تقدم الروائية المصرية نمطاً سردياً يقارب كثيراً نمط المنلوغ الداخلي بالرغم من استخدام ضمير الغائب في السرد لشخصية مثالية تعشق الجمال والطبيعة والحقيقة فتنعزل تماما عن محيطها الأجتماعي الضيق، وتتعرض للسخرية وما يصاحب هذا الوضع من تشوهات نفسية تعرضها بتفاصيل دقيقة مترعة بالدلالات.

رواية العدد

لأنه كان حكاية أخرى

مروة متولي

 

إهداء

إلى أبي في سفره البعيد

 

هي الكلمة، فامض في إثرها واتبعها حيث تسير.

المواوي

 

(1)

لم يعد يدري أين يكون، لم يكن قادراً على تحديد مكانه بعد أن سار طويلاً فوق ما يحتمل. في ليلة طويلة من ليالي شهر "كيهك" الباردة، وبخطوات دامية، كان قد خرج من "المرتاحية" لا يصطحب سوى شرفه المهان، وكلبه الأسود البائس الصامت، وسنوات عمره الثمانية عشر، ذهب في الاتجاه الذي سيرغم على عدم العودة إليه، أخذ يتبع مسار النهر الذي يجري في هذه الأرض منذ آلاف السنين. هو ابن هذه الأرض التي يحبها كثيراً، ابن هذه الدلتا الخاضعة، ولا شك في أن الخضوع مألوف لديه هو الآخر، وأنه قد أحب هذه الأرض تماماً مثلما أحب الكلمة، أما أن يظل خاضعاً مثلها فهذا يعني انتهاء أمره، لذا كان يتشبث بالكلمة التي كانت تمكنه من أن يرى أبعد منها، وأن يفلت منها عبر الأعلى وسط بحار من الضوء.

كانت حياته في الواقع إحدى المآسي الحقيقية، من شك إلى شك كان يمضي، لم يكن يطمئنه سوى وجود النهر في حين أن مصيره مجهول تماماً، وأنه لا يزال إلى جواره، ذلك النهر العظيم الذي لم يستطع بفيض حكمته أن يطهر كل هذا الدنس، حقيقة كان حتى ذلك الحين يجهلها. في فيض من الفراغ، دون خوف تقريباً، بدأ يشعر بتلاشي كل صوت من حوله، فلا رفرفة لجناحي طير، ولا حفيف لأوراق شجر، ولا صفير أو طنين لحشرة، شعر بهدوء غريب، ثم أخذ يشعر بالمزيد من الهدوء، وفي لحظة أصبح كل شيء صمتاً، سقط على الأرض ولم يكن واثقاً من أنه لا يزال يتنفس بين ثانية وأخرى.

على هذه الأرض يتعلم المرء كيف يرضخ، الأرض التي تمتص بسعادة قطرات دمه الذي كان يسيل من جراحاته العديدة بعد أن نهشته وحوش الفصيلة الإنسانية، هو الدنيء المُزدرى، الذي حُكم عليه بحرمانه من الكلمة ومن إيمانه المطلق بحقيقتها، وكيف يتخلى عما تقوم عليه حياته؟ هو صاحب الكلمة أو شيطانها كما يسمونه، لذا كان يستحق أن يعاقب عقاباً صارماً. إنها الكلمة إذن، لكن أية كلمة تلك التي تقود إلى مثل هذا المصير الذي يفوق بفظاعاته كل رعب آخر يصوره الخيال، الأسوأ مما يمكن لأي إمريء أن يتخيله، إنها الكلمة التي كان يقرع بها أدمغتهم فتهتز لها أعصابهم ويرون أنفسهم عبيداً دونها، كانوا يسمعونها بنوع من الرعب والريبة ويعيشون في خوف مستمر من تكرار سماعها، ويخشون أن ينتهي الوزن الكبير لها بالانتصار.

من أجل هذا كان الجميع يجتهد في إيذائه، كل حسب طريقته، إلا أن كلماته كانت هي دائماً الأشد أذى والأكثر إيلاماً في فعل الخداع نفسه، هل كان يدرك أية قشعريرة رعب يبعثها فيهم حين يتكلم؟ هل كان يدرك وهو في خضم إحساسه بالحقارة الكاملة أنهم كانوا يشعرون شعوراً فظيعاً بالإهانة، على الرغم من أنهم كانوا يتصلبون بوضاعة ضد كل ما يقول ولا يبدون الاهتمام أبداً، هل كان يعلم أنهم وعلى الرغم من انعدام الأحاسيس لديهم، وعلى الرغم من أنهم كانوا يفضلون العيش في تبعية، إلا أنهم كانوا يضمرون حقداً شديداً على كل حر.

في هذا العالم، على هذه الأرض، لا مكان له. في فيض من الكراهية كان كل ما يحيط به يجبره على أن ينكمش خجلاً في أضيق حيز يمكن أن يسعه كشيء غير مبرر أوجدته الطبيعة، وألا يحاول عبور تلك الهوة متعذرة الاجتياز بينه وبينهم، وذلك التنافر المرعب، كان يبدو للوهلة الأولى رجلاً عادياً، إلا أن كلماته كانت خارجة عن المألوف، تترك انطباعاً غريباً ومستهجناً لدى الناس، كان يقلقهم كل ما يقول ويفعل، وكان لزاماً عليهم إما أن يعلمونه الصمت، أو يرغمونه على الكذب وقول السخافات وتحويل كلماته إلى حماقات كبرى، كان لابد من تخدير تلك اليقظة، ومعاقبة ميله اللامغتفر إلى كل ما هو جميل وحر، كانت مقدمات لنهاية فظيعة، نهاية محزنة وغير سارة، وذلك زمناً طويلاً قبل أن يكون هو قد تنبه لهذا.

كان ينبغي أن يحدث ما حدث له مهما يكن معقولاً أو عبثياً، كانت أفكاره خاطئة وكانت لها عواقب وخيمة، إن موقفاً مخالفاً لما هو سائد في بلدته يعد جريمة كبرى، أو نوعاً من الجنون على أقل تقدير، وإن كان تصرفاً ناتجاً بشكل منطقي جداً عن قناعاته، أن يكون هو الاستثناء وأن يخالف كل ما ينتظر منه، أن يخرق بأفعاله قوانين نظامهم، كان ذلك يعني تعاسة وشقاء لا مثيل لهما.

عليه أن يكون كما تتصوره مخيلتهم تماماً، عليه أن يتكلم كما لو كان من عالمهم، كان عالمهم من أقبح ما يكون، وكلما زاد القبح، زادوا تمسكاً بذلك القبح، وكانت العادات المتينة الفاسدة تتقوى في كل يوم، كان مبعداً ملعوناً في عالمهم هذا، كما لو أنه قد انبثق من الأرض بضربة من عصا الشيطان، كان يطلق كلماته النارية على الناس وهم في سباتهم، كان يرغب في اقتسام الجمال معهم، ويقول أنه لابد لهذا القبح أن ينتهي، وأنه سوف تتولد عن ذلك نتائج مدهشة، لكن أنى يجد آذاناً تسمعه، فطموحاته وكلماته الغامضة الجهنمية ذات الإيحاءات المرعبة، هي شيء أكثر من مخالف بالنسبة للعقول التي يتوجه إليها.

يحق للمرء أن يدع حياته، وأن يقبل الدم عوض القهر، بحيث يرفض أن يعيش بمجرد علمه بأنه سوف يفقد تفرده الخاص، كان قد آمن بصدق كل ما عاش من أجله، فقد كان الصدق إحدى عاداته المزعجة، وكان يؤمن بأنه يملك مزية طيبة، وأن مهمته هي الحفاظ على تلك المزية، وكان يتعجب كيف تعمى أعينهم عن بريقها.

إنه يشعر بقوة خلاقة هائلة في داخله، يملك قوة ما في القلب والعقل، يملك الفكر والتمرد، يتخيل ما يشاء من الخيالات، إنها تحت تصرفه، كما أنه يملك القدرة على رؤية الجمال، من مثله يعرف كيف يتذوق جمال كل شيء، إنه يتميز على الآخرين ويرى أن ذلك يمنحه الحق الثابت في التمتع بالتقدير، وفي أن يمنحونه ذلك القدر من الاحترام الذي يطالب به تماماً. لم يكن ليترك الرياح تجري على أعنتها، لديه من الذكاء ما يكفي ليجد أحسن الوسائل لبلوغ أهدافه، يكفيه أن يسمع النبرة التي يتحدث بها هؤلاء، إن بلاهتهم ليست إلا أقنعة تخفي حقيقتهم الداخلية، وعليه أن ينطلق باحثاً نحو دوافعهم الأعمق والأقوى والتي يمكن أن تذهب بهم بعيداً.

هل كان الأمر مجرد سوء فهم ورفض متبادل؟ هل أخطأ الناس بشأنه؟ أم أخطأ بشأنهم؟ هل كان هو من أبعدهم عن نفسه؟ أم هم من أبعدوه عن أنفسهم؟ هل كان يريد إنقاذ نفسه منهم؟ أم كان يريد إنقاذهم من أنفسهم؟ إنه الوحيد الذي يعرف، وإنه الوحيد الذي يمكنه ذلك، لماذا يظن أن ما يعرفه يتجاوز حدود ما يعرف الناس؟ وأن له الحق في أن يقرر وحده ما هو النافع بالنسبة له وللآخرين، أن يحيا ويتصرف كما لو كان أفضلهم، لماذا يتمنى لو يمتلك تلك القوة الخارقة التي تمكنه من الاستحواذ على خيالهم؟ لماذا يحاول أن يجعلهم ينطقون باسمه؟ أن يراهم ممتلئين بموافقاته ومعارضاته؟

لماذا يريد أن يفرض عليهم الاحترام والامتنان تجاه كل ما كان يبدو له فضلاً كبيراً؟ لماذا يريد لنفسه أهمية أكبر مما لها؟ لماذا كان يريد أن يتكلم دون أن يوقفه أحد وأن يجعل من تلك الكلمة واحدة من أكبر متع الدنيا لديهم؟ لماذا يضع كلماته في تلك المرتبة العالية بحيث يرى أنه لا يمكن للمرء البتة أن يستخف بها، بل لا يمكن للمرء سوى أن ينحني أمامها اعجاباً، لماذا ينكر أن لأغلب الناس الخيار في الواقع في أن يقرروا ما يشاؤون؟ لماذا كان يرغب في أن يحطم وهم ما يعتقدونه من أنهم أسياد كل شيء، ويصر على أن يريهم مقام الخضوع العظيم الذي يبجلونه؟ بينما كانوا يريدونه أن يخضع لهم سواء على مضض أو عن طيب خاطر.

يستعبدهم ويستعبدونه، كيف يكرههم على الحرية؟ كيف يمنحهم الجمال رغم أنوفهم؟ إنه الإكراه الأقوى والأشد عنفاً، أن يصلح شعورهم الفاسد، أن يجعلهم أتباعاً للحرية، عبيداً لها تحت هيمنته، ألا يرغب في خضوعهم المطلق له؟ هذا المجهول المرعب كيف السبيل إلى ترويضه؟ كيف يتمكن الفرد الأضعف، من أن يجترح سبل العقل التائه في رؤوس البلداء الأقوى الذين يحاربون وعيه الفكري الملوث المشوه؟ فالمعاناة قاسية جداً، والويل لمن يريد المجازفة. لطالما اعتاد فظاظتهم، إلا أن ذلك التحول الأخير كان شديد القسوة ككل الحقائق البراقة، وعلى الرغم من أنه كان يمتثل لما حدث باستسلام كامل، باستسلام مريع، إلا أنه لم يكن يصدق ما يجري.

من دون توقع بتاتاً وجد نفسه خارج المرتاحية، لا يعرف أين سيكون وما قد يصل إليه، هكذا وجد نفسه في الطريق إلى مكان آخر، مكان مختلف لم يكن يعرف، كم كان مؤلماً أن يفر من بلدته خوفاً على حياته البخسة المحتقرة مرغماً على الحرمان منها، أن يغادر تلك الأرض التي لا تتسع لغيرهم كي يزيدوا من مصائبها وخسائرها، أن يهرب من تلك الوجوه المرعبة التي كان يظن أنه يألفها على الرغم من كل شيء، ومن تلك النفوس التي كان يظن أنه يستشعر بعض الأنس بالقرب منها وإن تباعدت الأرواح والعقول. فمهما يكن من أمر يظل هناك ما يربطه بهم، ألا ينتمي إلى تلك الأرض؟ ألا ينتمي إلى أهلها؟ على الرغم من أنهم كانوا كالأضداد التي لا يمكن أن تتواءم أبداً، ومن المستحيل أن يشاركوه مشاعره أو يشفقون عليه أو يتوجعون لما يتوجع.

كان يريحه بعض الشيء أنه لم يمت تحت أيديهم، ولم يمكنهم من الرقص على جثته، كان من الممكن أن يشربوا دمه ويأكلوا كبده ويعبثوا بأعضائه في فجور حقيقي، لم يكونوا ليتورعوا عن فعل كل ذلك مما يعدونه من علامات الرجولة ودلائل الجرأة، فهم لا يشعرون بالتعاطف مع بعضهم البعض، يرقصون للدم ويصفقون للقاتل، يطربهم الدم وتهتز خصورهم على إيقاع حشرجات المحتضرين.

رأى بنفسه إلتماعات أعينهم حينما تلطخت أيديهم بدمائه النافرة، وكان هذا ما أمده بتلك القوة الغريبة التي مكنته من أن يتلقى الطعنات واقفاً من دون أن يسقط تحت أقدامهم، ومن دون أن يتعثر أثناء ركضه، طاردوه قليلاً وكادوا أن يمسكوا به، إلا أنه كان واثقاً من بلادتهم وخمولهم الذي يفوق بثقله كل رغبات الشر في نفوسهم، وأنهم لن يبذلوا من الجهد الكثير للحاق به طالما قد فر، كان يعرف جيداً أنهم سيعودون للجلوس كل أمام بيته في انتظار عودته مرة أخرى إلى جحيمهم، هم بلداء حقاً، ويجب عليه ألا ينسى ذلك، إلا أنه لا يزال يشعر بهؤلاء البلداء ينهشونه نهشاً ويقطعونه تقطيعاً.

كان للنهر ذلك المساء مذاق المر، ولمويجاته السوداء رائحة الكآبة، كانت آلامه كثيفة وكان عليه أن يمضي بعيداً في آلامه تلك بشكل غامض دون أن يقصد ذلك، كل ما حوله ينضح بالكذب، ولم يكن هناك ما هو حقيقي، حتى هو، كذب في كذب، هو لا شيء. يرقد على حافة النهر كجماد لا حياة فيه، لا يستطيع تحريك لسانه بكلمة، ينظر إلى نجم ضعيف يكاد يظهر في رقعة السماء، يسمع صوتاً كان يوماً صوته يقول: أنا رب الكلمة وزمامها في يدي.

ينوء بحمله عاجزاً، ذلك التعس الذي يحمل جرحاً في القلب، أحبط الخوف مسعاه، وانتهى به المطاف إلى حيث لم يرد، فهو قد غادر بلدته، كما لو كان هو تلك القطعة الخبيثة التي يجب بترها، ترك بيته ووروده الحمراء الجميلة، ترك المرتاحية لهؤلاء الذين لن يجعلوا فيها مكاناً للجمال بعد اليوم.

لم يبق أمامه سوى الآفاق المجهولة، ينتظره الترحال الطويل وكل ألوان الكد والعناء، شتى هي أوجاعه، وعليه أن يستمر في تلقي العذاب دون توقف، وأن يروض قلبه على المكابدة بعد كل ما رأى، ويا لهول ما رأى، الكراهية والغلظة والقسوة، والشر الذي يغلب على كافة الأمور، الوحوش الضارية في هيئة البشر. هؤلاء "المرتاحيون" يجب ألا ينسى فظاظتهم، يجب ألا ينسى ذلك الدم الذي يسيل من روحه بفضل طعناتهم.

قومه قوم غدر، ليس لهم وازع من ضمير، لا يلزمون حدوداً ولا يخافون عقاباً، أراد لهم فجراً فتمنوا له الموت، رق لهم فحقدوا عليه، كان يعذبهم أن يكون حراً، كان يعذبهم أن يفكر، أن يصرخ، كان يعذبهم أن يكون حياً.

متى يندحر هذا الهم وينحسر هذا الحزن، ألا ينبغي أن يكون المرء سعيداً؟ يتساءل المكدود الذي لا تشرق روحه ولا ينبض قلبه، جدير به أن يألم لما أصابه من هوان، إنه لعزيز عليه أن يناله ما ناله وهو صامت لا يفوه بكلمة، أن يلقم المر في فمه يلوكه على مضض.

هدمه ما جرى، أسكته يأسه وحل في قلبه الرعب، إما أن يظل حياً أو يكون العكس، الواقع أنه لا يزال على قيد الحياة والواقع أنه كان اختباراً قاسياً لصدق كلماته التي كان يظن أنه بإمكانه أن يموت في سبيلها، لكنه لم يكن يعرف كم هو مخيف ذلك الموت، وأنه حين يطل بوجهه الجهم لن يملك إلا أن يهرب فزعاً، كان ذلك يضرم النار في نفسه ويزيده حسرة على الكلمة التي لم تتكيف مع معنى الحقيقة المر التي يمتلئ بها فمه، تلك الكلمة التي فتحت كل أبواب الشرور، وكان الأمل أسوأ هذه الشرور. مهما يكن من أمر، تبقى الحقيقة التي تقول أنه قد مضى بعيداً عن بلدته خوفاً من بطش أهله، جباناً مرتعداً يفر من الموت، وأنه راح يضرب في الأرض عله يصل إلى المكان الذي عليه أن يستقر فيه، لكن أنى له أن يعرف ما يخفي القدر.

 

(2)

كان يسعى إلى صياغة أخرى لشكل الحياة، صياغة أخرى للبشر، للوقت، للمكان، لكل شيء من حوله، فن ما لم يكن يعرفه، لكنه كان يشعر بضرورته وبالحاجة الشديدة إليه، كان قد سلب كيانه وكان يفتح أمامه آفاق ذات جمال بلا حدود، لم يكن ما يفعله نوعاً من التسلية أو تزجية الوقت، إنما كان يستجيب لحاجات أبعد عمقاً جداً في نفسه، عندما كان ينظر إلى السحب المتكاثفة في السماء، كان يشعر أن لديها الكثير لكي تقوله، وأن لها وظيفة أخرى أكبر من أن تمطر على تلك البقعة من الأرض ثم تمضي بعيداً، وعندما كان يرفع بصره إلى السماء، كان يعرف أن تلك السماء الممتدة بلا حدود، إنما هي إشارة لذلك العقل ولتلك الروح أن انطلقا وأنه لا حدود لشيء، وأن ذلك النهر الذي لا يتوقف أبداً، إنما هو الحياة التي ستتخذ طريقها في كل الأحوال.

لم يكن يفتح قلبه إلا للنهر، كانت هناك صداقة عميقة بينه وبين النهر، وكان يطلعه على كل شؤونه وأفكاره ومشاعره، أما الألوان فكانت تسحره تماماً، وكان من الممكن أن يقضي الساعات وهو يتحدث عن جمال إحدى وروده الحمراء واصفاً روعتها وروعة لونها الذي يدفئ العين والروح، ذلك اللون الأحمر الذي يحمل المعنى المكثف للحياة، كان يتكلم بحماسة صادقة عن ذلك الجمال، لكنه لم يستطع أبداً أن يجعل أحدهم يسمع كلماته تلك، ولا أن يجعل أحدهم يرى ما يراه، فشل تماماً في أن يجعل أحدهم ينظر إلى إحدى وروده الحمراء من دون أن يفكر في طريقة ما لأكلها، أو من دون أن تغلبه رغبة عميقة في أن يمسك بها ويقطع أوراقها في غل شديد، وأن يجد في ذلك متعته، هؤلاء الذين يشوهون هذا الجمال يتمنى لو تبتلعهم الأرض.

لم يكن يدري هل كان عليه أن يسعى لخلق حياة أخرى أم أنه يكفي أن يعيش الحياة على ما خلقت عليه؟ فما أجمل السماء والنهر والنباتات والقمر والشمس والنجوم والطيور والحيوانات، ما أجمل كل هذه الأشياء على صورتها التي هي عليها، كان ذلك يمنحه متعة هائلة ويزيده قناعة بكل ما يريد أن يفعل، لكن أي جمال يمكنه أن يضيفه إلى هذا الكون؟ ربما لا يمكنه أن يضيف شيئاً، ربما بإمكانه فقط أن يضاعف ذلك الجمال، بأن يعيشه، بأن يراه، بأن يمارسه، بأن يعيد إنتاج هذا الجمال في صور أخرى، لكن ما أقبح البشر، كان أمامه فكرتان، إما أن يجبرهم على الانسجام مع الجمال الذي يراه، أو أن يقضي عليهم تماماً.

هو مهزوم منذ البداية في معركة سخيفة، هل كان بحاجة لأن يعيش شيئاً غير الحقيقة، ومن قال بأن الجمال ليس بحقيقي؟ ألا يحيط به ذلك الجمال؟ ألا يراه؟ لماذا كان شعوره إذن بأن ذلك الخيال هو الفرصة الوحيدة للاحتفاظ بالحياة، كي لا يموت عندما يقف وجهاً لوجه أمام الحقيقة، إن خيالاً جديداً ينبثق كلما مات خيال آخر، خيال يحمل كل الحب الذي لن يعيشه، وكل السعادة التي لن يعرفها.

في عالم عواطفه الحميم لا حد لنشواته وجيشاناته المذهلة، كان قلبه المتلهف واهتمامه الدقيق بالجمال يخلق لديه الرغبة في أن يعيش الجمال لا أن يتصوره، الجمال النهائي، ذلك الجمال الذي لا يشحب، الذي كلما زاد تأمله له، ازداد حباً وتعلقاً به، يرغب في أن يخلق مثل هذه الورود الحمراء، أن يضاعف وجودها، كان يرى الوردة ويرغب في أن يسمعها، لو يعرف للوردة صوتاً، لو يكون هو صوتها، لو يقول كلماتها، حتى وإن تخلص من هؤلاء الهمج، فلا يجب أن يترك الكون على صورته، إنه يسمع أصواتاً في رأسه ترافق كلماته، فهل يجلس أمام هذا الجمال من دون أن يتفاعل معه؟ ألا يحرضه ذلك الجمال على الخلق؟

إنه يملك قلباً ضعيفاً على الرغم من كل شيء، لا يملك تلك اليد القوية التي تستطيع أن تأخذ من الحياة، وماذا يريد من الحياة؟ لا يريد اكتناز قطع الذهب والفضة، لا يريد أعدادا من البشر تحمل اسمه، لا يريد كل ما يتباهى به الآخرون، يقولون أن الله لا يحبه لأنه لم يمنحه أي من تلك الأشياء، بل أخذ منه كل ما تبقى لديه ولن يعطيه أبداً، وهل يحب الله أمثال هؤلاء؟ كان يتساءل داخل نفسه من دون أن ينشغل كثيراً بالبحث عن إجابة.

كان ينتهي إلى الإخفاق بسهولة، يخامره الشك في إمكانية الوصول إلى ما يريد، وفي وجود هذا الذي يريده، لكن ليس هنالك من طريقة أخرى ولا طريق آخر لديه، إنه ببساطة لا يستطيع أن يفعل أي شيء آخر، لن يتبع سوى دافعه الداخلي وشغفه الحقيقي، أي عبء ثقيل ذاك الذي يحمله، وأي صخرة تلك التي يدفعها، أن يكون كما يريد أن يكون، أن يكون حراً، ألا يخشى الموت، وألا يخشى الحياة، ألا يريد شيئاً وألا يطارد شيئاً، أن تكون الخسارة شيئاً غير محزن، أن يخسر على الدوام، وأن تكون حياته ما هي إلا طريق طويل من الخسارة، وأن يكون سعيداً على الرغم من كل شيء، تلك الحرية التي يشعر بها في أعماقه، ذلك الشعور بالتفوق، إنه أفضلهم وإن كان الخاسر الوحيد والمهزوم الوحيد، فليأخذوا دنياهم، وله دنياه التي لن ينعموا بها أبداً، ولن يمنحوا مثلها، يقولون أنه من أهل الجحيم، وهو لا يريد جنتهم التي يظنون أنهم يمتلكونها، كما يظنون أنهم يمتلكون هذه الأرض وتلك الحياة.

وحده يحيا، بروحه المنتصرة. وحدهم الأموات، لم يعرفوا من الحياة شيئاً، وهل أغمض أحدهم يوماً عينيه للحظة ليشعر بالهواء الذي يدخل إلى صدره؟ ليشتم رائحة الحياة؟

لم يفقد إيمانه بالحياة، لم يفقد إيمانه بالجمال، لم يفقد إيمانه بالحب، حتى وإن لم يجد من يبادله ذلك الحب، حتى وإن كانت "روم" مجرد واحدة من نساء الهمج التي لا تزيد ولا تنقص عنهن في شيء، هناك في قلبه، في روحه، روم أخرى، روم يحفظها في نفسه، روم التي هي من خلقه الذي لا يستطيع تشويهه أحد، روم التي لا يلتقيها إلا داخل نفسه، ولا ينتظر وجودها يوماً كواقع، إنه يفعل ذلك واعياً، إنها تحبه حباً لا شك فيه، وكيف لا تحب مبدعها الذي تتطلع إليه كعظيم ومنه تستمد الحياة، من بإمكانه أن ينتزعها من صدره؟ وكيف لها أن تفر من بين أضلعه؟ إنه يقبلها في كل يوم وجسدها في حضنه طوال الوقت، تهيم به شغفاً وتمنحه متعته الأقصى، ماذا كانت لتمنحه روم الأخرى؟ لم تكن إلا لتستغل جسده كوسيلة من أجل الحمل والإنجاب لا أكثر.

له دائماً ميزانه الخاص بعيداً عن ميزانهم البشري، لكن لماذا يحتكرون وحدهم صفة البشر؟ ولماذا عليه أن يرفع نفسه إلى صفة أخرى؟ أليس هو الأجدر بتلك الصفة؟ وبالانتماء إليها؟ إنهم ليسوا بشراً على الإطلاق، إن الحيوانات تفوقهم حساً وعطفاً وذكاء وذوقاً.

كان يرى ضرورة إعادة التفكير وإعادة النظر في كل شيء، إعادة ترتيب الأشياء بالكامل، وإعادة تسميتها أيضاً، إنه أرضي ولا يرغب في أن يكون سماوياً، يحب الأرض كثيراً، إنه منها وإليها ينتمي، الأرض ليست دليلاً على الهبوط والوضاعة، الأرض أصل وثبات وفرصة للحرية الكاملة في الوقت نفسه، أو هي الفرصة الوحيدة للحرية الكاملة، والإنسان كائن عظيم، هكذا يجب أن يكون، أما هذه الكائنات التي تشبهه في شكله وهيئته فإنه لا يعرف لها اسماً، ولم يتوصل بعد إلى الحل الأمثل لمشكلة وجودها، والعيش تجربة كريمة، هكذا يجب أن يكون، وكرامة المرء في عدم استسلامه.

في هذه الحياة بكل تنوعها وتعقيدها كان المواوي منجذباً على الدوام للجمال، لقد لاحقه المواوي طوال حياته، إنه الجمال الذي يراه تحت مظهر آخر، تحت مسمى آخر، إنها كلماته التي تجسد هذا الجمال، وهذا الألم، وهذا الحب، وذلك الحقد وتلك الكراهية أيضاً، إنه يقدم الوهم على الحقيقة واعياً، ووعيه هذا إنما يتيح له قمة الاستغراق في الوهم، فيصير الوهم أقوى من الحقيقة، بحيث يختفي الشك تماماً، إنه يصنع حدود عالمه الخاص.

كان عندما ينظر إلى النهر والأشجار والسماء يرى صورة أخرى في ذهنه، صورة كانت أبعد من أن تكون كاملة، ولم يكن يعرف كيف له أن يخلقها ويظهرها، وكيف يتمكن من إيضاح الأفكار والصور والمشاعر التي يصعب التعبير عنها بالكلمات، كانت تلك الصورة هي الأجمل في ظنه دائماً، ولكن من بإمكانه أن يحكم؟ كان يضيف إليها من روحه ويضفي عليها مزاجه الخاص، كان يتحكم في لون السماء ودرجة زرقتها ومدى صفائها، وكذلك كان يحدد قوة سطوع الشمس، كان يجعل من ذلك النهر نهراً حزيناً أو سعيداً حسبما يشاء، وذلك الطائر، إذا أراد، كان يجعله جريحاً حزيناً مفتقداً لوليفته، ومرات أخرى كان يجعله إلى جوارها يقبلها مداعباً، وإذا شاء كان يجعلهما إلى جوار أحدهما الآخر، يتأملان مياه النهر في سكون.

كان يحب الحيوانات كثيراً ويحترم سلوكها، إنها لا تنجب من أجل أن تتباهى بملكية الأبناء، ولا من أجل أن تستغلهم وتستعبدهم، إنها لا تصرخ عليهم ولا تقوم بضربهم، الحيوان ينجب لأنه منسجم تماماً مع الطبيعة، ويحب أن يمنحها بقدر ما يأخذ منها، إنه يرعى أولاده طالما يحتاجون إلى الرعاية، ثم يتركهم أحرارا، إنهم يعيشون في حرية تامة لولا وجود البشر.

في كل يوم كان يزداد حبه الجارف للطبيعة، وشعوره بأنه قد أصبح جزءاً منها، كان يجول وحيداً بانسجام تام مع كل ما يحيط به، حتى تملكه وهم كامل أنه على اتصال فعلي مع كل هذه الكائنات، وما الضرر الذي يمكن أن يسببه له الوهم؟ إنه يمارس خسارته سعيداً، ومن قال أنه بحاجة إلى تفسير أو إلى حقائق، أو إلى ضمانات، كل هذه الصور والخيالات غير المعبر عنها، وحدها الكلمة كانت تحمل بعضاً منها، لكنه كان يود لو يمتلك الطريقة التي تمكنه من أن يجعلهم يرون صورة النهر التي في رأسه.

كان يلقي بكلماته إليهم وكانوا لا يسمعونها، كان يحاول أن يجذبهم إليه، وكان يعاني من أجل ذلك من جهة، ومن أجل القبض على تلك الصور والخيالات المتلاحقة على ذهنه من جهة أخرى.

كان في فرار دائم إلى الخيال، إلى الحقيقة المعروفة لديه هو وحده، إلى الحياة المضاعفة، الحياة التي تعاش بأكثر من صورة، كل هذه الصور الضائعة التي كان من الممكن أن يأتي بها إلى الحياة، كان يريد أن يكون شخصاً آخر لبعض من الوقت، أن يقول كلماته على لسان شخص آخر، أو أن يقول كلمات شخص آخر على لسانه، هل كانوا ليقبلوا بأن يقف أمامهم، وأن يشاركوه تلك اللعبة بحيث يقبل الجميع الوهم ويتواطؤون على تصديقه، أن يولد ويحيا ويموت في بضع دقائق، أن يخلق حياة أخرى بأكملها، وأن يتحكم في مصيرها البائس أو السعيد، من أين له بمن يتعاطفون مع هذه الشخصية التي كان يريد أن يكونها، وحده يتعاطف معها، وحده يشفق على تلك الشخصية التي هي من خلقه، وإن كان قاسياً في تحديد مصيرها، إلا أنه يحبها.

هكذا كان ينتقل في ذهنه من شخصية إلى أخرى ومن مصائر إلى مصائر وأقدار يصنعها، ومن أزمنة إلى أخرى، إنه يخلق شخصيات من أزمنة سحيقة لم يعرف عنها شيئاً إلا في خياله، وشخصيات أخرى من أزمنة ماضية قريبة ربما يعرف عنها القليل، وشخصيات من أزمنة ستأتي بعد آلاف السنين لحياة كان يتصور شكلها وكيف يمكن أن تكون، وشخصيات لأناس من زمنه كان يعيد تشكيل صورتهم في ذهنه، كان يجسد بشاعة صورتهم ويبرزها، وكم تمنى لو أنهم تحلقوا حوله يوماً ليروا أنفسهم وهي تتجسد أمام أعينهم، كم كان ذلك ليسعده وكم كان ذلك ليمنحه الأمل في أن يخرجوا خارج أنفسهم ليروا قبح حقيقتهم.

في خياله وفي حكاياته تلك، كان يحقق الانتقام من كل شيء، وكان يشعر بأنه ينتصر على كل شيء، وأنه الممسك بكافة الخيوط، كان يشعر بالحرية الكاملة في أن يكون كما يشاء، وأن يوجد حيثما يشاء، وأنه يمتلك أشكالاً أخرى من الحياة لا يمتلكها سواه، هكذا كانت كل كنوزه الخفية وثرواته المحتقرة التي لا يقدر لها أحد قيمة.

كان يحب ذلك التنوع والتعدد، أي كون شاسع في عقله وروحه، أي ألوان وصور وكلمات وحكايات، أي أفكار ومشكلات وتساؤلات، لديه حياة استثنائية كاملة داخل عقله، كان يدرب نفسه على الاحتفاظ بها، وكان ذلك يتطلب جهداً ويسبب ألماً، لذا كان يشعر بالحاجة دائماً إلى أن ينقل الكثير من كل هذا إلى خارجه وأن يشاركه الآخرون في حمل هذه الصور والكلمات والحكايات وأن يحفظونها عنه ليتمكن هو من حفظ الجديد، كان يريد أن يحفظها في عقل وقلب كل من هم حوله، أن ينقلونها عنه، وأن تنتقل من جيل إلى جيل لمئات أو لآلاف من السنين، كان يريد لكل ما يدور بداخله ألا يفنى أبداً.

كان يريد أن يعبر عن كل ذلك بصوته، بحركات جسده، بدموعه، وحتى بصمته وبذلك الجمود الذي يقول الكثير، وبكل نقطة من دمه، كان يريد أن يسمعهم صوت القلب الذي هو أكبر من مجرد دقات منتظمة تتسارع أحياناً وتبطئ أحياناً، كان يريد أن يسمعهم صوت القلب وحديثه، كان يريد أن يقطع تلك الحبال التي تقيد الروح، تحطيم الشكل وتحويله إلى أشكال أخرى لأنه يعرف كيف يعبر عن ذلك بنفس اللعبة، إنه لن يجسد إلا الخيال، هذا المنفرد الغارق في تأملاته، شتان ما بينه وبين الواقع.

 

(3)

هو "المواوي"، كان هذا اسمه، مجرد اسم اختاره له أبوه، وربما كانت أمه، لم يسألهما يوماً، ولم يخبراه قبل أن يرحلا، كان يحب اسمه كثيراً، وكان سعيداً لكونه الوحيد الذي يحمل هذا الاسم، ربما كان هناك من يحمله خارج بلدته، أما في المرتاحية، فمن المؤكد أنه لم يكن يوجد من يدعى بذلك الاسم سواه، وكان ذلك قد ميزه من جهة أخرى.

لم يشعر منذ أن تفتح وعيه على هذه الحياة بمشكلة ما بخصوص هذا الاسم، فلم يحدث في صغره مثلاً أن سخر منه الأطفال وجعلوا من تكرار مناداته لعبة من ألعابهم السخيفة، حتى بعد أن كبر وصار رجلاً، كان اسمه يلقى الانطباع المطلوب، دون مدح، دون ذم، أو على أقل تقدير، لم يكن يلفت الانتباه، إلا أن الوضع قد انقلب تماماً بمجرد أن عرف تلك الكلمة، ونطق بها، في البدء أثار الريبة ثم صار اسمه مسبة وتهمة وصفة قبيحة وفعلاً شائناً ودليلاً على كل ما هو محقر، بل صار اسماً لحيوان ما لم يُعرف من قبل، حيوان اسمه المواوي، ويقال عنه عندما يصدر صوتاً، أنه يواوي.

إلا أنه كان حيواناً بائساً، أوجده حظه العاثر بين هؤلاء الهمج، الذين لا يتورعون عن إيذاء الحيوانات المسكينة الضعيفة العاجزة عن حماية نفسها، كانوا يؤذون كل ما لا يمكنهم أكله، وكأنهم يعوضون عجزهم عن ذبح تلك الحيوانات وسلخها ومضغ لحومها بتعذيبها بأشكال مختلفة، وفي ذلك كانت تسلية الكبار ولعب الصغار.

وكانت طرق تعذيب الحيوانات تتنوع، فمنها إشعال النار في ذيلها والضحك لرؤيتها تفر مذعورة بينما يشتعل جسدها، أو كسر إحدى سيقانها أو بترها، أو تعمية الحيوان ثم ضربه بالحجارة فيجري متخبطاً ليصطدم بشجرة أو ليسقط في النهر، أو تقييد الحيوان إلى شجرة ميتة بحيث لا يطال ما يأكل أو يشرب، ويظل هكذا حتى الموت، كما كانوا يقومون بتقييد الحيوان على وضع لم يعتده، كأن يقلبونه على ظهره أو يعلقونه من ذيله أو إحدى سيقانه بينما يضربون جسده المتأرجح في الهواء. كانوا يعذبون تلك الحيوانات المسكينة التي لا تستطيع أن تنطق بجرائمهم، ولا أن تروي شيئاً من مساوئهم وتؤرخ لخطاياهم وتعلن عن احتقارها لهم، ولا يمكنها أن تفضح ذلك الجور.

لطالما حاول إنقاذ تلك الحيوانات المسكينة من بين أيديهم اللعينة، وكانوا يسخرون منه ويقولون: أتي ليدافع عن إخوته. ويضحكون ببلاهتهم المعتادة، كم من قطط وكلاب رآها تموت، وكم من قطط وكلاب أخرى تمكن من إنقاذها، وقام برعايتها وتطبيبها بقدر ما يستطيع إلا أنها ماتت بعد فترات وجيزة في بيته وبين يديه، وكان يدفنها بالقرب من بيته، ويتذكرها باكياً من حين لآخر، فإن الإنسان ليس بشيء إن لم يكن رحيماً.

كان الكلب الأسود البائس ذو الذيل المحترق المتآكل، الوحيد الذي نجا من محرقتهم، كان المواوي قد أنقذه منذ عامين وأطفأ النار التي أشعلوها في ذيله بيديه فور رؤيته لبدء اشتعال النيران في الكلب المسكين، ثم اصطحبه إلى بيته بحنو عميق وشفقة، وكان ذلك الكلب يعيش حزيناً صامتاً يئن ولا ينبح، كان يخاف كل الأشياء، كمن مات وعاد نصف عودة إلى الحياة، عودة كانت ما تزال مترددة وغير ثابتة، كان يخاف من كل شيء ويصاب بالذعر إن ابتعد المواوي عنه، كان يتبعه ويستمع إلى كلماته ويتأثر بها وكأنه يفهمها، لكن من المؤكد أنه كان يشعر بها، وكانت الكلمات التي يرددها المواوي دائماً بينما يربت على رأسه: لست سيدك، أنا صديقك.

منذ عامين وهو يعيش بصحبة ذلك الكلب، بعد أن عاش وحيداً تماماً لمدة عامين بعد موت كل من أمه وأبيه، لا يعلم ذلك الكلب المسكين أنه يعني الكثير بالنسبة للمواوي، ربما يظن أنه يعطف عليه وحسب وأنه ليس بحاجة إليه لأنه ليس مفيداً على الإطلاق، لم يكن يعلم أنه بحاجة شديدة إليه وإن كان هو من يرعاه ويهتم بأموره.

فالكلب بصحبته ليس بحاجة إلى أن يبحث عن طعام يأكله أو عن ماء يشربه، فالمواوي يضع أمامه الماء والطعام في كل يوم قبل أن يطعم نفسه، ويعد له مكاناً نظيفاً للنوم في كل يوم، وفي أوقات الحر الشديد يجد الكلب نفسه في الظل دائماً، بعيداً تماماً عن الشمس الحارقة، كما يجد أمامه الكثير من الماء طوال الوقت بينما يستمتع بالمياه التي يقوم المواوي برشها على جسده في أوقات مختلفة من النهار، أما في أوقات البرد الشديد فيجد الكلب نفسه في فراش دافئ بالقرب من المواوي محتمياً من أي ريح باردة أو أمطار.

صارا صديقين منذ الليلة الأولى التي اصطحبه فيها المواوي إلى بيته، كان الكلب يئن، وكانت عيناه تدمعان، ظن المواوي أن ذلك بسبب شدة تألمه مما حدث في ذلك اليوم، إلا أن ذلك الأنين لم يفارقه ولم تجف عيناه ولم تختف تلك الدموع أبداً، وفي الصباح الأول فتح المواوي باب بيته أمام الكلب لكي يخرج إن كان يرغب في الخروج ويذهب إلى حيث يشاء، فهو لن يقيده أبداً ولن يصنع له قفصاً يحبسه فيه، إنه يود أن يبقى بصحبته لأنه قد أحبه كثيراً ويشعر نحوه بعطف عميق، يعلم أنه بخروجه قد يتعرض للأذى والموت، لكنه إن قام بحبسه وتقييده سيتأذى كثيراً أيضاً، ولن يسامح المواوي نفسه أبداً إن وجده يوماً قد مات مقيداً في حبسه، لذا كان يفتح الباب أمامه في كل يوم، إلا أن الكلب لم يكن يخرج من البيت إلا ليتبع المواوي حيثما يذهب، حتى داخل البيت كان شديد الالتصاق به، وكأنه يود أن يؤكد له رغبته في البقاء بصحبته في كل لحظة.

كان من الممكن أن يبقى لأيام في البيت من دون أن يظهر تملله من ذلك، طالما لا يرغب صاحبه في الخروج، وكان يتبعه حينما يخرج ليمشي بمحاذاة النهر لمسافات طويلة مع بدء شروق الشمس، كان المواوي يحب أن يفعل هذا كثيراً، وكان ذلك يمنحه الكثير من الشعور بالراحة وكأنه كان يفرغ كميات كبيرة من طاقات الكراهية والحقد التي كان ينوء بحملها، كان أثناء سيره يفكر في كل شيء، يتذكر كل ما كان، ويفكر في حل ربما سيستطيع أن يصل إليه.

كان يفكر في كيفية استمرار الحياة على هذا النحو، وما يجب عليه فعله، كان يمشي لساعات بينما يتبعه كلبه دون كلل ودون توقف، يسير بهدوء وكأنه يشاركه تأملاته ويبحث معه عن إجابات لأسئلته، كان المواوي يشعر بأن الكلب يشاركه كل ما يمر به من أحوال ومشاعر مختلفة، هل يجد بين البشر من يمنحه تلك الصحبة الهادئة والصداقة العميقة والعطف الصامت والحب الذي يخلو من الأطماع، كان ذلك الكلب لا يأكل إلا ما يضعه المواوي أمامه من طعام، لم يقترب يوماً من أي شيء في بيته ولم يخرب شيئاً ولم يؤذ شيئاً أبداً، إنه عطوف ومريح تماماً، لا يوجد بين أهل المرتاحية بأكملهم من يملك مثل هذا الذوق.

كان المواوي يشعر بالمسؤولية الكاملة تجاه هذا الكلب، كما كان يشعر بالمسؤولية تجاه كل شيء في هذا الكون يتعرض للأذى من هؤلاء الهمج، فقد كان يود لو ينقذ الكون بأكمله من أيديهم، كانت نجاة ذلك الكلب واستمراره في الحياة يشعرانه بأنه قد نجح في شيء ما من أشياء كثيرة كان يود لو يحققها، وأنه قد نجح في تخليص شيء ما من أيديهم اللعينة، وأنه استطاع أن يخلق حياة أفضل لذلك الكائن، واستطاع في نفس الوقت أن يخلق شكلاً آخر من الحياة لنفسه وللكلب على حد سواء، فقد كان سعيداً بحياتهما المشتركة، وبأن ذلك الكلب لم يتركه وأنه قد فضل الحياة بصحبته على أن يذهب بعيداً ليعيش كما كان يعيش في السابق، وأن ينضم لكائنات يألفها ويألف العيش معها.

كما كان سعيداً بأنه قد استطاع أن يعيش مع ذلك الكلب وأن يشاركه بيته وطعامه، مع المحافظة التامة على نظافة البيت ونظامه وجماله، هذا التعايش الممكن المريح كان المواوي يعده إنجازاً لم يستطع ولن يستطيع أن يحققه يوماً مع أحد من البشر، لذا كان يشعر بالسعادة كلما رآه.

كان يحبه على الرغم من أنه كان يحب كل ما هو جميل، وذلك الكلب الأسود المشوه بالطبع لم يكن جميلاً، كما أنه كان حزيناً طوال الوقت غير قادر على أن يبعث السعادة والمرح فيمن حوله، وكان خائفاً طوال الوقت غير قادر على حماية صاحبه أو تنبيهه من خطر ما، نعم لم يكن ذلك الكلب جميلاً، وكان لونه يبعث الحزن في النفس، وذيله المتآكل كان يسبب عدم الراحة للعين.

إلا أن المواوي كان يرى جمالاً ما في حزن لونه الأسود، كان يشعر بذلك الجمال الذي يهذب النفس ويخلق التعاطف والرحمة، ليس لهذا الكلب ذنب في أن يكون على تلك الصورة، ولا في أنه لا يتمتع بلون أبيض ناصع أو بشعر كثيف ناعم، ولا في أنه لا يتمتع بالنشاط والمرح وأنه لا يلعب طوال الوقت، إنه حزين منكسر، أشعلوا النار في جسده، كم تألم هذا المسكين، عرف الألم بينما لا يشعرون من لديهم عقول وقلوب وأرواح وألسنة ينطقون بها.

عرف ألماً كبيراً وفقد جزءاً من ذيله، وكاد أن يفقد جسده وروحه، كان يلف رأسه إلى الوراء ليرى النار المشتعلة في ذيله، وكانت لتمتد وتأكل قطعة تلو الأخرى من جسده، كان من الممكن أن يرى جسده وهو يتآكل تماماً، كانت عيناه لترى كل ذلك، إلى أن تصل النار إليها فلا تعود ترى شيئاً.

يشعر المواوي بحزن ذلك الكلب العميق، يشعر أنه كان حزيناً حتى من قبل أن يتم إحراقه، بسبب لونه الأسود والكراهية التي كان يراها في عيون هؤلاء الهمج ومحاولات الإيذاء والقتل التي كان يتعرض لها في كل يوم وفي كل لحظة، كان متعباً بسبب فراره الدائم من البشر، يعرف المواوي معاناته جيداً، فهو أيضاً في حالة فرار دائم من البشر، وحده المواوي يشعر به تماماً.

كان موقناً بأنه لو استطاع ذلك الكلب أن يتكلم وأن يعبر عما يدور في نفسه وعما رآه من أهوال البشر، لقال الكثير والكثير ولربما كانت كلماته أصدق وأعمق من أي كلمة نطق بها المواوي، كان يتمنى لو يتكلم ذلك الكلب ويخرس هؤلاء الهمج إلى الأبد، لو يتمكن من أن يمنحه ألسنتهم جميعاً بعد تطهيرها بالطبع، وأن يمنحهم بدلاً منها القدرة على النباح، كم يليق بهم النباح، وكم يليق بهذا الكلب المسكين أن يمتلك اللسان واللغة والحروف والكلمات والمعاني والصور، لا ينقصه سوى تلك الأشياء، لديه الروح والمشاعر والفهم والإحساس والذوق، كان المواوي على يقين من هذا.

كان ذلك الكلب بصورته التي هو عليها وبكل ما حدث له إنما هو دليل على ظلم كبير، ذلك الظلم الكبير الذي يقع دائماً، ويتمنى المواوي أن يقضي عليه تماماً.

على العكس من وروده الحمراء النضرة الجميلة، التي تمنحه السعادة والحياة والرائحة الطيبة التي تعطر بيته وحديقته، فإن ذلك الكلب الأسود كان يمنحه نوعاً آخر أو صورة أخرى من الجمال، ربما كانت أكثر عمقاً وحكمة، لقد علمه كيف يكون جمال الحزن، وكيف أن هناك ذلك الجمال الذي نشعر به من دون أن نراه.

كان المواوي شديد التعاطف مع المخلوقات الضعيفة ذات الحظ السيء التي تشبهه تماماً، كما كان يتفاهم جيداً مع كل ما لا يمكنه التواصل معه بشكل مباشر، أو ربما كان يتواصل معه لكن بطريقة أخرى غير تلك الطريقة المتبعة لدى البشر، فقد كان يشعر بأنه منسجم مع كل شيء من حوله، وأن الكون بأكمله ينسجم معه ويقبله تماماً، كل شيء يقبله عدا البشر.

لم يكن يدري إلى أي كائن كان عليه أن يتحول، طير أم حيوان أم نبات؟ هل يكون نجماً أم سحابة أم يتحول إلى ماء يجري؟ إلى أي من الكائنات يجب أن ينتمي؟ وأي من لغاتها يجب عليه أن يتقنها؟ يشعر أن كل شيء في هذا الكون يحبه إلا البشر، وهو يحب كل شيء في هذا الكون ويمتلئ قلبه بكراهية البشر، لم يعد باستطاعته أن ينكر ذلك وأن يمنحه مسميات أو تفسيرات أخرى، إنها الكراهية والرفض التام لوجودهم، إنه يسعى إلى إلغاء وجودهم مهما كان الثمن، لا يستطيع مهما كان قلبه عطوفاً ورقيقاً أن يتجاهل الأحقاد التي تتراكم، والكراهية التي تنمو في كل يوم بفضل أفعالهم.

 

(4)

رأى نفسه وحيداً بدونها فجزع وإذا عيناه تدمعان، "روم" ... الوحيدة التي خلبت لبه وسحرت قلبه منذ أن وقع بصره عليها، شعر حين رآها لأول مرة بأنه يقترب من الحياة ببطء، بما يشبه السعادة، بما يشبه الحب. الآن يراها بعيدة على الضفة الأخرى من النهر تغالب المخاوف وحدها، يولهه شعرها الأسود المتهدل على كتفيها، يتطلع إلى ملامسة أناملها الدقيقة، لن تستمع إليه وهو يناجيها، ولن تملك سوى أن تذرف الدموع، ستتألم كثيراً وليس ما ينفع في شفاء الحب.

كانت الحقيقة الوحيدة في حياته، المعنى المفقود والسبب الغائب، التفسير المعقول لسر وجوده على هذه الأرض، بها يلتئم شتات نفسه، منها سيظل يستمد الحياة حتى وإن نأت، لكن هل يجد من نفحات الهواء ما يعوضه عن أنفاسها؟

يشعر بالدم يتدفق من جرح أسفل رأسه، يتمنى لو تحظى روحه بلمسة شفاء من يدها، ينظر ثانية إلى الضفة الأخرى من النهر، يراها تبكي ضارعة إلى الله أن يجعل لآلامه نهاية، لن يجد من يبكيه بأندى من ذلك الدمع، ذلك البحر من الدموع العذبة الذي يسيل، يذكر كيف طوقت عنقه بذراعيها عندما اجتمعا لآخر مرة، كانت تقول له: أتراك قادراً على تحمل كل هذا؟ أخشى أن يكون في كلماتك ما يجرك إلى الهلاك، أخاف عليك من مثل هذا المصير.

كان يستمع إليها صامتاً وقد غاب عنه ما يجيبها به، أخذ يتلمس مكان قلبها الذي كان ينبض تحت يده، يذكر لذة كانت في لحظة الحب، كان هو وعشيقته الباكية في أحضانه أشبه بكتلة من أشياء مضطربة، نشوة عارمة لا تخبو وذعر لا تخف حدته، كان يراها كأبهى ما تكون، وكأن كل جمال الدنيا يفيض في وجهها.

بكى ساعة ثم رفع طرفه إلى السماء، ليته استطاع أن يخبئها بين رئتيه، سيكون هو مبعث أول أحزانها، تلك الجميلة التي لم تر شيئاً بعد من الأحزان، ستخفي حبها له وكأنه جريمة تستحق العقاب، وستعاني العذاب آناء الليل وأطراف النهار، سوف تطول الأيام وستشعر بثقل الزمن على رأسها، لن تعرف له مقراً ولن تسمع عنه خبراً، ستظل تذكر لقاءات الحب في الخفاء، في ذلك المكان الذي تتزاحم فيه أشجار الورد البلدي، حيث يقع بيته الصغير الذي كانت تسميه المأوى، سوف تبكي كثيراً، وستبكي الأشجار معها، وستميل نحوها الأغصان حانية عندما تسمع أنينها، تود لو تحتضنها.

يمتلئ قلبه بلهفته إليها، إنه لا يعرف كيف ينتظر، يراها تغمس قدمها في الماء، يرى حمرة الفجر في وجهها، يراها ترقص على العشب الأخضر، يسمع موسيقاها، يتمنى لو كان ممسكاً بيدها، ليس في كل متع الدنيا ما يعدل وجودها بين ذراعيه، يذكر كلماته الأولى حين رآها لأول مرة: لا تحاولي أن تهربي مني، معي ستعرفين الحب.

يذكر كيف انزوت جانباً وأشاحت بوجهها عنه، كان يريد أن يسترسل في كلامه، ولكنها لم تلق بالاً لقوله وصاحت به: كفى. ثم ولت عنه حذراً، لم يحاول أن يتبعها ومضى في طريقه، وما كاد يبعد مسافة طويلة حتى سمع صوتاً يناديه، استدار فرآها راكضة نحوه على الطريق، قالت وقد كادت أنفاسها تنقطع: وجدت شيئاً من كلماتك ينسرب في نفسي فيثيرها، ما هو ذلك الحب؟

أيكون رعباً ذلك الحب؟ كانت تسأله بينما كان يشاركها خطوها المتهادي لأول مرة، لكنه لم يكن يفكر سوى في أن يضمها إلى صدره، كانت كبسمة الصباح الأولى، وكان ثملاً بعطرها، كم هو عاشق! إنه مفتون تماماً، كان يسره أن وجد فيها قدراً كبيراً من الرقة والعقل، على العكس من كافة النساء في المرتاحية، واللاتي لا هم لهن سوى الأكل والإنجاب والصراخ على الأطفال بأصوات أجش من أصوات رجالهن، أما هي فإيماءاتها ونبراتها أرق من الزهر، كان يتتبع حركات شفتيها وهي تتكلم، ونظراتها التي كانت تفيض حناناً، كانت عاشقة تتطلع إلى من تعشق، ما أشوقه إلى عناقها، وما أحوجه إلى جمالها وندى نسماتها.

يذكر تلك اللحظة عندما توقفت وقد ملأها الحب جرأة على الرغم مما كان بها من خوف يتملكها، نظرت إلى عينيه قائلة: دعني أنعم بحبك. ولم تضف إلى قولها شيئاً آخر. اطمأنت بين يديه، كانت تشيع في وجهها الوداعة والمتعة التي يهفو إليهما، أخذت تلهو فوق الخضرة، تاركة شعرها الأسود للريح تعبث به كما تشاء، ثم استلقت على العشب الناعم وخر هو على ركبتيه يقبل الأرض من تحتها، هل هناك من ذاب حباً مثله؟

لن يستطيع أن ينطق باسمها الذي كان يبعث الأمل في نفسه، لن يستطيع أن يقول كلماته التي لن تبلغ سمعها أبداً، لن تتدفق دمعاته مع دمعاتها ولن يصغي إلى بكائها، سيتركها نهباً لعذاب يقهرها، حاول أن يمد يديه نحوها ليضمها إلى صدره ضمة أخيرة، فانطمست صورتها ورآها تختفي.

أفاق من تلك الغفوة الجميلة الرائقة على ألم شديد يدق رأسه، وألم أشد يعض قلبه، الآن يتذكرها واعياً، "روم" صاحبة تلك الصخرة التي تسمى قلباً، روم التي لا روح لها وكأنها هاربة من قبر، أما ذلك الشبح الطيب الذي يشبهها فإنه غير موجود وما وجد قط.

كان تذكر حقيقتها يمثل له أسوأ اللحظات وأحلك الظلمات، وكان أفضل علاج لمثل هذه الحالة هو أن يغرق في أرفع أنواع الوهم الذي يجد نفسه مرغماً على تركه ينمو فيه، بعيداً عن رومانسية الشجاعة والعذاب، يتمنى لو تفنى الحقيقة، يرى الحب الذي يكنه لروم، الوهم الذي يمنحه نفس القدر من الحب الذي كانت لتمنحه إياه روم لو كانت أحبته، الوهم هو حبه الوحيد، هو الشيء الذي يدوم ويصير عادة عبر تعود طويل، لكونه قد فشل في ممارسة الحقيقة.

الحقيقة... الحقيقة أن روم هي أكثر أهل المرتاحية كراهية له، ولا يعرف لذلك سبباً، على الرغم من أنها ادعت حبه يوماً، وادعت أنها تنتمي إلى هؤلاء الذين يعرفون الحب، ويا للحسرة لم يكن حباً، ذلك الحب الذي سيسربله بالعار، وادعت أن لديها القدرة على الفهم والشعور، وأن لديها القدرة على أن تستمع إلى ما يقول، ادعت أنها تحب كلماته التي لا تدري لماذا تولد هذا الازدراء والاستهجان لدى الآخرين، وأنها بفضله قد عرفت قيمة الكلمة، وأنها أخيراً عرفت أنها أثمن ما في هذا الكون، وادعت أيضاً أنها لا تريد شيئاً سواها.

الحقيقة أن روم إنما هي الخلاصة المركزة لكل مساوئ أهل المرتاحية، وأنها تحمل بداخلها كل كراهيتهم للمواوي ورفضهم لوجوده ورغبتهم في التخلص منه، الحقيقة أن كل ما فعلته روم لم يكن إلا قتلاً، نعم كان قتلاً.

لذا صارت هي الأهم والأقوى والأكثر تميزاً، الحقيقة أن روم هي المنتصرة، وأنها تحمل كل قيم الشر التي تلقى الاحترام من الجميع، بحيث لا يجد أحدهم سوءاً في ما فعلته على الإطلاق، إنهم يفتخرون بها كثيراً، ويضحكون بإعجاب شديد وهم يسردون ما فعلته، إنها تمثل أسمى مراحل ما يعدونه تقدمهم البشري، إنها تمثل النموذج الأمثل للتطور الذي يجب أن تكون عليه الأجيال الجديدة من أهل المرتاحية، تلك الأجيال التي تربت على الشر والأذى واختزنته بداخلها، وامتلأت نفوسها بصوره المختلفة، لتولد بعد ذلك صوراً جديدة منه، إنه نوع من الإبداع، إنها مبدعة في أقذر أنواع الشر وأكثرها انحطاطاً.

هل يدعي كذباً كرهه لها وحبه لروم أخرى غير تلك التي آذته؟ هل يشعر بأنها الوحيدة التي تستحق أن تكون نداً له في هذا المكان؟ هل يرضي جزءاً من غروره ومن كبريائه المنكسرة أن يكون قد شغل تلك المساحة من نفسها وتفكيرها؟ هل هناك جزء خفي من نفسه سعيد بهزيمته أمامها؟

هل يحبها على الرغم من كل هذا الشر؟ أم أنه قد أحب ذلك الشر فيها؟ هل يحترمها هو الآخر؟ هل يحترم قيم الشر مثلهم ويبجلها حتى وإن كان هو أول ضحايا ذلك الشر؟ أليس منهم؟ ألا يحمل بداخله نفس الدم الذي يسري في عروقهم؟ ألا يتنفس مثلهم نفس الهواء؟ ألا يشرب من نفس الماء الذي منه يشربون؟

كان أكثر ما يؤلمه هو ما كشفته له روم من أنه يشبههم تماماً، وأنه لا يختلف عنهم في أي شيء، وأن أوهام الفرادة والتميز لم تكن إلا دليلاً على فشله في مجاراة نمط حياتهم، لم تكن لتنجح روم في ما فعلته إلا لأنه يشبههم، ولأنه يحمل بداخله كل الصفات التي كان يظن أنه يكرهها، لم تكشف روم عن حقيقتها فقط بل عن حقيقته أيضاً، وعن ضعف كلماته التي دائماً ما تسقط وتتلاشى عند أول تلامس مع الواقع.

لم يكن ما ادعته من اعجاب به إلا حقداً شديداً عليه، ولم يكن ما ادعته من حب له إلا رغبة عميقة في القضاء عليه، ولم يكن ما كانت تدعيه من أنها كانت تجلس وسطهم لتدافع عنه وتحاول أن تشرح لهم محاسنه وتميزه وصفاته الرائعة إلا صورة كاذبة عن جلساتها التي كانت تتحدث فيها عن ضرورة التخلص منه، وأنه لا يجب أن يبقى في المرتاحية، كانت روم تقول:

إنه يكرهنا، ويظن أنه أفضل منا، وأنه يتفوق علينا في كل شيء، إنه يظهر القرف من معاشرتنا ومخالطتنا، سأجعله يتمنى ما يدعي النفور منه ولا يناله، سأجعله يعلن أمام الجميع أنه على استعداد كامل لأن يقبل بأقل شروط العيش بيننا ذليلاً مهاناً، سأجعل من ذلك الذل أكبر طموحاته، وكم سيكون عزيزاً ذلك الذل الذي سيطلبه على مرأى ومسمع من الجميع، مثله لا يجب أن يتزوج ولا أن ينجب، لا يجب أن يبقى له أي أثر في هذا العالم، سيأتي طائعاً مختاراً كي يلقي بنفسه في جحيمنا كما يسميه، لكنه لن يطال حتى ذلك الجحيم، ليس من حقه أي شيء في هذه الدنيا، وليس من حقه أن يمد يده ليلمس أي شيء يخص دنيانا، وليس من حقه أن ينظر إلى كل ما لدينا، لا يليق به سوى الموت حتى وإن ظل حياً.

سأجعله يكشف بنفسه زيف ما يدعيه من أفكار وقناعات وخيارات، بنفسه سيفضح زيف نفسه، سأجعله يثبت أنه يتطلع إلى حياتنا، وأنه يتمناها، وأن ما يدعيه من ترفع إنما هو حيلة يداري بها عجزه عن حصوله على مثلها، إنه يحسدنا على كل شيء، إنه مثلنا يتمنى أن يمتلك ثروة من الذهب والفضة، وأن يكون له ذرية أكثرها من الذكور الذين يحملون اسمه.

إنه يريد أن يتباهى بأشياء يملكها، إلا أنه لا يمتلك شيئاً، ولن يمتلك شيئاً، لا شيء لديه ليتحدث عنه ويتفاخر به أمام الجميع، لذا فهو يلجأ إلى كلماته الغريبة التي يدعي اعتزازه بقيمتها كوسيلة للتعالي علينا، إنه يصنع عالماً وهمياً يقول إنه يحبه ويفضله لفشله في أن يحصل على عالم كعالمنا، سترون أنه بمجرد أن ألوح له بفرصة للحصول على حياة كحياتنا والدخول إلى عالمنا، سيركض لاهثاً معبراً عن رغبته في الحصول عليها، متخلياً تماماً عن عالمه الذي يدعي جماله، لا مكان له هنا ولا مكان له في أي بقعة أخرى، كان مجيئه إلى الدنيا خطأ كبيراً يجب أن يصوب.

هكذا كانت تتكلم روم في الحقيقة، ما أبشع أن يستمع إلى صوت أفكار روم، وما أبشع الحقيقة.

 

(5)

المرتاحيون، معهم ستكون بائساً على كل حال، ومنهم لن تسلم في كل حال، ومما لا يطاق أن يضع المرء نفسه بينهم، فكل شيء في نفوسهم منفر باعث على الاشمئزاز بشكل مقيت، كانوا كحيوانات شرسة تلحق بالآخرين كل الشر، حيث وحشية الفطرة وشراسة العادات، ولم يكن الكون بأسره يعني عندهم شيئاً غير الأكل والنسل والأذى. هم أهل هذه الأرض، يرتبطون بها كثيراً، ولا يغادرونها إلا قهراً، على الرغم من أنهم لم يحبوا تلك الأرض كما ينبغي، ولم تكن لتسلم من أذاهم، كانوا لا يرون شيئاً مما يحيط بهم من جمال، وإن رأوه يعملون على تشويهه، هم ظالمون أشد الظلم وأحكامهم تؤذي كثيراً، لا يعرفون العطف ولا الرحمة، فلا يرحمون الضعيف ولا يعطفون على صاحب العاهة، وكانوا دائماً يضحكون، فالحزن كان أسمى من أن يعرفونه.

لم يكونوا أسياداً على أرضهم، كان هناك من يملك طعامهم وشرابهم وحياتهم، له ظهورهم التي يجلدها، وله يسلمون الأرض والعرض في لحظة، كان فساد الفطرة من جهة يجعلهم يحبون الذل ويستعذبون القسوة، وفساد الأخلاق من جهة أخرى يجعلهم يمارسون تلك القسوة تجاه بعضهم البعض وتجاه أضعفهم على وجه الخصوص، لأن النذالة إنما تولد من الخوف والحاجة. إنهم ضعفاء وأنذال في الوقت ذاته، إنما تكمن قوتهم في الأذى، لذا فهم يتمسكون بممارسته في كل حين.

تراهم مجتمعين دائماً، فلم يكن أحدهم يستطيع العيش بمفرده، ولم يكن ليكتفي بأفراد أسرته، أو ببعض من الأصدقاء، وإنما كان يحرص على أن يحيط نفسه بأكبر عدد من الناس، هم في صخب وازدحام طوال الوقت، لا يصمتون أبداً، ومن منهم يطيق الصمت ولو لدقائق يقضيها بمفرده؟ عذابهم في وحدتهم، كأنهم كانوا ينفرون من أنفسهم ولا يحتملون وجودهم بصحبتها، كما أنهم لم يكونوا يستطيعون أن يقصروا اهتمامهم على شؤونهم الخاصة بعيداً عن شؤون الآخرين.

كانت حفلات مضغ الأعراض من طقوسهم اليومية التي لا غنى عنها ولابد من ممارستها، ومن أجل إحياء تلك الحفلات كان كل منهم يسعى دائماً نحو كشف أسرار الآخر، وإن كانت مجرد تفاصيل بسيطة عادية، لا ترقى لتلك الدرجة من السرية التي تثير الفضول، وكان لدى كل منهم بطبيعة الحال ما يرغب في عدم كشفه وستره عن بقية الناس، إلا أن الفرد عينه الذي كان يحاول الاحتفاظ بخصوصية بعض من أموره بعيداً عن الآخرين، كان هو نفسه من يقوم باقتحام خصوصية غيره وانتهاكها، هكذا كانوا يراقبون بعضهم البعض طوال الوقت، وهكذا كانوا يدورون في حلقة لا نهائية من انتهاك الخصوصية التي لم يكن لها مكاناً على أرضهم.

كانوا مشغولين دائماً بأمور بعضهم البعض، بأن يعرف فلان ماذا أكل فلان اليوم، وكم كسب من النقود، وهل نام مع امرأته أم لا، وهل حملت أم لم تحمل بعد، ولم يكن مصير من يعلن لهم عن أسراره طوعاً بأفضل من حال من يحاول أن يخفيها عنهم، فهم لن يرحمونه في الحالتين.

فهم إن رأوا على سبيل المثال رجلاً ما يسير وهو يمسك بيده شيئاً ملفوفاً بقطعة من القماش تحجبه عن أعينهم، فإنهم لن يرفعوا أعينهم عنها، وسيلاحقونه ويسألونه عما يحمل، وسيلحون في السؤال، بل وسيحاولون شدها عنوة من يده وكشفها، فإن نجح في أن يفلت منهم، وفشلوا هم في كشف سره، فإنه لن يسلم من أقاويل وإشاعات سيطلقونها في كافة أنحاء المكان، وسيؤلفون القصة تلو القصة حول ذلك الشيء الذي كان ملفوفاً بقطعة من القماش ولم يرونه. سيقولون إنها أموال سرقها، أو قطعة ذهبية كانت مدفونة في الأرض وأخرجها، سيقولون أنه كان يمسك بزجاجة مشروب محرم، قام بلفها بأكثر من قطعة قماش بحيث لا تظهر ملامحها كزجاجة، سيؤلفون الكثير من القصص، وستختار كل مجموعة منهم القصة التي تعجبها، فتتبناها وتعمل على تطويرها.

فمن سيتبنون قصة الأموال المسروقة، سيؤكدون على سوابقه الكثيرة في السرقة وأنه قد ورث فن السرقة عن أبيه وجده، وسيقول أحدهم أنه رآه ذات مرة وهو يسرق، وسيقول آخر أنه قد تعرض هو شخصياً للسرقة من صاحب ذلك الشيء الملفوف بقطعة من القماش، وأن ذلك الشيء الملفوف بقطعة من القماش ما هو إلا علبة نقوده التي كان يخبئها تحت إحدى أشجاره.

أما المجموعة التي ستتبنى قصة القطعة الذهبية، فسيقولون أنه يعاشر نساء الجن من أجل الحصول على الذهب، وأنهن يقمن في بيته، وأنه يقدم زوجته لرجال الجن من أجل معاشرتها، وسيقولون أنه ليس آدمياً، وأنه أصلاً من الجن.

أما قصة زجاجة المشروب المحرم التي كان يلفها بأكثر من قطعة قماش حتى تختفي معالمها، فستجد تلك القصة كذلك من يتبناها ويهتم بها وينميها، سيقولون أنهم لطالما رأوه سكراناً مترنحاً متلفظاً بالغريب من الكلام، وسيحكون عن المرات العديدة التي كادوا فيها أن يتقيؤوا بسبب رائحة فمه الكريهة، سيحددون عدد المرات التي يتناول فيها المشروب يومياً بالطبع مع تحديد الكمية، سيروون العديد من التصرفات غير المسؤولة التي تصدر عنه أثناء سكره، سيقول أحدهم أنه شاهده ذات يوم يسير عارياً تماماً ممسكاً بزجاجة خمر فارغة كان قد شربها كلها، وكان ذلك في منتصف الليل حيث لم يكن هناك من هو مستيقظ سواه ليشاهده، سيقول أنه ستره بقطعة من الملابس وأعاده إلى بيته ولم يخبر أحداً عنه لأنه رجل فاضل يستر على العباد ولا يفضحهم.

نعم، ذلك سيكون مصير الرجل الذي حاول أن يخفي عن أعينهم ذلك الشيء الذي كان يمسك به في يده، ومن نصيبه سوف تكون كل تلك الأكاذيب والخيالات المريضة، إلا أن ذلك الرجل نفسه الذي سيذوق مرارة أكلهم للحمه، بمجرد أن يضع ذلك الشيء الملفوف بقطعة من القماش في بيته، فإنه سيخرج إلى الشارع سريعاً ليشارك مجموعة أخرى في أكل لحم رجل آخر، لكن هل كان سيسلم ذلك الرجل إن كان قد كشفها طوعاً أمامهم؟

لا، لم يكن ليسلم أبداً، كانت مجموعة منهم ستحاول أخذها منه وإن كانت غير ذات قيمة، وكانت أخرى ستحاول إتلافها وإن كانت ذات قيمة كبيرة، وأخرى ستحسده عليها علناً، وأخرى ستضحك من اختياره وذوقه، وأخرى ستؤنبه على اقتناء ذلك الشيء، وأخرى ستلومه على عدم مشاورته لهم قبل أن يقدم على اقتنائه، لم يكن ليسلم أبداً. على أرضهم لم يكن ليسلم عرض الزوج من لسان زوجته، ولا عرض الزوجة من لسان زوجها، ولا عرض الأب من لسان ابنه، ولا عرض الابن من لسان أبيه، ولا عرض الأم من لسان ابنتها، ولا عرض الابنة من لسان أمها، كان هذا يمضغ عرض هذا، وذاك يمضغ عرض ذاك، كانوا جميعاً يمضغون أعراض بعضهم البعض، وكانوا يضحكون.

كانوا دائماً ما يشعرون بالنقص، ذلك النقص الذي هو مرادف لعدم الرضا، ولم يكن هناك ما يملأ تلك النفوس الفارغة، لذا كان التباهي لديهم هو الغاية والهدف والقيمة الكبرى، لا يستطيع أحدهم أن يستمتع بشيء ما وحده مهما كبرت قيمته، من دون أن يتباهى به أمام الآخرين، ففي ذلك فقط تكمن متعتهم الوحيدة، فالمرأة المتزوجة على سبيل المثال لم تكن تحب رجلها ولم تكن تريد منه حباً، إلا أنها كانت تجذبه من دون حياء في ليلة الزفاف إلى فراشها، في حين يكون هو الآخر متلهفاً لكن ليس من أجل متعته، كان كل منهما يعلم أنه يجب - بعد تسعة أشهر من تلك اللحظة - أن يصرخ ذلك الطفل معلناً عن فحولة الأب، وخصوبة الأم.

وكانت تصر تلك المرأة على أن تظل في حالة حمل تلو الأخرى، حتى آخر لحظات خصوبتها، وكانت حين تعجز عن الحمل لا تقبل بهذا أبداً، وتتراكم طاقات الشر والحقد في نفسها، حتى وإن كانت قد تخطت الخمسين من العمر، ولديها من الأبناء ما يزيد على خمسة وعشرين، ومن الأحفاد ما يزيد على الأربعين.

أما من كان لا يقدر له الإنجاب، رجلاً كان أم امرأة، فلم يكن له على أرضهم مكان، فإذا تزوج اثنان ولم تحمل المرأة خلال ثلاثة أشهر من زواجهما، كان يتم الطلاق على الفور، ويتزوج كل منهما بآخر في أسرع وقت ممكن، فإذا لم تحمل المرأة من زوجها الجديد، فإنها تطلق للأبد ولن تجد من يتزوجها أبداً، أو حتى من يرغب في ممارسة الجنس معها، فما قيمة الجنس مع مثل هذه المرأة التي لا تنجب؟

وهكذا يكون قدر تلك المرأة أن تسلم نفسها لأهل المرتاحية، الذين يحل لهم أن يشمتوا بها ويعيرونها في كل يوم، ولم يكونوا ليسمحوا لها بالاختباء عن أعينهم كي تخفي عارها، بل يكون عليها أن تقدم لهم لحمها في كل يوم ليأكلوه، ويظل ذلك اللحم يؤكل إلى أن تموت صاحبته، وحتى بعد موتها لن تسلم أيضاً، لأنهم سيظلون يتحدثون عن مصيرها السيء الذي سيأخذها إلى الجحيم، سيقولون أنها لا تستحق أن تفوز بالجنة لأنها لم تنجب، ثم إنها ماتت ولا زوج لها، ولا مكان لغير المتزوجات في الجنة، لن ينسونها أبداً، سيظلون على عهد أكل لحمها حتى بعد أن تصير تراباً.

هذا بخصوص المرأة التي لا تنجب، أما الرجل، فكان إذا تزوج للمرة الثانية ولم تحمل تلك الزوجة خلال ثلاثة أشهر، كان يطلقها على الفور، وكان عليه أن يختفي إلى الأبد، فإما أن يغادر المرتاحية دون رجعة ودون قلق من أي ألم سوف يسببه غيابه لأهله، فهم سيلعنونه على ما جلب لهم من عار وسيفرحون بغيابه ولن يحاولوا معرفة ما إذا كان حياً أو ميتاً، أو أن يلقي بجسده المربوط بحجر في النهر، وبالطبع لم يكن ليسلم في الحالتين، وسيكون من أهم فقرات حفلاتهم اليومية، سيتحدثون عن عقمه وعجزه وضعفه في كل يوم، سيصفون أعضاءه التناسلية وتشوهاتها، وسيضحكون كثيراً، أما من كانت زوجته فسوف تسرع في اقتناص زوج آخر، لكي يصرخ الطفل بعد تسعة أشهر، ولن تشفق مطلقاً على ذلك الذي ذهب بلا رجعة، من نامت يوماً في فراشه ومعه اقتسمت الطعام.

أما إذا لم يستطع الرجل مغادرة المرتاحية، وصعب عليه فراق الأهل والأرض، ومنعه الخوف من أن يلقي بنفسه إلى أعماق النهر، فإنه في تلك الحالة يكون قد سلم نفسه طوعاً لمصير مماثل لمصير ذلك الرجل الذي كان اسمه عبد الستار، والذي رفض الموت والهرب وقرر أن يبقى في المرتاحية، فكان من نصيبه العقاب الأكثر جهنمية على الأرض، إذ كانوا في وقت العصر من كل يوم، يسحبونه من داخل بيته مربوطاً بحبل كدابة، ويجردونه من كل ملابسه ليصبح في عري تام، ويقيدونه إلى شجرة يلتف حولها الجميع من النساء والرجال والأطفال، حتى أهله الذين كانوا يشعرون بالعار لم يمنعوا أنفسهم من متعة المشاهدة، كانوا يقضون الساعات وهم يطلقون سهام أعينهم لتخترق جسده العاري، كانوا يضربونه ويعبثون بأعضائه، ويضحكون، لم يتألم أحد لذلك المشهد البشع، ولم يشعر بعطف أو بتأنيب في قرارة ضميره، كان تعرضه لذلك الطقس اليومي لمدة شهر كافياً لأن يصاب بالجنون، حينها تم قتله بواسطة أهله مجتمعين، كان ضعيفاً وكان خنقه بالأمر السهل ولم يقاوم، ومنذ أن دفن عبد الستار وهو لا يسلم من أذى ألسنتهم، يذكرون جسده العاري وجنونه، يذكرون هوانه، ويضحكون.

لو أنهم كانوا يأكلون لحم بعضهم البعض لأنهم جائعون ومضطرون إلى ذلك من أجل أن يظلوا على قيد الحياة، لالتمس لهم بعض العذر في ذلك، على الرغم من أنه كان سيتخذ موقفاً مخالفاً لموقفهم في مثل تلك الحالة، حيث كان سيفضل الموت على أن يعيش على لحم الآخر ودمه، وكان سيحاول إقناعهم بأن موت الجميع واتفاق الجميع على الموت بشرف أفضل بكثير من العيش على لحوم بعضهم البعض، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى أن تكون الحياة حق للقوي فحسب، وأن الضعيف الذي لا يستطيع أن يبدأ بالهجوم ولا يستطيع على الأقل أن يدافع عن نفسه، ذلك الضعيف سوف يُسلب الحق في الحياة تماماً.

كان المواوي يرى منذ أن كان طفلاً، اجتماعهم الدائم واقترابهم الشديد من بعضهم البعض، وكان يظن ذلك وداً ووفاقاً، إلا أنه وبعد أن كبر وزاد وعيه وكثر تأمله لأحوالهم، وجد أنهم يؤذون بعضهم البعض في كل وقت، إلا أنهم ويا للهول لا يشعرون، وكأن الجميع قد اتفق على اعتبار كل تلك الشناعات عادية تماماً، وقد كانت وقائع يومية بالنسبة له أيضاً، إلا أنه كان من المستحيل أن يعتاد قبولها، إنهم يتقبلون ذلك بشكل أو بآخر، ويغفرون لبعضهم كل تلك الأفعال الشائنة، أو ربما لا يغفرونها وكانوا يردونها على بعضهم، وهكذا كانت تسير الأمور ولا تتوقف، وحدها أفعاله غير مقبولة وغير مغتفرة، لأنها لم تكن تشبه أفعالهم، ولم يكن بإمكانهم أن يردونها عليه.

يعلم المواوي أنهم ليسوا بتلك الصعوبة التي يبدون عليها، بإمكانه أن يقصر أيديهم ويخرس ألسنتهم، أن يلجم شرهم ويكف أذاهم، نعم سيخرس ألسنتهم تماماً إلا عن أن تلهج باسمه تعظيماً، سيلصقون وجوههم بالأرض كي يدوسها بنعله، سيلهم الناس حباً يهيم بكلماته، ستصير كلماته التي يسخرون منها حكماً يحفظونها. الجمال الذي لطالما دعاهم لرؤيته وكانوا يرفضون، سيجعلهم يرونه في جثة متعفنة لحيوان نافق، سيصرخون من فرط جمالها، وسيقسمون أنهم اشتموا رائحة المسك التي تفوح منها، ستصمت البلدة بأكملها إن أراد لحظات من الصمت كي يفكر، سيجلس ليناجي النهر كما يحب، من دون أن يقولوا عنه أنه مجنون، سيقولون إنما هو إله يأمر النهر، سيمشون على أربع، وسيأكلون بأرجلهم، سينزلون برؤوسهم إلى النهر ليشربوا كالدواب، سيفعلون كل ذلك من أجل إضحاكه إن شعر بملل أو كآبة، سيجعل من كلبه المسكين سيداً عليهم، ولو أمرهم بالسجود له لسجدوا، ولصنعوا من فضلاته تمائم تبارك بيوتهم، نعم، كان ليتمكن من أن يجعلهم يفعلون كل هذا، لو أنه كان يمتلك ذلك الكرباج المقدس الذي يعبدونه.

 

(6)

الآن وقد تمزق خمار الوهم، وتبددت الأفكار التي ساد الاعتقاد يوماً أنها مقدسة، لم يكن يظن أن الكلمة التي أقام لها وزناً كبيراً، سوف تفقد مصداقيتها بهذه السرعة، وأنها ستكون من صوت الماضي الخافت، هل يكون ما أحبه في الكلمة هو ذاته أكثر من الكلمة؟ كانت تأتي من حين لآخر لحظات يخرج فيها من عزلته الصموتة، ويجرب مرة أخرى قوة صوته، إنه لوهم أن يعتقد المرء أنه هو من يصنع سعادته وتعاسته، كم هي الحقائق مختلفة.

كان يلجأ إلى العزلة عندما يرى الأمور أكثر دناءة مما هي عليه في الواقع، أو بكل بساطة حين يطفح الكيل، إنه يعارض شيئاً يبدو معقداً، وسيظل كذلك إلى الأبد، هل سيدفعه التزام كبرياء الصمت إلى المكان الذي يريد أن يكون فيه؟ هل ستخاطب فصاحته الصامتة القلوب بأحسن مما تخاطب الآذان؟ فتؤثر في النفوس وتلهب العواطف إلى حد البكاء؟ هل يزدادون شوقاً وارتقابا لما سيقول مع كثافة الغياب؟ ويصيرون أحسن استماعاً لما سينطق به؟ لتلك الكلمة المؤجلة إلى غير نهاية.

هكذا إذن يشعر الإنسان بالحسرة، ينظر إلى العالم، وما تكون الفائدة إذن من العالم كله؟ يحاصره القلق والأفكار المضنية، إنه يعاني أكثر ومهمته أشق وسط ضيق أفقهم، وليس هناك شيء يمكن تغييره في هذا، الأمر الذي يجعله يكتشف أن أقسى مصير قد يؤول إليه، أن يبقى أسير ما جلبه الخطأ والوهم من أفكار، وكيف له أن يجزم بخطأ ووهم أفكاره؟ وماذا سيجدي الشك؟ كانت تأوهاته فصيحة بقدر ما يعتصره الألم.

ثم ماذا؟ ألن يكذبه تاريخه؟ ألن يكون كل شيء كأن لم يكن؟ .. مزيف هو من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، كان ممدداً على العشب الكثيف، يعروه شرود من مداومته للتأمل، لم يكن يعرف أي شيء هذا الذي تقع عليه عيناه ويثير الشوق في نفسه على الرغم من أنه كان يحدق في الفراغ، ويعلم أن كل ما يراه ليس غير خيال يبقى ببقائه ويرحل برحيله، كان قد دخل في نوع غريب من التأمل، وكان يكتشف في كل يوم شيئاً جديداً، يقضي وقته في وحدته العارمة وصمته الذي طال أمده ولا يعلم له انقضاء، كان عليه أن يفكر عميقاً في كل كلمة وكان يجد صعوبة في ذلك، لم تكن الكلمات تتأتى هكذا دون كد في كل وقت، ربما كانت تندفع هكذا بسهولة دون أدنى جهد في بعض الأحيان، إلا أنه كان داخل إطار عقله الخاص يرى فيها كل مواطن الضعف، كيف له أن يخلق المعنى الجديد؟ من أين له بالكلمة التي لم ينطق بها أحد من قبل؟ كان يشعر بحاجة ملحة إلى تغيير شكل الكلمات، وبضرورة إعادة خلق الأفكار وصياغتها، لغة ما لابد أن يخلق معجمها، ليستطيع أن يلمس بها قلب العالم، لكنه لن يتمكن من تحقيق أي شيء على الإطلاق.

في بؤس الصمت كان يرقد تحت ركام تجاربه وخسارته الفكرية، بينما يريد أن يبرهن على سيطرته على الأشياء، أن يعيد تشكيل مجمل أفكاره عن العالم والهيئة التي تكون عليها الأشياء بحيث تتناغم مع الحواس، كم تبدو له الأشياء متغيرة، كم تتغير الأشياء والأشكال والرموز، كم تصير أشد قبحاً أكثر فأكثر، ألا يحتمل أن يكون كل شيء غير حقيقي؟ تنتصب علامات الاستفهام الكبرى في جولات التيه، كان يقتفي سبل المجهول وتمر برأسه كل الأشياء، الهوى، الخطأ، السعادة، الخلاص، وكانت تقوده أفكاره إلى ما هو أبعد من ذلك، يستطيع التخلي عن كثير من هاته الأشياء، بل عنها كلها تقريباً، يستطيع أن يتخلص نهائياً من قيود الحياة ويحلق بحرية فوق العالم.

كان محترق الأعصاب يعاني الحرمان من النوم، كما لو أنه حكم عليه باليقظة الأبدية، في سكون الليل والوحدة حيث يولد الصمت، ينزوي إلى باطن ذاته وقد ضاع منه الكلم وانتهى، تعذبه تلك الكلمة التي تعتمل في الروح وتبقى جامدة في القلب، ولا تصل إلى الآذان التي تألفها، نعم، كانت كلماته التي لن تبلغ آذانهم هي سبب بلائه ومصدر الضنى في نفسه، إنها لا تأتي بسهولة وتسبب له درجة هائلة من توتر الأعصاب، كان هو نفسه وقود تلك النار التي تتقد في قلبه، وكان هو من يضرمها، كمن يسير في اتجاهين في اللحظة نفسها، كان على المواوي أن يبذل جهداً فوق كل ما بذل، لكنه كان يعلم أن خطواته ستضل في الريف الفسيح وسيبقى سادراً في غيه، وأن الصمت سيسود من جديد، وأن الحزن سيعتصر قواه من جديد، وأنه سيكون أعجز ما يكون عن تحقيق ما يحاول أن يصل إليه، ولن يسمع غير كلماته ترتد إليه.

ينظر إلى ذلك النهر الذي تتألق مياهه الصافية الرقراقة فتفعل فعل الحلم، لن يعرف سره المضمر أبداً، لن تشق عينه الحجب، سيظل يدور بين معمعة الحياة وحومة الفناء، يعرف ويجرب، يخطئ ويصيب، يخفق ويدرك، وستظل الأحداث تدور على هذه الأرض وكأنها تحمل معنى، وسينتظر طويلاً لكنها لن تكشف عن مغزاها، ولن يتمكن من إضفاء المعنى على الحياة، ألا تتحول حياته هكذا إلى مأساة؟ ألا يكون الموت أفضل؟ يمقت كل شيء وله دوافعه، وقعت تلك الكلمة التي تلح على لسانه في قعر الكذب، فقد كل اعتقاد في قيمة الحياة وقيمة إنسانيته، ومن يقدر على هذا؟ وحده بكل تأكيد يعرف كيف يواسي نفسه.

في ملجأ الكراهية كان عليه أن يستريح من الاهتزازات القوية التي أصابت الروح، كيف يجتث الشر من جذوره ويحسم ذلك الصراع، كان يتقصى جذور الحقيقة التي لا شيء في هذه الحياة يمكن أن يفوقها ألماً، وكان من الصعب عليه أن يتذكر الأفكار التي خامرته آنذاك، وسط قلق العزلة وصقيعها، وفي عمق شكه كان يتساءل، وما يدرينا أن هذه الأشياء حقيقية مثلما لا يزال كل الناس تقريباً يعتقدون، الشجاعة، الجسارة، الازدراء. ألا يرتبط الإنسان بتقلب أحوال الأشياء؟ ألا تغيره حواسه؟ ولكنها تغيرات لا تتم إلا بمفعول الزمن، أما تحول المعنى فذلك شأن آخر تماماً. من يمتلك القوة لا يلجأ إلى الكلمة، لا يطلق كلمات الغضب والتوعد المدوية، كان يشعر بخطر الموت الدائم، وكان في محاكاته الشاحبة يتمنى لو يلمس قلباً مليئاً بالحياة.

كساحر بارع في بقعة خالية من السحر، يندفع قدماً بصورة كئيبة، لا مفر من أن يمضي في سبيلها، فالكلمة ميدانه الذي لا يجاريه فيه أحد سواه، من ينقل الكلمات ينقل الأفكار، وهم لن يتكلموا ولن يخطر ببالهم أن يفكروا، ستعيش كلماته وأحلامه وآلامه بل وأحقاده أيضاً آلاف السنين، على الرغم من حظوظ البلهاء، ووقوع الظلم بمن لا يستحق، وفوت الفرص وخيبة المساعي، وامتناع الآمال وحبس الأرواح في الأجساد، رغم أنف هؤلاء الهمج الذين لم يكن بوسعهم تذوق ما ينطق به، ستجد كلماته من يحفظها وإن مات ستبقى تلك الكلمات، ها هو ذا يعود ليفعل ما كان يفعله دائماً، أن يستمر في السماح لتوهماته بأن تبلغ نقطة الكمال، وأن يستشعرها بشكل سحري. بأول باعث يعن له يصل إلى العيش في وفاق مع روحه، بشكل أقل ارتيابا في كل المصادفات المحتملة.

كان ما يمثل إلى بصره يثبط همته، لا يبدون أي اهتمام نحو كلماته ولا يكلفون أنفسهم عناء الإصغاء إليها، كانوا يمنحونه الإحساس الأكثر عمقاً ويأساً من قيمة الكلمة، ولكن حدسه كان يوحى إليه بما يشتد به عزماً، كانت تمتد ظلال ذلك الشبح الغامض الذي لا يزال ينصب أخطر فخاخه، بما فيها من تفوق وسحر يغوي كثيراً، بكلمة سيزلزل عليهم الأرض، وكيف لهم أن يصموا آذانهم عنها، ثمة جرائم ترتكب بالكلمة، وثمة كلمة تخلف من الآثار أوثق مما تخلفه الطعنات، وهو ما قد دفع به إلى ذلك، حمله فزعه منهم على ما هو أعظم منهم وأشد بأساً، لكأن كل قواه قد آلت إلى لسانه، كيف له أن ينصف ما لا يحبه؟ سيتخذ من جهلهم ما يتلهى به، ولن يكون إلا مستخفاً بهم، ولكن كيف له أن يتأكد أن كلامه الفاجع قد فهم، لابد من السيطرة عليهم بطريقة أخرى وتطويق أعناقهم بطوق من حديد، ولكن مثل هذا المسعى كان يستلزم أن يلوث كلماته بما يناسب آذانهم، هم لا يريدون إلا الزيف، وماذا يعرفون هم عن الحكمة والتيقظ، ليسوا إلا مجموعة من العقول المستعبدة المقيدة إلى سلاسلها الأبدية التي يكاد يكون فصمها مستحيلاً، ولكن شيئاً من كل ذلك لم يحصل بعد، إذ كان أميل إلى الحفاظ على طهارة الكلمة. إنه ليعسر عليه أن يأتي بأبشع الآثام.

فحسبه أن حظي من تلك الحياة بأنوار امتدت نحو كلمة كانت قد بلغت آنذاك كمالها، كلمة ظلت تنتظر في ذاكرته غامضة مستعصية شبه متعذرة اللمس، لكن إلى أي مدى يستطيع المرء أن يعاند وسط محيط مضجر؟ لا يستطيع أن ينكر أن تلك الكلمة كانت إحدى ملطفات الألم، وأنها لطالما حفظته من التمزق. فوسط ذلك الشر الذي لم يكن يستطيع إزالة أسبابه أو القضاء عليه، كانت الكلمة وحدها هي التي تستطيع تخدير الآلام، كانت كاذبة في الواقع، وكانت المأساة أنه لم يكن يستطيع إلا أن يزداد تشبثاً بها، إلا أنه في لحظات التبصر التي تخترق الوهم، كان يحدث فجأة أن يكتشف أن حياته لم تكن سوى متوالية من الأخطاء، كان يستمع إلى الذين يتحدثون عن موهبته المقززة، فتزعزعه كلماتهم وتخيفه، فيشعر أن الكلمة تصاحبه كمرض مزمن، ويسعى إلى أن يفرض الكثير من القيود على نفسه كي يكبحها، وكان ذلك شيئاً فظيعاً.

من أين له ما يقف به أمام همجيتهم وضراوتهم البدنية، ميلهم المتأصل نحو كل ما هو وحشي وهمجي، من أين له القدرة على القتل؟ لا يملك إلا أن يسئ إليهم بكلماته الباردة، لكنه كان يتوجه إليهم بكل ما هو ضد طبيعتهم، هم بلداء جداً لدرجة أنهم لا يعرفون كيف يشعرون، إنهم يجهلون تماماً معنى أن يحس المرء بشيء ما، هل تستحق الكلمة كل هذه المعاناة؟ هل تستحق أن تكون شغله الشاغل وهدفه الوحيد؟ كان هذا السؤال الأكثر رعباً الذي يتبادر إلى ذهنه. إنها مزيفة مثلها مثل كل الأشياء، سيكتشف ذلك، وسيعرف وقتها أنه لا وجود لأية خطايا أو أية فضائل.

كانت المرة الأولى التي يرى فيها نفسه وقد امتلأت بذلك الكم من الكراهية، كان صامتاً مذهولاً من فرط نفوره منهم، هو الحقد إذن من أقصاه إلى أقصاه، بل هو أسوأ بكثير، يتطلب الأمر الكثير من الشر كي يستبد بهم جميعاً، النبرة الزاجرة والفظاظة وكافة السمات البشعة وكثير من الأشياء التي كان يكرهها، رغبة غامضة في التعسف تجتاح نفسه، يود لو يجعلهم يلعقون المزيد من الذل، تتوالى الأفكار بسرعة البرق، سيحتفظ بقوته في البداية لكنه سيضعف بالتدريج.

هل هناك من عرفهم ولم يحتقرهم؟ سوف يكشف لهم حقيقتهم ثم يجعلهم يولون هاربين من شدة الرعب، يكاد زوالهم يكون وشيكاً، كانت أكثر أحلامه جسارة تتضاعف بلا نهاية، له وحده ستكون المرتاحية، ستنعم الحيوانات والطيور والأشجار بزوالهم، وسيفرح النهر كثيراً، كانت تلك الفكرة تجعله يشعر بتحسن كبير بعيداً عن تبكيت الضمير، إنه عطوف، ولا تعني رغبته في التخلص منهم أنه ليس إنساناً، وأنه قد فقد طهارة طبعه، فهو لا يزال يحتفظ بطيبة القلب وابتسامة العين، وبالرهافة التي تغلف كافة تصرفاته، وتبدو على وجهه كل علامات الطيبة والرأفة بنفس القدر الذي يفكر به في الانتقام. إنه يفرض على نفسه قوانين أشد صرامة لا أكثر، أما طيبته فإنما هي عادة لا يستطيع أن يقلع عنها، فلا بأس بمزيد من الكراهية يبثها في الروح المضطهدة العاجزة، التي لا يكشف عريها إلا عن إيمان أعمى بالكلمة ونفور راسخ من الناس.

كان إيمانه الأعمى مجرد خدعة من شيطان، كان قد تم تضليله منذ زمن، وكم يروق للإنسان أن ينخدع، أبهذا يكون قد فقد كل إيمان بالكلمة؟ ولم يعد له ارتباط بمقياسه الخاص الجميل؟ كان يخيل إليه أنه بالكلمة يمتلك العالم، وأن ثروته هي تلك الحروف، وأن الناس سيشرعون بعد فوات الأوان في تصديق إيمانه الكاذب الذي أشاعه، حيث يفضل الكل العودة إلى الكذب في النهاية، بعد أن يكون الناس قد اقتنعوا بما فيه الكفاية بعواقب الحقيقة كي يعمدوا إلى تحويل أبصارهم عنها.

ومن منهم يعرف معنى الوحدة، كان قد أتخم بالأفكار وضجر منها، عليه أن يتخلى عن كل الأفكار التي كان يقدسها، كان يشعر في قرارة روحه بأحاسيس متناقضة، ولم يكن يعرف إلى أي مدى ستتعمق وتتوسع، وهل يتولد الشيء إلا عن نقيضه، هي فكرة شديدة البعد عن الحقيقة مثلما هو الأمر في أغلب الأحيان، لم يكن الميل والشغف إلا نتيجة مجموعة من الأوهام، كانت تصوراته الخاطئة جميلة بقدر ما كانت ساذجة ببؤسها العميق، وإلا لكان قد صمد أكثر في وجه هؤلاء الهمج، فلتسقط كل كلمة لم تزل عاجزة عن القضاء على فساد الروح، كل كلمة لا تمنع الشر من أن يسود، ولا تضيق الهوة التي تفصل الإنسان عن الوحوش شيئاً فشيئاً، ولا تمحو وجه الحياة القبيح، فلتسقط الكلمة التي لا تخرس النشاز الأقوى، فلتسقط الكلمة التي تغضب وتعذب وتشقي وتحزن وتصيب من يحملها بمرض يصعب شفاؤه، وليحزن بعمق كل من عرف هذه الكلمة.

 

(7)

معاشرتهم لم تعد ممكنة، على الرغم من أن وحدته تحزنه أحياناً وتسبب له أحاسيس مؤلمة مختلفة، إلا أنه لم يعد قادراً على التناغم مع هذا العذاب والعثور فيه على متعته غير المعقولة، لم يعد يحتمل رؤية وجوههم ولا سماع أصواتهم، لم يكن يتحدث إلى أحد على الإطلاق، فهو إن تكلم لا يحبون ما يقول، ولا هو يطيق متابعة أحاديثهم، لن يغادر بلدته، لن يترك بيته الممتلئ بأنفاس الحب، ولن يحبس نفسه خلف جدرانه محروماً من النهر، لذا كان عليه أن يبدأ يومه حين ينتهي يومهم، فمع نومهم يكون صحوه، ومع صحوهم وصخبهم يكون ليله وسكونه، ومن حسن الحظ أنهم كانوا من الكسالى الذين يحبون النوم الكثير، كما يحبون الأكل الكثير والنسل الكثير والأذى الكثير، وبذلك كان بإمكانه أن يستمتع ببعض من هدوء الليل.

كم كانت تلك البلدة تبدو جميلة رائقة عندما تغفو وحوشها، وكم كان ممتعاً نقاء الهواء الذي كان يختنق من أنفاسهم، هكذا كان ينعم بالليل وبمشاهدة شروق الشمس، وفي كل يوم يفتح بيته لأشعتها خاصة في الصباحات المشمسة وينظفه جيداً، يضع فراشه وغطاءه ووسادته حيثما تتسلط الشمس لأطول وقت ممكن، يجلب المياه من النهر فيغتسل ويغسل ثيابه، ويحمم ذلك الكلب المسكين مدلكاً جسده بيده الحانية ليتمدد بعدها في الشمس، ولم يكن باستطاعة الكلب أن يعبر عن دهشته وامتنانه لذلك، لم يكن يستطيع إلا أن يزداد حباً لصاحبه والتصاقاً به.

كان قد بدأ يصنع خبزه بنفسه، فقد قرر ألا يلجأ لأحد من أهله بعد اليوم، سيشعرهم في كل لحظة بعدم احتياجه إليهم، وبانعدام قيمتهم تماماً، كما أنه كان قد امتنع عن أكل اللحوم تماماً، فهو لن يشاركهم شراهة افتراس اللحوم بعد اليوم، لن يأكل مثل ما يأكلون، لن يشبههم أبداً، وسيعمل على أن تتسع المسافات بينهم وأن تمتد إلى ما لا نهاية بقدر ما يمقتهم ويمقتونه. كان يخبز القليل من خبز الذرة في كل يوم، ويأكل مما يتوفر في حديقته من خضروات وفواكه، وصار كلبه يأكل من كسرات الخبز وأوراق الخضروات وحبات الفاكهة وقشورها وكان سعيداً، كما كان المواوي يعتني بحديقته في كل يوم وينظفها ويحرص على جمالها واكتمال صورتها الحسنة، وكان يعتني أكثر ما يعتني بشجيرات الورد البلدي المحببة إلى قلبه.

كانت الأيام تمر من دون أن يرونه، كم كان سعيداً وهو يسمعهم يحومون حول بيته، يودون لو تخترق أعينهم تلك الجدران التي يحتمي بها، يتسمعون فلا يجدون إلا ذلك الصمت الذي لا يطيقونه أبداً، كان يأسف لهؤلاء البلداء الذين لا يمكنهم الاكتفاء بذواتهم واجتماعهم وصخبهم، لماذا لا ينسون أمره تماماً؟ لماذا يؤرقهم إلى هذا الحد؟ ويشغل تلك المساحة من عقولهم الفارغة؟ ها هو قد ترك لهم الوقت، فلا يأخذ من الحياة سوى تلك الأوقات التي يتخلون عنها طوعاً، ويفضلون النوم على أن يعيشونها، باختصار كان يأخذ فقط ما يتركونه من الحياة.

كانوا في أول الأمر يطرقون بابه بحجة الرغبة في الاطمئنان على أحواله، وذلك بعد فشلهم في التجسس عليه، لمرة واحدة فقط فتح الباب من دون أن يسمح لأحدهم بالدخول، قام بشكرهم وأخبرهم أنه بخير وأن عليهم أن يعتادوا هذا الوضع وألا يقلقوا بشأنه، ولم يجب عن أسئلتهم اللحوحة التي كانوا يكررونها على مسامعه، عدا سؤالاً واحداً كان يشبههم في غلظته ووقاحته، إذ قال أحدهم: كيف سنعرف بموتك عندما تموت وحيداً في بيتك هذا؟ .. آلمته الكلمات الكريهة، وكان عليه ألا يظهر ألمه لأن ذلك سيكون سبباً في سعادتهم، فابتسم قائلاً: ستعرفون بموتي عندما يختفي الجمال من بلدتكم وتموت ورودي التي لن تجد من يعتني بها من بعدي.

أثارت كلماته من غيظهم ما يكفي لجعلهم يفكرون في كسر باب بيته وإخراجه عنوة لإقامة إحدى حفلاتهم، كانوا يقولون: كيف له أن يعيش بدوننا؟ كيف له أن يبدو سعيداً على هذا النحو كمن لا ينقصه شيء؟ هذا لا يجب أن يكون أبداً، يجب أن نعرف ما يفعل خلف هذه الجدران، يجب أن نراه في كل لحظة.

كان الفضول يقتلهم، وكان المواوي يسره ذلك كثيراً، كان قد حصن بيته بالجمال الذي يخيفهم، كانت رائحة وروده التي تفوح كلما اقتربوا من بيته أشبه برائحة لمادة خانقة لا يحتملونها، كانوا يسخرون منه، ويقولون ليس برجل من يزرع وروداً لها ذلك اللون وتلك الرائحة، كانت وروده تؤرقهم بجمالها الذي لم يكونوا يستطيعون تأمله والاستمتاع به، كان صغار الوحوش يقطفون أوراقها، يلقونها على الأرض ويدهسونها بنعالهم، وكان المواوي يجمعها باكياً، يمسح عليها بيده ويجففها ويحتفظ بها في بيته، كان يجرح قلبه ذلك الشجن الذي ينبعث من رائحتها بعد أن تجف، أما نساء الوحوش، فقد توصلن إلى طريقة لطبخ تلك الورود مع كميات كبيرة من العسل، وحشو لفافات الخبز بها، وكان يرى صغارهن وهم يمسكون بتلك اللفائف بينما تسيل دماء وروده من أفواههم، وروده الجميلة التي يحبها ويرعاها وتؤنسه بجمالها ورائحتها.

كان كلبه المسكين أكثر تهذيباً منهم، لم يكن ليدهس وردة بأقدامه، لم يكن ليؤذي حشرة، بل كان ينتفض رعباً إن تحرك بجانبه صرصار، وكان المواوي يأسى لذلك ويود لو يملأ قلبه بما يبدد كل هذا الخوف الذي يعشش بداخله.

لم يكونوا ليحفظوا جميلاً، أو ليصونوا عشرة، أو ليذكروا معروفاً، بإمكانهم أن يتخلصوا من المواوي على الفور متناسين كل ما قدم أبوه إليهم من إحسان، هذا الذي يختبئ منهم في بيت يظن أنه يحميه، بإمكانهم أن يعيشوا هم داخل بيته الجميل ويخرجونه إلى الشارع، بإمكانهم أن يجردونه من ملابسه تماماً وليريهم وقتها كيف له أن يحفظ أسراره عنهم، بإمكانهم أن يجعلونه مباحاً تماماً على مرأى ومسمع من الجميع، لم يكن هناك من أخلاق تمنع أو مشاعر ترحم.

كل ما هنالك أنه كان هناك خط ما خفي لا يمكنهم تجاوزه، كانوا ينهشون عرضه بطبيعة الحال، لكن كان هناك ما يعطلهم دائماً ويوقف تماديهم، ربما كانوا يتركونه لأنه كان يثير فضولهم، أو لأنهم لم يكونوا يفهمونه، ربما كانوا يشعرون بأنه أفضل منهم، أو كانوا يستشعرون قوة ما لديه، وكانوا غير قادرين على تفسيرها، ربما كانت قوة الاختلاف.

صاروا يسمونه "أبو كلب"، سخرية من عطفه على ذلك الكلب المسكين، ومن صداقتهما، يقولون أنه لا يوجد من يقبل العيش بصحبة ذلك المواوي سوى ذلك الكلب الأسود، يقولون أنه لن يتزوج ولن ينجب أبداً، فلن يجد من يقبل به صهراً، لن يكون له من ابن يحمل اسمه سوى ذلك الكلب الأسود ابن المواوي، لم يكن ليؤثر فيه كلامهم، كان يرد عليهم قائلاً: تركت لكم الخلود، ورثوا عالمكم القبيح لصغاركم المتوحشين الذين تقذفون بهم على هذه الأرض في كل ساعة، خذوا كل شيء، ما لكم وقلبي؟ ما لكم وعالمي؟ ما لكم وجنتي على الأرض؟

كان المواوي قد قضى عمراً جمعه بهؤلاء، ومنذ أن كان طفلاً كان يسمع ما يقولونه عن كل من أمه وأبيه، كان يرى دموع أمه وانكسار أبيه حينما كانا يعيران بأنهما لم ينجبا سواه، يذكر جيداً كيف كانت تعاني الأم من نظراتهم الضاحكة التي تخترق بطنها، وكيف كان يعاني الأب من نظراتهم الضاحكة التي تخترق نصفه الأسفل، لكنهما كانا بمجرد أن يستقرا في بيتهما بعيداً عن هؤلاء الهمج خلف أبوابه المغلقة، كان المواوي ينعم بسعادتهما التي كانت تبعث في نفسه كل ما هو جميل.

كان كل من أمه وأبيه يعيشان تحت سخطهم، وكان مطلوباً منهما كي يحصلا على الرضا الكامل، أن يتطلقا ليتزوج كل منهما من زوج آخر، وكان مطلوباً من المواوي أن يحرم من بيته ومن أمه ومن أبيه، وأن يذهب للعيش كخادم صغير في بيت جده لأبيه، فلم يكن هناك زوجة أب ستقبله، ولا زوج أم سيرضى بوجوده في بيته، كما أنه لن يكون له مكاناً وسط جحافل الأطفال الذين سيأتون سريعاً، هكذا كان يجب أن يكون الأمر.

إلا أن الأمور كانت قد سارت على غير ذلك منذ زمن، منذ أن تزوجا واجتمعا سوياً لأول مرة، هناك في فراشهما، حدث ما لم يعرفانه من قبل، ولم يعرفه أحد سواهما في المرتاحية، في لحظة ما، شعر كل منهما بأنه صار يملك شيئاً ما غير ذلك الجسد، من دون أن يراه أحدهما أو يلمسه أو يعرف له شكلاً، كان كل منهما يشعر بوجوده، بخفقه، كان هناك في صدر كل منهما، نعم، كانا يشعران به هناك، ولأول مرة كانا يفهمان ذلك الحوار الذي كان يدور بين الأعين التي تحولت من عيون باردة جامدة إلى عيون دافئة مترقرقة، العيون التي لم تعد تنظر وتحملق وحسب، بل صارت ترى كل ما هو أكبر وأعمق.

كان كل منهما ينظر إلى عيني الآخر الباسمة الدامعة في آن بدهشة كبرى، كيف للعيون أن تكون جميلة إلى هذا الحد، وكان بعد أن رأت العيون جمالها الشفيف، أن أيقنا أنهما قد تغيرا منذ تلك اللحظة وإلى الأبد، وكانا على أتم الاستعداد لدفع ثمن ذلك التغيير الذي جلب تلك السعادة وذلك الصفاء، وذلك الإحساس بأنهما قد صارا أرقى مما كانا، وأنهما يستحقان السماء، لم يكن ليقبل بأن يعود ثوراً بين الثيران، ولم تكن لتقبل بأن تعود بهيمة بين البهائم، كانا قد عرفا قدر النعمة التي أنعم الله بها على كل منهما، ولما بدأت الكلمات تخرج من الروح، تعاهدا على ألا يفترقا أبداً، حتى وإن لم يقدر لهما الإنجاب، وتعاهدا على أن يتحملا عواقب ذلك، وحده الموت سيفرقهما إلى حين، ثم سيجتمعان إلى الأبد في السماء التي إليها ينتميان.

كان المواوي نتاج ذلك الحب الذي هذب ذلك الرجل وتلك المرأة، فلم يسمع سوى مناجاة العشق بينهما منذ أن كان رضيعاً، ولم ير سوى متحابين يمسك كل منهما بيد الآخر يقبلها، لم يتعلم منهما سوى جميل الكلمات، ولأنهما كانا قد أحبا بعضهما، فقد أحبا الكون بأكمله، وأحبا كل ما يحيط بهما، وكان ذلك الحب هو ما يسري في دماء المواوي، فأحب النهر، والزرع، والسماء، والأشجار، والهواء، والحيوانات.

كان أبوه يوصيه خيراً بكل المخلوقات وبأهل بلدته ويوصيه بالإحسان إليهم إلى ما لا نهاية، فقد كان أبوه أكثر صبراً عليهم، وكان المواوي على الرغم من كل شيء يحمل لهم حباً في ذلك الجزء الصغير من قلبه، ذلك الجزء الذي كان يؤلمه كثيراً، لكنه كان يزداد رفضاً وكراهية لكل ما هم عليه كلما كبر واتسعت رؤيته، وكان قد بدأ يصرح بكراهيته لهم بعد موت أمه على وجه الخصوص، لم يرحموا تراب سيرتها، ولم يرحموا ذلك الزوج العاشق المحزون، الذي لم يمكنه أن يعيش بدونها لأكثر من شهر، ليجد المواوي نفسه وحيداً تماماً وهو لم يكمل بعد عامه الخامس عشر.

كان خلال هذا الشهر أكثر التصاقاً بأبيه الذي تملكه حزن عظيم، يستمع إلى أحاديثه عن حبه لأمه، كان يحدثه عن نعمة الحب، وعن ضرورة تقبل الموت كجزء من الحياة، كان يوصيه بالتمسك بالحب والاحتماء بأركانه، بألا يفعل إلا ما يحب، وألا يفعل إلا لأنه يحب، ألا يعيش إلا من أجل ما يحب، وألا يعيش شيئاً سوى الحب، كان يؤكد له أنه بخسارته للحب، سيخسر كل شيء، سيخسر الفرصة الوحيدة للحياة على هذه الأرض، وحينها لن يكون الموت سوى خسارة أبدية لا حياة أخرى، كان يوصيه بالرحمة، وبضرورة التخلص من الغضب الذي يتمدد في صدره، ومن بقع الكراهية التي تلطخ قلبه.

كان يقول له: اغسل قلبك في مياه هذا النهر، وحده النهر لديه من الحكمة ما يكفي لمحو ما في قلبك من كراهية وما في صدرك من أحقاد. كان المواوي يجادله ويسرد مساوئهم على مسامعه، فيرفض أبوه أن يذكرهم بسوء، فيغضب المواوي قائلاً: إن ما أشعر به نحوهم إنما هو قليل بالمقارنة مع ما يفعلون. كان الأب يستمع إليه بحزن ولم يكن يرد سوى بهذه الكلمات: لا أخشى عليك إلا من تلك الكراهية.

 

(8)

كيف يحفظ كلماته من الموت والضياع الأبدي؟ إلى متى يظل يحفظها في نفسه؟ نفسه التي تضم كل كلماته، كيف يحميها من الاندثار؟ هل يغرسها كالأشجار في حديقته؟ هل تزهر يوماً؟ هل يحفرها على جدران بيته الهش؟ هل يلقي بحروفها كالبذور المنثورة في الأرض المحروثة؟ كيف يبقيها في خيال الناس كإرث من العهود السالفة؟ كلماته التي لا تجد مكاناً يؤويها، هل ينوء بحملها أبد الدهر؟

سيموت كل شيء بموته، ولن يعلم أحد بوجوده يوماً، ستبقى المرتاحية كما هي وربما ستتغير، لكنها لن تخبرهم أبداً أنها قد حملت فوق ظهرها يوماً صاحب الكلمة الأول، وأن اسمه كان المواوي، وأن صوته كان عالياً واضحاً، وأنه أول من رأى كل هذا الجمال بحساسية روحية وأنه أكثر من أحبه، وأنه كان صديق الورود الحمراء وكان هو من يهتم بها، وأنه قد عرف في زمنه كل ما لم يعرفه سواه.

لم تكن روحه تطمح إلى الحياة الخالدة، كان يقبل بموته، كان أكثر ما يؤرقه ولا يستطيع قبوله هو أن تموت كلماته وتختفي إلى الأبد كأن لم تكن يوماً، كان يحب أن يرى كمالها، كان يريد أن يأتي من يردد كلماته من بعده، وأن يأتي من يروي قصته، لكي يعرف كل من سيحمل الكلمة في يوم من الأيام وكل من سيعاني بسببها، أنه كان صاحب المعاناة الأكبر والعذاب الأقسى، إنه لن يصمت أبداً ولن يعرف نقطة التوقف، أنه يعمل بعناد على تثبيت كلماته التي تزول وتختفي من الذاكرة.

لم يكن هناك مسافة بينه وبين ما يتخيله، كان أحياناً يوهم نفسه ويمنيها بأن كل كلمة صادقة ستقال يوماً سوف تحمل شيئاً ما من قلقه وأفكاره وشكوكه ومعاناته، لأن كلماته بعد أن يموت سوف تتناثر في الهواء وسوف تمتزج بكل ذرة من ذرات هذا الكون وستلمس روح أحدهم يوماً وتختلط بدمه. وكان في أحيان أخرى يقول ببساطة، فليذهبوا جميعاً إلى الجحيم، ويشعر بأنه لا حاجة له بهم، ويقرر أنه لن يستجدي سماعهم لكلماته بعد الآن، وأنه لن يترك كلماته إرثاً لمجموعة من الهمج الذين لن يحفظونها بل على العكس تماماً سيقومون بتشويهها وسيجعلونها من أقبح ما يكون، فلتمت كلماته وليكن صدره قبراً لها، كان ذلك يؤلمه، لكن لا بأس بألم ربما يكون أكثر رحمة من أي تواصل مع هؤلاء الهمج، كان على الرغم من أفكاره تلك لا يستطيع أن يقاوم رغبته العميقة في أن يوصل كلماته إلى الآخرين دائماً.

لما كان قد فقد كل أمل في أن يجعل هؤلاء الهمج ينصتون إلى كلماته، لم يكن أمامه سوى أن يجعلهم يتنصتون على الأبواب لسماعها، يعلم مدى حبهم للتجسس على الآخرين، كانوا شغوفين بمثل هذا الأمر، ولم يكن بحاجة إلى أن يفعل الكثير من أجل إثارة تلك الرغبة لديهم، كان عليه فقط أن يقف داخل بيته على مقربة من الباب، وأن يقول كلماته بصوت عال في البداية، بحيث يسمعه من يمر أمام البيت، فيضطر إلى الاقتراب للاستماع بصورة أفضل، ثم يخفض صوته تدريجياً بعد ذلك، إلى تلك الدرجة التي تضطرهم إلى أن يكتموا أنفاسهم كي يسمعوه جيداً.

كان يدخل إلى بيته في الصباح كعادته مع بدء صحوهم وتحركهم في البلدة، وكعادته أيضاً كان يغلق الباب جيداً بما يظن أنه يكفي لأن يمنع أحدهم من اقتحام بيته، إلا أنه كان يعلم جيداً أنهم من الممكن أن يقتحموا بيته بسهولة تامة وفي أية لحظة يشاؤون فيها ذلك، كانت المشكلة دائماً في قوة كثرتهم وضعف فرديته، فبيته هذا والذي يظن أنه يحميه، لا يزال موجوداً فقط لأنهم لم يقرروا بعد أن يهدموه فوق رأسه، وبابه هذا والذي يحرص على إغلاقه جيداً، ويشعر بأنه حصنه الآمن، لا يزال يحصنه فقط لأنهم لم يقرروا بعد أن يخلعوه للأبد، بإمكان ثلاثة فقط من هؤلاء الهمج أن يفعلوا كل ذلك، كم يستفيد من كسلهم وخمولهم.

في يوم ما جاءته تلك الفكرة، سيجعلهم يستمعون إلى كلماته صاغرين مذعنين لشهوة التجسس لديهم، سيجمعهم حوله وسيقف هو كملك على منصة وهمية متحكماً في كل شيء من دون أن يعرفوا، سيقفون مأخوذين بكل ما يقول، سيضعون كل حواسهم تحت أمره وسلطانه، حاسة السمع التي ستتحفز تماماً كي لا يفوتهم من كلماته شيء، أما حاسة البصر التي ستعجز عن رؤيته بينما يقول هذه الكلمات، فإنها ستلجأ إلى الخيال، الذي سيضطرهم إلى أن يعملوا عقولهم البليدة من أجل أن يخلقوا صوراً يرونها بخيالهم توافق ما يسمعونه من كلمات.

سيعرفون الخيال أخيراً، ليس من شك في أنه سيكون خيالاً سيئاً يشبه كل ما يختلقونه من كذب وافتراءات على بعضهم البعض، وأنه سيكون مشبعاً بكل حقارة نفوسهم الدنيئة، إلا أنهم على الأقل سيتدربون على الخيال، وليس من شك في أن ذلك سوف يجعلهم مع الوقت أفضل تلقياً لكلماته، وأن الكلمة ستبلغ في نهاية المطاف درجة عالية من القوة بحيث تجر وحدها تلك الجماعة التي ستشاركه طاقاته وآماله الإنسانية.

كانوا يقفون أمام باب بيته في صخب، يضحكون مما يسمعون، يحطمون روحه بالضحكات الاستهزائية التي يطلقونها بينما يستمعون إلى كلماته التي لا يجدون فيها سوى تلبية لفضولهم التافه ورغبتهم في التجسس والتلصص، يسبونه ويلعنونه، يتعجبون ويحاولون السخرية من كل ما يقول، يعرفون جيداً أنه ليس بمجنون وأنه أفضلهم، وأن لديه ما لا يمكنهم الحصول عليه، إنهم يكرهون كنزه الخفي الذي لا يمكنهم أن يسلبوه إياه.

كان على المواوي أن يقول كلماته بشكل مستمر دون توقف أو ارتباك مهما علا صخبهم، ومهما سمع من قبيح كلماتهم المؤذية التي تؤلم الروح، كان عليه أن يستمر وكأنه لا يسمعهم أبداً وكأنهم غير موجودين، كان فقط يبتسم حين تستطيع كلماته أن تقطع صخبهم بشكل مفاجئ وتضطرهم إلى الصمت ولو لثوان قليلة، كانت تلك الثواني القليلة دليلاً على انتصاره وانتصار كلماته التي تمكنت من أن تخرس هؤلاء الهمج، ومن أن تضرب تلك العقول البليدة، ومن أن تشل تلك الألسنة اللعينة.

على الرغم من نجاحه في إدامة ذلك الحشد إلا إنهم كانوا يرفضون كل ما يقول، يرفضون كلماته، ويرفضون أفكاره، وكان هو يرفض أن ينطق بما يعجبهم ويريح عقولهم، كان دائم البحث عن الكلمة التي بإمكانها أن تنخر في عفنهم، وأن تقلبه رأساً على عقب لتفوح رائحته ويشمونها جيداً، وكان هذا أكثر ما يزعجهم، أنه كان يجعلهم يشمون رائحة أنفسهم، التي كانوا يعرفونها ويقبلون بوجودها، إلا أنهم كانوا يرفضون أن تفوح بهذا الشكل خوفاً عليها، فهم يريدون لها أن تبقى محفوظة مركزة معتقة، فهي الكنز والميراث.

صار يقول عنهم كل ما فيهم، وكان كافياً أن يلقي إليهم في كل يوم ببضع كلمات كانت تبهتهم تماماً وتوقف صخبهم للحظات كان يليها صخب أكبر فيما يشبه النباح على ذلك الرجل الذي يوشك أن يجعلهم يعرفون كيف يكون الألم، وكيف يكون الشعور، وكيف يكون التفكير، وهو كل ما لا يرغبون في معرفته ويقاومونه بضراوة، إنه يؤلمهم بالفعل إلا أنهم لا يشعرون، ولئن كان بينهم من يشعر لكان قد انتحر من قسوة كلماته التي تصف حقيقتهم المروعة. هكذا صار يجاهر بآرائه فيهم بصورة لا تساعد على تحسين وضعه، هو يعرض نفسه لأقصى درجات الكراهية والعداء معهم بشكل واضح، هل كان صمته سيمنحه الأمن والسلام؟

هذا التمزيق للذات الذي يمارسه ليس سوى درجة عالية من الغرور، هي حرب يخوضها في صراعه مع نفسه ومع الآخرين، يتناوب فيها الهزائم والانتصارات، لا مفر من التعالي عليهم، بل لا مفر من ممارسة أقصى درجات التعالي على هؤلاء الهمج، لابد من مبادلتهم باحتقار أعظم من احتقارهم له، كان مخطئاً حين ظن أن تلك المعركة من الممكن أن تعرف هدنة أو تفاوض أو تنازلات، إنها معركة عنيفة لا يجب أن تعرف الهوادة ويجب أن تحسم شوطاً واحداً.

 

(9)

ليست هناك حماقة أكبر من معاشرة الناس. لم يعرف المواوي أياماً أسوأ من تلك التي دفعه فيها يأسه إلى أن يظن أن حياتهم هي الحياة، وأنها الأجمل والأكثر راحة، وأن عليه أن يسعى لأن يكون مثلهم في كل شيء، وأن يشبههم تماماً، أن يكون جزءاً من تلك الجماعة المنسجمة في قبحها وصخبها وازدحامها، المتناغمة في فوضويتها، فكان أن قرر الدخول إلى حلقتهم الجهنمية، ولم يكن ذلك بتلك السهولة التي كان يتصورها، إذ كان الأمر يتطلب منه التنازلات الكثير، فلم يكن عليه أن يتخلى عن كل ما كان يعيشه من عادات فحسب، بل كان عليه أن يتنازل عن روحه بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وأن يقهر طبيعته الخاصة ليكون مثلهم، أن يكون شخصاً آخر لا يعرفه، أن يأتي من الأفعال ما لا يقبله، وأن يقول من الكلام ما لا يطيق نطقه أو سماعه.

كان يظن أنه يسعى إلى جعل حياته أسهل بخضوعه الكامل وبإغراق نفسه في الخمول وبلادة الذهن، وأنه بذلك يمنح نفسه المتوترة فرصة لتخفيف توترها، كان يجد عذاباً كبيراً في رفقتهم أكثر من أي وقت مضى، هذا الضجر الطافح بالسخف، إنه لا يملك أي من علامات الغباوة وسوء الطبع، إنه شيء لا يمكن تفهمه والصفح عنه، وكم كان صعباً أن يقضي يوماً يشبه يومهم.

كان يذهب لينضم إلى تجمعاتهم الرهيبة، يتبعه كلبه الذي لم يستطع بعد أن يتخلص منه، ولم يستطع بعد أن يقتطع ذلك الجزء من قلبه الذي يحب ذلك الكلب المسكين كثيراً، فكان يجلس وسطهم مستسلماً لسخريتهم منه ومن كلبه، لم يكن سريع الانفعال، إلا أن قابليته للتأثر كانت كبيرة جدا، كانوا يفرحون بخروجه إليهم، ويقولون أنه لم يستطع أن يعيش وحيداً، ويضحكون. كان قد وصل إلى تلك الدرجة من الضعف، التي جعلته يعتقد أنه يستحق تلك السخرية، وأنهم لا يخطئون في حقه ولا يسيئون إليه، بل إنهم يعاملونه بالمعاملة المثلى التي تليق به، كان قد فقد جزءاً كبيراً من ثقته بنفسه، فصار يرى نفسه حقيراً، كانت غايتهم دائماً إخجاله وإذلاله، فما أقوى عادة التهكم لدى ذلك النوع البليد من الناس الذي يثير اشمئزازهم كل ما هو جميل، نظراً لما يتمتعون به من وقاحة عقل وفظاظة روح.

بدأ يفكر في طريقة للتخلص من كلبه المسكين، واقتلاع أشجار الورد من حديقته الجميلة، التي ستكون مكاناً للدجاج حيث يختلط فيها أكله بفضلاته، وستمتلئ بالكثير من البيض والكثير من القاذورات، سيأكل البيض في كل يوم ولن ينظف الحديقة من القاذورات، سيذبح الدجاج في كل يوم، ستغطى الأرض بالدم والريش، وسيمتلئ النهر بأحشاء الدجاج، سيأكل الكثير من الدجاج، سيكسب المزيد من الوزن، وسيكسب عقله من البلادة ما يكفي ليتمكن من معاشرتهم، سيمرن لسانه على الخوض في الأعراض، وسيمرن عينيه على تتبع العورات، سيمشي بينهم بالنميمة، سينقل لكل منهم ما يقول الآخر عنه، سوف يثبت لهم أنه لم يكن وحده عرضة لألسنتهم بسبب ابتعاده عنهم، بل إنه لا يوجد من هو بمأمن من شرهم وأذاهم حتى وإن كان جزءاً من جماعتهم المزعومة، سيحطم أكذوبة اجتماعهم ووحدتهم، هم فرادى أيضاً، لا ينتمون لبعضهم البعض، ولا يعرفون معنى الانتماء، لا يعرفون أي من تلك الصفات التي يمكن لها أن تجمع ما بين عدد من الأفراد في محبة ووئام، حيث لا طعن في ظهر، ولا نفاق في وجه.

كان ضائعاً تماماً وسط حياتهم اليومية الرتيبة الفارغة، ضجيجهم وأصواتهم المتداخلة، وأحاديثهم الممتلئة بالشر الطافحة بالأذى، أية غربة تلك التي يشعر بها وسط ذلك الكم الهائل من البشر، إنه لم يكن يشعر بغربة قط حينما كان يقبع وحيداً خلف جدران بيته. أما كلبه فقد كان يعيش حالة من الذعر الدائم، وكانت تمتد إليه أيديهم الراغبة في إقامة حفل تعذيب صغير من أجله، إلا أن أيدي المواوي كانت تحيطه، وكان يداريهم قائلاً ببؤس بالغ: دعوه لي، قريبا سأتخلص منه.

وكان من حسن حظ ذلك الكلب المسكين، أنه لم يكن يفهم ماذا يقول لهم صاحبه، ومن حسن حظه أيضاً أنهم كانوا يتركونه فقط من أجل أن يضحكوا من ذلك الكلب الأسود المذعور الذي يلتصق بساق صاحبه اليمنى، كما لو أنه يحاول أن يلف جسده حول تلك الساق ويعقده عقدة لا يستطيع أن يفكها أحد، فهو لم يكن يعلم متى سيكف صاحبه عن جنونه هذا وعن سلوكه المخزي إلى أقصى حد، ومتى سيتوقف عن ذهابه إلى تلك التجمعات الجهنمية، ومتى سينتهي من تلك الحالة التي أصابته وأدت به إلى ذلك التغيير المضطرب، ولما لم يكن الكلب المسكين يستطيع أن يفر هارباً بعيداً عن صاحبه، فكان يلتصق به بأقصى ما يستطيع ليعيش ذلك الرعب بأسى صامت.

كان ينظر إلى المواوي في كل صباح، فلا يراه يخرج فراشه إلى الشمس ولا يستحم ولا يحممه كما كان يفعل في كل يوم، بالكاد كان يضع بعضاً من الطعام أمام ذلك الكلب المسكين، من دون أن تمتد يده لتربت على رأسه بينما يأكل كالمعتاد، وفي أحد هذه الصباحات الكئيبة فتح المواوي باب بيته وخرج إلى الحديقة وتبعه الكلب بطبيعة الحال، ووضع له طعامه في الخارج، وما أن بدأ الكلب في تناول الطعام حتى دخل المواوي إلى البيت ثانية وأغلق بابه دون الكلب، ثم جلس على الأرض وهو لا يشعر بأي شيء، أو ربما كان يحاول ألا يشعر بأي شيء على الإطلاق، كان يستمع إلى أنين الكلب المسكين فيتصدع قلبه، لكنه كان يتمسك بهدف الوصول إلى تلك الدرجة من البلادة التي يحاول بلوغها.

بات ليلته وحيداً، وفي صباح اليوم التالي فتح الباب ليجد الكلب المسكين وقد التصق بذلك الباب، وأنه بمجرد أن رأى الباب يفتح دخل فوراً حتى وصل إلى آخر ركن من البيت والتصق به محتفظاً بصمته العنيد، حاول المواوي أن يجذبه مرة أخرى إلى الخارج بواسطة الطعام، إلا أنه لم يستطع أن يزحزحه عن مكانه، كأنما كان ذلك الكلب بإخلاصه العطوف الصادق يعلن عن استعداده للموت جوعاً وأنه يفضل ذلك على أن يفارق صاحبه، لم يندهش لذلك المشهد بقدر ما شعر بالذنب تجاه ذلك الكلب الرائع الذكي الحنون المسكين، كان جلوس المواوي إلى جواره لساعات ملتصقاً بذلك الركن هو الآخر بينما يربت على رأسه وجسده، كافياً كاعتذار لذلك المخلوق الذي يعلمه كيف أن الحب يجب أن يكون إلى النهاية دائماً.

كان المواوي حزيناً يفتقد الهدوء، هدوء العقل والروح والنفس، كانت أفق أحاسيسه قد تبلدت كلها ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، لم يعد يسمع صوت أفكاره، كان يعذبه كثيراً أنه بدأ يتخلى عن الشيء الذي كان يتعلق به كثيراً من قبل، لم يعد يردد كلماته التي كان يحفظها كأغلى وأثمن ما يمتلك في هذه الحياة، إلا أنه ولأول مرة بدأ يعرف كيف يكون الشعور بالنقص، ذات يوم شرع باب كيانه للكلمة، وكان يظن أنه على الدرب الصحيح، واعتقد للحظة أنه يملك قوة كبيرة بل أكثر من ذلك، كان يشعر بكلماته تمتد بشكل غامض يثير الخوف كما لو أن معجزة توشك أن تحدث، إنه لا يمتلك سوى كل ما ليس له قيمة في نظرهم، إنه لا يمتلك شيئاً، فما أشد ضآلة قيمته إذن، يرى قيمته الرفيعة في أعين الآخرين حقيرة، كان تحت تأثير انفعاله العنيف بعد أن خاب أمله، يشعر كم كانت كلماته سمجة وخرقاء، وكم كان يضايق الناس بكلماته تلك، وكم هو تافه عديم الكفاءة وأن كل ما فعله كان سيئاً.

لم يكن ليشعر بمثل هذه المرارة لو لم تكن كل كلمة تحمل مرارتها، كم يود تخريب ذلك الصنف الآخر من الحياة التي لا يستطيع أن يعيشها، كان يكره كل كلمة تخرجه عن نفسه، فلم يكن هناك سلام خارج نفسه، كل ما حوله يشل قواه ويكبحه ويحرمه كلية من حسه السليم، الموت المختبئ داخل الحياة، من سينقذه من هذا المصير، كائن شديد الارتياب قلق مضطرب لا يقبل النهاية، كانت الأفكار المعتمة المقلقة تنهكه وتسحقه تماما، كل شيء يؤكد له في كل يوم أنه لا جدوى من أي شيء، أهو مدين لهم باكتشافه لتلك الحقيقة؟ لا ريب في أنها قد تجلت له بفضل ما يمنحونه من يأس، والزج به في حالات من الإحباط المدمر، وبفضل ما رآه من عواقب كلماته التي تذهب هدراً، يحفظ لهم ضغينة كبرى، ولم يعد يشفق عليهم كما كان من قبل، اتخذهم أعداء وسيلحق بهم من الضرر ما يكفي ليعرفوا طعم المرارة، هؤلاء الذين لا يعرفون لشيء طعماً.

كانت كلماته تعطي الانطباع بالتباهي وكانت أفكاره تنتمي إلى لحظة لن يصلوا إليها، كانوا يهاجمونه بكافة الوسائل من أجل أن يتغلبوا عليه، ومن أجل أن يدمروا فرديته التي تبدو كتهديد عظيم لجماعتهم التي سيتمكن بمفرده من الانتصار عليها، سيتراجع الناس أمامه، سيتغير الجميع لكن ببطء شديد.

ليس عليه سوى أن ينتظر، فالنمو الهادئ يعطي أفضل الثمار، سيسمعونه من دون أن يلفهم الرعب والخشية، سيجدون كيانهم يتغير تدريجياً، سيتحولون إلى أفراد يحمل كل منهم عقله وقلبه بعيداً عن العادات الفاسدة، سيتصرفون بنفس الحرية التي يتصرف بها، بنفس الصدق الذي يجيده، بنفس الحب والطيبة، سيشعرون بكل عجزه ومخاوفه، سيعرفون تلك اللذة التي لا يشعر بها إلا من كان قادراً على الحياة، ويملك قلباً مستعداً لأن يحب ولأن يمنح طمأنينة النفس التامة.

سيكونون كما يريدهم تماماً، ولن يملكون فعل خلاف ذلك. كان لديه رغبة شديدة في أن يكون الأمر كذلك، ولا يعني ذلك تحققه أو حتى وضعه في حكم المحتمل، فما بين الآمال العريضة والندم الكبير تظل هناك هاوية لا يمكن عبورها، فبقدر ما كان يتملكه من قوة سرعان ما كان ينفجر الضعف وبقوة موازية، فينحدر سريعاً وهو لم يكد يبلغ القمة، تماماً كالأفكار التي تتقاطع ويمحو بعضها البعض.

كان يتجلى في كل تلك الفضاءات المظلمة ما يثير العقل ويوحي بأفكار أخرى، من الاحتقار والاشمئزاز اللذان ينبعثان من نفسه، كانت قوة تأتي من انفعال عميق، وكان يلاحظ بكامل الاندهاش، كيف يشعر بالحرية من جديد ما يجعله متردداً حذراً، كانت أفكار جد متشابكة، وكانت تتضمن في أسمى تجلياتها بعض أشكال فرض قوته وسيطرته على الأمور، أشياء ربما لم يكن ليعتقد أنه قادر عليها، تبعث روحها من جديد، ويعود القلب لينبض بإيقاع الكلمة، لا تهدأ الآلام ولا تشفى إلا في تلك اللحظة فقط، تعود إليه معشوقته الضائعة ويشعر أنه يحلق فوق الأرض، ثمة سعادة أسمى حين تلطف الكلمة الحياة، فيفتح لها قلبه ويبلغ بها أعماقاً مديدة، يجدل رباطاً من الأفكار الباهتة، أفكار أخرى غير الأفكار التي لا تطابق أبداً الحقيقة، وذلك حتى يتمكن من خلق فضاءات لا نهائية لحياة أخرى، ليشعر من جديد بجاذبيته نحوها، كان قد شكل مثل هذا الخيال وارتبط به طويلاً بسحر طاقة نادرة وبدافع رقة شديدة بسبب فطرته، فخاخ شغفه التي تمنحه نوعاً نادراً من اللذة وإحساساً بالقوة.

أمام سلطان البلاهة القوي لن يكون سوى تابعاً أعمى، البلاهة التي تتفوق على أشد الأعداء استعصاء على الهزم، عليه أن يعترف بذلك بكل صدق، كان سلوكه أضعف ما يكون، وكان يقاوم، هل هو مكلف برد الحياة إلى أرواح بائسة لا تعرف الجمال؟ مجرد مسوخ لا تعي ولا تشعر، لن يمكنه ضعفه البالغ من ذلك، إنه يحرص على الجمال، هو في حاجة فعلية إليه بسبب نقصه، وهو بذلك يغضبهم وينفرهم، إنهم يفعلون ذلك عن قصد، ربما كان مخطئاً، إن مثل هاته اللحظات هي التي تمتحن ذكاءه الحاد وشغفه المفرط ومداهماته القوية لتحطيم أحجار النفوس، كانوا لا يأخذونه مأخذ الجد، وهكذا كان ينتهي إلى أن جهده قد ذهب سدى.

في إحدى نوبات احتقار الذات أُنُهكت روحه وتصدعت تماماً، كل ما يقوله يستوجب ذم الناس بدل إعجابهم واحترامهم، كان الضغط القوي لكل الأحاسيس المزعجة تضرم ناره في داخله، كان يتصور هلاكه في مزيج من البؤس، سينهي نفسه بنفسه دون أن يشاء ذلك، يتمنى لو ينقلون إليه تثاؤبهم، ولامبالاتهم الكئيبة، أن يفقد إحساسه هو الآخر، أن ينزعوا الشمس من نفسه ليجثم في الظلام، أن يحظى بمثل خمولهم العميق، أن يستبدل نومه اليقظ بنوم كنوم الأموات يشبه نومهم، ذلك الإحساس باللامسؤولية الكاملة، يهوي إلى الأسفل برعب شبحي بلا توقف، يتأوه قلبه الغارق في حزن عميق، كان عدم انسجامه الروحي معهم هو مصدر ذلك العذاب الهائل، كم كانت الحياة فظة وقاسية، تتسلل النهاية إليه ببطء، يحملها معه هو لا يكاد يشعر بها، هو الصامت منذ أمد طويل كالوتر الممزق، هذا حده وأقصى مداه.

 

(10)

وراء الأشجار والمياه الفضية، تحت السحاب وبين الغيوم، أي طريق يسلك؟ أماكن وأحزان كثيرة تناديه، تبدو حياته بأكملها وكأنها لم تكن إلا عملاً ناقصاً من أعمال الخيال، ولم يكن هناك معنى لشيء، كان يشعر بالحاجة إلى الخلاص الأبدي، النزوع إلى السلم والخوف من المواجهة كانا كافيين للهروب من العالم، نظر إلى التماع الشمس على مياه النهر نظرة خاطفة ثم قام باستئناف المسير، شيء غامض كان يضفي لوناً كئيباً نوعاً ما على المكان، كان يمشي في الأرض المزروعة بين الأشجار التي كان يتمنى أن يتعاظم حجمها، ينظر حوله وكأنه يريد أن يتأكد أن أحداً لا يراه، أكمل طريقه ودخل بيته وهو خائر القوى تماماً، كان مرهقاً إلى حد مروع، وعندما انتصف الليل، هبت ريح باردة، وكان يشعر أن ذلك ينذر بسوء.

يعيش في ذكرياته كشيخ لا آمال له، وما الذي يمكن أن يأمل فيه، كان منقبض الصدر يقضي ليلته الطويلة يفكر، هل يقتل نفسه؟ أم يرحل عن هنا؟ هل يندم على الحياة إن قام بقتل نفسه؟ هل يندم على المرتاحية إن فارقها؟ كان حزيناً من أجل روحه التي أخذ يفقدها شيئاً فشيئاً، تلك الروح التي لا تستطيع أن تعبر عن نفسها بوضوح، ولا عن رغباتها المستعصية على الإشباع، ولم يكن يعلم إن كان استرجاع تلك الروح ممكناً.

في كل حالاته الرقيقة أحياناً والمضطربة أحياناً، كان يرفض رفضاً تاماً أن تنتزع منه أوهامه، وكان يقاوم كل الحقائق، يدرك جيداً ضلال الخيال، لكن هل يملك سواه؟ يعلم أنه يعيش كل ما هو غير حقيقي، وأنه هناك خارج عالمه الخاص تدور حياة مختلفة تماماً لا شأن له بها، يعلم جيداً أنه من غير الممكن أن يكون العالم كله بهذا الشكل، ويذهب في ظنه إلى حد اليقين بأنه لا توجد بقعة تشبه تلك البقعة التي تحمل هؤلاء البشر، يكاد يجزم بأن المرتاحية لا مكان لها على خريطة العالم أو في تاريخ الإنسان، لم يكن لينكر حبه لتلك الأرض، وهل رأى أرضاً سواها؟ وهل عاشر غير أهلها؟

أن يكون على أرض أخرى، أن يقول كلماته في مكان آخر ليسمعها من لا يعرفهم ولا يعرفونه، هل سيكون هو المواوي؟ وهل ستكون الكلمة هي الكلمة؟ سيختلف كل شيء ويتبدل على عكس ما يريد، فكل ما كان يرغب في تغييره سيبقى على الحال التي يرفضها، وسيتغير كل ما يريد أن يحفظ وجوده على الهيئة التي هو عليها.

كان لديه ضعفاً هائلاً تجاه هذا المكان، وكان يعلم أن الحياة لن تكون ممكنة على الإطلاق في أي مكان آخر، في أي مكان آخر من العالم قاطبة، سيكون شخصاً آخر، ستنقسم حياته إلى شطرين لن يجمع بينهما شيء، حتى نفسه ستنقسم إلى شطرين ولن تعرف إلى أي منهما عليها أن تنتمي، سيعيش حياة غير تلك التي سيظل يذكرها وتدور صورها في مخيلته، سيرى كل شيء وقد انقسم إلى جانبين، على جانب منهما ستكون المرتاحية بكل تفاصيلها التي ستتشبث بها ذاكرته كي لا يفقدها أبداً، وعلى الجانب الآخر سيكون المكان الجديد الذي سيظل جديداً مهما قضى على أرضه من وقت، والذي لن يتمكن من أن يرى تفاصيله ولن يحفظها أبداً، حيث ستطل المرتاحية بظلالها على كل ما يراه.

هل يترك ظل أبيه على هذه الأرض؟ صحيح أن ذلك الظل قد اختفى إلى الأبد، وأنه وبعد موت أبيه يشعر بأنه قد صار عارياً تماماً، وأن أعينهم قد اخترقته إلى أقصى درجة، وأن ستره قد هتك بشكل كامل مهما استتر عن عيونهم واختبأ في بيته لشهور، وأن مجرد تذكر وجوههم وأصواتهم يصيبه برجفة رعب، وأن هناك حجاب ما قد نزع ولم يعد هناك ما يستطيع أن يختبئ خلفه.

سيعيش غريباً وإن استقر، ومن قال أنه ليس بغريب في المرتاحية؟ إنه يعاني في حقيقة الأمر أقسى درجات الغربة على أرضها وبين أهلها، إنه إذن مخير بين غربتين، أو في حقيقة الأمر، إنه مجبر على أن يختار بينهما، أن يختار بين غربة يعرفها ويعيشها، وغربة أخرى لم يعرفها من قبل، لكنها ولا شك ستزيده غربة على غربة.

لا يمكنه التفكير في العيش في أي مكان آخر، يخشى فكرة الرحيل، يعلم أنه مع مرور الوقت مفارق لا محالة، ولا تملك النفس إلا أن تتمنى وتأمل، ربما يفتح له ذلك الرحيل منفذاً إلى أسراره الخفية، ربما هناك على أرض أخرى، ورود أجمل من وروده الحمراء بألوان لم يرها من قبل، ولا يعرف لها اسماً، ربما هناك على أرض أخرى، يجري نهر أصفى وأنقى من هذا النهر، ربما هناك على أرض أخرى، بشر لم يعرفهم أبداً، ربما يشبهونه، وربما لا يشبهونه، لكنهم سيقبلون بوجوده بينهم، وإن اختلف عنهم، ربما هناك على أرض أخرى، سيجد أقلاماً وأوراقاً، وسيتعلم كيف يضع أفكاره على تلك الأوراق التي ستحفظ كلماته من الضياع، ربما هناك على أرض أخرى، سيجد كتباً، سيقرأها وسيتعرف على أناس كانوا مثله، سيعرف الكثير عن حيواتهم التي كانت أكثر شقاء من حياته، أو ربما كانت أسعد، لا يهم.

سيحاور عقولهم، ويبثهم شكاواه وآهاته وعذاباته، سيبكي وهو يقرأ كلماتهم التي يعلم جيداً كيف كان ألم اشتقاقها من الروح والأعصاب، ربما هناك على أرض أخرى، سيجد من يشاركه أحزانه، ويرى خيالاته، ويحفظ كلماته التي استخلصها من قلبه وتمثلها بلحمه ودمه، ربما هناك على أرض أخرى، يوجد من لا يشرب الدم ولا ينهش اللحم، سيعطفون على كلبه المسكين، وإن لم يحبونه للونه الأسود وذيله المحترق، فلن يؤذونه، ربما... ربما... وربما هناك على أرض أخرى، سيلتقي بمن هم ألعن من أهل بلدته وأشد إيذاء، وقد يكون ذلك نهاية الحكاية.

هل يندم يوماً على عدم رحيله عن تلك الأرض؟ هل يتحسر على ذلك الوقت الذي قضاه من عمره بين هؤلاء الهمج؟ هل يقضي ما تبقى من حياته بهذا الشكل؟ يعيش مختبئاً من الآخرين، ينام حين يستيقظون، ويستيقظ حين ينامون، صحيح أنه راض عن حياته سعيد بها، لا يشعر بأنه ينقصه شيء بابتعاده عنهم، ولا بأنه يفوته شيء ما مما يجري خارج بيته، لكن أهكذا يجب أن تكون الحياة؟ كيف تكون الحياة إذن؟ وماذا يلزم كي نستطيع أن نسميها حياة من دون أن تساورنا الشكوك؟ أهي طعام وشراب وتزاوج وإنجاب؟ هل يفكر مثلهم ويذهب في اعتقاده إلى أن من لا ينجب لا يستحق الحياة؟

ألم يعرف هو الحياة؟ ألم تكن "روم" هي الحياة؟ ألم تكن أجمل من وروده الحمراء؟ ألم تكن جميلة كالكلمة؟ ألم تكن هي الكلمة؟ ألم تكن هي خسارته الكبرى التي لا تعوض؟ ألم تكن طعنتها هي القاتلة؟ ألم تكن الحياة في الحب؟ ألا يؤمن بأنه لا شيء سوى الحب يستحق الحياة، ألم يكن هو نفسه ثمرة لذلك الحب؟ ذلك الحب الذي لم يكن أسطورة تروى، بل كان واقعاً يلمسه ويراه ويسمع جميل همسه في كل يوم.

ولكن ماذا لو لم يثمر ذلك الحب؟ ماذا لو لم يأت إلى الحياة؟ ماذا لو لم يقدر لأبيه وأمه أن ينجباه؟ هل كانا سيظلان على حبهما؟ أم أن مجيئه فقط هو ما أنقذ ذلك الحب؟ ليس من شك في أن مجيئه قد رفع عنهما جزءاً كبيراً من المعاناة، وأزال اختباراً عسيراً من طريق حبهما، فمن بإمكانه أن يجزم بأن حبهما كان ليستمر ويبقى بدون ذلك الطفل الذي عرضهما لبعض من المهانة الممكن تحملها على الرغم من كل شيء، لكن إذا كان مجيء المواوي إلى هذا العالم سبباً في الحفاظ على الحب، فلماذا لا يجد فيمن حوله من يحب زوجته التي تملأ أركان بيته بالأطفال؟

لم يكن يعرف كيف يفكر، ولا ماذا يتوجب عليه أن يفعل، كان يشعر أنه بحاجة للبحث عن طريقة أخرى للحياة، إنه التطلب الذي يملأ نفسه، ولم يكن يعرف إذا ما كان بحاجة إلى أرض أخرى أم إلى نوع آخر من البشر؟ ماذا لو غادر المرتاحيون جميعاً، وتمكن هو وحده من تلك الأرض، ألن تكون تلك الأرض التي لطالما ارتوت بالظلم أشد فتكاً به؟ ألن تهزمه شر هزيمة؟ كان جزء غير محدد من روحه يقدس تلك الأرض.

أي نجاح سيحققه إن ذهب إلى أرض أخرى لا يجد من أهلها أذى، أو إن تمكن من إصلاح مجموعة من البشر على أرض أخرى، هل ينفي نجاحه في أي مكان آخر فشله في المرتاحية؟ إنه لا يريد مكاناً آخر، ولا يرغب في إصلاح بشر آخرين، ولو استطاع أن يجمل الكون بأكمله عدا تلك البقعة العزيزة على قلبه، هل سيكون سعيداً؟

فهو لم يستطع أبداً أن يعتبرها مجرد مساحة من الأرض، أو مجرد مكان يشبه أي مكان آخر يمكن الاستعاضة عنه بأي من الأماكن الأخرى، كان دائماً ما يشعر بأنه حتى وإن عاش في أكثر الأماكن مماثلة لهذا المكان، حتى وإن كان يطل على نفس النهر، ويحمل على أرضه نفس الأشجار والنباتات وله نفس رائحة الهواء، فإنه وعلى الرغم من كل ذلك سيظل يفتقد المرتاحية، وأنه لن يستطيع أن يتنفس ذلك الهواء الذي سيشعر باختلافه بكل تأكيد في صدره، كما أنه وإن شرب من ماء النهر الذي هو نفس النهر فلن يشعر بذلك الارتواء الذي يشعر به عندما يشرب من ذلك المكان المحدد الذي يقع أمام بيته.

يعرف أن تلك الأرض تحمل الكثير من الشر، وأنها ليست بريئة تماماً، لأنها قد سمحت منذ الأزل بوجود هذا الشر على ظهرها، ولطالما احتضنت وأنمت وأربت هذا الشر، وأنها لا شك أصبحت تحب ذلك الدم، الذي ربما كرهته عندما شربته لأول مرة، إلا أنها وبفعل العادة قد أحبته، وأصبحت تفضله على مياه النهر، ولا ترتوي إلا به، وأنها صارت تشتاق إليه وتحزن إن قل وندر، وأنها تفرح بالدم أكثر من فرحها بالمطر المنهمر، وتتمنى لو كان ذلك المطر دماً.

ستكون معركته خاسرة حتماً مع الأرض إن تمكن من القضاء على البشر، هل يخوض معركة جديدة معها؟ إنه بقضائه على البشر سيحرمها من الدم، ومن أن تكون مسرحاً للشر الذي لا تمل من وجوده أبداً، سوف تفتقد البشر كثيراً، ولن تكون سعيدة بأي مخلوقات أخرى تعيش في وفاق وتناغم، حتى وإن سالت دماء كائنات أخرى فإن ذلك لن يعوضها عن دم البشر.

يريد أن ينتصر هنا، لا في مكان آخر، يريد أن ينتصر على تلك الأرض، أن يروضها إلى الأبد، أن يعلمها رفض الظلم، أن يدربها على أن تشتم رائحته من قبل أن يقع وألا تسمح له بأن يقع، وأن يكون لديها القدرة على معاقبة الظالم بشكل فوري، أن تبتلع كل من يظلم أو يؤذي ضعيفاً، وأن تنتصر دائماً لذلك الضعيف المظلوم، وألا تسمح بأن يقع ظلم على ظهرها بعد ذلك أبداً، وألا يطأ ترابها ظالم، أن تمنح كل خيرها للضعيف، وألا تطعم ظالماً مما تنبته، وأن تخفي النهر من أمامه.

إنها الأرض أساس كل شيء، تحمل كل شيء على ظهرها، وتضم كل شيء في باطنها، إنها كل شيء، ويجب أن يكون جبروتها على الظالم لا على الضعيف الذي يتعرض للظلم في كل وقت، إنها ظالمة لأنها خاضعة للظلم، وهذا أشد أنواع الظلم، يريد لها أن تتمرد، أن ترفض، أن تنفض هؤلاء الهمج عن ظهرها أو أن تبتلعهم إلى الأبد، أن يكون لها الكلمة العليا، والقوة العليا، وأن يكون لها القرار، بخضوعها صارت الظالمة الكبرى.

لا يرغب في الرحيل عن المرتاحية، رحيله عنها هزيمة كبرى لن يعوضها أي انتصار يحققه في أي مكان آخر، لكن كيف له أن يحكم وأن يقرر وهو لم يخض التجربة بعد؟ فهو لم يعرف كيف سيكون شعوره إن فارق بلدته، ولابد أن يجرب كي يعرف، إلا أنه يعرف جيداً أنه إن غادر فإنه لن يتمكن من العودة مرة أخرى، وأنه حتى وإن تمكن من العودة فلن يكون الأمر أبداً كما كان من قبل، ولن يستطيع أن يعيده كما كان، فهو إن اقتلع نفسه من جذورها، لن يستطيع أن يعيد غرسها مرة أخرى، ولن يستطيع أن يغرس لها جذوراً في أي مكان آخر، فهل يخوض تجربة كبرى كهذه من أجل أن يحظى بخسارة لن تعوض؟

 

(11)

شمس باهتة أخذ ينظر إليها، وهو لا يزال راقداً في مكانه الذي لا يعلم أين يقع بالتحديد، لم يكن يدري إن كان ذلك الصبح الذي يشهده هو أول صبح يطلع عليه بعد ليلة هروبه، أم أن هناك صباحات أخرى أضاءت وأطفأت نورها بينما هو غارق في ظلمته التي تأخذه بعيداً عن ذلك الكون وعن وعيه بكل ما يجري من حوله، كيف له أن يحدد وهو الذي لا يعلم إن كان لا يزال على قيد الحياة أم أنه قد فارقها، إن كان نائماً أم يقظاً، إن كان كل ما رآه وعاشه ويتذكره الآن لم يكن أكثر من مجرد خيال لا يمت للواقع بصلة، لابد أنه كان واقعاً، فلا يمكن للخيال أن يكون بتلك الفظاعة والقسوة، هكذا كان يفرق دائماً بين الخيال والواقع، كل جميل خيال، وكل ما عكس ذلك هو الواقع.

أدار رأسه ببطء وبضعف شديد ناحية اليمين، ليجد كلبه البائس وقد ازداد بؤساً، كان لونه الأسود يمنحه شعوراً رهيباً بالكآبة، ولأول مرة ينقبض قلبه لرؤية ذلك اللون، وكم أحزنه ذلك كثيراً، وشعر بالأسف والأسى تجاه ذلك الكلب الذي يحمل كل بؤس العالم في لون لم يختره، من سيعطف على ذلك الكلب المسكين بعد أن أموت، كان المواوي يتساءل في صمت، وكان يرى جثة كلبه الذي يحبه كثيراً وهي ملقاة على قارعة الطريق متعفنة متحللة، لن يتطوع أحدهم لدفنه، أقصى ما يمكن أن يفعله أحد من هؤلاء الهمج هو أن يمسكه ويلقي به إلى النهر، فتطفو الجثة المتعفنة على سطح الماء بدلاً من وجودها على الأرض، يفكر المواوي في كلبه المسكين الذي لا يريد أن يفارقه، ولا يريد أن يذهب ليبحث عما يأكل أو ليلعق بضع قطرات من المياه.

لا يعلم المواوي كم مر من الأيام على رقدته تلك، إلا أنه كان يشعر بضعف شديد يدل على طول الوقت الذي استغرقته تلك الرقدة وذلك النزف المستمر، يفكر في مصيره ومصير كلبه، لو قدر له أن يعيش ومات كلبه بجواره، فإنه سيتمكن على الأقل من الاعتناء به، سيدفنه بجوار بيته الجديد الذي لا يعلم أين سيكون، سيبقيه إلى جواره مهما يكن من أمر، لكن ماذا لو قدر للكلب أن يعيش ومات المواوي إلى جواره؟ أي رعب سيصيب ذلك الكلب المذعور أصلاً، وماذا سيمكنه أن يفعل؟ هل سيتمكن من دفن صاحبه؟ هل سينبح بعد صمت طويل ليستجير بأحد من البشر الذين يخافهم؟ ومن من هؤلاء الهمج سيجير كلباً بائساً يحمل لوناً جالباً للنحس كما يؤمنون، ومن سيستمع إلى بكاء كلب يرقد بجوار جثمان رجل ميت، سيضحكون لهذا المشهد كثيراً، وسيعبثون بجثته في فضول كبير من أجل تغذية حكايات سيروونها لأكثر من ليلة، وأفضل ما يستطيع أحدهم أن يفعل هو أن يركل تلك الجثة بقدمه لتسقط في النهر مع الفرح بقوة الركلة وبلحظة ارتطامها بالمياه، مياه ذلك النهر الذي عليه أن يحمل دنسهم وأن يبتلع جرائمهم إلى الأبد.

وهكذا لن يعرف المواوي إلى باطن الأرض طريقاً، لماذا يؤلمه أن يموت ولا يدفن، وماذا يضر كلبه إن لقي نفس المصير؟ وهل من شيء يضر بعد الموت؟ لماذا نحزن على الجسد المهان وهو ميت لا يشعر بشيء أكثر مما نحزن على الجسد المهان وهو حي يحمل روحاً تتألم، فألم الروح دائماً أكبر مهما عظم ألم الجسد، فلماذا إذن نتألم لتقطيع أوصال الجسد الميت أكثر من تقطيع أوصال الروح، وماذا يضر الجسد الميت إن تقطعت أوصاله وقد فارقته الروح التي لن يستطيع أن يطالها أذى بعد الآن وقد تحررت من سجن لطالما مكن منها من يعذبونها ويؤلمونها إلى حد يفوق الرعب.

أن يموت المواوي في هذا الفراغ الذي يحيط به، لماذا يحزنه ذلك؟ لماذا يحزن على وجوده وحيداً بعيداً عن أي بشر يتحلقون من حوله؟ هل كان يريدهم أن يشهدوا موته؟ هل كان يريدهم أن يجلسوا ليحملقوا في وجهه في انتظار آخر أنفاسه؟ هل كان يريد لهم أن يزفروا زفرة الارتياح مع خروج آخر نفس من أنفاسه وتوقفها إلى الأبد؟ هل كان يريدهم أن يتسلموا جسده؟ ليعبثوا به كما يشاؤون فيما سيدعون أنه طقوس غسل وما شابه، لكنها لن تكون سوى طريقة لإشباع فضولهم الحقير، هل كان يود أن تكون أيديهم النجسة هي التي تهيل عليه التراب؟ أن يدفن تحت أقدامهم؟ أن تشاهده عيونهم الباسمة الملتمعة لمشهد موته، هل كان يريدهم أن يشعروا بالراحة التامة لتأكدهم من موته ولمعرفة مكان قبره الذي سيؤكد لهم موته في كل يوم؟

نعم هناك ما يضر بعد الموت، لكن هذا ما يضر بعد الموت، إنهم البشر أيضاً، وحدهم البشر بإمكانهم أن يضروه حياً وميتاً، لكن ماذا سيضره إن مات في مكانه هذا ولم يمر أحد ليراه ويكتشف موته، ماذا سيضره ولماذا يحزن إذن؟ سيموت وحيداً كما عاش وحيداً، لن يعلموا بموته، سيظلون في خوف من أن يتردد صدى كلماته من مكان بعيد لا يعرفونه ويصل إليهم، سيتوقعون عودته في كل يوم، سيتوقعون انتقامه، سيتوقعون كلمات تصفهم كأسوأ ما يكون وتصف حقارتهم، سيخشون من أن يؤرخ لدنسهم في مكان آخر وفي زمن آخر، سيخشون من أن يذيع صيتهم الوسخ كأقذر الأصناف من البشر، عليه ألا يحزن من أجل موته وحيداً، لا حاجة له بالبشر، وإن كان لابد من دفن، فليحفر قبره بيده ولينزل إليه بنفسه.

هل يريد أن يحدث له مثل ما حدث لكل من أمه وأبيه؟ أمه التي بمجرد موتها منع هو وأبيه عنها تماماً وكأنها قد باتت امرأة غريبة عنهما لا يحل لهما الدخول عليها، لتتسلمها مجموعة من نساء المرتاحية وينفردن بها في غرفة مغلقة، وهذه المجموعة من النساء لسن سوى مندوبات عن بقية نساء المرتاحية فبوجودهن يكون وكأن الكل قد رأى جسد تلك المرأة وإن لم يرونها بأعينهن، فكل من حضرت الغسل سوف تحفظ جيداً بعيونها كل نقطة في جسد تلك المرأة العاشقة التي عرفت الحب، والتي لم تنجب سوى مرة واحدة وماتت وهي تحتفظ بجمالها وجسدها المشدود المرتوي من الحب.

كان المواوي غاضباً أشد الغضب من أبيه لتركه أمه لهؤلاء النساء، ليفتضح جسد أمه بهذا الشكل، إلا أنه وعندما مات أبوه وتحت تأثير حزنه واهتزازه لفقدان عالمه بشكل كامل، لم يملك إلا أن يترك أباه بنفس الصورة لمجموعة من الرجال، ولم يتمكن من الوقوف إلى جوار أبيه في تلك اللحظات الأخيرة، كان تائهاً مستسلماً تماماً، لا يفكر في شيء، كان غارقاً في شرود مذهل، كانت الدموع تملأ عينيه وتفيض وتتوقف عند حافتها فتبدو عيناه وكأنها تطفح بالدموع وأنها تكاد تختفي خلف هذه الدموع التي لا تسقط.

كان في داخله غضب وحنق بسبب أن هؤلاء الرجال قد تسلموا أباه بهذا الشكل وأنهم من قاموا بكل شيء، كان واقفاً وهم يحملونه وينزلونه إلى قبره ويهيلون عليه التراب، فرحون من داخلهم بموت أفضلهم وببقاء المواوي وحيداً، سينفردون به تماماً، لم يكونوا يخشون وجود أبيه، لكنه كان دائماً يسعى إلى صد أذاهم بطيبة وتسامح كان المواوي يعجز عن فهمهما وعن تقبلهما.

هل يحزن لأنه لن يقام له "ليلة عزاء" كما يسمونها، كتلك التي أقيمت لكل من أمه وأبيه، والتي لا تزيد على كونها إحدى حفلات مضغ الأعراض المعتادة لديهم، ربما يكمن الاختلاف الوحيد في أنهم يلبسون السواد، ويجتمعون في تظاهر مصطنع لا يجيدونه بالحزن، لأنهم في حقيقة الأمر يحبون هذه الاحتفالات كثيراً ويفرحون كثيراً بموت أحدهم، فعند وقوع الموت هم يمارسون بذلك أكبر عدد ممكن من طباع الشر لديهم، الشر الخبيث أو أسوأ أنواع الشر على الإطلاق، الشر المتخفي، إظهار عكس ما يدور بداخلهم في تمثيل فاشل.

فهم من ناحية يستمتعون بانتهاء حياة ذلك الفرد الذي رحل ويشعرون بأنهم قد نجوا من ملائكة الموت التي كانت بالقرب منهم ولم تمسهم، ويشعرون أنهم بموت أحدهم وكأنما يضيف ذلك إلى أعمارهم، كما يستمتعون بأنهم قد رأوا من هذا المتوفى ما لم يروه من قبل وقد اطلعوا على أدق أسراره وخباياه، قلبوا جثته كما يشاؤون بدون أدنى مقاومة منه، كما أنهم يستمتعون بمشاهدة الذين أصيبوا بموت ذلك المتوفى، لذا كانوا يثبتون أعينهم على المواوي في فرح كبير، وكان يتجنب النظر إلى أعينهم كي لا يشاهد ذلك الفرح، وكانوا يفعلون كل شيء من أجل أن ينظر إلى أعينهم، يريدونه أن يرى تلك الفرحة.

وهكذا كانت تلك الجلسة الكئيبة تبعده عن حزنه على أبيه وتجعله يركز تفكيره في تفادي هؤلاء الوحوش الذين يحيطون به، كان صامتاً تماماً وكانوا يريدونه أن يتكلم بحجة أنهم يرغبون في التأكد من سلامته إلا أنهم كانوا يريدون المشاهدة فحسب، أن يبكي لتفرح أعماقهم وإن تظاهروا بالحزن وحاولوا اعتصار أعينهم الجامدة التي هي مرآة لأرواحهم الأشد جموداً، أن يصرخ لترقص آذانهم، أن يتأوه من شدة ألمه كي يطربوا وينتشوا تماماً.

كانوا قلقين غير مرتاحين، فهم لم يكونوا بصدد حفل عزاء عادي كحفلاتهم المعتادة، حيث يتواطأ الجميع فيها على أداء الأدوار المطلوبة، فيجتهد أهل المتوفى في إظهار الحزن عليه طمعاً في أن يقال كذا وكذا، ويقوم المعزون بإظهار تصديقهم لذلك الحزن، فيجلسون وهم يبدون تصديقهم هذا بينما يتحدثون همسا عن تلك الزوجة الحزينة التي أول ما اكتشفت وفاة زوجها ذهبت لتدفن أمواله التي كان يخفيها عنها في مكان لم يكن يظن أنها تعلمه إلا أنها كانت تعلمه، وعن علامات أفعاله السيئة التي ظهرت على جسده وعن علامات عذابه الأبدي التي بدأت تظهر على جسده وهو لم يدفن بعد.

لا يحترمون الموت ولا يهابونه، ولا يحترمون القبور، تراهم يسيرون وسط القبور يتمايلون بأجسادهم الثقيلة، يتحدث كل منهم إلى الآخر يتحدثون بصوت عال، يشيرون إلى قبر ما ويقولون هذا قبر فلان الذي كان وكان ، وهذا قبر فلانة التي كانت وكانت، ثم يقفون عند قبر محدد سيكون هو محل حفلتهم لهذا اليوم، سيتحدثون كثيراً عن صاحب هذا القبر وسيطول الحديث، وسيجلسون عندما يشعرون بالتعب من طول الوقوف ولأن الحديث لا يزال في بدايته وهناك الكثير والكثير مما لم ينبش بعد، ستقترب الرؤوس من بعضها البعض، وسيقومون بسرد حياة هذا المقبور بأكملها، وكأنهم يريدون أن يثبتوا لأنفسهم وللميت في نفس الوقت أن ذلك القبر لن يستره ولن يحميه وإن كان يخفيه عن أعينهم.

فهم يعلمون ما يدور داخل القبور، كما يعلمون كل ما يدور خلف ما هو مغلق، وليس هناك ما يخفى عليهم أبداً حتى وإن كان من أمور العالم الآخر، فهم يعرفون أن فلاناً يشتعل جسده ويحترق بشكل دائم ولا ينطفئ أبداَ ولا تهدأ النار ولا يتآكل جسده وإنما يظل مشتعلاً في عذاب دائم، ويعرفون أن فلاناً يمتلئ قبره بالثعابين الضخمة التي تزاحمه فيه وأنه سيظل يصرخ مذعوراً إلى الأبد، ويعرفون أن فلاناً قبره ضيق، وأن فلاناً قبره مظلم، إنهم يعرفون كل شيء، ولا يعرفون أنه ربما لا يكون هناك ما يعذب الميت سوى جلوسهم إلى جوار قبره وأحاديثهم تلك.

هل كان يريد أن يعرفوا له قبراً حتى يجلسوا إلى جواره في كل يوم متظاهرين بأنهم يقومون بزيارته كما سيدعون؟ بينما هم يجلسون إلى قبره كذئاب تود لو تنهشه، يودون لو ينبشوا قبره ويخرجون ما تبقى من جسده المتحلل وعظامه ليلمسونها بأيديهم ويحدقون فيها جيداً لأنها يوما ما كانت تختفي عن أعينهم.

سيموت صغيراً وسيكون ذلك أكثر إثارة لفضولهم، سيقولون أنه كان مريضاً بمرض غامض منذ أن ولد، وأنه كان يبتعد عن الناس بسبب ذلك المرض، سيقولون بأن قبره يحترق ومنه تفوح رائحة جسده المشتعل بسبب كلماته الشيطانية، وأنها كفيلة بأن تحرقه إلى الأبد، سيذهبون إلى قبره في كل يوم لمشاهدة ذلك الذي خسر كل شيء، فهو لم يأخذ من الدنيا شيئاً ولن ينال في الآخرة سوى الجحيم، سيذهبون إلى قبره في كل يوم ليشعروا بأنهم فقط من يستحقون الحياة، وأنهم من كانوا على حق دائماً، وأنهم من يحظون برضا الله والدليل أنهم يأخذون كل شيء لأنهم يستحقون كل شيء، وأن المواوي لم يكن يستحق شيئاً ولذلك لم يأخذ شيئاً، إنه لم يكن حتى يستحق الحياة، ولذلك فإنه قد مات، وأن هذا ما كان يجب أن يكون منذ البداية.

ما أسوأ الموت وسط هؤلاء وما أسوأ الحياة بينهم، بإمكانهم أن يحولوا كل شيء إلى جحيم مستعر، ما أسعده بموته وحيداً وما أسعده بصحبة ذلك الكلب. حياً وميتاً.

 

(12)

من المؤسف أن يمارس الإنسان كل ذلك القتل من دون أن يفنى، ما أجمل هذا العالم بدون بشر، يتخيل المواوي كم سيكون الكون هانئاً من غير هؤلاء الهمج الذين يكرههم ولا يقبل بوجودهم، كيف يمكنه التخلص منهم جميعاً في لحظة واحدة؟ هل يصير قاتلاً؟ وكيف له أن يقتل بمفرده هذا الكم من البشر؟ إنه لم يجرب الحياة بدونهم من قبل، هل يندم إن فعل هذا؟ هل يشعر بالوحدة؟ وماذا سيفتقد إن فقدهم؟

كان عليه أن يلغي وجودهم بصورة ما، كان قد قرر أنهم لا يستحقون الوجود، يعلم أنه لا شيء في هذا الكون، وأنه لا يملك الحق في أن يمنح الحياة أو في أن يسلبها، إلا أنه كان قد قرر ذلك، إنهم موجودون على غير رغبة منه، موجودون رغم أنفه، يعلم أن وجودهم زائل وإن طال الوقت، لكن كيف له أن يصبر وأن ينتظر، إنه على طريق الزوال هو الآخر، وربما يسبقهم إليه، ربما لا يرى تلك اللحظة التي يسعد فيها بفنائهم جميعاً.

بات التفكير في القتل مسيطراً على ذهنه، أي خير يكمن في شر عظيم كهذا؟ وكيف له أن يقتل؟ وما شأنه والدماء؟ هل يصير خادماً للموت الذي هو أقبح ما في الحياة؟ هو الذي لا ينشد سوى الجمال؟ حينها سيبلغ منتهى تناقضه، لكنه كي يحقق الجمال فلا بد له من أن يتخلص من القبح، وهل يمكن أن يتم التخلص من القبح إلا عن طريق قبح أقوى؟ أي منطق هذا الذي يحاول أن يؤطر به الأمور؟ هي فكرة شديدة الوطأة كانت تلتهب في عقله بأحرف من نار، هل يصغي إلى صوت الموت والدمار؟ لكن أليس الدمار هو كل ما يفعلونه؟ فكيف يمكنه أن يوجد الجمال إذن؟ ألا يعتبر المواوي بهذا المعنى محقاً؟ كان يعرف أن الأمر محتوم، وأنه سيضطر أخيراً إلى مواجهة ذلك العنصر المأساوي في الصراع بين القبح والجمال.

ألا يجب عليه أن يدمر هذا الدمار وأن يمنح فرصة للحياة وأن يفسح للجمال طريقاً؟ إنه سيمنح الحرية لهذا الكون وسيحرره من أكثر مخلوقاته شراً، سيحقق الخير سيطرته على هذا العالم، ولن يتحقق الجمال الذي يريده إلا بعد أن يبسط سيادته الكاملة، سيقيم ملكوت الجمال والحرية على هذه الأرض، لن يورثها لأبنائه لأنه لن ينجبهم، سيمنحها كل شيء دون رغبة في التملك، سيموت ويتركها جميلة هادئة، سترثيه النباتات والحيوانات والطيور عند الفجر في كل يوم، سيرثيه ترابها الذي سيضمه برفق ليصير جزءاً منه، سيمتزج مع تراب هذه الأرض وسينعم معها بالإرتواء من مياه النهر الذي لن يلوث ماؤه بعد ذلك أبداً.

كانت الفكرة ما تزال بعد في بدايتها، وكان عليه أن يبررها بوجه ما على أنها الوسيلة الوحيدة لتحقيق السعادة الشاملة، لقد حاول تحقيق كل ما كان يريد من قبل من دون التفكير في مثل هذا الشر وبالوسائل الخيرة، لطالما حاول أن يسيطر على ذلك القبح إنما دون نجاح، وكان اليأس، وحده اليأس ينجح في أن يحفظ للقبح حياته وقوة استمراريته، لن ينال هذا الكون السعادة إلا بالحرية، ولن يعرف الجمال إلا بالحرية، بأن يتحرر من هذا الإنسان الذي لا يستحق شيئاً من هذا الكون.

كان المواوي يجمع عواصفه، وكان قد توصل إلى هذه الأفكار بعد معاناة كبيرة في مواجهة الواقع، وتأملات عميقة لأحوال البشر، كان كثيراً ما يواجه مثل هذه الأفكار ويحاول أن يوقفها في رأسه، أن يمنعها تماماً، أن يدحضها ويثبت خطأ طرحها، إلا أنه لم يستطع أن يغلبها وغلبته الأفكار بمنطقها الواضح وضوحاً شديداً، لذا بات يؤمن بهذه الأفكار، لكنه لم يمتلك بعد الجرأة الكافية للوقوف من أجل أفكاره وإن كان الثمن أن يفقد حياته في سبيلها، فإما أن يتمكن من قتلهم جميعاً ويحقق انتصاره الأبدي من أجل سعادته وسعادة هذا الكون، أو أن يموت منهزماً وليشقى كل شيء من بعده، وليسد كل قميء بشع.

كان يريد أن يتخلص منهم جميعاً من دون أن يؤذي الطبيعة، فلا يريد أن يحرقهم لأنه بذلك سيضطر إلى أن يشعل الحرائق في المرتاحية بأكملها، وهو لا يريد أن يحرق أخشاب بيوتهم وأشجارهم ونباتات أرضهم وحيواناتهم، كما أنه لا يريد لذلك الهواء أن يمتلئ برائحة قذرة ستنتج عن احتراق أجسادهم، ولا يريد للأرض أن تتأذى بدمائهم إن قام بذبحهم، أو إن قام بدفنهم في باطنها، كما أنه من المستحيل أن يلوث النهر بدمائهم وجثثهم المتعفنة، هكذا كان عليه أن يجد وسيلة ما للتخلص من هذا الكم من البشر.

لو كانوا يشعرون أو يعرفون درجة ما من الإحساس لاستطاع أن يقتلهم كما يشاء تماماً عن طريق الكلمة، أن يميتهم كمداً وحسرة وخجلاً من أنفسهم، كان المرء منهم سيموت عندما يرى حقيقته التي لن يستطيع أن يواجهها، سيموت عندما سيعلم أنه لا يستحق الحياة، سيذهب وحده بعيداً بعيداً ليموت كما يجب أن يكون تماماً، وسيعلم أن موته هو الاعتذار الوحيد الذي يمكن أن يقدمه لهذا الكون، هل ينتظر المواوي ويعمل على أن يخلق لديهم الفهم والإحساس ثم يقوم بالقضاء عليهم جميعاً؟ لكنه لن ينجح أبداً في أن يفعل هذا، لكن ماذا إن نجح في هذا؟ ألن يكونوا حينئذ لا يستحقون الموت؟ ويكونوا قد بدأوا طريقهم نحو الجمال والحرية ولا داعي للقضاء عليهم؟ كان هناك دائماً ذلك المزيج من التعاطف والكراهية، وذلك الأمل في القلب الإنساني على الرغم من كل شيء وأسراره الروحية والقدرة على الوصول إليها.

لابد أن يعلم أن كل شيء مباح وسط هذا الواقع الذي يعيشه، إنه لا يطمح إلى امتلاك هذا الكون، على العكس تماماً إنه يرغب في أن يمنحه حريته، لو كان يرغب في امتلاك هذا الكون لسعى إلى أن يكون واحداً من هؤلاء الهمج، بل إلى أن يكون أكثرهم همجية، إنه لا يرفض وجودهم بالكلية، إنه يرفض وجودهم على تلك الصورة، إن مشروعه جمالياً تماماً، إنه يريد أن يصلح كل شيء، يريد أن يحرر نفسه من هذا الواقع، وأن يحرر المخلوقات، يريد أن يحرر الكون بأكمله.

لا يعيق تحقيق ذلك سوى هؤلاء الذين لا يقبلون بتحرير أنفسهم، ولا بوجود ما هو حر في هذا الكون، إنهم يرفضون أن يتركوا أي شيء ليكون حراً، إنساناً، طيراً، حيواناً، وما لا يستطيعون أن يحدوا من حريته فإنهم يقتلونه ويشوهون وجوده، فلما كانوا لا يستطيعون أن يوقفوا جريان النهر على سبيل المثال ويحدوا من حرية مياهه، أخذوا يلوثونه في كل يوم.

لابد أن تسير أفكاره نحو التنفيذ، ولابد أن يجد طريقة لذلك، إنهم لا يحبون هذه الأرض، ولا يحبون شيئاً في هذا الكون، لذا فهم لا يستحقون هذه الأرض ولا يستحقون الوجود في هذا الكون، إنهم لا يحبون أنفسهم ولا يقدرون نعمة الحياة التي لديهم أو لدى الآخرين، النتيجة المنطقية إذن: أنهم لا يستحقون الحياة.

لكنه قبل أن يقوم بقتلهم لابد أن يقوم بقتل كل ما في نفسه من تناقض لا يزال يجده ما بين الخير والشر، وما بين الرحمة والحق، بين ما يجب أن يفعله وبين ما لا يجب أن يفعله أبداً، ما بين الجريمة والفضيلة، وكان على الرغم من هذا الكم من الأسئلة يؤمن بأنه يجب انتزاعهم من هذا الكون، لكن كيف يمكنه أن يقتلهم جميعاً؟ يظل ذلك سؤاله الرهيب.

كم من الوقت سيستغرق القضاء عليهم جميعاً؟ يتمنى أن يختفوا بشكل كامل في لحظة واحدة اختفاءً تاماً لا يترك آثاراً تذكر بوجودهم، بحيث لا يكون هناك دم أو جثث أو عظام، حتى مقتنياتهم يتمنى أن تختفي كذلك، يتمنى أن يذهبوا بكل أشيائهم كأن لم يوجدوا يوماً.

يبدو صعباً تحقيق تلك الأمنية، ويبدو أنه سيضطر إلى التخلص منهم الواحد تلو الآخر، ومعالجة مشكلة التخلص من جثته سواء عن طريق دفنها أو حرقها. سيبدأ بروم، لا شك في ذلك، إنها أول رغباته في القتل، يجب عليه أن يقتل تلك الصورة البشعة لحبيبته روم، تلك التي تفسد عليه خياله حين تطل بظلها الوحشي على رأسه، وتشوه صورة محبوبته الوديعة التي تسكن بهدوء في قلبه.

سيبدأ بقطع لسانها، تلك الأفعى السامة داخل فمها، ثم سيفقأ عينيها اللتين تعجزان عن رؤية الجمال، ثم سيمزق ذلك الجسد الذي لا يعرف كيف يشعر بلمسة حب، سيفعل كل ذلك بينما تخرج تلك الروح البشعة التي تطغى ببشاعتها على ذلك الجمال الشكلي الذي تمتلكه روم ولا تشعر به ولا تراه، بل إنها تحوله إلى قبح، بحيث لا يعود له معنى ولا قيمة في خضم تلك البشاعة، سيقطع جسدها إلى أجزاء صغيرة ربما سيدفنها أو سيحرقها في مكان بعيد على أطراف المرتاحية.

وبعد أن يتخلص من روم، سيقوم بقتل كل من يمت له بصلة قرابة من جهة الأم أو من جهة الأب، فلطالما كان آذاهم هو الأكبر والأشد قسوة، كانت الكلمة منهم تعدل ألف كلمة من أسوأ الأنواع، وكانت الطعنة منهم تساوي ألف طعنة، سيبدأ إذن بالانتقام لنفسه أولاً، لن ينكر رغبته في الانتقام لنفسه قبل كل شيء، ولن يكتم تلك الرغبة القوية في أعماقه بعد الآن، سينقذ وجوده أولاً، وبعدها سينقذ بقية الكائنات.

سيبدأ بتلك المجموعة التي أحرقت كلبه المسكين، سيقوم بحرقهم أحياء أمام أعين ذلك الكلب، ليشعروا كيف يكون ألم الاحتراق، يتمنى أن يضحك الكلب لمشهد احتراقهم كما كانوا يضحكون منه وهو يفر مفزوعاً من النيران المشتعلة في ذيله وهو يكاد أن يفقد حياته.

أما عبد الستار فلن ينسى المواوي أن ينتقم له من تلك المجموعة التي عذبته بما في ذلك أهله الذين قاموا بالتخلص منه، لن يقوم بتعريتهم ليستمتع بذلك باقي الهمج، لا، إنه سيقوم بسلخ جلودهم عن أجسادهم وهم أحياء، ليعرفوا جيداً كيف يكون التعري وانتهاك أجساد الآخرين وتعريتها أمام الجميع، وبعد أن ينتهي من سلخ جلودهم، سيقوم بتقطيع لحومهم وفصلها جيداً عن عظامهم، سيجمع تلك اللحوم في كومة كبيرة وسيحرقها انتقاماً لروح عبد الستار ممن تسببوا له في الكارثة المأساوية التي أحاقت به، سيفعل كل ما يظن وكل ما لا يظن أنه من الممكن أن يفعله يوماً.

كانت مثل هذه الأفكار تثير في داخله الرعب، إلا أنها وفي الوقت نفسه، كانت تمنحه شعوراً غريباً بالراحة العميقة والأمل الكبير، سعادة غريبة كان يشعر بها لمجرد تخيله لمثل هذه الأفعال، ماذا لو تحققت الأحلام، واستطاع التخلص من هؤلاء القتلة.

إنهم يقتلون أيضاً، يقتلون كل شيء، وبطرق متعددة، لكنهم يقتلون بحقارة ودناءة لا مثيل لهما، يقتلون من أجل القتل، من أجل الإيذاء لا من أجل التخلص من الشرور، إنهم يقتلون من أجل لذتهم الغريبة الشائنة، يمارسون القتل بمتعة كبيرة، إنهم يقتلون الحياة ويقتلون أي أمل فيها، يقتلون الإنسان ويقتلون مستقبله في هذا الكون، يقتلون آدميته، وتفوقه على بقية المخلوقات، يهبطون به إلى مهاو سحيقة.

إنهم يقتلون النهر، نعم يقتلونه، صحيح أنه لا يزال يجري، لكنه حزين من كثرة ما حمل من جثث لبشر وحيوانات، ومن كثرة ما غسل من دماء وما تحمل من رائحة قاذوراتهم، إنهم يقتلون الأرض والأشجار والنباتات، كما أنهم يمارسون أبشع أنواع القتل وأكثرها متعة بالنسبة إليهم، إنهم يقتلون كرامة الإنسان وروح الحرية في نفسه، يقتلون حبه للجمال وللخير ولأن يكون إنساناً كما يجب أن يكون، يقتلون إنسانيته لأنهم يشعرون بغل شديد إذا ما وجدوا ملمحاً واحداً من ملامح تلك الإنسانية في أي أحد وبتشف بالغ كانوا يقضون على هذا تماماً.

كما أنهم يقتلون الحلم بالأفضل، فكانوا دائماً يعملون على تحطيم أي حلم بواقع أفضل وينتصرون بضراوة لواقعهم القبيح، كما كانوا يقتلون الخيال، فلا يسمحون بوجوده أبداً، ولا يسمحون للعقل بأن يكون له ملاذاً يرى فيه صوراً غير صورهم، وواقعاً غير واقعهم الكئيب، وكانوا فوق كل ذلك يقتلون الإيمان، الإيمان بكل شيء، بقيمة الحياة، بالجمال، بضرورة تغلب الخير على الشر، بوجود العدل، بمعنى الحياة، بأي صورة من صور الخلاص في عالمهم حتى وإن كان خلاصاً وهمياً.

تلك الصور الجهنمية في مخيلته، تلك المشاعر الرهيبة التي يشعر بها، فليطعها أيا تكن صفتها، لا يجب أن يخشى اتباع ما يشعر به من شر ورغبة في القتل، يجب أن يظهر لهم ذلك في كل كلمة وفي كل فعل، عليه أن يكون قاتلاً صادقاً، وألا يخفي شيطانه خلف قناعه الجميل البريء.

 

(13)

الوحدة، وحدته الرهيبة، هل هناك من يستطيع أن يتحملها؟ إنه يحبها ويسعى إليها، ويعمل على تعميقها، إنها جزء أصيل من حياته، هي الملجأ والملاذ الآمن، أو ربما كانت الدواء المر، كان متحفظاً كتوماً، يحرص على إخفاء نفسه عن الآخرين هناك في عالم مشاعره الخاص، حيث أفكاره وأراءه الخاصة، وأذواقه وكل ما يحب وما لا يحب، وكل الرغبات الشديدة غير المتحققة.

هو وحيد، شديد الشعور بالوحدة، كان هو من قرر وحدته، ليس من شك في ذلك، لكن هل اختارها فعلاً بحرية كاملة؟ هل كان هو من اختار أن يكون وحيداً؟ أم أنه قد أريد له أن يكون وحيداً؟ ولم يرد له غير ذلك، هل الأمر بيده؟ هل يستطيع تغيير ذلك الواقع؟ أي عذاب ومعاناة روحية قادته إلى ذلك؟ لم يكن كل ما يفعله إلا محاولة للخلاص من العزلة على عكس ما كان يدعي أو يظهر، إنه لا يستطيع الاستغناء عن الشعور بالأنس والألفة، فهو كان يهرب من شعوره بالعزلة الذي كان يتعاظم في وجود الآخرين إلى شعوره بالغنى الروحي والاكتفاء عندما يكون وحيداً.

لم يكن وحيداً قبل موت أمه وأبيه، ربما كان وحيداً بشكل خاص، بمعنى أنه لم يكن وحيداً بشكل كامل كما حدث بعد موتهما، لكن لا شك في أنه قد عرف الوحدة منذ أن كان طفلاً لا يزال يحاول اكتشاف هذا العالم، كان على الرغم من وجوده في حضن أبيه وأمه، وعلى الرغم من أن ذلك كان يكفي روحه ويغنيه عن كل شيء آخر، يفتقد الكثير من الأشياء الأخرى التي من المفترض أن تتوفر لدى أي طفل في مثل سنه، فلم يكن لديه أبداً أصدقاء من أطفال البشر، وكان يشعر بأنه من المفترض أن يكون لديه أصدقاء، إلا أنه كان يحاول أن يتجاوز ذلك الشعور بالنقص، ويتساءل من الذي فرض مثل هذا الأمر؟ ولماذا يجب أن يتخذ أصدقاء وأن ينضم إلى مجموعة من الأطفال ولماذا يجب أن يشبههم؟

أما كل من أمه وأبيه، فكانا كذلك في حيرة من أمرهما، ولا يعلمان ماذا يجب عليهما أن يفعلا بالتحديد، كانا سعيدين بذلك الطفل الجميل ذو الوجه كالقمر، ثمرة القلب وزهرة الحب، ذلك الطفل الذي لا يشبه أي طفل آخر في البلدة.

كانت عيناه اللامعتان كنجمين تمتلئان ذكاء وحباً، وكان جسده المتناسق القوي على صغره، يشير إلى أنه سيكون رجلاً لا يملك جمال الوجه فحسب، وإنما جمال الجسد أيضاً من حيث الطول والهيئة، أما ابتسامته فكانت هي أكثر ما يميزه، ربما كان الطفل الوحيد الذي يبتسم وسط أطفال لا يعرفون سوى أن يضحكوا ببلاهة وبأصوات مزعجة لا تعبر عن السعادة بقدر ما تعبر عن خطر ما يقترب، وكذلك كان صوته الذي يجعل كل ما ينطق به جميلاً ساحراً، إضافة إلى طريقته الخاصة، الهدوء والثقة والشخصية التي تفرض حضورها، والتي ميزته منذ طفولته الباكرة عن الآخرين من أقرانه.

كما كانا سعيدين برهافة مشاعره وحنوه، وحسن رعايته للأشجار والنباتات، فكثيراً ما كان أبوه يراه وهو يضم شجرة صغيرة، أو يقترب من وردة ليلمسها بخده، أو ليمرر يده فوقها برقة بالغة، وكثيراً ما كانت تراه أمه وهو يهب طعامه لكلب مسكين بسعادة بالغة، أو يأخذ بعض الحبوب من البيت لينثرها على الأرض، ويجلس هادئاً يراقب الطيور التي تلتقطها مغتبطاً.

كان طفلاً جميلاً مهذباً نظيفاً طوال الوقت، وبهذا كان مختلفاً تماماً عن بقية أطفال المرتاحية، لم يعرف الصراخ والسب مثلهم، ولم يكن يقضي كل وقته في الشوارع كما يفعلون من أجل ممارسة الإيذاء فحسب، إيذاء بعضهم البعض، وإيذاء كل ما يمر في تلك الشوارع من حيوانات أو بشر، فهم لا يخافون شيئاً لأنهم لا يشعرون، فلا يخشون من أن يقوموا بإيذاء شخص من الممكن أن يضربهم بوحشية تامة، لأنهم فقدوا الإحساس بشكل كامل من كثرة ما تعرضوا للضرب.

فالأم تضرب طفلها بمجرد ولادته، وإن استطاعت أن تضربه جنيناً لفعلت، وكذلك الأب لا يتوقف عن ممارسة تلك المتعة في كل يوم، وهم يضربون بعضهم البعض في كل وقت، كما أنهم يتعلمون السب وكل الكلمات الجارحة قبل أن يتعلموا أي كلمات أخرى، ويتعلمون بالإضافة إلى كل ذلك، الضحك، فتراهم يضحكون ببلاهة من دون أن تجد لذلك مبرراً واضحاً، يضحكون حين يجب البكاء، وحين يجب إبداء الحزن والتعاطف، وحين يجب الصمت.

لم يكن المواوي يملك أي شيء يؤهله للانخراط وسط هؤلاء الأطفال، فكان يقضي معظم وقته بصحبة أمه وأبيه، وكان يتعلم منهما كل شيء، فقد تعلم من أمه الحرص على النظافة، وظل يتبع طريقتها حتى بعد موتها، ويحرص على تنظيف البيت في كل يوم وتطهيره بدخول الشمس والهواء إليه، كما تعلم منها كيف يقوم بخبز أرغفة الذرة اللذيذة، ومن أبيه تعلم كيف يزرع، وكيف يحافظ على تلك الأرض الصغيرة لا كوسيلة من أجل الحصول على ما يأكل فحسب، بل أن يحافظ عليها كالحياة نفسها.

هي لوحته الكبرى وهي أجمل لوحاته على الإطلاق، من أبيه تعلم كيف يحترم الأرض، وكيف يصمت وقت غروب الشمس في كل يوم وكيف يقف ليتأملها مودعاً، وكيف يستقبل شروقها بابتسامة في اليوم التالي، علمه أبوه ألا يزرع من أجل أن يأكل فقط، وأن النباتات والأشجار إنما هي من أجمل الأشياء في هذه الحياة، كان يريه جمالها وروعة ألوانها ويجعله يشم روائحها الطيبة، كان يجعله يشعر بالحياة في كل شيء من حوله.

وحتى أثناء حياته الجميلة تلك مع أبيه وأمه، كان المواوي يحب أن يقضي بعض الوقت وحيداً في كل يوم، فكان يجلس لساعات فوق تلك القطعة الخشبية التي قام أبوه بربطها من طرفيها بحبلين في شجرة الكافور التي تقع أمام البيت، كان يمسك بذلك الحبل بيديه الصغيرتين، ويدفع بكل قوته، كان يستمتع وهو ينظر إلى السماء متأرجحاً، يود لو يطير، وأحياناً كان يقف عليها كي يكون أكثر قرباً من السماء ولكي يستطيع أن يلحق بذلك الطائر الذي يتمنى أن يحلق مثله بحرية.

كما كان يجلس وحيداً وسط النباتات التي معها لم يكن يشعر بالوحدة ولا بالخوف، بل كان يأنس بها، لم يكن يشعر بالخوف إلا من تلك الكائنات الصغيرة التي تشبهه، ولم يكن يستطيع أن يشاركهم ألعابهم التي هي عبارة عن ممارسة للأذى بمختلف درجاته والتي من الممكن أن تصل ببساطة شديدة إلى حد القتل، سواء كان عن طريق الخطأ أو عن طريق العمد إرضاء لرغبات الشر الصغيرة في نفوسهم، لهذا لم يكن يشعر بالرغبة في التواصل معهم على الإطلاق.

كان الأب والأم على الرغم من سعادتهما بتميزه واختلافه إلا أنهما كانا يخشيان ذلك اليوم الذي سيكون فيه وحيداً وسط بشر لا يشبه منهم أحداً، لذا حاولا أن يجعلاه يختلط بالآخرين بقدر ما، حتى وإن أدى ذلك إلى فساد بعض أخلاقه وتشوه بعض صفاته الجميلة، كانا يقولان أنه لا بأس من حدوث ذلك بل إنه أمر لا بد منه كي يستطيع العيش في المرتاحية، ولكي يكون مقبولاً بينهم وكي يستطيع أن يقبلهم.

كان ذلك أسوأ ما يذكره لأبويه، كانت أسوأ لحظات طفولته، لم يغفر لهما أبداً تلك الأيام عندما كانا يجلبان بعض من صغار الهمج من أقاربهما، ليجد نفسه محاطاً في بيته وحديقته بكائنات صغيرة شريرة كريهة مؤذية، كان اليوم من هذه الأيام يمثل له عقاباً رهيباً، لم يكن يعرف ماذا ارتكب من ذنب، وما الذي فعله وأغضب أمه وأبيه بهذا الشكل الذي جعلهما يتوقفان عن حبه، ويعرضانه لهذا العذاب البشع دون رحمة، وأن يتركانه فريسة لتلك الوحوش الصغيرة على مرأى ومسمع منهما من دون أن يقوما بالتدخل لإنقاذه.

لم يكن يعرف لماذا يجلبان هذه الوحوش إلى البيت، وما الذي يضطرهما إلى تحمل وتحميل ابنهما كل هذه الخسائر النفسية والمادية، فما كان يسببه هؤلاء الوحوش من تخريب للبيت والحديقة وتشويه طفلهما الجميل، كان أقل من كل ما يشعر به المواوي من حزن وألم نفسي وحيرة وتساؤلات كبرى كانت تؤرق عقله الصغير.

فلم يكن المواوي يفهم لماذا يمرر أحدهم أظافره فجأة في وجهه، ولماذا يسبب له ذلك الجرح الذي كان يسبب له ألماً قوياً عندما كانت تغسله له أمه بالماء، ولماذا يتسبب ذلك الكائن الصغير الذي يشبهه، في أن يجعله ينام ليلته كاملة على جنب واحد من دون أن يتقلب كما يحب، لأنه لا يستطيع أن يضع خده المجروح على الوسادة.

ولم يكن يفهم لماذا وبشكل مفاجئ أيضاً يضع أحدهم إصبعه في عينيه وكأنه يريد أن يقتلعها، لماذا يشعرونه بذلك الألم وبذلك الخوف ويضحكون؟ ولماذا يضحكون حين يركض نحو أمه متألماً واضعاً يده على عينه فترفعها أمه وتقبل عينه وتنفخ له فيها الهواء كي تخفف من ألمه.

كما لم يكن يفهم لماذا تمتد هذه الأيدي نحو شعره الأسود الناعم لتشده وتحاول تشويهه، لم يفهم أبداً لماذا يحبون الأذى إلى هذه الدرجة، كما أنه لم يكن يطيق صراخهم الدائم ولم يكن يفهم لماذا لغتهم هي الصراخ ولماذا لا يتكلمون مثلما يتكلم، ولم يفهم أبداً سر تلك السعادة التي كانت تبدو على وجه أحدهم حين يمد رجله أمام خطواته حتى ينكفئ ويصطدم وجهه الجميل بالأرض، لينهض على صخب ضحكاتهم خائفاً لا يفهم أي شيء، ويضع يده على موضع الألم في وجهه لتلمس يده الدم الذي يسيل من أنفه، دمه الذي لم يكن يسيل إلا على أيدي هؤلاء.

من أجل كل ذلك كان المواوي حريصاً منذ صغره على وحدته التي لا مفر منها، هذا المختلف الذي يتحدث بطريقة مختلفة، ويرى كل شيء بشكل مختلف، ويفعل كل شيء بشكل مختلف، لا يمكن إلا إن يكون وحيداً، لا يمكن أن يكون مرغوباً أو مستساغاً، سيظل غريباً منبوذاً، وسيبقى إشكالياً.

كان يعرف أن كلمته قاسية عالية، وأن خطرها شديد ووقعها رهيب، كان حين يشع فيه بريقها، يشعر بأن تحته توجد كل الأشياء، وأنها تقع أسفل بكثير، وأنها تتطلب الكثير من الهبوط للوصول إليها، كان يشعر بسمو كلمته وحقارة كل ما سواها، كان يستمتع بطابع وجوده المتفرد، وتمنحه إحساسه بالحياة تلك الاستقلالية، وبأي شيء غير الحرية يتنفس المرء؟

 

(14)

كيف له أن يتقي ذلك البرد الشديد الذي يفتك به وهو ملقى على حافة النهر وسط هذا العراء التام، حيث لا سقف ولا جدران يمكن أن يحتمي بها من ذلك الصقيع، فهو غير قادر على الحركة، حتى وإن كان قادراً على أن يمشي مرة ثانية، فهل يستطيع أن يعود إلى بيته الجميل، إلى فراشه الدافئ، إلى رائحة أمه وأبيه التي لم تفارق ذلك البيت الصغير حتى بعد سنوات من غيابهما، هل يستطيع أن يعود إلى بلدته؟ هل يعود إلى الموت الذي ينتظره هناك أم يبقى مع الموت الذي هو موجود بالفعل هنا، إنه إن لم يمت بفعل جراحه النازفة تلك، فإنه سيموت بكل تأكيد بسبب ذلك البرد الذي لا يرحم، هذا إن كان له الخيار وإن كان له أن يتحرك وأن ينهض من تلك الرقدة، ما الذي سينتهي إليه حاله؟

كان ثوبه قد تبلل تماماً بفعل مياه الأمطار التي تساقطت على جسده المضعضع المنهك، كان ذلك الثوب قد امتص الكثير من دمه النازف إلى حد أن تشبع به تماماً، ولم يعد يستطيع أن يمنع جريانه، فصار الدم يسيل على الأرض، ربما غسلته تلك الأمطار، لم يكن المواوي يستطيع تحريك جسده أو رفع رأسه كي يرى إذا ما صار ثوبه نظيفاً أم لا يزال مشبعاً بالدم.

كان عاجزاً تماماً عن الحركة، فلم يكن جسده يرتعش ولم تكن أسنانه تصطك على الرغم من ذلك البرد الشديد، كان أشبه بكتلة متجمدة، وكان تجمده هذا وعدم قدرته على الحركة أشبه بكابوس فظيع لا يستطيع الفكاك منه، فما أقسى أن يشعر بذلك البرد وذلك الألم وتلك المعاناة من دون أن يستطيع التعبير عن ذلك ومقاومته ولو بحركات بسيطة لن تفيد ولن تؤدي إلى شيء ولن تخفف عنه ألمه، إلا إنها على الأقل سوف تثبت حياته، وستكون دليلاً على أنه لا يزال حياً بشكل أو بآخر.

هكذا كان جامداً تماماً، لا يستطيع أن يحرك كفيه بسرعة ليشعر ببعض الدفء الناتج عن احتكاكهما، أو أن يقربهما من فمه لينفخ فيهما الهواء ليدفئهما قليلاً، أو أن يخبئ فمه وأنفه خلفهما ليمنع عنهما الهواء البارد الذي لا يحبه ولا يحب دخوله إلى صدره، ولكي يتنفس ذلك الهواء الدافئ الذي تحبسه يداه، ولم يكن يستطيع أن يقوم بتدليك جسده بقوة كي يمنحه بعض السخونة، ولا أن يركض في مكانه كما كان يفعل دائماً ويجد أنها طريقة فعالة تمنح جسده بعض الحرارة بشكل سريع، كما أنه لم يكن يستطيع أن يضم كلبه إليه وأن يقوم بتدليك جسده الضعيف كي يمنحه بعض الدفء ويلتمس منه بعض الدفء في نفس الوقت.

كان دائماً يكره البرد، ويكره تلك الشهور الباردة الثقيلة التي تعرفها المرتاحية في كل عام، لم يكن يكره البرد بسبب عدم قدرته على تحمله فحسب، وإنما كان يكره تلك القسوة فيه، كان يرى أن البرد يتعمد الإيذاء، وأنه يستعرض قوته ويستمتع بضعف الكائنات بأكملها أمامه، وأنه يميت الطبيعة ويميت البهجة ويميت الحياة، لذا كان البرد دائماً يحمل الشعور بالوحشة ويجلب الحزن للمواوي، وكان يظلله بالكآبة، وكان ذلك يحدث منذ أن كان طفلاً يعيش مع أمه وأبيه، فمنذ أول سماء غير زرقاء رآها ومنذ أن بكى لرؤيتها في ذلك اليوم، وتلك الحالة تصاحبه دائماً.

هكذا كانت تتملكه كآبة متعذرة الوصف تصل به في بعض الأوقات إلى حالة من الاضطراب الرهيب، وكانت تتكرر بقسوة متطرفة، كان البرد يسبب له انقباض الصدر والشعور بالخوف، ويجعل الأفكار السوداء تنهمر كالأمطار على ذهنه، كان البرد يذكره بالموت، فمع الشعور بالبرد يكون دائماً الشعور بالخوف من الموت، كان يخشى موت أمه أو أبيه، أن يفقد أحدهما أو أن يفقدهما، كما كان يخاف أن يموت هو وأن يفقداه، كان يخشى الموت كثيراً في هذه الأجواء، وكم من أوقات كثيرة شعر بالموت يقترب منه وكان يبكي كثيراً، كان يشعر بأن البرد يهدد الحياة بشكل كبير، وكان يخشى أن تموت النباتات، أو أن يموت حيوان ضعيف أو طائر رقيق، لذا كان يحمل هم تلك الشهور الباردة ويترقب موعد قدومها، ويعد لها كل ما يمكنه من مقاومة ذلك الهجوم الوحشي المنتظر.

كانت تلك السوداوية المتلفة تلازمه ولا تفارقه، وكان يبكي كثيراً في تلك الأيام الباردة المظلمة حتى بعد أن صار رجلاٌ، وكان يفتقد الشمس كثيراً، كم يحب الشمس، كان يرى أن أشعتها وإن كانت حارقة في بعض الأوقات، إلا أنها أرحم كثيراً من ذلك البرد وأنها تمنح الحياة، كان يشعر بأن حياته ترتبط بالشمس، وأنها أجمل ما ينتظر في بداية كل يوم جديد، وأنها الوعد الذي يتحقق في كل يوم بعد الوداع.

عندما كان طفلاً صغيراً، كان يذهب ليلقي بجسده الضئيل في فراش أمه وأبيه، كان وجوده في حضنهما وسط دفء أنفاسهما يهدئ من روعه كثيراً، ويمسح عنه الكثير من ذلك الحزن الذي كان يتسلط عليه، وبعد أن كبر قليلاً، صار يستعيض عن النوم في فراشهما بالجلوس معهما لأطول وقت ممكن، وتبادل الأحاديث الحانية التي تخفف من وطأة تلك الليالي الباردة الكئيبة، كان يقص عليهما حكاياته التي تختلقها مخيلته التي لا تنفد، وكان يأكل معهما قطع الخبز المغموسة بالحليب الساخن والعسل الأسود، التي كانت تدفئ جسده وتضيع حلاوتها مرارة ما يشعر به من انقباض، وعلى الرغم من ذلك لم تكن هذه اللحظات تمر دون مسحة من السوداوية.

أما وقت النوم فكان من الأوقات العصيبة حيث يكون بمفرده، كان يخجل من أن يركض نحو فراشهما خائفاً مذعوراً، لذا كان يبقى وحيداً في فراشه بائساً تماماً، يشعر بالشوق إلى هذه الطفولة، يقول ليتني ما كبرت، ليتني ظللت طفلاً صغيراً كي يكون مقبولاً أن أكون بينهما الآن، أو أن أذهب لأجلس على حجر أبي، أو أنام على صدر أمي، كان يفكر فيهما ويتخيل نفسه في حضنهما، ويقول لنفسه طوال الوقت إنهما هناك، لا يبعدان عنه كثيراً، وأنه يكاد يسمع أنفاسهما في هذا الهدوء الرهيب الذي يخيم على البلدة بأكملها.

كان يقول لنفسه أنه ليس وحيداً، وأنه لا يجب أن يخاف أو أن يحزن، وكان يقول لنفسه أن ذلك البرد سينتهي، ستهزمه شمس سوف تأتي بعد ساعات بكل تأكيد، شمس ستستعيد قوتها ولن يحجبها ضباب بعد الآن، وكان يقول لنفسه أن السماء ستكون زرقاء صافية تماماً، وأن تلك الكآبة سوف تنقشع، وأن الهواء سيكون دافئاً على العكس من ذلك الهواء المثلج الذي يصعب تنفسه، غداً سيكون كل شيء جميلاً رائعاً، كان يقول لنفسه ذلك، غداً سيجلس تحت أشعة الشمس، غداً سيملأ رئتيه بالهواء الدافئ، غداً سيكون كل شيء فرحاً ينعم بالنور.

كان يستطيع أن يقول كل ذلك لنفسه لأنه كان يعلم أنه هناك بالقرب منه توجد الأم التي تعطف ويوجد الأب الذي يرحم، أما بعد أن ماتت الأم، وبعد أن لحق بها الأب، لم يعد يستطيع أن يصبر نفسه بكلمات عن شمس سوف تأتي، فقد تضاعفت قسوة ذلك البرد عشرات المرات، وتعاظمت تلك الكآبة حتى صارت بحجم الكون بأكمله، لم يكن هناك ما يمكن أن يواسيه من كلمات أو أمنيات، ولم يكن هناك ما يمكن أن يمنع أو يخفف عنه ذلك الشعور بالبرد مهما ارتدى من ملابس ثقيلة، ومهما إلتحف بكومة من الأغطية، كان شعوره بالبرد شعور داخلي يضرب الروح، شعور لا يفيد معه تدفئة الجسد، الذي تستحيل تدفئته مادامت الروح تعاني الشعور بالبرد، ولم يكن هناك ما يدفئ الروح.

كان وجود الكلب بصحبته في السنوات الأخيرة يخفف عنه قليلاً، أو على الأقل كان يشتت انتباهه، ويجعله يفكر في ذلك الكلب المسكين، ويعد له ما يمكن أن يدفئه، كان شعوره بأنه يساعد ذلك الكلب الضعيف يدفئ روحه بعض الشيء، والآن في رقدته على حافة النهر يشعر بكلبه العطوف وهو يحاول أن يدفئه، أو ربما يحاول أن يلتمس منه بعض الدفء، لا شك في أن الكلب يعاني أيضاً من ذلك البرد الشديد، وأنه يكاد يتجمد مثل صاحبه من ذلك الهواء المثلج، كان يشعر بالكلب وقد ألصق بطنه إلى وجنته وأسند رأسه على صدره، كان خده هو الجزء الوحيد من جسده الذي يشعر ببعض الدفء المستمد من جسد ذلك الكلب المسكين الذي لا يزال ينبض بالحياة.

 

(15)

كان يحدث أن يداهمه فجأة شعور قوي بالحنين، الحنين إليهم، إلى البشر، إلى هؤلاء الذين يرفض وجودهم ويفعل كل ما يستطيع من أجل الابتعاد عنهم وإقامة الحواجز بينه وبينهم، فجأة يشعر بأنه يفتقدهم، فجأة يشعر بأنه يحبهم ويحتاج إليهم، فجأة يشعر بأنه لابد أن يكون بينهم وكأنه مثلهم وكأنهم مثله، ويظن أن هناك في وسطهم تماماً يوجد دفء لم ينعم بمثله من قبل، يفتقد أصواتهم وكلماتهم، عيونهم وأرواحهم، يفتقد ما فيهم من حياة، يود لو يكون قريباً من أجسادهم النابضة بالحياة، يفتقد وجودهم البشري، أن يكون محاطاً بهم ليشعر بالحياة.

كان في كل صباح ينطلق على قدميه، يسير وحيداً إلى حد يبعث على الأسى، لا يوجد في المرتاحية بأكملها من يعيش وحيداً مثله، لا يوجد بينهم من نام يوماً في غرفة ما وحيداً ولو لمرة واحدة في حياته، أحياناً كان يجلس وسط صمت وحدته ليستمع إلى صخب اجتماعهم متسائلاً، لماذا قدر له أن يكون وحيداً بهذا الشكل؟ ومن يمكنه أن يكشف عن أسرار القدر؟ كان يقول: حسناً، سأكون وحيداً، سأكون وحيداً كما يجب أن يكون تماماً، سأكون وحيداً إلى الحد الأقصى الذي يمكن أن تكون عليه الوحدة، بل إلى الحد المستحيل الذي لا يمكن أن تكون عليه الوحدة، سأكون وحيداً إلى حد الشعور بالوحشة.

هل يشعر بالوحشة؟ هل يحتاج بعد كل ذلك إلى أحدهم كي يؤنس وحدته تلك؟ إنه لا يتحدث إلى أحد على الإطلاق، صحيح أنه يقول كلماته لكن من سواه يسمعها؟ ربما كان يقولها فقط من أجل أن يستخدم صوته ولسانه، كي لا ينسى كيف يكون النطق والتكلم، لا يريدهم الآن أن يسمعوا كلماته كما كان يريد دائماً، ما يريده فعلاً هو أن يتكلم مع آدمي مثله، أن يدور حوار ما بينه وبين أحدهم، إنه لم يتحدث إلى أحد على الإطلاق منذ موت أبيه، صحيح أنه يتحدث إلى كلبه في كل يوم، ويتحدث إلى السماء والنهر والورود، إلا أنه وعلى الرغم من شعوره بوجود حوار دائم بينه وبين كل هذه الأشياء، وأنها كانت تبادله الحديث بطرقها الخاصة، وتحاوره بصور مختلفة، إلا أن ذلك لم يكن كافياً على ما يبدو، إنه يفتقد الأحاديث والحوارات التي تشبه ما كان يدور بينه وبين أبيه.

يريد البوح والتقارب وفضفضة الروح، كم هو بحاجة إلى صديق، ذلك الصديق الذي لم يحظ به طوال حياته، ولن يحظى به أبداً، لو يصبح أحدهم صديقاً له، لو يستطيع أن يتخذ منهم صديقاً، لو يفهمه أحدهم، لو يحبه أحدهم، لو يشعر به أحدهم، لو يقضي معه بعض الوقت في كل يوم، لو يسيران سوياً بمحاذاة النهر، لو يأتي إلى بيته، لو يشاركه طعامه، كم يود في كل مرة يجلس ليأكل طعامه وحيداً لو أن يداً تمتد إلى صحنه، لو يجد بينهم من يشبهه، من يحب ما يحب، من لا يرى في كل الأشياء التي هي ضرورية بالنسبة إليه أشياء لا لزوم لها، من لا يرى كلماته مجرد أشياء فارغة مملة لا تستحق الحماسة ولا تستحق حتى أقل قدر من الاهتمام، لا لن يكفيه صديق واحد، إنه بحاجة للكثير من الأصدقاء، الكثير بما يكفي لمحو تلك الوحشة التي يشعر بها.

إلى متى سيبقى وحيداً مع كلماته، ضائع مع كلمات ضائعة، صحيح أنها الشيء الوحيد الذي يمنحه القوة لتحمل وحدته الرهيبة، وأنها الشيء الوحيد الذي يملأ فراغ الروح الذي كان من الممكن أن يقضي عليه تماماً، لولا أنه يقضي معظم وقته منشغلاً هائماً في دروبها، فهل لا يزال بحاجة إلى شيء آخر؟ هل يبحث عن الصحبة التي كان يتجنبها؟

إنه يحب الحياة الهادئة، بل شديدة الهدوء المجردة تماماً من أي صخب، ولذلك كان ينغلق على نفسه بشكل كامل، إلا أن ذلك الحنين المفاجئ كان يشبه هجمة جوع شديدة يصعب مقاومتها، بحيث يضطر المرء إلى أن يأكل أي شيء يجده أمامه، لم يكن يستطيع أن يتحكم في نفسه عندما تداهمه تلك الحالة، ولم يكن يستطيع أن يمنع نفسه من أن يحاول التقرب من الآخرين ببؤس بالغ.

كان يعي ما يفعل ويرفضه تماماً، كان يجد نفسه يمضي خلاف إرادته إلا أنه لم يكن يستطيع أن يتوقف أو أن يقاوم، ولم يكن يعرف لماذا يحط من قيمة نفسه إلى هذه الدرجة بحثاً عن علاقات مملة غير آمنة، كان يحاول التواصل معهم والتكلم مع أحدهم، كان يسعى إلى تكوين صداقة ما، يحاول أن يخفف من كلماته بحيث يبدو تافهاً ومقبولاً، يحاول أن يكون محبوباً مرغوباً، كان ينظر إلى من يحدثه بنظرة تحمل كل احتياج وافتقاد لكل شيء، لكن من يرى ومن يشعر.

 

(16)

فنه المبهم، ذلك الحنين، ذلك الشبق، رقة الروح وشفافيتها، النور والطمأنينة، الشك والأكذوبة الكبرى، ذلك الشيء الخفي الذي يعايشه طوال الوقت، ذلك الشيء الذي يشكل سحر الكلمة التي لا يتقنها غيره، لم تكن كلماته له وحده كما قد يبدو أحياناً، ربما يكون قد ابتكر الكلمة كي يعالج بها نفسه أولاً، وكي يواجه كل الأشياء المؤلمة التي لم يستطع أن يتغلب عليها.

كان في أوقات كثيرة يحاول أن يهرب منها، لكنه كان يعود دائماً ليندمج فيها، بدونها ينهار عاجزاً محطماً، لذا كان يعود ويشرع في ممارسة الكلام الذي لا يتقنه غيره، كان يقول وهو يؤوب إليها من جديد: أنا المواوي، وعلى المرء قبل كل شيء أن يصغي جيداً إلى كلماتي. كان يقول الكلمة التي يؤدي مقابلها ثمناً فظيعاً غير مبال بالعواقب، يبدع كل شيء كيفما يشاء، وحده يرسم لوحة الحياة الجميلة في ذلك المدى اللامتناهي، وهل يتحمل عقله الحقيقة؟

في قلب جحيمهم، ووسط زحمة قبحهم، عرف الجمال، وجده، استطاع أن يخلقه وأن يحافظ على وجوده في نفسه على الأقل، كانت نفوسهم المشوهة وروح التخريب لديهم وموقفهم من الحياة يحثه بقوة على الحياة، كان يراهم ضد الحياة وفي الوقت نفسه كانوا يرونه ضد الحياة التي يعرفونها، إنه يتمتع أكثر من أي كان بحاسة مرهفة، وكان في خضم محنة العذابات، هكذا دفعة واحدة، تأتيه الكثير من الكلمات الجيدة التي لم يقل مثلها من قبل، كان يرى أنه كما يجب أن يكون المرء قادراً على الحب فإنه كذلك يجب أن يكون قادراً على الكراهية، فهناك من لا يستحقون الحب ولا العطف، ولا يستحقون حتى الحياة، وعلى رأسهم كل من يهدد الحياة.

الحياة التي لم يعد لها وجود، ما أشبه هذه الليلة بأول ليلة يقضيها في بيته وحيداً تماماً، كانت الليلة الأولى لأبيه في قبره، وكان يشعر بأنه في قبر هو الآخر، وأنه قد بدأ يغادر الأرض تدريجياً، وأن كل شيء يسقط من يده، كان يعلم أنه لن تأتي أبداً تلك اللحظة التي سوف يسمع فيها صوته أو حتى قد يراه، إلا أنه وعلى الرغم من كل شيء، حاول أن يظل متشبثاً بالحياة، وأن يشفى من ذلك الحزن الذي أصابه بالوهن ومنحه تلك النبرة الخائرة، حاول أن يعود قاسياً أنوفاً، محتفظاً بكل كراهيته واحتقاره للآخرين، أن يسمو بنفسه فوق كل شعور بالاحتياج إليهم، كيف يضع نفسه في مستوى واحد مع أولئك الذين ليس يشبههم، كيف لا ينتقم منهم انتقاماً خالداً.

كان أخطر هدوء عرفه، أين كلماته الآن؟ ألا يبدو أنها قد تخلت عنه؟ كان أكثر من مريض، وحده يعاني بسبب كل ما يحدث، هل يمنحه الوقت الفرصة للشفاء من كل ما خلفته الكلمة من جروح وندوب؟ كان في أوج شكه وكان كل شيء يساعد على تعميق تلك الحالة، هل تمنحه الكلمة القوة كي يتحمل حتى النهاية؟ كي يتمكن من إنقاذ الحياة الجديرة بالإنقاذ، كان في رقدته تلك وكأنه يروي حياته لنفسه داخل ذهنه.

لم يكن يدري أنها ستكون ليلته الأخيرة في المرتاحية، في تلك الليلة كان ينتظر روم، ينتظر الأحاديث الهامسة والمعانقات الدافئة، كانت قد أخبرته أنها سوف تأتي إليه في الليل بعد أن ينام الجميع، كان قد صدق دموعها الكاذبة في ذلك الصباح عندما وجدها تقف أمام بيته تدعي أنها عاشقة ضعيفة، لم تمتلك من القوة ما يكفي كي تعلن عن حبها له أمام الجميع، وأن رفضها الزواج منه، وما نطقت به من كلمات أهانته، إنما كانت أموراً أجبرت على أن تفعلها وأنه قد تم قهرها تماماً ولم تستطع أن تقاوم ضغوط الأهل والجميع في المرتاحية، أراد أن يصدق للمرة الثانية أنها تحبه، وأنها قد عرفت الحب بالفعل، إلا أنها لم تعرف الحرية بعد.

كان يجلس بجوار وروده في حديقة البيت، كان سعيداً إلى أقصى حد وما أن رآها حتى ركض نحوها، ضمها بقوة آتية من أعماق عزلته، ثم أخذ ينظر إلى وجهها الجميل، وكانت تنظر إليه بعينين فائضتين بالحب والشوق، وفي لحظة كان غارقاً بين شفتيها، أغمض عينيه وكأنه قد انفصل تماماً عن هذا العالم، وأخذ يحلق بعيداً فوق هذه الأرض، لم يفق إلا على صراخ روم وصوتها الأجش الذي يستنجد بأهل المرتاحية كي ينقذونها من هذا الدنيء الذي يعتدي عليها، كان مثقلاً بعبء الحقيقة التي تفوق قدرته على الاحتمال، وقف صامتاً مذهولاً أمام الجميع، ليس من كلمة مفردة، ليس من رد واحد، كان في حالة مروعة وكانت نفسه محطمة تماماً ولم يكن بمقدوره الكلام بسبب ما كان عليه من اضطراب، كان ينظر إلى روم متعجباً، كيف لهذه المتوحشة أن تكون جميلة بنظره، يستمع إلى صرخاتها وادعاءاتها، روم التي خدعته وتمكنت منه، التي أخرجته من عالمه وجذبته إلى عالمها حيث ستنصب له منصة إعدامه.

إنه خلق من أجل أن يكون وحيداً، وعندما حاول تغيير ذلك كانت الكارثة، كان يشعر بأنه على صواب وعلى خطأ في الوقت ذاته، وأنه يجمع ما بين الجد والهزل في اللحظة نفسها، وأن كل شيء يتراوح ما بين العمق والتهريج، هذه ليست كلماتي، ليست كلماتي على الإطلاق، يتمنى المواوي لو يصرخ الآن متبرئاً من كلماته العظيمة التي لم تتمكن من تغيير أي شيء، يعانق خيبته تحت ذلك العار الحائم فوق رأسه، كان دائماً يشعر بالخجل الشديد من ضعفه، ومن أنه ليس في مستوى المواجهة.

فوق بحيرة من دمه كان يرقد، ذلك الدم الذي أخذ يسيل بغزارة وكأنه يفر من جسده هرباً كما لو كان قد تحرر من سجن، ومن الغريب أنه كان يشعر بالراحة مع خروج المزيد من الدم، كأنما كان يُخرج معه كل الأثقال التي كان ينوء بحملها، الكلمات التي كانت تؤجج نفسه وتؤرقها، الأحقاد والكراهية، ذكريات الحياة الجميلة وسنوات الدفء والأمان والعيش الهنيء مع أمه وأبيه، حبه للأرض والنهر، حبه لذلك المخلوق المسكين الذي عاش بصحبته لسنتين وها هو يموت معه، الشوق والحنين، الأوهام المفعمة بالخيبة، روم الممسكة بتلابيب الروح، ذلك الرابط الذي كان يربطه بالحياة، ذلك الخوف الذي كان يحد من حريته، كان يشعر بأنه يتحرر من كل شيء، بأنه قد فقد كل شيء، وأنه قد غفر كل شيء، وكأنه قد وصل أخيراً إلى الكلمة التي كان يبحث عنها "الحرية" الكلمة الغارقة في الروح والمتمكنة من أعصاب الجسد إلى حد أن أصبحت جزءاً منه، ومن نفسه المليئة بالمشاعر والقلق والانطباعات، هنا يضيع كل شيء كسحابة، هنا تنتهي رحلته المدهشة، هنا ينتهي صراعه المنهك، وينتهي عالمه الذي كان قد صنعه، حيث الأشياء جميعها في أوج الوضوح بعد أن أظهرت الحياة وجهها البشع، هنا النهاية، وها هو يمضي بسرعة قصوى نحوها، هل قال كلمته الأخيرة حقاً؟ هل هي النهاية حقاً؟

كأنه وجد ليكون شبحاً لا يظهر، ليكون عابراً لا أكثر، هكذا يمضي وحيداً في صمت مظلم، ذلك الملقى على حافة النهر، لا يستطيع أن ينظر إلى الأمام، ولا يستطيع أن ينظر إلى الخلف، ذلك الذي يلتصق ظهره بالأرض، لا يستطيع إلا أن ينظر إلى السماء.