تتناول الناقدة هنا علاقة معينة بين العنف والعمارة. وهي علاقة معقدة لأنها تجمع بين مقولتين هامتين، وبين نمطين في إدراك علاقة الوجود الاجتماعي بأطره المادية والرمزية. وتشدد على وجود بنيان مادي يحتضن ممارسات من العنف المادي والرمزي، بل وأنشأت أمكنة وهندست خصيصا لممارسة "العنف الشرعي" الضروري لكل بناء اجتماعي.

الجدران تضربني .. العنف والعمارة

تأملات في علاقة العنف بالمعمار (نموذج الفندق)

جميلة بركاش

ترجمة محمد زرنين

 

مسألة التعريف
أتناول، في هذه المقالة، علاقة معينة للعنف بالمعمار. وهي علاقة معقدة لأنها تجمع بين مقولتين هامتين، وبين نمطين في إدراك علاقة الوجود الاجتماعي بأطره المادية والرمزية. كيف يمكننا إثبات وجود علاقة محددة بين هذه المكونين: العنف والمعمار؟ إذا ما تركنا جانبا الحالات التي يتماهى فيها العنف مع الهندسة المعمارية وتطبيقاتها، أي حالات السجن، والمعتقل السري أو الأقبية السرية (للبوليس السري) والمعتقلات الكبرى (معتقلات النازية أومعتقلات الصهيونية، مثلا)، ففي هذه الحالات الأخيرة تبقى هذه البنايات والهندسات بارزة داخل البناء الاجتماعي، معلومة الموقع ومشهورة. إنها تجهيزات مادية تحتضن ممارسات لأشكال عديدة من العنف المادي والرمزي، وبالتالي تتحول إلى مجالات للتعذيب والمعاقبة المقننين، وتتحول إلى مجالات ممارسة ومتملكة بفعل هذا الذي يحدث فيها وبواسطتها. إنها أمكنة- بنايات- أنشأت وهندست، خصيصا لممارسة "العنف الشرعي" الذي وجد فيه الكثير من المنظرين الشرط الضروري بإطلاق لكل بناء اجتماعي؛ فممارسته هي التي تضمن الأمن والنظام من خلال ممارسة الإكراه البدني والنفسي على كل واحد يهددهما بممارسته لعنف غير مشروع. وطبعا، نستثني، حالة دولة إسرائيل التي لا يصدق على العنف الذي تمارسه على الفلسطينيين نعث العنف الشرعي.

إن السجن والمعتقلات بنوعيها السرية والمعروفة هي بنيات هندسية مادية تستجيب (على الأقل بالنسبة للسجن) لمعايير تقنية دقيقة تخص النظافة والصحة والتهوية والتوزيع الأمني (للهندسة المعمارية) الخاصة بالسجون والمعتقلات. وهي أيضا، مؤسسات تنتمي وتعمل حسب خريطة خاصة للسلطة؛ إنها، أيضا، تنظيم دقيق يديم ممارسة العنف الموصوف بالشرعي، ضد فرد أو جماعة؛ وهي، أيضا، نتاج تطور تاريخي واجتماعي خاص. وقد أظهر لنا فوكو كيف أن هذه المؤسسات هي وليدة سيرورة تسير أكثر فأكثر في اتجاه مجتمع للضبط والإكراه المعمميين، اتجاه مجتمع كلياني. إن المراقبة والعقاب اللذين يخضع لهما رواد هذه المؤسسات لتجعل منهم أجسادا طيعة وأرواحا هادئة وقوى منتجة، تعلن عن بنية المجتمع الحديث حيث يستبطن الأفراد المنظومة المعيارية المقبولة والمطلوبة، وكذلك المرفوضة والمعتبرة انحرافا، ويعيدون إنتاجها بدون إكراه أو إلزام مباشر على ذلك. وهي حالة تختلف جذريا عن الكيفية التي كان يعاقب بها المجرم في القرون الوسطى: فالذوات الحديثة (أفراد المجتمع الحديث) تراقب نفسها بنفسها، وتتكلف بنفسها لأن عين السلطة ويدها حاضرة باستمرار ومنتشرة في النسيج العلائقي بكيفية تجعل أغلب الأفراد عاديين عن طريق إكراه غامض ومنتشر، ولكنه فعّال.

سيفيدنا هذا التذكير فيما بعد في إضاءة بعض القضايا التي سنتطرق إليها. أرجع، الآن، إلى عنوان هذه الفقرة : مسألة التعريف.

من الواضح أن كل تنظيم اجتماعي، سواء كان تقليديا أو حديثا، (كما يوضح ذلك كل من ماركس وفيبر ودوركهايم) يحتاج إلى إقامة مؤسسات وأمكنة لتقوية ذاته وإعادة إنتاجها من خلال مواجهة كل أولئك الذين يهددونه، وهو ما يجعل العنف الذي تمارسه هذه التنظيمات عنفا مشروعا يمارس ويطبق على أولئك الذين ينحرفون عن الضوابط، حسب مسطرة معقدة من الإثبات والحجج والتوجيه والمحاكمة يضعها نفس النظام الاجتماعي. فأمكنة ممارسة هذا العنف الشرعي هي مؤسسات تمت تهيئها لهذه الغاية. فهندستها المعمارية تم تصورها بحسب مقتضيات قضائية وجنائية وأمنية (ويمكن القول إن هذه المؤسسات واضحة الهوية والدور والمرجعية). ولكن ماذا عن الأمكنة الأخرى التي يمارس فيها العنف رغم أن سبب وجودها وميلادها لم يكن في جدول أعماله ولا في قائمة وظائفه ممارسة العنف؟

يبعدنا هذا السؤال، وهنا تكمن فائدته، عن اليقين الذي تتركه التعريفات الأولى. ويدفعنا إلى التفكير بعيدا عن الترابطات البديهية. كيف نفكر، مثلا، في علاقة العنف بالمعمار، في حالة بناء بني خصيصا لاستقبال الأفراد، فأصبح العنف ملازما لهذه الاستضافة! هل هي علاقة سببية، علاقة السياق بالفعل؟ أو ينبغي البحث عن أنماط أخرى من العلاقة والتوجه نحو آفاق أخرى اجتماعية واقتصادية وثقافية وتعبدية وتاريخية؟

أحاول أن أجيب عن هذه الأسئلة، في مرحلة ثانية، من هذه المقالة وأحاول أن أدققها. وربما تمكنت من تقديم بعض الأجوبة الدقيقة، انطلاقا من مقاربة منهجية استقرائية، توظف مفاهيم نظرية متباينة المرجعية، نظرا لطبيعة الموضوع. إن المكان الذي أدرسه هو فندق بمدينة ستظل مجهولة الهوية مؤقتا، وسأسميه فندق الحرية لأسباب ديونطولوجية ومنهجية. لأنه يعرف من طرف رواده بمكان "الحرية المطلقة" ولكن لنرجع، قبل زيارة هذا الفندق، بعض الوقت لتأملاتنا، ولندقق أكثر الأسئلة التي نطرحها.

تحديد الأسئلة:

كل مجال يحمل قيما ويجسدها، وهي قيم معاشة ومدركة من طرف الشاغلين لهذا المكان، والعاملين فيه وبه. فنحن إذا ما أخذنا وسط المدينة، مثلا، وجدناه يمثل قيم المؤسسة القائمة والمتحكمة فيها، ويمثل السلطة بأبهتها ورموزها وبناياتها. أما إذا انتقلنا إلى الضواحي وهي مناطق بعيدة، مجاليا، عن المركز، فإننا نجد رمزيات وعلامات أخرى، وهندسات معمارية أخرى. وإذا كانت هذه الضواحي تحيل على المركز، ففقط لكي تحيل عليه باعتباره نقيضا لها، فهي تتحدد إزاءه كمضمون سلبي يبرر أن تكون (الضواحي) موضوع وصاية لهذا نجد المركز يراقبها (عن بعد وعن قرب) ويحولها إلى موضوع للفرجة ويخطط لساكنتها ويقرر مكانهم.

فإذا كانت الهندسة المعمارية للمركز تحيل على إرادة للسلطة وعلى رمزيات احتفالية وعلى آثار مستثمرة وتوحي بالدوام، فإن الهندسة المعمارية للضواحي تبقى محكومة بتصور سلطوي وضعي، عقيدته الوظيفية، وشريعته الاقتصاد في الكلفة، والتحكم في إرادات الفاعلين.

ويمكن في هذا السياق استحضار نموذجين للمقارنة (نموذج ما يعرف في فرنسا بالسكن الاقتصادي (HLM)، ونموذج ما يعرف في الولايات المتحدة الأمريكية بـ(Projects). لقد جاء النموذجان استجابة لحل معضلة السكن، ولكن على أساس أن تكون الفئة المستفيدة هي ما تعتبره المؤسسة المقررة آخَرها أو غيرها (إما باعتبار لونه، أو جنسه، أو دينه، أو بلده الأصلي). وهكذا أصبحت هذه البنيات نموذجا للجيتوهات، بالمعنى الأول، أي المكان الذي نجمع فيه داخل الأسوار (وهي هنا رمزية) مجموعة تعتبر متجانسة فيما بينها جنسيا أو ثقافيا، ولكنها مختلفة ومغايرة للفئة المهيمنة. بحيث نجد تلازما بين التراتبية الاجتماعية والتمايزات المجالية، وهو التلازم الذي يجد تصريفه التقني والهندسي والاقتصادي في تخصيص مساحة محسوبة لكل شقة، هي بالتعريف ضيقة لكي لا تنفتح على أي أفق، أو رحابة. ومن هنا، تتحول هذه البنايات إلى بنايات تقصي عن المركز وخدماته، وتضيق على السكان، وتمنع الانفتاح عن الأفق. وبذلك تحكم بناء سورها الرمزي والمادي. ولقد أظهر لنا بورديو في المونوغرافية الرائدة بؤس العالم الخطابات والممارسات الفردية والجماعية التي تظهر وتنشر في هذه المناطق من المجال الحضري، وقام بتحليلها، وأظهر أنواع المنطق المشتغلة والمتحاربة فيما بينها وكيف أنها تبقى مشروعة. وتؤكد تحليلات بورديو للمقابلات ما أعلنه في تقديمه للكتاب أي الحذر من التفسيرات التبسيطية، ومن الاستخدامات العلمية المبتذلة للتهميش. ذلك الموقع الذي يحتل داخل العالم الاجتماعي يكون مشروطا بنظام علائقي معقد يؤثر لا على عالم، بل على عوالم الأفراد والجماعات سواء على مستوى الجوار، أو أماكن العمل، أو العائلة. كما بين أن المجال-المادي الملموس الذي يجد نظام إحداثياته في خريطة رمزية للسلطة وللاعتراف الاجتماعي، وأيضا عالم مبنين ويشرط الموقع المحتل.

ونجد في الأمثلة التي يقدمها الباحثان الأمريكيان واكانت (Wacqant) وبورجوا (Bourgeois) في أبحاثهما كيف أن اللون والجنس يلعبان، في مجتمع متراتب وعنصري مثل المجتمع الأميركي، دورا في إقصاء السود وذوي الأصول الأمريكية اللاتينية. كما تم إظهار عدم التطابق بين الأحكام الجاهزة عن السود والأمريكيين اللاتنيين القاطنين إما بجيتو الجهة الجنوبية لشيكاغو أو بجيتوهات نيويورك، من جهة أولى، والحياة اليومية لهؤلاء في هذه الجيتوهات، من جهة ثانية: فهناك من هؤلاء السكان من يواجهون باستمرار يوميا مختلف أشكال العنف، وهناك عائلات تفقد أبناءها بسبب الجرائم (بكل أنواعها) بسبب المخدرات والعصابات. وتم إظهار أن هذه العصابات بنفسها تقوم بدور العائلة، وبأن هناك أمهات تعشن على الإعانة البئيسة للدولة، وعائلات عرفت تفككا أسريا. وهكذا تكون هذه الأحياء، أو كما يسميها الأمريكيون The projects، مسرحا لمختلف أشكال العنف، ولكل ما هو خارج عن القانون ولكل خطر. ولكن ما يخفيه هذا الربط السهل بين هذه الفئات وما تعيشه، وما تخفيه هذه البداهة هو أن هذه السيرورات هي بمثابة ردود فعل جذرية على تهميش المركز لها وتناسيها وإدخالها دائرة الإهمال وهكذا يتم اختزال ممكناتها ويتم إغلاق آفاقها، ويتم إنتاج المعنى بعيدا عنها، غير أن هؤلاء المهمشين والمنسين والمتروكين لحالهم لا يتركون العملية تتم بخضوع تام فيعيدون إنتاج المعنى من خلال ممارسة العنف على أنفسهم وعلى الآخرين. وكما أظهر الباحثان ذلك، من خلال أبحاثهما الميدانية، ليس للشباب من إمكانية أخرى غير إمكانية ممارسة العنف الذي بفضله تنتج آليات وروابط ويستمر صخب الحياة بمفاجآتها. كما أن مميزات هذه الأحياء والأمكنة تجعل العنف يكاد يكون عنفا مشروعا، يكاد يكون مفهوما: عمارات مهجورة وبالغة التدهور، أزقة مغلقة بحواجر، مزابل، ساحات مهجورة، بحيث لا يمكن لهذه الأمكنة إلا أن تستدعي ممارسة العنف، وأن تسهله وتغذيه فتجعله أليفا وعاديا، وبذلك يصبح هو المعيار المقبول لا المرفوض، المرغوب فيه لا المكروه، هو شرط النجاة، هو المنتظر لا المفاجئ.

وقد تكون هذه الأحياء حيث يسود العنف وما يولده من عذابات وآلام بمثابة مناطق مهجورة أو خالية في المنطق التصنيفي للمقررين، غير أن كونها كذلك لا يعني أنها ليست نتاجا للمركز الرمزي للسلطة ولإنتاج المعنى، بل هي نتاج له، وصورة المركز المقلوبة أو المعاكسة، إنها الحد الأقصى، الطرف الأبعد الذي منه يأخذ المركز بنيته.

إذا رجعنا الآن إلى تعريفنا الأولي للهندسة المعمارية والذي يقول إنها تصور كمي وكيفي للمجال، بحيث تكون وظيفتها هي إنتاج الشكل الذي ينتج المعنى والمناخ اللازم له من خلال خصائصه المجالية والأنشطة التي يعرفها؛ وإذا رجعنا إلى نموذج The projects وهو مدين بوجوده لإرادة سياسة أوجدته، فإننا نجد أنفسنا أمام تصور اختار لنفسه أن يكون مختزلا. فالعمارات هي عبارة عن أشكال هندسية متراصة في خطوط متتالية، واحدا وراء آخر تجعل العمارات كأنها داخل مجال مغلق ومحاط بسور لا يرى ولكنه موجود. والشقق بنيت حسب تصور وظيفي أولي، أما المجال العمومي من أزقة وحدائق التي تمت تهيئتها لإحياء روابط التضامن بين السكان، فإنها سرعان ما تهمل وتنسى وظيفتها الأصلية لأن روح الهندسة الأم، وما تقتضيه من (تجزئي) للكيانات وعزل لها يجعل هذه الفضاءات عديمة الجدوى. فالسكان لم يشاركوا في تصورها بل فرضت عليهم. وبالتأكيد أن القصد الأول للمبرمجين لم يكن هوهذه الحالة التي آلت إليها الأوضاع، ولكن السيرورات الاجتماعية والسياسية والثقافية جعلت هذه الأحياء والبنايات مهجورة من طرف الطبقات المتوسطة، ومنسية من طرف السلطة، ومسرحا للعنف الذي يمارسه البوليس، وهي أحياء وصلت درجة عزلتها إلى حد تطوير لغة خاصة بها، ليست في الأخير، سوى عنف يلصق بالأشياء والأحياء.ومن ثمة، يصبح سجن السكان والأحياء داخل صورة محددة، واقعا قائم الذات. وكما قلنا، فإن القصد الأول للمبرمجين، سواء كانوا مهندسين أو ساسة، لم يكن الحالة التي آلت إليها الأوضاع، ولكن النزعة المركزية المهيمنة التي يحددون وفق منظورها هذه المجالات والكيفية التي ينظرون بها لعلاقاتهم بالسكان، هي التي تعمل بمنطق إقصائي. فإذا لم تقدر فئة اجتماعية على الارتقاء إلى مستوى عيش عادي ويستجيب لما يحدد كنجاح اجتماعي، فإن الإقصاء هو المآل المحتوم، حتى لو كانت هذه الفئة ضحية شروط اقتصادية وسياسية تتجاوز إرادة أفرادها: فالشبان يتملكون هذا العنف الذي يلصق بهم اجتماعيا، وكأن لسان حالهم يقول: لا بأس، إذا كانت هذه الصورة الوحيدة التي يمكن للمجتمع أن يكونها عنا، فلنتبع إلى النهاية. وليس منطق العنف المنتشر بكيفية تجعله موجودا وخفيا ويبنين كل علاقة اجتماعية، سوى الجزء الظاهر من قطعة الجليد العائمة. وكما سنرى ذلك، في حالة الفندق، فإن ما ينتج هذا العنف، هو في جزء كبير منه خارج هذا المكان وبعيد عنه.

إن الحالة الأولى (الخاصة بالسجن وبالمعتقلات) كأماكن/ مؤسسات/ هندسات تطبيقية لممارسة "العنف المشروع"، والحالة الثانية لهذه الجيتوهات التي تعرف أشكالا من العنف المادي والرمزي، إن كل هذه الحالات تقودني إلى تدقيق الأسئلة التي طرحتها. فإذا كانت تأملاتي تهدف إلى التأمل في علاقة العنف بالهندسة المعمارية (من خلال مفعولاتها البنائية والمكانية) فإنها (التأملات) مطالبة بأن تأخذ بعين الاعتبار ما يلي:

أ- بين التصور الذي يحكم إنتاج مجال معين واستخداماته وقيمه من طرف ساكنيه، توجد اختلافات دالة. كيف يخون الإنجاز قصده الأول وغايته المرسومة؟ كيف يتحول بفعل استخدامات السكان، وبفعل الصورة الاجتماعية لهذه الأمكنة أو الأحياء؟ ما هي طبيعة الصيرورات التي تقود إلى هذه التغيير ؟ وما هي النتائج الملموسة، الحقيقة والرمزية لهذه التغييرات؟

ب- كل مكان هو مكان معلوم، كما تعلمنا ذلك قاعدة فينومينولوجية معروفة. فهو محدد ومرسوم في مجال مادي واجتماعي يحدده ويعطيه وظيفته وصورته. فما هي دلالات الفندق؟ وماذا عن هذا الذي لا يقال عن المخيال الذي يصنف ويحكم؟

ج- إن الفاعلين هم، في الأخير، من يستخدم هذه الأمكنة والمجالات وينتجونها، ويحيونها على أساس تصنيفات اجتماعية-ثقافية ويتفاعلون مع الصورة التي تنتج عنهم. كيف يحيون هذه التفاعلات يوميا؟ كيف يتصرفون مع هذا الواقع في عطائه الأكثر حسما وعريا؟

عن الفنادق:

ليس من الضروري الحديث عن المدينة العتيقة في مجموعها إذ توجد بيلوغرافيا وافرة تتحدث عنها وتصف الحياة داخلها. لكن سيكون من المفيد أن نشير إلى الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية للفندق في مدينة تقليدية مثل سلا أو مراكش أو فاس. إن النمو الاقتصادي للمدينة كان مرتبطا بوظيفة الفندق، لأنه كان من بين مؤسساتها وبنياتها التحتية الضرورية لتموينها بما تحتاجه من سلع ومواد الاستهلاك؛ كان الفندق مكانا لإيواء التجار، ومخزنا لتخزين السلع والمواد، ولإيواء الدواب؛ كما كان، أيضا، مكانا لربط علاقات اجتماعية، مالية وتجارية. فإذا كنا نعتبر السوق هو مجال التبادل بامتياز، فإن هناك مرحلة تسبقه هي مرحلة الفندق حيث كانت تتم مبادلات كثيرة بين تجار المدينة والممونين الذين يأتون من الضواحي؛ وكان الفندق مكانا للإنتاج والصناعة الأولية، أيضا، خصوصا بالنسبة لإنتاج المواد الدهنية، وعادة ما كانت العملية تتم بجوار السور المحيط بالمدينة. كما أن الفندق هو أيضا مكان يؤشر على درجة الرواج داخل المدينة، ودرجة توفر المواد والسلع. الفندق هو بالتعريف، مكان للمرور، للمرور العابر أو المؤقت، ولكنه يستجيب للحاجيات الفعلية للمدينة. وهو ما تشهد عليه بنيته المعمارية: فعادة ما نجد الطابق الأرضي مهيئا خصيصا لاستقبال الدواب (الروا) وتخزين السلع، بحسب طبيعتها، ونجد في الطابق الأول ممرا طويلا ينتهي عند مرحاض أو نقطة ماء، وطوال الممر تنتظم الغرف الذي يشغلها العابرون المؤقتون. وهكذا، بالنسبة للطابق الثاني والثالث إن وجدا.

ويسير الفندق شخص مكلف بالتسيير وحراس يحرسون الدواب والسلع لكي لا تكون هناك أية سرقة، ولكي يقدم للدواب العلف.

فالفندق كان حلقة في سلسلة من العلاقات الاجتماعية؛ وكان له معنى يتجدد باستمرار. ومن الواضح أن هذه الوحدة التي كانت تقوم بدور محدد، وكانت تتجدد ستعرف تراجعا بفعل تدخل أنماط إنتاجية جديدة، وبفعل تحول في علاقة المدن بضواحيها، وخصوصا، بفعل التحولات التي سيعرفها المجتمع المغربي بفعل السياسة الاستعمارية الفرنسية بحيث لم تعد الفنادق قادرة على أداء وظائفها بما أن البنيات التي تضمن هذه الوظائف كانت هي بدورها تعرف تحولا إما يغير من طبيعتها، أو يجعلها تندثر.

إن هذه العوامل هي التي جعلت الفندق كمؤسسة يفقد وظائفه الحيوية وقيمته، وأصبح يشكل ملجأ لكل من هجر قريته نحو المدينة. وهي الهجرة التي امتدت من بداية الخمسينيات إلى يومنا هذا إذ أصبحت المدينة بفعل تسارع وتيرة التمدين تغري مما جعلها موضوع إغراء شديد تبعته تملكات جماعية وفردية لمجالاتها ودورها وأحيائها بكيفية جديدة من طرف هؤلاء المهاجرين، الموصوفين من طرف المدينيين بالعروبية. لم تعد المدينة القديمة تعيد إنتاج العالم القديم ولا علاقاته الاجتماعية التقليدية، بل أصبحت تنتج نظاما مغايرا. ومن ثمة تكون محاولة إرجاع كل هذا العالم إلى تعريف لنظام اجتماعي مجالي هو اختزال لأن الأمر يتعلق، في الأخير، بسلوكات متباينة يصعب اختزالها. ولكن هناك، على الأقل، هذا النظام الهام الذي أصفه بالازدواجية والذي له تأثير أكيد على المدينة. وهو ما يمكن لنا أن نقرأه في الجدلية الخاصة التي تجمع "النحن" الخاصة بالمدينة بضروراتها ومستلزماتها المجالية، و"آخر" المدينة الحديثة بتعريفاته السوسيومجالية. فكل مجال من هذين المجالين الأكبرين، يخضع لتحديدات وقوانين مختلفة. وتجد أطروحات المفكر هنري لوفيفر في هذه الحالة توضيحاتها الأكثر بلاغة: إن المجالين التقليدي والعصري، هما في الواقع نتيجة تدخل إرادة سياسية، وإن قوى الإنتاج التي أوجدتهما هي نفسها التي قننتهما لكي لا يندمجا ويبقيا مفصولين.

ومن الواضح أن المجال الحضري العصري بطموحاته الحضارية، وبنظامه الديكارتي، وبإرادته التصنيفية، وبأفراده المؤطرين، يحيل على افتراض أن المدينة التقليدية لا يمكنها أن تكون هي مجال الحداثة والتمايز الاجتماعي، كما أظهر ذلك ويرث (Wirth) بخصوص كل مجال حضري. فهل يمكن القول، إن مفهوم المدينة "كآلة للممكنات"، ينطبق على المدينة التقليدية، وخصوصا على أمكنتها الموصوفة والمعرفة كأمكنة خطيرة تجسد الانحراف، كالفندق، مثلا؟

فبخلاف التصور الأولي الخاص بـProjects بالولايات المتحدة الأمريكية، أو ذلك الخاص بتجمعات الضواحي(HLM) بفرنسا، فإن المدينة التقليدية لم يتم تخصيصها من حيث هي كذلك لذوي الدخل المحدود، كما أنه لم يتم تصورها لأن تكون مكان عزل إثني، وإن توفرت على ملاح خاصة. أما كون المدينة العتيقة أصبحت اليوم هي مأوى الطبقات الاجتماعية الفقيرة، وتلك التي هي تحت عتبة الفقر، فيرجع إلى كونها تسمح لهؤلاء بأن يندمجوا، بشكل مباشر أو غير مباشر، في اقتصاد غير مهيكل، ولكنه يعرف رواجا، ويسمح لهم بالتالي، بأن يعيشوا حياة يعتبرونها عادية. وهذا ما يجعلنا نقول إن المدينة القديمة حية ومزدهرة، مما يفسر كيف أن الناس يمارسون فيها تبادلات متباينة الأشكال، وإن كانت نفس المدينة تعتبر، بالنسبة لخطاب الجهات الرسمية وإحصائياتها منبتا للفقر ومولدة للتهميش، وإن وصفت بأنها مجال لضياع التراث المعماري التاريخي الذي لا يتم الانتباه إلى أهميته من طرف سكانها […]

تسكن بالفندق الذي ندرسه عائلات وأفراد منذ عشرات السنين، ويرجع تاريخ وصول أقدم سكان فندق الحرية إلى الخمسينيات. تكري الغرفة لليلة واحدة أو لليلتين.

ويتراوح الثمن ما بين ثلاثة دراهم وعشرة. وكم من غرفة شهدت ميلاد أبناء ولدوا هم بأنفسهم أبنائهم بهذه الغرف، غير أن هذه الاستمرارية الجيلية لا تنفي قطيعة جذرية بين ماضي الآباء وحاضر الأبناء، ترجع في العمق إلى تظافر العديد من العوامل التاريخية والاقتصادية والسياسية الحضرية، وترجع كذلك إلى عامل عدم الرغبة في الفهم والاعتراف بالمشاكل من طرف من يتحملون مسؤولية تسيير المدينة. من المعروف اليوم، أن الشروط التي كانت تضمن استمرارية هذه المنظومة قد تلاشت، إن لم تكن انعدمت، ولا يمكنها أن تعيد نفس النظام الاجتماعي السابق. إذ أصبحت هذه الفنادق التي كانت شهادة على حياة المدينة ورواج التجارة والتبادل فيها إلى أماكن للإقامة. فالنتيجة واضحة، في النهاية، بل وبسيطة غير أن هذه البساطة تخفي تعقدا يمس التهيئة الداخلية لهذه البناية، وعلاقتها بالعالم الذي تعيش فيه، وحيوات أولئك الذين يسكنون بها.

إن المجال هو مظهر اجتماعي وسياسي واقتصادي مقنن. والمكان المبني هو أيضا إنتاج اجتماعي يقوم بوظيفة أو بعدة وظائف بحيث يمكن أن يقرأ رمزيا، في خريطة للسلطة وللترتيب وللتصنيف. فالمجال أو المكان المبني هو بعيد عن أن يكون متجانسا. وكل أعمال دافيد هارفي (David Harvey) أوبيرمان (Berman) تقول لنا أشياء كثيرة عن هذا الأمر فالمجال ليس فقط هو هذا المجال الفيزيائي الذي يتم تحديده انطلاقا من نظام إحداثيات رياضي، إنه أيضا موقع، موقع معلوم في خريطة خيالية، هي نفسها منتوج دياكروني يتمدد وينطوي، يظهر ويختفي، انطلاقا من بناءات تاريخية ترتبط بوقائع سوسيولوجية ورمزية فعلية، وحتى أسطورية بالنسبة للبعض.

تستدعي المدينة القديمة، كما هي في المخيال المغربي سلسلة من التصورات والترابطات التي تختلف وتتباين: من مكان مشحون ومملوء بالذكريات الجماعية والفردية، ومن إرث عمراني تاريخي تليد، إلى مكان يمثل آخر التطورات العمرانية والحضرية، بالنسبة لأتباع ديانة التقدم، بغض النظر عن كون هذه التطورات مجددة أم مشوهة. وتبقى صور المدينة محصورة في الحد الإيجابي والأقصى للتمثل. والحال أن الفندق، بكونه داخل المدينة، يمثل استثناء بحمولته السلبية التي تجعله على النقيض من الحد الإيجابي والأقصى للتمثل. فالفندق ليس مسجدا حيث تسود قيم الجماعة التي تحيل إلى التضامن العضوي الذي يجعل كل الأفراد يتوحدون في جسد واحد هو جسد الأمة/الجماعة؛ وهو ليس حماما يلزم الجميع بتساوي يكاد يكون صوفيا، وحيث يجلس الكل على الأرض ليغسل جسده العاري، بدون أي قناع اجتماعي؛ وليس الفندق سوقا، أي هذا المكان الذي تنسج فيه العلاقات من خلال التبادل والمعاملات التجارية؛ وهو ليس زنقة أو دربا، أي ليس مكانا عاما؛ وهو ليس مسكنا عائليا (أو فرديا) حيث مجال الحياة الحميمية والخاصة البعيدة عن المجال العمومي، وإن كانت تخضع لبعض معاييره. إن الفندق يوجد فقط، وإذا كان لابد من وصف، فلنقل: إنه يوجد كبقايا. فوظيفته الأصلية لم تعد تعرفه ولا تحدده، فهو يمثل شكلا فريدا للآخر، لآخر المدينة بكل مؤسساتها وتجهيزاتها. وهنا تكمن إحدى مكونات عنفه الخاص.

إن التصميم المعماري للفندق ولاستخداماته كان يحيل، طوال قرون، إلى فكرة الانفتاح واللقاءات المتنوعة والغنية التي تفور حياة : كان مكانا للتوقف المؤقت وللاستراحة والانتعاش لاستئناف الترحال. ولكن هذه الوظائف التي أحصيناها للفندق منذ بداية القرن العشرين، والتي جعلتنا نخلص إلى أنه كان يفور حياة وحيوية، لم تعد هي وظائفه، اليوم. إن التحول التاريخي ترك لنا دالا لم يبق على مدلولاته الأصلية، فأصبح يحيل على شيء آخر.

فالفندق اليوم في إدراك المغاربة يحيل على أشياء أخرى، هي سلبية بالتأكيد. فإذا كان الفندق، في الماضي، مجالا مفتوحا، ومضيافا، يستقبل التجار، ولو كانوا مخالفين لنا في الملة، ودوابهم، ويسعف التجار والفقراء كما في رواية جارات أبي موسى، فإن مدلوله اليوم، يحيل على واقع آخر. فالفندق، يعني اليوم، مكانا خطيرا، وسلوكا مشينا، وفوضى عامة، وغيابا للقوانين. إنه النقيض التام والمكتمل لدولة الحق والقانون القائمة على الأمن وحماية الأفراد، ليس فقط من الآخرين بل من أنفسهم، أيضا، والتي تراقب الميولات الغريزية والحيوانية لكي لا تتعدى حدودها. وهكذا يكون الفندق هو النفي التام للقانون، والتأكيد التام لما هو حيواني. علما بأن هذه الوضعية لا تنفتح على أفق ثوري كما في الحالة الفرنسية أو الروسية أو الإيرانية، أي لا تنفتح على الأفق الذي يكون فيه نفي القانون من أجل إبداع قانون آخر، من أجل خلق شيء آخر. فالنفي الخاص بالفندق هو نفي وإعدام لذاته، لا أقل ولا أكثر. ومن هنا، خطورته.

ولكن الفندق مكان خطير بالنسبة لمن؟ ثم إن هذا "الخطر" من حيث هو كذلك، هو مسألة اجتماعية وسياسية جدية مادام هناك إنتاج اجتماعي للخوف من بعض الأماكن (مدن القصدير، الدواوير، وبعض الأحياء). وهي أماكن يتم سجن سكانها داخل صور وأحكام مسبقة عنهم ، تدفعهم في الأخير إلى الخضوع لها والقبول بها وإعادة إنتاجها.فليست هناك مسافة كبيرة بين الحكم على المكان والحكم على أهله. فهؤلاء أناس "همج" و"قذرون" و"خارجون عن القانون". ولا تهم الأحكام الأخلاقية الجاهزة أن يكون هؤلاء الناس ضحايا. فالعين الاجتماعية ترى ما تراه وكفى. وكما يقول أحد المقيمين بفندق الحرية : "شكون اللي غادي يرضى يشوف فيك ويحميك (متحدثا عن البوليس) اللي شاف في البطاقة الوطنية ديالك ساكن في الفندق، أنت جاي غير من الفندق… تخصنا حنا أصحاب الفندق ديما نحيدو من الطريق، نرجعو اللور …." شهادة تشهد على الإقصاء وتستحضر الخوف. فسكان الفندق يخيفون لأن الحاجة روضتهم، ودربتهم على التقشف والحياة القاسية. لهذا فهم لا يخافون السجن. غير أن بؤسهم هذا لا يجد تفسيره، في العامل الاقتصادي لوحده، بل إنه يجده، أيضا، في حقول ومستويات أخرى لإنتاج المعنى، كما شرحت ذلك سابقا، وكما سأوضحه الآن من خلال حالة فندق الحرية.

المنهج المتبنى هنا، هو التحليل الموقفي، أي تحليل ينطلق من وضعية الحوار، ويحلل مكوناتها. فهو تحليل للموقف بثلاث معاني: بمعنى تحليل الوضعية المباشرة للحوار؛ وبمعنى تحليل منطوق الحوار؛ وبمعنى تحليل مجموع شروط إنجاز الحوار. ويعتقد أولف هانيرز (Olf Hannez) أحد أقطاب الأنتربولوجيا الحضرية أن التحليل الموقفي هو الكفيل بإظهار الجدلية المزدوجة لعملية الإدماج/الإقصاء، مع مجموع استراتيجيات التوحد والمقاومة التي تصاحبها، وتشكل عمق الظاهرة الحضرية.

الفاعلون في المجال

نقطتان أساسيتان تحددان هذه الدراسة: تركيزها أولا، على التحليل الملموس لفندق الحرية (بغرف مساحتها تقريبا مترين مربعين) الموجود بإحدى المدن المغربية العريقة؛ وتركيزها ثانيا، على البعد الأسطوري- الخيالي، الحقيقي والفعلي، بالنسبة للسكان. إن هذين المكونين (المادي والرمزي) يحددان شكلا خاصا من العنف يحيط بل يخترق أجساد سكان الفندق وأرواحهم ، ويجعل الجدران تضرب حقيقة ومجازا، تضرب بكل شيء تقريبا، بالشقوق، بالرطوبة، بحدها للوجدان، بما هي عليه من حال، وبما تستدعيه وتشهد على وقوعه داخلها وبينها.

ويشكل هذا الجزء المرحلة الثانية من التحليل، حيث يتم التحليل من داخل الفندق وليس من خارجه، ويتم نقل كلام سكان الفندق من داخل جدرانه إلى داخل الخطاب التحليلي الذي أقترحه.

إن العنف لا يحيل فقط إلى كون أن وظائف وبنية الفندق لا تتلاءم مع استعمالات وحاجيات السكان إلا بعنف (الداخل)، بل يحيل أيضا، إلى إرادة لتركيع السكان وإذلالهم، ترتبط بما هو خارج الفندق (الخارج). ترتبط بمكان ما (un ailleurs). ولهذه الوضعية الملتبسة والمزدوجة انعكاسات حقيقية على الواقع، تقوّيه وتعطيه مشروعية، وتمنح له منطقا اجتماعيا وثقافيا يجعل عنفه (المكان) عاديا، ومألوفا، ومقبولا من طرف الجميع. ولكن ماذا عما يتعدى هذه "المقبولية" أو القبول؟ ماذا عن أهمية هذا العامل الأخير الخارجي كتفسير نهائي؟ ماذا يقول لنا هذا الترابط عن مختلف أشكال العنف؟

قبل أن أترك الكلام للفاعلين، أريد تأكيد أن الشهادات قدمت داخل هذا الفندق، ومن داخله. ففي هذه الشهادات، المكان كممارسة (انفعالية)، هو مركز هذه التأملات. تأملات الأجساد التي يغذيها ويسجنها، وأيضا تلك الأجساد الأخرى التي يجوعها.

إن فندق الحرية ليس وعاءا للحيوات التي لا تعرف ما هو أهم إلا خارجه، بل هو، أيضا، فاعل يؤثر في هذه الحيوات، وله تاريخه، ومزاجه، وأهواءه، وحتى نزواته. والحال أن هذه الشهادات تتجاوز كثيرا المبدأ الوضعي التجريبي الذي يفترض علاقة ميكانيكية بين المجال والإنسان. فهذه الشهادات تندمج في منطق مادي ورمزي يتحول بمقتضاه فعل السكن إلى أكثر من ذلك: سكن الإنسان من طرف "روح" مسكنه، مثلا. إن هذا الإنسكان (الانفعال) هو تلقي لدلالات متباينة ولقرارات وأنشطة واقعية وشبه أسطورية في نفس الآن، تلقي يحول السكن إلى ملتقى عوالم يعيش من خلالها وفيها الفاعلون، ويفسرون واقعهم العنيف.

فحكايات سكان الفندق تحدثت، دائما، عن الفندق كشخص وكحضور؛ وهذا ما لا تستطيع النزعة الوضعية تفسيره ولا قبوله ولا الوصول إلى دلالاته. إن فندق الحرية هو أكثر من جدران، وإلا لما استطاعت جدرانه أن تضرب قاطنيه! إنه أكثر من مكان تنحصر أبعاده في وظيفته، فهو يشد إليه ويسكن أهله، وربما يشد حتى الأنثربولوجي.

شهادات:

زينب (70 سنة): "التسليم، أنا جيت لهنا على صيمنا، جينا هنا بعد نفي محمد الخامس، جينا من القنيطرة، مات رجلي عام خمسة وربعين ، شفت في منامي الفندق ومنين خرجت منه، طحت مريضة، وملي رجعت لهنا تحسنت صحتي، أنا هنا تنحس مزيان، منين تانجيو لهنا ما تنسخاوش نخرجو… ولكن هذا الفندق كان من قبل نقي وزوين، شوفي دابا الحالة ديالوا، كل شي راشي، كل شي مردم ومشقوق وموسخ، شوف هذا العصابة ديال الدراري الوحوش اللي ما تايرساوش وتايهرسوا كل شي، ويوسخوا. من لي كان سي أحمد مول الشي كان كل سيمانا تيجير، وما عمرو ما حسب من لي شرا هذا المحل شاف في المنام شي خروج وكالو إلى بغا يحافظ على الخير تخصوا يعامل المكان مزيان، يعطي لما ليه يكلوا ويشربوا، وينقيه لأن مولات المكان تتبغي النقاوة والريحة الزوينة. البير بلاصتها وحالها الشجرة. فكل عام كان تيدير ليها الليلة ديال عيساوة، تيدبح العتروس وتيقطعوأطراف ويتلاوحهم في البير كان الحبق والريحان كثير في الطابق الأول. وكان الناس عزيز عليهم يجولهنا وسي أحمد كان راجل مزيان، مزيان بزاف. وخيروكان كثير. واحد النهار طاح مريض. وكل شي وقف منين حفيدوتكلف، ما بقاش تيديها في المكان وفي مواليه، ما كانت عندونية، ومني كان سي أحمد تيجي مرة مرة، ما كان تيقدر دير والوا، مابقات عنده قوة، كل شي خسر، الشجرة طاحت، والبير تسد، وسي أحمد مات. وحنا ماعندنا فين نمشو؟ فين نمشو؟ مولات المكان تنتقم، ومن حقها دير اللي بغات، سجنانة هنا، ولينا حنا السكان ديالها"

الباتول (70 سنة):

"اللا، مشي ولا أحمق ماعرف يمشي في الطريق ديال موالين الفندق، مولات المكان هي اللي انتقمت، هوغير لأنها سكنتو، مابغاش يرد ليها المكان ديالها نقي كما كان تيدير جدو. كان تيقول إللا نقا المكان وردومزيان وذبح ودار الليلة، فهوكيخدمنا حنا مشي مولات المكان. مسكين مشى غالط على طول. أحنا بحالومساجين المكان".

البشير (50):

"منين توفى أب سي أحمد تكلف ولد ولدو بتسيير الفندق، كان صعيب معنا، كان تيعاملنا بحال الحيوانات. واحد النهار طاح مريض، كلهم مشاويشوفوه ف السبيطار، أنا ما مشيتش نشوفو. من بعد دخلوه السبيطار ديال الراس، ولا أحمق، من بعد شي عام تقريبا خرج من السبيطار. واحد النهار خرج من دارووماعاود رجع، داروكل شي، قلبوا عليه، وما عرفوأش جرا ليه. هذاك غير الشر اللي دار فينا خرج فيه، والانتقام ديال اصحاب المكان اللي ساكنينو"

نستنتج، من خلال هذه الشهادات الثلاث، أن الفاعلين قد تماهوا مع أصل وأساس فندق الحرية.

دائرة المؤمنين:

بالنسبة لزينب، كما بالنسبة لعدد آخر من سكان الفندق، كلهم يؤمنون ويفسرون طول مقامهم بهذا المكان بوجود أشكال أخرى للحضور في العالم، وهي أشكال حضور فعلية وحقيقية، تماما كحيواتهم الخاصة.

بالنسبة لزينب، فإن ما يشدها، وهي من أقدم سكان الفندق، هو"اصحاب المكان اللي ساكنينو".أما حالة التدهور التي يوجد عليها الفندق، فتجد تفسيرها المنطقي في عدة أسباب أدت إلى هذه الحالة.

نعرف أن تجربة المقدس بالنسبة لكل مؤمن، سواء تجسد هذا المقدس في مكان أو في قوة أو في أفكار، تبقى هي العنصر الأساس والأولي (دوركهايم) في التجربة الدينية. وفي حالتنا يتجسد المقدس في مكان هو البئر، مركز فندق الحرية، المحاط بالممنوعات والمحمي بالخوف الذي يحيط به. فهو المرجع والنقطة الأقصى للتوحد بالمكان (في الحكي وفي الحياة اليومية).

انطلاقا من هذا المركز، وكما يشير إلى ذلك مرسيا إلياد، يتحدد كل اتجاه، ويتأسس العالم أنطولوجيا. فالمكان المقدس هو مجال مغناطيسي يجذب إليه و يمركز حوله العالم. فالبئر هو مصدر الماء، مصدر الحياة والتجدد، ولكنه أيضا، قوة شيطانية جبارة. إن مكان البئر مخيف، ورهيب، وخطير. أما الشجرة المنتصبة بجانبه، والمتغذية منه عبر جذورها الضاربة في باطن الأرض، فهي ليست مجرد شجرة، بل هي، أيضا مجاز للعالم الطبيعي الذي ينفتح على ما يتعداه. يؤمن سكان الفندق أن: "شجرة فندق الحرية هي ديال ماليها، فيها فين تيلقوا الكانة ديالهم ". أما الطقس الذي يقام كل سنة، فهو من أجل تجديد العهد مع "أصحاب المكان".

هناك، ما بين البئر والشجرة، حركة ذهاب وإياب، هي نفسها حركة بين الحياة والموت، بين الهدم والبناء. والأضحية تقدم كل سنة لتجديد العهد، وهكذا يكون العود الأبدي، كما بين ذلك مرسيا إلياد في عمله حول المقدس.

فالسي احمد وفي بالعهد مع أصحاب المكان، ومقابل ذلك كانت أحواله جيدة .ولكن مرضه أقعده ولم يعد قادرا على الوفاء بالعهد والقيام بالطقوس، وطبعا نجد هنا أن هذه القوى لا تقدر على ضمان شفاء المريض وتقهقر صحته. إذ تم ترك المكان المقدس، ولم يعد موضوع رعاية ولا اهتمام ولا خدمة، حتى أهمل نهائيا وخرقت عليه العادة ليتحول إلى مزبلة، ويقضي فيه بعض السكان حاجتهم. وغلبت الرائحة الكريهة رائحة الحبق وأزهار شجرة الخوخ. دنس المقدس، وتوفي سي أحمد، وماتت الشجرة. الانحطاط قدر. لقد كان الانحطاط تدريجيا على مراحل ولكن حب المكان واحترامه (Topophilie) حسب عبارة بشلار لا ينتميان إلا إلى الماضي. فعوض الصور السعيدة لمكان نظيف ولروائح زكية، أصبح المكان متسخا، وروائحه كريهة، تسلب الأجساد والأرواح. أصبح المكان ينتقم لحاله، وهكذا أخذ الحفيد علي الذي قطع العادة. الحفيد لم يفقد عقله فقط، بل فقد مصيره هو أيضا. ذلك أن الروح التي تسكن المكان، سكنته هو أيضا ليكون مسكنها، وتجعله يتيه أو يموت، إذ لا أحد يعلم، في الأخير، مصيره. فالروح سكنته لتجعل منه جسدا بدون عقل، تماما مثل ما جعل المكان (الفندق) بدون بئر. فعقل الحفيد اعتبر من طرف الروح المقابل المماثل للبئر. وليست هناك أية نهاية لهذه الحكاية إذ لم يظهر الحفيد منذ سنة 1990. وإذا كان الحفيد لم يعترف بما يمثله البئر، وبما تمثله الشجرة وكل تلك الطقوس، فإن الأرواح التي تسكن المكان لازالت حاضرة. هكذا يفكر سكان الفندق. إن ذهاب عقل الحفيد وتيهانه، هما ثمن قطعه للعادة، وخرقه لها. إن المكان المقدس، المكان المهاب والمحروس لا يدنس، ومن يدنسه يدفع الثمن: اختفاء سي علي. أما السكان فبقوا مسجونين. فمكان سكناهم هو قبر حياتهم، كما يوضح ذلك أحدهم.

يرى سكان الفندق أن سجنهم (تسلسيلهم) هو ثمن مشروع، وعنف عادي. تماما، مثلما يعتبر التنظيم الاجتماعي العنف المشروع ضروريا. وفي هذا السياق، تلتقي الكثير من الشهادات التي استطعت جمعها، حول الاعتراف بأنهم حين يفكرون جديا في مغادرة الفندق بصفة نهائية، فإنهم يبدأون في رؤية علامات الغضب والشؤم في منامهم؛ وتسيطر عليهم حالة اكتئاب عميق مجهول البواعث؛ ويحسون بأنهم تائهون في عالم لا يتعرف عليهم ولا ينتبه إليهم أحد؛ فتحيط بهم الآلام من كل جهة؛ ويجدون أنفسهم منجذبين إلى الفندق وإلى أجوائه؛ وبمجرد ما يدخلون الفندق تنتفي الآلام، وترجع فورة الحياة، معها انكشاف الوحدة التي تجمع بين الساكن والمسكون.

إن التقاء هذه الشهادات/ الحكايات حول نفس الموقف تفيد وجود اتفاق بين السكان حول واقع محدد: إن الفندق يرفض أن يهجر، ولا يترك لهم أية فرصة للتخلص منه والبحث في مكان آخر، بعيدا عنه. إنه كعاشق قاس لا يمكنه أن يترك معشوقته، أي هذه الأجساد المقهورة بالبؤس والشقاء، ترحل عنه. وهكذا فالرحيل يعني بالنسبة إليهم الصداع في الرأس والتيه، وإن كان البقاء في الفندق يعني، أيضا، الصداع ومواجهة شروط حياة قاسية وبئيسة، وخصوصا، عدم القدرة على الوفاء بالدين اتجاه أصحاب المكان. فهل يمكن القول، إن نسيان السكان للعهد الذي يجمعهم بهذا المكان الذي كان مقدسا، يدشن مرحلة جديدة، هي مرحلة الحرية؟ ما الثمن الذي ينبغي لهؤلاء أن يؤدوه؟ لا أحد يعرف. فحسب البعد الميتافيزيقي لهذا المكان، لا يمكن لأسئلة مثل هذه أن تجد أجوبتها بسهولة، كما قد يظن أغلب الناس. وبالتالي، فهناك حالة عنف معمم ومألوف، يقبلونه ويتعايشون معه يوميا، كل بحسب وسائله.

أما بالنسبة لي فإن خطاب لعنة تدنيس المكان المقدس، وكل ما تلا ذلك من عواقب وخيمة، يكتسي بعدا خارجيا، يتعدى الإطار الضيق للحيوات، ويفتح على عوالمها الرمزية. فعلاوة على كون الوظيفة السردية، هنا، تنتمي لمنطق يحيل إلى تقليد أنطولوجي خاص، فإنها، أيضا، وربما خصوصا، توسط يتم عبره تأويل العالم والعلاقة به. عندما لا يعطي أولا يضمن هذا العالم أدوات أو إمكانية فحص مباشر وبدون قناع أو وسيط.

إن التماهي مع واقع بئيس كهذا (وكما سنرى ذلك في موروفولوجية المكان)، والتواجد داخله يعري الإنسان وينزع عنه الطابع الإنساني. فعنف الأرواح، كما يفسر ذلك القاطنون، يصبح عنفا منقذا، إذ يتم تذويب مسؤولية الأنا ورفعها بشكل كلي لإلصاقها إما بمن لا نستطيع الوصول إليه، أو بما لا نستطيع تغييره، لأنه في اللامكان: لامكان الأرواح الغاضبة والمنتقمة من البشر. تقول إحدى القاطنات "ماكاين فرق بينا وبين البهايم. إن هذا النزع الذاتي للصفة الإنسانية لا يرجع إلى إرادتها الخاصة أو إلى شروط يمكن التحكم فيها، بل ترجع إلى إرادة أخرى، إرادة تبقى، في الأخير، مجهولة.

مورفولوجية المكان

إن الزنقة التي تقود نحو فندق الحرية من الجهة الجنوبية للمدينة، محادية للسوق المركزي. وقد بني هذا الجزء من المدينة في بداية القرن العشرين، وبالتالي، فه وليس مكانا مليئا بالآثار، ومحملا بذاكرة تاريخية مشتركة، وقد قرأه بعض أهل المدينة كمكان غريب شوه مجالا حضريا أصيلا وتاريخيا بشكل لا يقبل الرجعة. وربما يرجع ذلك إلى سمعة فندق الحرية التي تجاوزت بكثير سمعة الحي، لأنه مثل انقلابا في القيم الأخلاقية، إذ كان، أثناء فترة الحماية الفرنسية، ماخورا (بورديلا). وبالتالي، لازالت صورة هذا الماضي تلاحقه. فهو ملجأ للعناصر الخطيرة التي تهدد الأمن والمدينة.

إنه يشبه بئره، مظلم ويزرع الخوف في كل من يقترب منه، عالم مليء بالأسرار، عادة ما يتفاده حتى أولئك الذين من واجبهم حمايته (الشرطة). سور الفندق مبني بالطريقة التقليدية، ويرتفع حوالي 15 مترا، بدون نوافذ، ومغلق على ذاته. سوره يذكر بأسوار المؤسسات التي بنيت لتمنع هروب روادها. إن ما هو داخل الأسوار ( داخل الفندق) بعيد عن فضول الأعين والأرجل. وقد تفاجأت في زياراتي المتتالية عندما علمت أن سكانا آخرين يسكنون هم أيضا بفنادق أخرى لم يزوروا قط فندق الحرية، مثلهم في ذلك مثل الجيران المباشرين للفندق. ويعلن بعض هؤلاء عن ذلك بنوع من الفخر والاعتزاز. وكأن سور الفندق يجعله غير مرئي بالنسبة لجيرانه، وغير موجود بالنسبة لهم. وإن كان ما يوجد داخله هو عالم آخر، يستحق أن يفهم، لا أن يستخبر عنه للتحكم فيه عن بعد.

إن الوصف الدقيق لمورفولوجية الفندق مهمة صعبة لأسباب عملية. فمن الصعب معرفة المساحة الدقيقة للفندق، ولكنها تنجاوز 100م²،حسب تقدير الورثة، طول سوره هو حوالي 28 متر وهو يشبه السجن. تتوسطه بوابه كبيرة. وعند المدخل تدخل في ممر يخترق صفين من الغرف المتقابلة، مساحة كل واحدة منها 2مx 3 م. وفي نهاية الممر الأول توجد المراحيض التي تنبعث منها روائح كريهة تملأ المكان وتزكم الأنوف، وتنتشر لتملأ الصدر وتعمي العينين، وتحتار في الأخير في أمر هؤلاء الذين لم يعودوا يشمونها ولا يتضايقون منها!

المكان مظلم ورطب. والسكان احتلوا أجزاء من الممر ووضعوا فيها حاجياتهم وغطوها كيفما اتفق. ويعتقد المرء أنه يتجول بين أزقة لندن التي وصفها شارلز ديكز أو المهاجرين الإرلنديين الذين وصفهم فريدريك انجلز. وعند نهاية الممر الثاني في قاعه يوجد البئر الذي أغلق منذ وفاة المالك سي أحمد سنة 1987. وبالنسبة إلي كباحثة، وقبل أن عرف قصة الفندق انتبهت إلى أن لهذا المكان لغزه المحير، أحسست بشيء ما، وكتبت في اليوم الأول من أبريل 2000 "هذا المكان ليس كما يبدو، شيء ما من الماضي يعيش هنا، لماذا؟". ولكن ظهر في الأخير، أن السؤل بصيغة لماذا لا يرقى إلى نفس أهمية السؤال بصيغة كيف؟.

يتكون فندق الحرية من ثلاثة طوابق ومن الطابق الأرضي، ويتكون من حوالي 107 غرفة كلها تطل على ممر عرضه متر تقريبا. وتوجد في الطابق الأول، مساحة يطل عليها من الطابقين الثاني والثالث. أما المراحيض فهي في كل الطوابق المكان الأكثر أهمية وتأثيرا. فعلاوة على روائحها الكريهة (الماء مقطوع منذ نزاع السكان مع الورثة)، فهي هندسيا في قلب/مركز الباسيو، حيث يجلس الجميع. وهكذا، تقود الممرات إلى المراحيض الجماعية. وهي تذكر بالحياة العارية (Zoe)، وبكون بعض السكان يرون أنهم يعيشون كالحيوانات، وبدون أية إمكانية للخلاص.

إن فندق الحرية مليء "بالحياة" والحركة ف 60% من سكانه يتكونون من عائلات. هناك من ولد هنا، وكبر واستقر فيه، رغم كل الظروف البئيسة. ويمثل الأطفال أغلبية السكان، ولا يخرجون من الفندق إلا للذهاب إلى المدرسة أو لجلب الماء من السقاية، أو للإتيان بشيء يطلبه الكبار. الشبان يحولون المكان إلى مكان للعب: لعب القمار أو لبيع الكيف وتدخينه، وشرب الشاي، كلامهم بذيء. أما النساء فينشرن غسيلهن ويتنافس فيما بينهن في المناداة على الأطفال والأزواج المعاندين. الفندق هو مكان تنفجر فيه النزاعات بين الفينة والأخرى، غير أنها تنحل كما بدأت، مفاجئة. وفي جميع الحالات، تبقى المراحيض بما تطرحه من مشاكل. فهي توجد متوارية عن الأنظار وراء حائط، ولكنها بدون أبواب، لأن الأبواب التي كانت موجودة نزعت من مكانها، انتقاما من السكان، واحتقارا لهم بفعل فاعل مجهول. ولكن المراحيض تطرح، رغم وجود الحائط الفاصل، إشكال العلاقة بعين الغير المموضعة والمتلصصة: فعين الغير تبقى، دائما، متربصة؛ وعادة ما تلجأ النساء والفتيات إلى الاستعانة ببعضهن للقيام بمهام الحراسة أثناء قضاء الحاجة.

فعين الآخرين تمارس عنفها بفعل نظرها، خصوصا بالنسبة للنساء والفتيات. أما الرجال فيديرون ظهورهم للحائط ويقضون حاجتهم، فهم يحمون أنفسهم بأنفسهم، على الأقل، عندما يتبولون واقفين. ولكنهم سرعان ما يتعرّفون على شيء مما تعرفه النساء بمجرد ما يضطرون للجلوس لقضاء الحاجة.

إن مروفولوجية فندق الحرية تظهر لنا أنه ليس له من خصائص الفندق التقليدي سوى الاسم. إن هذا الفندق الذي بني سنة 1895 (1313) لا يمكنه أن يكون مكان ذاكرة تشهد على تاريخ عريق. الذاكرة الحاضرة، هنا هي ذاكرة الحياة العادية، كما تشهد عليها الجدران الرطبة، والسلالم المتهرئة، والأبواب البالية. تستمر الحياة، كما لو كان كل شيء عاديا. أغلب الغرف مساحتها ما بين 2 م عرضا و3 م طولا. ويختلف تنظيم هذا المجال بحسب أقدمية الساكن ومستواه. فإذا كان الفرد العصري يعيش في مجال مبنين، لكل عنصر مجالي وظيفته، فإن ساكن الفندق يقوم بكل شيء داخل غرفته الوحيدة: ينام فيها الآباء والأبناء، وهناك عائلات لديها ما يفوق ستة أطفال، وفوق ذلك تستقبل ضيوفا من "لبلاد" في نفس الغرفة؛ في نفس الغرفة يتم الطبخ، والأكل، والنوم؛ في نفس الغرفة تبنى "الحياة الحميمية" لا بالاعتماد على ما تضمنه الجدران الفاصلة والمبعدة عن الأنظار والأسماع، بل باعتماد طرق ملتوية، هي أقرب إلى الحيل واستغلال الفرص منها إلى أي شيء آخر. أما الترتيب داخل الغرف الضيقة أصلا فهو متنوع ومتباين: هنا تجد بعض علامات "التأويل" والنظام، وهناك تجد نوعا من الخلط؛ هنا تجد لمسة تحاول أن تكون فنية، وهناك تجد ترتيبا كيفما اتفق؛ هنا تجد كَلاسا لقضاء الحاجة ليلا، وهناك لا يظهر. كل هذا يقود الفرد إلى أن يتفاعل مع محيطه ومع أولئك الذين يقتسمون معه المكان بكيفية محددة، بحسب قدراته ووسائله. فهناك بالتأكيد إبداعية فرضها الضيق الشديد، ولكن هذه الإبداعية لا تقاوم حتى النهاية نظرة الغير التي تهدد بتلصصها أو بمباغثتها؛ ولكن هذا الضيق هو في حد ذاته عنف، لأنه يمنع فتح أبواب أخرى للفرج، ينهك الأجساد، ويعذب الأرواح...

عادة ما تختنق قنوات الواد الحار وتنفجر، بفعل السلوكات غير الحذرة للسكان الذين يرمون بكل شيء، ولا يراعون للأخطار. ويبقى سكان الطابق الأرضي يعانون من حصار مياه الواد الحار وما يلفظه

وهذه الحالة تعتبر لوحدها قهرا وعنفا مضاعفا يتعذب بسببه السكان. نفس المشكل يطرح باستمرار ولا أحد يريد التطوع لإصلاح الواد الحار؟ من سيتطوع؟

يحكي أحد سكان الفندق قصته المؤلمة والصادمة :"يدي في خرا لخرين حتى لكتفي، واش أنا مشي خرا؟ واش مشي بصح؟" إن جملة مثل هذه، حالة مثل هاته: أن ترى نفسك وأن تحكم عليها انطلاقا من غائط الآخرين، يعني أنك في أسفل السلم الاجتماعي، وأن لا خلاص لك إلا بمعجزة (وعصر المعجزات انتهى).

يعرف سكان الفندق إكراهات حقيقية تنغص عليهم حياتهم اليومية، سواء أثناء إعداد الطعام أو النوم أو قضاء الحاجة الطبيعية. إضافة إلى هذه الإكراهات البنيوية نجد نوعا آخر من العنف وهو ذاك المتصل بسلوكات السكان أنفسهم : الرفع من صوت المذياع، تناول المخدرات وشرب الكحول..الخ

جدلية العنف والإهانة:

يحكي بوبكر، أحد سكان فندق الحرية منذ السبعينيات، والبالغ من العمر حوالي أربعة وأربعين سنة، "…كلنا من نفس القبيلة، بنواحي سيدي بنور، وكلنا بغينا نعيشوهنا، بلادنا جردة، حتى حاجة ما تتنوض فيها، غير الوزاغي والعقارب اللي كاينين. الجفاف جّرا علينا، ولكن كنا دائما تنديروا التجارة والتعطارت، كنا نمشو من دوار لدوار وتنبيعو. لكن اليوم ماقدو على منافسة الطونوبيلات والبلاستيك، هنا حنا عايشين، شوفي ما بينا والحيوانات حتى فرق كبير. حنا فقرا، فقرا بزاف تنعيشوا بالتوقوليب، وتنحمدو سيدي ربي، تنحمدو الله، وما تنجرويش ورا جاه الدنيا. ومنين تكونوا هنا تنشوفو العالم كيدوز بحال شي فراجة، ما عندنا حل آخر، ولفنا هذه الحرية السلبية. هاد الفندق كيساوي الحرية السلبية".

سجناء الحرية

يصف بوبكر مسار أغلب سكان فندق الحرية و(أصلهم) ويقابل عقم أرض الميلاد، بعقم من نوع آخر، من خلال ما يسميه "الحرية السلبية" والتي أسميها أنا "الحرية الدنيئة" أو القذرة. إن العيش في هذا المكان المنغلق على ذاته، وبأقل كلفة ممكنة، علما بأن مصدر الرزق هو السعاية و"التقوليب"، يؤدي إلى القول بنوع من الاتكالية، وبأنه وسط فاسد وهمجي وأناني، وسط الأوباش. والحال أن المفارقة التي يطرحها بوبكر تجد نفسها في أماكن أخرى، بعيدا عن الصرامة المعيارية.

إن المشكل ليس في عدم اعترافهم بالقيم والأعراف الاجتماعية، ولكن في الشروط اللاإنسانية التي يتكيفون معها، وفقرهم المادي المدقع، كلها عوامل تنسب بل تجعل العنف الذي يعانون منه عنفا أليفا. فالمكان هو نفسه كناية عن التهميش والاحتقار الاجتماعي؛ عن عالم عدم احترام القانون؛ عن عالم من الفوضى العارمة، تفرض على السكان نوعا من الحرية المكرهة (من الإكراه) نوعا من العري، ونوعا من الثقل الذي لابد من حمله. إنها الحالة الحيوانية (Zoe) بدون أية إمكانية للولوج إلى الحالة المدنية. إنها حرية مرهقة (برفع الميم وكسر الراء) لأنها تنتشر في عالم اجتماعي لامبالي: نحن أحرار في أن نقتل أنفسنا أو أن نهدمها؛ نحن أحرار في أن نعيش كما نريد؛ نحن لسنا مطالبين بدفع الحساب لأي كان؛ لا يوجد أي شكل للمسؤولية إزاءنا؛ لا يوجد أي شيء يربطنا بالمجتمع. في الفندق، نحن متفرجون أحرار في أن نرى حياة الآخرين تجري أمامنا، تلك الحياة التي تنغرس في مجموعة من الدلالات والأهداف المعتبرة مشروعة من طرف سكان فندق الحرية.

إن هندسة هذا البناء (الفندق) أعطته وظيفة الانحراف والأنوميا، وألصقت به نعوتا قدحية. ولكن هذا التصور نفسه يخفي أن الإهانة هي واقعه القاسي. وكل محاولة للتخلص من وضعية المتفرج السلبي والانتقال إلى وضعية المشارك في إنتاج الدلالات، غير تلك الدلالات السلبية القدحية، لا تؤخذ مأخذ الجد. فتبقى الحرية التامة في الإساءة للذات وللغير، الحرية في أن "تعيش كحيوان" أمام اللامبالاة الشاملة. هذه هي رسالة بوبكر. فتصبح هذه الحرية السلبية عنيفة، لأنه ليست هناك مسؤولية ما لجهة ما أو إزائها؛ تغيب المسؤولية كمقياس أو بالأصح كقنطرة للعبور نحو الانتماء إلى ما يتعدى السور العالي.

في مقابلة مع سي مولاي العاطي، وهو شخص مسن، ويأتي لزيارة أهله بالفندق سألني ببلاغة :" واش فايت ليك عشت مع الموات ؟" في نفس الوقت الذي وجه فيه للجماعة الجالسة أمام المراحيض، والأطفال يرفعون أصواتهم، ولا يتوقفون عن الجري : قال لي أحسبني واش البهايم خرجت تورد؟". هذا الرجل يرى نفسه كأهل الفندق، حيا وميتا. فهم أحياء جسدا، وأموات روحا. ربما كان هذا الوصف تصعيدا دراميا من طرف سي العاطي، فعلى كل حال، هناك أطفال يذهبون إلى المدرسة، وهناك عالم آخر خارج أسوار الفندق يستحق أن يرى، وهناك نوع من التضامن بين كل السكان الذي ينتمون لنفس البلد أو القبيلة، وهناك أيضا حضوري الذي يلزمهم بالاشتغال بعض الشيء على صورتهم. نعم قد يكون هذا صحيحا. ولكن ما ينبغي الاحتفاظ به، هنا، هو أن فكرة الموت ترتبط بالمكان، وهي قراءة أو تأويل جذري للحرية السلبية. فإذا كان الإنسان يبحث عن الحياة اللائقة في مكان يسعى جاهدا لأن يجعله لائقا به وبإنسانيته كما يتصورها انطلاقا من مستواه وقدراته، حاجياته وإسقاطاته، فإن المكان في حالة الفندق يصبح هو الجلاد، يصبح هو هذا المعمار الذي ينزع عنه إنسانيته. أما الأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة ويلعبون، فإنهم لن ينتبهوا إلى عواقب سكناهم، وإلى وضعيتهم الدونية في الترابية الاجتماعية، وإلى قائمة الأوصاف القدحية الخاصة بهم في لائحة الإهانةات إلا بعد؛ ولن تموت أرواحهم إلا عندما سيكونون مضطرين للنداء على أصدقائهم أو صديقاتهن ليحرسوا/ ليحرسن باب المرحاض حتى يقضوا حاجتهم/هن. أما جلب الماء من السقاية، وعذابات الضيق، وعنف الآباء، وعنف الجيران، واستهلاك الكحول ومختلف أنواع المخدرات، والبؤس، والتحرش الجنسي، والاغتصاب، والعجز التام عن التخلص من هوية ولد أو بنت الفندق، كل هذا لن يكون سوى جردا تكميليا لما هو مدون في هذه اللائحة- القدر.

مكان العنف وعنف المكان:

هل يمكن القول إن الفندق هو مكان لممارسة العنف كما في السجن مثلا؟

إذا كنا سنحتاط من كل خريطة توزيع اجتماعي تحدد لكل مؤسسة أدورها وأمكنتها المختلفة، فإن الجواب هو:لا. إن ما هو مسموح بتأكيده، حسب هذه الحالة، هو أن العنف ينبع من المكان عينه، ينبع من هندسته المعمارية التي تختزل الإنسان إلى مجرد حياة بدون آفاق، بدون إمكانيات مدنية، وتدفع به دفعا إلى وضعية الكاوس، وتطبعه بأوصاف جارحة ومهينة وصادمة. وتمنع حتى إمكانية المعاودة من جديد، معاودة حياته. فيصبح بالتالي غصب الذات أحد الوسائل للاستمرار كنموذج مضاد لنظام المدينة.

إن أغلب المستجوبين يؤكدون الصورة التي ينتجها المجتمع عنهم. فهم في هذه الصور المرسلة إليهم: أناس عوج، وحوش، فاشلين، كسالي... يقبلون هذه الصور التي يعانون منها، ويعيدون إنتاجها، ويصفون بعضهم البعض انطلاقا من هذا القاموس: "هم حيوانات تتكلم (مقارنة بالحوانات البكماء)، حيوانات بدون قانون ولا إيمان، ما كيعرفوا غير لهديم، عايفين وموسخين، ومارادينش حتى البال لهد الشي، ما يعرفو غير يولدو الولاد" من لا يتعرف في هذا الخطاب على خطاب الهيمنة؟ في هذه الهندسة الاجتماعية يكون المهمش أو المقصي مهمشا أو مقصيا لأسباب عدة كما أظهر ذلك نوربت إلياس (Norbert Elias)، وكما وثق لذلك بيير بورديو. فهما معا يظهران أن الإقصاء ليس نتيجة وضعية اقتصادية محضة، بل هو نتيجة تداخل عوامل كثيرة، تلتقي فيها حقول كثيرة للدلالة السوسيولوجية والتاريخية. في فندق الحرية، شروط المقاومة والبقاء صعبة، والناس تعاني من ظروف الفقر المدقع ولكن الصادم هو بناية الفندق. عندما طرحت السؤال على الأطفال ماذا يعجبكم في هذا المكان؟ فهمت من أجوبتهم أنهم يعرفون أنهم يعيشون في عالم صغير، ويعرفون أن العالم أكبر خارج الفندق، وأن هناك أشياء أخرى، ولكن هذه الأشياء الأخرى هي بعيدة. وما يهمهم، الآن، هو أنهم يلعبون ويتنافسون داخل الفندق، وهذا هو القريب منهم؛ أما الشبان منهم، فإن اندفاعهم في الحياة لا يقودهم سوى إلى إعادة إنتاج الصورة التي ينتجها عنهم المجتمع. فهم يقلدون ويجسدون العنف الذي يوصفون به. لا يعجبهم أي شيء في هذا المكان؛ يصارعون من أجل البقاء فقط. كلهم، تقريبا، عرفوا السجن؛ وكلهم يتناولون المخدرات؛ وحدهن النساء يلتزمن نموذجا محددا للطاعة والانضباط. وهن في ذلك يدخلن في الإطار المعياري الجاهز لهن، ويخضعن لما تلزمهن به الهندسة الاجتماعية للأدوار. إن من يأتي من مكان يخفيه المجتمع ولا يعترف به، يجد صعوبة بالغة في إيجاد الطريق الذي يقود نحو الحرية الإيجابية.

لكي أختم، أعود إلى الفكرة التي بدأت بها، والتي ميزت فيها بين مجالين، الأول خاص بممارسة العنف الشرعي، والثاني صار عنيفا، مع مجموع الفروقات الموجودة بين الحالتين.

إذا كان المجال الأول ضروريا، والثاني (الفندق) رد فعل على المسار الذي جعله ثانويا بعد أن كان رئيسيا. فإن المجال الثاني هو مجال عنف احتجاجي، عنف ضد إهمال المركز. لقد وجدت المدينة دائما كمركز للإدماج – الإقصاء؛ وربما كان هذا التمييز هو أصل ميلادها. ومن مهمتنا، هنا، أن نفهم مختلف أشكال العنف التي ترتبط بهذه الهندسات وليس حصرها أو اختزالها في منطق اقتصادي، كما يتم ذلك عند كل دراسة لمدن القصدير ولما يسمى بالسكن السري أو العشوائي. إن فهمنا للتركيبة المعقدة والملتبسة للواقع تسمح لنا، بالفعل، بالاقتراب أكثر من الفهم.

العنف، قبليا، هو كل حركة أو تقييد، هو كل غصب أو اغتصاب، هو كل فعل مادي أو نفسي، يرتكب قصد إيذاء الغير، وفعل الشر.

الهندسة هي، إن بقينا عند حدود تعريفها الأولي، هي تصور للمجال وتفكير في الأشكال التي تجعله قابلا لأن يمارس حسب رؤية معينة للوجود الاجتماعي في أبعاده المختلفة.

انطلاقا من كل هذا، أقول إن مختلف أشكال عنف الهندسة المعمارية لفندق الحرية ليست فعلا، ولكنها نوع من الحضور الذي أصبح طبيعيا، وأصبح له شكل- إطار يسجن، ويلصق بالسكان هوية ثابتة. ففوضى الفندق لا تنمحي أمام النظام، كما أنها لا تخضع له، بل تقود نحو الحياة العارية (Zoe) تماما كحياة المعتقلين في الحالة الأسوأ، أو نحو الحياة البئيسة، كما في الحالة الأحسن للسكن الاقتصادي أو للجيتوهات. لكل واحد، إذن، أن يختار جحيمه، هذا إن كانت له إمكانية أن يختار أصلا.

(نقل النص إلى العربية محمد زرنين)

* * *

الببليوغرافيا:

- Agamben, Giorgio. Homo Sacer: Soveign Power and Bare life. Stanford UP, 1995.

- Foucault, Michel. 1996. Les Mots et les choses. Gallimard.

- Bourdieu, Pierre (sous la direction de). 1993. La misère du monde. Editions le Seuil.

- Wacquant et Bourgeois dans La misère du monde.

- Lefebvre, Henri. 1972. Droit à la ville, espace et politique. Editions Anthropos.

- Bernam, Marchal. 1988. All that is solid melts into Air. New York: Penguin Books

- Harvey, David. 1988. Social Justice and the City. Blackwell Publishing Co.