كتبت تلك الرسائل على مدى 18 عاماً حتى وفاة فان غوغ عام 1890، وتظهر أن صاحبها لم يكن فقط فناناً بل أديباً يكتب عن الحياة من وجهة نظره، ويتحدث عن المعرفة والموسيقى والأدب وعن بيوت الدعارة وقصص الحب الحزينة وعن الصراعات العائلية واللوحات التي رسمها، وفي نهايات أيامه كتب عن الشجن والمرض والاضطراب النفسي.

«رسائل» فنسنت فان غوغ ... حياة عميقة

السيد أمين شلبي

انضم إلى المكتبة العربية أخيراً كتاب «المخلص دائماً... فنسنت» (دار كتب خان)، بترجمة دقيقة وموثقة أنجزها ياسر عبداللطيف ومحمد مجدي. يضم الكتاب الضخم 265 خطاباً من رسائل الفنان التشكيلي فان غوغ (1853 – 1890)، إضافة إلى 108 اسكتشات أصلية وصور في الفترة من 1872 – 1890. كتبت تلك الرسائل على مدى 18 عاماً حتى وفاة فان غوغ عام 1890، وكما كتب محرر الترجمة فإنها تظهر أن صاحبها لم يكن فقط فناناً بل أديباً يكتب عن الحياة من وجهة نظره، ويتحدث عن المعرفة والموسيقى والأدب وعن بيوت الدعارة وقصص الحب الحزينة وعن الصراعات العائلية واللوحات التي رسمها، وفي نهايات أيامه كتب عن الشجن والمرض والاضطراب النفسي.

وكان من الطبيعي أن تجذب حياة فان غوغ المؤرخين، ومن أبرزهم روبرت غولد ووتر؛ أستاذ الفن في نيويورك Queen’s College، الذي رأى أن «فنسنت» حين أطلق النار على نفسه عندما كان في السابعة والثلاثين من عمره، أنهى بذلك واحدة من أقصر مسارات الحياة الناجحة والمتألقة في الفن الحديث، ففي أقل من عشر سنوات خلق سجلاً لا ينسى من اللوحات التي لا تخلو من الدراما الباطنية لحياته، ومن البحث العاطفي عن الجمال، وقد ساهم عمله في ثورية الفن في القرن التاسع عشر، وأثراه بطاقة عاطفية معبرة، في تموز (يوليو) 1880. وقبل عشر سنوات من نهاية حياته كتب فان غوغ إلى شقيقه ثيو عن قراره أن يصبح رساماً، كان عندئذ في السابعة والعشرين من عمره، وقد حاول، من غير نجاح، أن يصبح تاجر لوحات، وبائع كتب، ومبشراً بروتستانتياً، وعانى من الشك الغاضب في أنه لا يصلح لشيء على الإطلاق. وبالنسبة إلى عائلته البيوريتانية؛ كان يبدو كسولاً وغريب الأطوار. والحقيقة أنه كان صاحب دعوة، وإن لم يكن يعرف ماهية هذه الدعوة. ولم ينفصل فان غوغ الرسام عن ماضيه، فالأحداث الدرامية موجودة في مسيرته، حيث بدا أنه تحت رحمة قوى خارجية أو عوامل لا يمكن التحكم فيها داخله، غير أنه لا يجب على الإطلاق أن تحجب تصميمه الصامد والذي قرر به مسيرته. هو لم ينجح كتاجر لوحات لأنه حاول أن يغير ذائقة عملائه من خلال الحجة، وكمبشر كان صادقاً ومحسناً في شكل حقيقي، يحمل إنجيله إلى التطبيق المباشر، وقد أعجب بالشفقة في الأدب كما بدت عند شكسبير وديكنز وهوغو، وفي الفن عند رامبراندت ودومير وميليت، والحب الذي أعطاه للنساء يبدو حياً في لوحاته، وكان يتملكه الذعر من بؤس أحياء لندن الفقيرة، وكان في ذاته فقيراً «أبدياً» ووجد في شخصيات أحد موضوعاته المهمة، وقد بلغ قراره أن يكون رساماً ببطء وألم، والآن صمّم على أن يعمل من خلال الحائط الحديد الذي يبدو أنه يقف بين ما يشعر به المرء، وما يستطيع أن يفعله، ولكي يقوض هذا الحائط وأن ينفذ من خلاله ببطء وصبر مدركاً «إن الأشياء العظيمة ليست نتاج المصادفة، ولكن بالتأكيد نتيجة للإرادة».

وهكذا كان فان غوغ رساماً لمدة عشر سنوات، وأنتج عمله الناضج في أعوام أقل، لأن الاستعداد كان مطلوباً، وفي بروكسيل يزور المتحف ويدرس التشريح، وقواعد الرسم المنظوري، ثم يقضي شهوراً في وطنه، وينهي بحب غير سعيد، وسوء فهم مع أبيه، ثم ثلاثة شهور في أنتورب، وفي شباط (فبراير) 1886 حيث إن اندفاعه الحاسم ليلحق بأخيه ثيو في باريس.

في هذا الوقت كانت موضوعاته تدور حول الحياة والمناظر الطبيعية، وأحبابه الفلاحين، ورسم سلسلة من رؤوس الأشخاص، وأكلة البطاطا، وكانت لوحاته داكنة تقوم على تقليد رامبراندت، وميليت، وكورت، وأضفى على أشخاصه الخشونة ولكن بتعاطف وكرامة.

في باريس كان الانطباعيون، بتشكيله ألوانهم وضربات فراشاتهم الواسعة، مصدر الإلهام العظيم، وكان مهيأ لذلك بدراسته لديلاكروا، وحماسته لروبينز، ولكن الآن تحولت لوحاته وأصبحت واضحة ومضيئة. وفي باريس أيضاً اكتشف البصمة اليابانية التي ألهمته جرأة جديدة في التصميم، وأصبح يعرف تولوز ولورتس، وبيسارو وديغا، وسرات موغوغاتي وغوغون، وعُلقت صوره الزيتية إلى جانب لوحاتهم في محلات التجار، ومثلهم رسم البوليفارز، وأعالي مونمارت، والأعلام يوم الباستيل، ولكن عمله اتسم بقوة الهجوم الخاصة به. وفي شباط 1888، وبعد عامين من وصوله إلى باريس، غادر فان غوغ إلى جنوب فرنسا، وفي مدينة أرتز كانت آخر مراحل حياته وأكثرها إنتاجاً، وهناك حلّت الثلوج ولكن سرعان ما حلّ الربيع وشمس الجنوب التي ألهمته المجد المفاجئ، والنمو الربيعي الذي دفعه إلى الخصوبة الفنية الهائلة. وكالعادة، كان بلا نقود يعتمد في شكل كامل على كرم أخيه ثيو، ومع هذا كان مليئاً بالتفاؤل، وعثر على أحباء وأصدقاء بين مواطني أرلترز، وكان يرسم من دون إضاءة في غرفته، وفي الحقول والشمس الحارة، وفي المقاهي في المساء مخرجاً لوحات تتسم بالسرعة ووضوح الرؤية والرسوخ. في هذا الوقت استأنف رسائله إلى شقيقه ثيو وفيها تستطيع أن تتابع، غالباً يوماً بعد يوم، تفاصيل حياته، والقلق الدائم حول المال، ولأنه لم يحصل أبداً على ما فيه الكفاية كان عليه أن ينفق أقل، وكان أمله المستمر، المحبط دائماً، أن تباع لوحاته. وهو أودع رؤيته الطابع الجوهري لموضوعاته ورغبته في التعبير من خلال الألوان؛ هذه المراسلات مع شقيقه، ومع زملائه الفنانين (فإن رابرارد؛ إميل برنارد؛ وغوغان) هي واحدة من أعظم وثائق الخلق الفني، وشهادة على ثبات فنه، وقد جاءت هجمات مرضه (الذي شُخص أحياناً كصرع، ولكنه لم يكن مؤكداً)، في اليوم السابق على عيد الميلاد عام 1888، حين كان غوغان معه في آرلز، وسريعاً ما أصبح في حالة جيدة. ولكن في أيار (مايو) 1890 انتقل إلى أوفرت ليكون إلى جانب ثيو وزوجته وابنه، وهناك استمر في الرسم في شكل محموم ولكنه أصبح سوداوياً في شكل متزايد. وفي تموز 1890 أطلق النار على نفسه. لم يكن انتحار فان غوغ نزوة غير متعمدة، وكان على مدى عشر سنوات، على وعي بإمكانية الجنون، ولمدة عام ونصف عام أصبح عمله متقطعاً، حيث ووجه بإمكانية أن لا يصبح قادراً على العمل على الإطلاق، وأن ضميره لم يكن يحتمل أن يكون عبئاً على شقيقه.

لوحات فان غوغ، صنعها رجل تحت ضغط مفرط من الحساسية، ينقل بصيرته وشعوره المباشر، وعقيدته الراسخة، ولكنه أيضاً عمل رساماً كان لفنه معنى يصدر مِن منهجية التصوير. وهو لخّص رؤيته بقوله: «إنني أؤمن بالضرورة القصوى لفن جديد للون والتصميم والحياة الفنية». هو خلق مثل هذا الفن، ومن ثم فتح الطريق للآخرين الذين ألهمتهم حياته.

 

الحياة اللندنية