, London 1994, S. 53

10 Eduard Bernstein, Die Voraussetzungen des Sozialismus und die Aufgaben der Sozialdemokratie, Reinbek 1969, S. 65 f.

11 Ebd., S. 70.

12 Die gesammelten Steuerdaten sind bei der World Wealth and Income Database zu finden. Siehe http://wid.world.

13 Vgl. Aristoteles, Nikomachische Ethik, 1133a, 29–31. Siehe auch Ulrike Herrmann, Der Sieg des Kapitals, München 2015, S. 109 ff.

14 Harvey (Anm. 3), S. 331.

15 Vgl. Hans-Ulrich Wehler, Deutsche Gesellschaftsgeschichte. Bd. 2, 1815–1845/49, München 1987, S. 615.

16 John K. Galbraith, The Affluent Society, London 1999, S. 61.

17 Robert L. Heilbroner, The Worldly Philosophers, New York 1999, S. 293.

18 Siehe Joseph A. Schumpeter, The Theory of Economic Deve­lopment, New Brunswick 1983, S. 66.

19 Thomas K. McCraw, Prophet of Innovation, Cambridge MA 2009, S. 68 f.

20 Vgl. ebd., S. 155.

21 Joseph A. Schumpeter, Capitalism, Socialism and Democracy, New York 2008, S. 21.

22 Ebd. S. 32.

Ulrike Herrmann, „Das Kapital“ und seine Bedeutung*

APuZ. Zeitschrift der Bundeszentrale für politische Bildung, 76. Jahrgang, 26 /

2017, 26. Juni 2017

* ــ نُشر المقال في مجلة المركز الاتحادي للتثقيف السياسي ــ ملف خاص بعنوان رأس المال ــ والتي تصدر مع الصحيفة الاسبوعية "البرلمان"

** Ulrike Herrmann درست التاريخ والفلسفة، كاتبة وصحفية و تشارك في تحرير القسم الاقتصادي في الصحيفة الليبرالية اليسارية تاگستسايتنوگ (Tageszeitung- Taz)

*** صدرت ترجمة عربية للكتاب: توماس بيكيتي، رَأس المال في القرن الحادي والعشرين، ترجمة وائل جمال وسلمى حسين، دار التنوير للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى: 2016