في نصها تحاول الناقدة التونسية أن تتناول كيفية الاعتراف الاجتماعي بالعمل الفني والأدبي والفكري، وأثر العوامل النقدية المسيطرة، والمعايير الجمالية السلطوية المكرسة، والسياقات التاريخيّة والاجتماعية والسياسية في تحديد مستوى إبداعيته.

إشكاليات الاعتراف الاجتماعي بالابداع الفني والفكري

كاهنة عباس

كيف يمكن طرح إشكاليات الاعتراف الاجتماعي بالابداع الفني والفكري، خارج دائرة المعارك الشخصية؟

ترى، هل كانت حكايات ألف ليلة وليلة أو رباعيات عمر الخيام أو المقدمة ابن خلدون ستحظى بكل ذلك الاعتراف والانتشار لو لم يتناقلها الغرب بواسطة الترجمة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر(1)؟

لم اعتبرت بعض الأعمال الفنية من وجهة نظر بعض النقاد، "سابقة لعصرها"، فلم تنل ما تستحقه من الاهتمام إلا بعد مرور سنين عديدة بل بعد قرون أحيانا؟

ألم يعرف رواد الاتجاه الانطباعي من الرسامين في القرن التاسع عشر أمثال أيدقار ديقا Edgar Degas أو بول سيزان Paul Cézanne في فرنسا حالة من الاقصاء والتهميش، فلم لم تكتسب لوحالتهم التشكيلية قيمة فنية مرموقة، إلا في القرن العشرين(2)؟ أو لم يكن ذلك شأن الشعراء المجددين في تلك الفترة، أولائك الذين لقبوا "بالملعونين"، مثل أرتور رامبو Arthur Rimbaud وبول فرلان Paul Verlaine وشارل بودلار Charles Baudelaire فعاشوا نفس الوضعية(3)؟

الامر إذا، يتجاوز أزمة الثقافة العربية الاسلامية ويتعلق بمسألة أكثر عمقا وتعقيدا: ألا وهي اعتراف مجتمع ما في فترة ما من تاريخه بما ينجزه مفكروه ومثقفوه من فكر وأدب وفن وعلوم، لادماجها في منظومته الثقافية، باعتبارها تمثل قيما رمزية ومعنوية وجمالية.

الرأي عندنا، أن المسألة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسلطة، لا السلطة السياسية في مفهومها الضيق المرتبط بالدولة بوصفها المؤسسة التي تحتكر استعمال القوة بصفة شرعية حسب تعبير عالم الاجتماع الالماني (4)Max Weber، بل السلطة بمفهومها الواسع الذي لا يقتصر على تطبيق القانون بل يتجاوزه ليشمل العلاقات الاجتماعية باختلاف أنواعها ويتمثل في مجموعة من الاستراتجيات التي ترمي الى مراقبة تصرفات واختيارات الفرد قصد تطبيعها حسب رأي الفيلسوف الفرنسي Michel Foucault(5) ولكي تحقق السلطة تلك الاهداف، فلا بد أن تنتج المعرفة.

من هذا المنظار الذي يربط السلطة بالمعرفة الى حد التداخل، يمكن اعتبار كل عمل فني أو فكري جديد ضربا من ضروب المعارضة الاجتماعية والسياسية، لانه يطرح مجموعة من الرؤى والتمثلات تعيد النظر في أسس وآليات السلطة، وهو ما يفسر من وجهة نظرنا الصراع الدائم بين كل فكر مجدد وبين السلطة السياسية القائمة بالخصوص، عبر تاريخ الفكر الانساني.

لذلك، نستنتج أن مسألة الاعتراف ليست مرتبطة فحسب بالقيمة الفكرية والجمالية لأثر ما، بقدر ماهي مرتبطة بمسألة السلطة في مفهومها الواسع، فكل فكر يعيد النظر في مسلمات ومعتقدات المجتمع، بإحداث قطيعة معرفية وفتح أفق جديدة للفكر قد يحتدم بالرفض والاقصاء ليخوض صراعات، غالبا ما لا تنصف المبدعين والمفكرين الاكثر نبوغا من غيرهم، فتنتهي بالتنكر لهم قصد المحافظة على النظام القائم والقيم الموروثة.

فكم من فنان من مفكر ومن مبدع، تنكر له المجتمع ولم ينتبه حتى إلى وجوده ليعترف بمن هو أقل منه نبوغا؟ الامثلة عديدة نذكر منها: ما تعرض له الموسيقار الكبير فولنغانغ أماديوس موزار Wolfgang Amadeus Mozart من غبن حتى أنه دفن عند وفاته من طرف السلطة المحلية، كما يدفن عامة الناس(6)، النهاية المأساوية للرسام الهولندي المشهور فانسون فون قوق Vincent Van Gogh إثر انتحاره وما عاناه من فقر واحتياج(7)، ما أقدم عليه أبو حيان التوحيدي من حرق كتبه وما عاشه من فقر وتهميش(8)، والقائمة تطول لا يسعها هذا المجال، إذ لا تخلو منها أية ثقافة ولا أي مجتمع في أي عصر مهما بلغت درجة رقيه عبر التاريخ، ذلك لان مسألة الاعتراف لا تطرح كما هو شائع على أساس الكفاءة والانصاف والنبوغ فحسب، بل بمدى ارتباطها بالسلطة كما بيننا سابقا، ومدى قابلية المجتمع لاستيعاب أثر فني أوفكري ما، يتسم بالتجديد، حسب ظروفه التاريخية والسياسية والاقتصادية.

يبدو جليا أن مجتمعاتنا فاقدة لآليات ذلك الاستيعاب، نظرا لوجود قطيعة نسبية بين الفن والثقافة من جهة والمجتمع من جهة أخرى وهو ما يجعلنا نطرح مسألة مكانة العلم والفن والوظيفة التي تؤديها داخله وعلاقتها بالسلطة

فكيف يمكن الاعتراف بالبحوث العلمية التي تنتجها المؤسسات التعليمية مثلا في مجتمعنا، إذا ما اكتفى الباحثون بالحصول على شهائد علمية تمكنهم من الترقية في وظائفهم دون أن تدمج بحوثهم في الدورة الاقتصادية؟ ألا يقتصر الفكر في مثل هذا الحالة على أداء "وظيفة مؤسساتية" قد لا تخدم في نهاية الأمر سوى السلطة القائمة؟

وكيف يمكن الاعتراف بعمل فني ما، إذا كان الفن لا يبرز إلا في المواسم والمهرجانات باعتباره ظاهرة "عرضية" يقتصر دورها على ترفيه الناس مثلا؟ وما علاقة الادب بالتعليم والاعلام وجميع المجالات المعرفية أخرى مثل العلوم الانسانية بأصنافها، إذا كان ينشر دون أن ينتشر بين الناس لكي يستفيدوا من قيمه وجمالياته؟ ألا يعني ذلك أن المجتمع يحتكم لقيم أخرى غير الفكر والابداع؟

والنتيجة الاولى لذلك، هي اقتصار الفن والفكر على أداء دور وظيفي داخل المؤسسات سواء كان ترفيهيا أو تعليميا أو إيديولوجيا، مما يمنعهما من الانتشار الاجتماعي والتأثير أو الاندماج في الدورة الاقتصادية ويرسخ القيم الموروثة.

أما النتيجة الثانية، فهي فقدان الابداع لكل قيمة معنوية أو رمزية لعدم نجاعته وفعاليته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، كي يقتصر دوره على الاضطلاع بوظيفة تتمثل في دعم السلطة القائمة والدفاع عن مصالحها بصفة مباشرة أو غير مباشرة، مما يجعل مجتمعاتنا مستهلكة لفنون وعلوم غيرها من المجتمعات متبوعة لها اقتصاديا وثقافيا.

النتيجة الثالثة، ضعف المؤسسة المعنية بالتقييم مثل النقد الاكاديمي والاعلام الثقافي.

خلاصة القول، أن أهم العوائق التي تمنع مجتمعاتنا من الانخراط في التاريخ الانساني وتجديد فكرها وقيمها هي انعدام الاليات الكفيلة باستيعاب ما قد تنتجه من فكر وإبداع.

إذ غالبا ما تطرح مسألة الاعتراف في قالب معركة تدار بين شخصين أو فئتين، لتحديد مواقع كل منهما دفاعا عن امتيازاته، فتكتسي طابعا ذاتيا أو فئويا، وتهمش الجوانب الاخرى الموضوعية الاجتماعية والثقافية، لتبقى في إطار "المسكوت عنه".

فلم تفلح مجتمعاتنا بعد، في إعادة النظر في تاريخها وتراثها بعمق وجدية، لما يحيط مثل ذلك العمل من محظورات وموانع عقائدية وسياسية واجتماعية، وهو ما جعلها عاجزة عن صياغة مشروع أو رؤية ثقافية جديدة .

لذلك علينا أن نطرح ألف سؤال وسؤال، إزاء بعض الظواهر المثيرة للجدل مثل: تفضيل القديم على الحديث، ترسيخ سلطة الشيوخ وتهميش الشباب، تقديس الأسلاف وقتل كل المبدعين معنويا واجتماعيا أو تهجيرهم، التنكر لأية موهبة أو إبداع لغياب أي مشروع مجتمعي قادر على إنتاج قيم معنوية ورمزية جديدة، ترسيخ النقل بوصفه الالية الوحيدة والممكنة للتواصل مع بقية الشعوب.

فحين يقتل الابداع معنويا واجتماعيا وسياسيا، لن يبقى لمجتمعاتنا سوى الاستمرار والتواصل من خلال نقل ما أنتجته شعوب أخرى من معلومات وعلوم وآداب وفنون وتقنية والتشبث بما قاله الأسلاف، مما يجعل الفكر يقتصر على التفسير والتأويل دون خلق مفاهيم جديدة.

* * * *

المراجع

ملاحظة: ترجمت حكايات ألف ليلة وليلة في القرن الثامن عشر إلى اللغة الفرنسية من طرف Antoine Galland، وترجمت رباعيات الخيام إلى الانقليزية من طرف الكاتب والشاعر الانقليزي Edward Filzgerald، وترجمت المقدمة لعبد الرحمن ابن خلدون من طرف المستشرق William Mac Gukin du Slane في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حسب المراجع الثلاث التالية:

(1) Les Prolégomènes D’Ibn Khaldoun (732- 808 de l’hégire), (1332-1406 de J.C) traduits en français et commentés par W.Mac Gukin du Slane (1801-1878), 1863, Première Partie, document produit en version numérique par Pierre Palpant, page14-17.

- Première Traduction en Français des mille et une nuits par Antoine Galland, André Miquel, article publié sur le site France Achives.

- Les lectures de Khayyâm en France, Sarah Mirdâmâdi, article publié sur le site la Revue de TEHERAN Nº59, octobre 2010.

(2) Impressionnisme (Dossier), Encyclopédie Larousse, en ligne.

(3) Les poètes maudits par Paul Verlaine, (Poètes .com).

(4) Le savant et le politique, Max Weber, Page 29, édition.

(4) électronique, réalisée par Jean Marie Tremblay, dans le cadre de la collection «les classiques des sciences humaines».

(5) ملاحظة: اشتمل المقال على تعريف للسلطة من وجهة نظر الفيلسوف ميشال فوكو دون تبني مقاربته:

- Cours dialogique de Daniel Colson et Philippe Corcuff Université populaire de Lyon, 22 mars 2010, Michel Foucault (1926-1984) et le pouvoir–quelques extraits de textes: Surveiller et Punir, Naissance des prisons (Paris Gallimard, collection «Tel» 1975) en ligne.

(6) Les funérailles à Vienne en 1791 et l’enterrement de Mozart,

Agnes Selby, Traduction française Emmanuelle et Jérome Pesque, Essai publié en anglais entre 20 et 24 Juin 2002, site:

http://www.openmozart.net/openmozart/jsp/index.jsp.

(7) Encyclopédie Larousse en ligne, Vincent Van Gogh

(8) رسالة لابي حيان يعتذر فيها عن حرق كتبه، ويكي المصدر، معجم الادباء ياقوت الحمري.