يتناول الباحث المصري هنا جهود عماد عبداللطيف البلاغية وتصنيفه الجديد للبلاغة العربية، على أسس المادة المختصة بالدرس البلاغي، والموضوع المعالج، والوظيفة المرتجاة. ويكشف عن أنه جهد يتسم بقدر كبير من الخيال العلمي، والانفتاح على نظريات ما بعد الحداثة المتحررة من هيمنة السلطوية، والدوائر الثقافية المرتبطة بها.

تلقي التراث البلاغي

قراءة في جهود عماد عبد اللطيف البلاغية

مصطفى عطية جمعة

 

من المهم قراءة التراث البلاغي العربي بما يستجد من منهجيات نقدية حديثة، وبما يكشف عن جوانب جديدة في تراثنا البلاغي، عبر التعاطي الإيجابي معه، خاصة إذا جاءت الدراسة انطلاقا من منهجية تحليل الخطاب؛ بغية الإفادة من المنجز البلاغي القديم، وإعادة إنتاجه معرفيا، ويتم ذلك بقراءة بعض الظواهر البلاغية، ومراحل تشكلها، تأسيسا على بعدين: بعد يرنو إلى منبت الظاهرة بلاغيا في القرآن والمباحث البلاغية المتصلة به؛ وبعد آخر ينظر إلى التأثيرات الفكرية والمعرفية المختلفة في الدراسات البلاغية القديمة، ومساهمة في تطوير الاصطلاح.

ونتناول في هذه الدراسة جانبا من مشروع الأكاديمي د. عماد عبد اللطيف، في أحد أبعاده ألا وهو قراءة التراث البلاغي وفق منهجية تحليل الخطاب، والذي جاء محصورا في كتابات البلاغيين القدامى، نظريا وتطبيقيا. على نحو ما نجده في دراسته المعنونة بـ "تحليل الخطاب البلاغي: دراسة في تشكل المفاهيم والوظائف"، في ميدان شديد الخصوبة وهو قراءة ظاهرة بلاغية في تجلياتها وتطبيقاتها في علوم عديدة في التراث الإسلامي، لا تتوقف عند البلاغة فحسب، وإنما تنظر إلى تواجد المصطلح وانتقاله بين علوم عديدة، وكيف اختلف الاستخدام والتوظيف الآن. ونرى أن هذا الكتاب يفتح آفاقا جديدة في قراءة التراث القديم عامة والبلاغي واللغوي منه خاصة من منظور التقاطعات الثقافية والمعرفية المختلفة، ليخرج الباحث من التخصص الدقيق إلى آفاق واسعة تتصل بالأبعاد الثقافية والحضارية ذاتها وهو يتعامل مع المصطلحات والظواهر المختلفة، مما يتيح مدى رحبا للتفكير فيما يمكن تسميته بـ "الحاضنة الثقافية والحضارية للمصطلح/ الظاهرة"، وبعبارة أخرى: نقرأ المصطلح/ الظاهرة في إطار ثقافي حضاري تراثي، وليس في الكتب التراثية المعنية فقط، وربما يكون هذا سببا من أسباب جمود كثير من الباحثين، الذين انحصرت جهودهم في إعادة إنتاج العلوم القديمة، بكل مصطلحاتها وخلافاتها لضمان انتقالها إلى الأجيال الجديدة وتوريث العلم وتدوير المعرفة. أما إذا نهجنا النهج المقترح، فإننا سنقرأ العلم وندرسه وندرّسه في إطار ثقافي حضاري شامل، ينظر إلى التراث وعلومه ومصطلحاته ضمن منهج دائرية المعرفة وحضارتها.

وهو ما أدركه الباحث عماد عبد اللطيف، وعززه بالإضافة عليه، مؤكدا أن هناك علاقة تضامنية بين حركة المصطلح وحركة الفكر البشري، فالمصطلح مثل الكائن الحي يعتريه الضعف والانهيار والموت، ولا يمكن النظر إليه بوصفه خطًا صاعدا مستقيما لا يعرف الانحناء ولا الالتواء، فهو ليس دائما في حالة نمو([i]).

ويركز على الوظائف البلاغية في انتاج الجمالية، وتقويضها ضمن اشتغاله البحثي على المصطلح البلاغي، وتأثير تلك الوظائف في المخاطَب، مستندا في ذلك إلى كتب البلاغيين القدامى. فيقرر في المقدمة أن جهده في هذا الكتاب ينتمي إلى تيار "البلاغة الشارحة"، عبر مقاربة القضايا الأساسية لحقل البلاغة بأكملها انطلاقا من تقديم تحليلات فاحصة للكتابات العربية، حول أحد أشهر الأساليب في البلاغة العربية، وهو أسلوب الالتفات. والفرضية التي ينطلق منها الكتاب هي تحليل ظاهرة بلاغية وهي "الالتفات " بوصفه خطابا جزئيا يقع في إطار خطاب أكبر وهو خطاب البلاغة العربية ([ii]).

وإن كنا نتحفظ على تعبير "البلاغة الشارحة"، لأن الإضافة العلمية المتحققة في الكتاب، تتجاوز مفهوم شرح البلاغة، إلى تحليل الخطاب البلاغي بمنهجية معاصرة، وتلك رؤية جديدة في الدرس البلاغي، ترتقي فوق الدراسات السابقة في التراث البلاغي العربي المعنية بشرح الظاهرة البلاغية ورصدها في التراث. فهو يتتبع نشأة المصطلح وتطوره بلاغيا؛ من خلال النظر إلى المصطلح/ الظاهرة بوصفها نقطة تلاق، وتقاطع في علوم البلاغة . بمعنى أنه يقف عند الظاهرة، ويرصد أوجه التشابكات والعلاقات التي اجتمعت حولها، ضمن المنهجية المعاصر لتحليل الخطاب Analysis Discourse"، والتي تنظر إلى أوجه التفاعل كما تبدو في الخطاب/ الخطابات مع فكرة ما أو طرح أو ظاهرة، فأي شكل من أشكال اللغة يسوقه المتكلم سواء أكان محكيا أم مكتوبا، إنما يسوقه لغرض تواصلي معين في سياق معين، فالمعاني كامنة في الأدوات، والسبل التي يستخدمها منشئ الخطاب في التدليل على رؤاه، ولتحقيق مقاصده ونواياه([iii]).

فالمتكلمون/ المؤلفون يقيّمون عملية تواصل (أيا كانت طبيعتها)، ويطرحون فرضيات وموضوعات، ويضعون المعلومات التي بحوزتهم في بنية معينة، كما يقومون بعملية "الإحالة"، أما عملية التأويل والاستنتاج فهو وظيفة المتلقي/ القارئ، ضمن سياقات التواصل. فمن المهم في تحليل الخطاب دراسة القوالب اللغوية ومظاهر الانتظام في توزيعها من جهة، ودراسة المبادئ التي تقوم عليها عملية الفهم، التي تنتج المعنى في النهاية([iv]).

ومن أبرز سبل تحليل الخطاب النظر إلى عملية "الإحالة" من حيث كونها العلاقة القائمة بين الأسماء والمسميات، وهي التي يقوم بها المتكلم، عندما يستعمل تعبيرا ما يختاره ويسوقه، فهو يحمّل التعبير وظيفة إحالية عند قيامه بعملية الإحالة، وكلها خاضع لرؤية المتكلم وقصديته ([v])، أما دور السياق في عملية الفهم فهو منحصر من جهة عدد المعاني الممكنة، ويساعد في التوصل إلى المعنى المقصود([vi]) في ضوء تحليل الشواهد والأمثلة المساقة.

إن هذا المنظور ينقلنا إلى أفق جديد في الدراسات البلاغية عامة، يتمثل في التعامل مع تراثها الزاخر بوصفه خطابات تكونت في سياقات ثقافية وزمنية وحضارية مختلفة، وفي كل مرحلة هناك الجديد المضاف، مما يتيح للباحث التأمل في الظاهرة البلاغية في تقاطعاتها المعرفية المتعددة، وكيف ساهمت في تشكيلها، وإضافة المزيد إلى حمولاتها الدلالية، ورصد أبعاد فهم القدامى للظاهرة والمصطلح، وهل أسهمت دراساتهم في إنارته، وترسيخه، أو وجدت اضطرابا في الفهم، والتطبيق؟ فعندما يدرس الباحث الخطاب البلاغي في عصر ما، فإنه لا يكتفي بما هو مبثوث في الكتب، وإنما يأخذ في حسبانه الأبعاد الثقافية، والحضارية، والمعرفية التي ساهمت في تكوين الخطاب، كي يتسنى فهمه بدقة.

وهذا ما قام به الباحث في دراسته، فقد رصد – ضمن دراسته لأسلوب الالتفات - تحولات الضمائر مع ثبات المرجع، ولاحظ اضطرابا فعليا في الخطاب البلاغي التعريفي، يتمثل في إطلاق أكثر من مصطلح على ظاهرة واحدة، وإحالة مصطلح واحد إلى أكثر من ظاهرة، فمن المهم الكشف عن عوامل إنتاج الاضطراب عبر نقد الخطاب البلاغي التعريفي، ومن ثم تـأسيس إدراك علمي بالبنية الاصطلاحية البلاغية عبر الاستفادة من علم المصطلح في بلورة إجراءات منضبطة للبنى الاصطلاحية ([vii]). فالمستهدف هو الاشتغال على تكوين المصطلح من جهة، ومعرفة أسباب اضطرابه: فهما وتطبيقا من جهة أخرى، وصولا إلى إعادة تعريف للمصطلح؛ تزيل اللبس في فهمه، من أجل تطبيق صحيح. فإذا كان هناك عوار أو تداخل في التنظير، فحتما سيكون هناك خلل في التدليل، والتطبيق.

وقد نظر عماد عبد اللطيف إلى مصطلح الالتفات في ضوء الدراسات القرآنية، واللغوية، والبلاغية؛ مؤكدا أن التراث البلاغي يقدم ثمانية مصطلحات بخلاف الالتفات، مما يدل على اختلاف العلماء حوله، إذ شهد رفضا من جانب العديد من كبار علماء من منظور عقدي، وفضلوا تفسير النص بدون إطلاق مصطلح يصف الظاهرة، كما في مؤلفات أبي علي الفارسي (ت377هـ)، وابن خالويه (ت377هـ) والأزهري (ت371 هـ)، والعكبري (ت616هـ) وغيرهم، مؤكدين أنه لا يجوز على الله تعالى الالتفات، فرؤية علماء التفسير تثبت المفهوم، وترفض المصطلح، فما لا يجوز أن يحدث منه فعل الالتفات حركيا؛ لا يجوز أن ينسب إليه الالتفات نصيا. أما البلاغيون فقد نظروا إلى الالتفات بوصفه مصطلحا لغويا منقولا، بالعودة إلى دلالته المعجمية الأصلية التي تعني التفات الإنسان عن يمينه، وشماله، فهو يقبل بوجهه تارة كذا، وتارة كذا، وكذلك يكون الكلام بأن ينتقل من صيغة إلى صيغة أخرى. وقد تم البناء على هذا المفهوم لدى المتأخرين من خلال الانفتاح الذي تتيحه الدلالة المعجمية للكلمة. وكان الحل التوافقي من قبل البعض هو إطلاق مصطلحات أخرى تعنى بمفهوم تحولات الضمائر مثل: الانصراف، والصرف([viii]).

إن التنازع الاصطلاحي هنا غير دال على الاضطراب كما تقدم، وإنما يثبت وجود الظاهرة، ويختلف في التسمية، وقد يكون تبديل الاسم هو الخيار البديل لدى البعض، وهذا عائد لأثر الرؤية الدينية في تلقي المصطلح، والتي تنزه الخالق العظيم عن الوصف البشري، ساعية إلى تنقية المصطلحات القرآنية مما يتعارض مع المفاهيم العقدية الراسخة، وإيجاد اتساق مفاهيمي، قيمي، عقدي.

وهناك سبب آخر للتنازع – بحسب عماد عبد اللطيف – يعود إلى تعدد الحقول المعرفية المشتغلة على الظواهر البلاغية، فكثير من هذه المصطلحات تكوّن، واكتمل في حقله المعرفي الخاص قبل انتقاله إلى البلاغة، وهذا ما أدى في النهاية إلى أن دلالة المصطلح تتحدد لصالح الوظيفة المتغيرة حسب العلوم، واشتغال المصطلح في حقول معرفية مختلفة، فالمفهوم ثابت لا جدال في ذلك، وإنما التعدد الاصطلاحي والدلالي متعدد بتعدد الانتماءات، والمرجعيات([ix]). وجدير بالذكر أن الباحث عماد عبد اللطيف يشير إلى أثر البيئة الجغرافية في صياغة مصطلح الالتفات، مستشهدا برأي الشيخ أمين الخولي، الذي أشار إلى استخدام الزمخشري (المشرقي) في تفسيره لسورة الفاتحة، ولكن صاحب كتاب "معالم الكتابة "ابن شيث القرشي" يفضل تسميته بالانصراف، وهذا عائد في رأي الشيخ الخولي إلى عدم اتصال البيئة المصرية بالمدرسة الشرقية الفلسفية في العراق والشام، فالبيئة المصرية بيئة أدبية فنية، وهو افتراض يرفضه عماد عبد اللطيف مؤكدا أن المصطلح اُستخدِم من قبل المشرقيين، والمصريين قبل ذلك بقرون، وهناك استبدالات أخرى للمصطلح، في بيئات جغرافية عديدة ([x]).

إن إشارة الشيخ أمين الخولي جاءت عرضا، وبشكل تعميمي، ولكنّها تفتح مجالا – على أصعدة أخرى – في قراءة الاختلافات بين البيئات الجغرافية في تكوين العلوم والمصطلحات من منظور ثقافي يراعي خصوصية كل بيئة ثقافيا، وكيف أن هذه الخصوصية تنعكس إيجابا على العلاقات البنيوية في العلم الواحد.

وعموما فإن القاعدة الاصطلاحية في العلوم تشير إلى أن المفهوم يولّد الحاجة إلى اللفظ/ المصطلح، وليس العكس، فالفعل التأسيسي للاصطلاح يسير في اتجاه واحد، ولكن البلاغة العربية في بعض نماذجها تقدم لنا طرحا معكوسا للقاعدة، يسير فعل التأسيس عكس اتجاه القاعدة لتصبح الحركة من المصطلح إلى المفهوم وهو ما أدى إلى خلخلة دلالاته([xi]). وهو ما ظهر من خلال تنازعات المصطلح في تطبيقات عديدة، مثلما فعل القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه، وكيف صاغ حكمه على ظاهرة بلاغية بصياغة فقهية، ما بين الجواز وعدم الجواز، وفصول بينهما دقيقة وغامضة، مغفلا في كل ذلك: أثر الالتفات في فاعلية الخطاب، وطرح سؤال لماذا على الشعر المستشهد به([xii]).

وتتمثل الإضافة العلمية في هذه الدراسة؛ في سعي الباحث إلى تقديم إجراءات مقترحة لضبط البنية الاصطلاحية في التراث البلاغي، عبر تحديد الحقول المعرفية التي اهتمت بالمصطلح واشتغلت عليه؛ ويحصرها في خمسة حقول: علوم القرآن، وشروح الشعر ونقده، وعلوم اللغة وفقهها، والبلاغة العامة، ومعاجم المصطلحات. حيث تبدأ عملية التوثيق في المصطلح، من خلال: التوثيق لكل ما كتب عنه في الحقل المعرفي، ثم التجريد المصطلحي بفحص مدقق لسائر النصوص المتعلقة بالالتفات، لاستخراج الوحدات المصطلحية وما يرتبط بها من معلومات. ثم التقييد الدلالي للمصطلح بالاستناد إلى الواقع الوجودي له، والمفهوم/ التمثيل الفكري المعبر عنه رمزيا، والمصطلح ذاته وهو وكل وحدة لغوية دالة مفردة أو مركبة([xiii]). وذلك ما تم تطبيقه في بقية الدراسة، بتحليل الخطاب البلاغي التراثي القديم، في تعامله مع أسلوب الالتفات، وتفحص أسباب التنازع في الاسم والمسمى، بهدف تقديم نواة لعمل سياقي تاريخي للبلاغة العربية ([xiv]).

وجاء التطبيق في ميادين عدة، تتصل بدور الالتفات واستخدامه، وهو ما يسمى بالوظيفة البلاغية، أي إنتاج الجمالية في النص، وقد تنازع البلاغيون الالتفات في علوم البلاغة، فقد نظر لعلم البديع إليه بصفته وظيفة جمالية عامة وهي تحسين الكلام وتطريته، أما علم المعاني فيُقصر وظيفته على دوره في إنتاج المعنى في سياقه النصي، بهدف مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وهي وظيفة جمالية خاصة . وقد نبه الباحث لهشاشة هذا التنازع، مؤكدا أن الوظائف لا تعرف الثبات، لأنها خاضعة للوعي البلاغي الذي يدرسها وقدرته على اكتشاف وظائف متنوعة، ومتباينة للظاهرة الواحدة ([xv]). متوصلا لمفهوم خاص بالوعي البلاغي، وعلاقته بالوظيفية الجمالية في التراث العربي، مطبقا إياه على الالتفات الذي لابد من دراسته من خلال تاريخ العلاقة بين اللغوي والأدبي، وتاريخ العلاقة بين الوظائف الجمالية العامة والوظائف الجمالية الخاصة ([xvi]).

وفي سبيل ذلك، قرأ الباحث حضور الالتفات في التراث البلاغي من خلال التفرقة بين النصوص التي جاء فيها، حيث رأى أن هناك نصين تشكّلا حول أسلوب الالتفات وهما: النص الشارح، النص التنظيري. فالنص الأول يتضمن المواد الشارحة والمفسرة والمعربة لنصوص شعرية ونثرية لها قيمتها المستقرة بلاغيا ويكون الالتفات فيه عرضيا مركزه سؤال العلة (سبب الوجود) ويحكمه مبدأ الجبر، أما النص الثاني فهو نص تنظيري تصنيفي، ناتج عن خطة مسبقة في عقل البلاغي مركزه القول ويحكمه مبدأ الاختيار ([xvii]). وهو تصنيف مهم في منظور تحليل الخطاب، فشتان بين وعيين: وعي العالم الشارح، ووعي المنظّر المقعّد، فالأول مجبر على التعامل مع الالتفات في النص الذي يناقشه، والثاني غير مجبر، ولكنه يرصد الظاهرة ويؤطرها، ضمن ما يسمى بالتفكير المفهومي، الذي يقرؤها في أبعادها.

لقد قدمت هذه الدراسة ريادة في مجال البحث البلاغي في منظور تحليل الخطاب، عبر اشتباك الباحث مع سائر النصوص التي عنيت بالالتفات أسلوبا ومفاهيم، راصدا أن عدم اتساق مفاهيم البلاغة بنيويا، فليس بلاغة واحدة وإنما بلاغات متنوعة، بها علاقات تداخل وحوار، وصراع واختلاف. وعلى دارس الخطاب الوعي بذلك، بعدم التسليم بأحادية المفهوم أو الوظيفة. وكانت النقطة الأهم – من وجهة نظرنا – هي التنبيه على البعد الثقافي في الخطاب البلاغي، فالبلاغة العربية جزء داخل خطاب كلي، يختص بالخطاب الثقافي لعصورها المتتابعة، وعلى الباحث في التراث البلاغي الوعي باختلاف الخطابات الثقافية في كل عصر وسياقاته الخاصة، وعدم إسقاط الحاضر على الماضي، أو اتهامه بإغفال أمور حاضرة في ذهن الباحث (القناعات المسبقة) ([xviii]).

وقد شكّل الخطاب الديني – بوصفه الأساس في تشكل المفاهيم البلاغية – عاملا في التضخم الاصطلاحي للالتفات، وهذا عائد لكون الالتفات من الخصائص المائزة في النص القرآني، بينما انعدم تأثير الخطاب البلاغي الأرسطي في تكوين هذه الظاهرة ([xix]) .

وفي النهاية، انحصر النقاش في إطار دائرية المعرفة الإسلامية العربية، ومن ثم تكون المحصلة في المجمل النظر إلى التعدد المفهومي والاصطلاحي لأسلوب الالتفات دال على حيوية التداخل المعرفي في علوم البلاغة القديمة، ليدفع الباحثين المعاصرين إلى بحث إمكانية تكوين قاموس بلاغي مكتمل، خال من التنازعات المعرفية، يرسّخ المتفق عليه بين علماء البلاغة حول المفاهيم والمصطلحات المستقرة، متعاطيا بالإيجاب مع أوجه الاختلاف في التطبيق ما بين القرآن، والشعر، والمعجم، والنحو، والتعاطي الإيجابي يعني تصنيف جديد للنصوص والخطابات الشارحة والمفسرة والمؤطرة للمصطلح .

وربما كانت الدراسة السابقة سببا في إنتاج دراسة لاحقة عليها، فقد ناقش عماد عبد اللطيف في الدراسة السابقة الموروث البلاغي في منظور مناهج تحليل الخطاب المعاصرة، وأدرك من خلال دراسته الآنفة أن ثمة إشكاليات في التراث البلاغي، وأن أنماط البلاغة المنتجة في التراث العربي، لا تزال تقدّم لدارسي العربية بوصفها وعاء واحدا، لا غنى عنه لأي متعلم للعربية، وهي البلاغة التقليدية، التي يرى أنها منفصلة بشكل أو بآخر عن الواقع المعيش للخطاب البلاغي الجديد في حياة الناس اليومية وفي منتجي الخطاب الجديد. كما في بحثه "بلاغة المخاطب: البلاغة الغربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته" ([xx]) وهو مشروع تنظيري، يؤكد من خلاله سعيه إلى تطوير الدراسات البلاغية العربية المعاصرة، عبر اقتراح تصنيف جديد لها. وتنطلق الإضافة العلمية في هذا المجال عبر قراءة واقع البلاغة العربية المقدمة للمتلقي العربي من خلال دراسة المعطيات اللغوية للخطاب المقدم، والسياقات والأنظمة المصاحبة له مثل الأنظمة السيميوطيقية (الصورة، الحركة، الإشارات، الموسيقى)، فهي خطابات بلاغية وبراغماتية في آن واحد، حيث تنزع إلى توصيل رسائل إخبارية وإقناعية، محملة بجماليات ومؤثرات، ويربطه بما يسميه "ظواهر بلاغية "، وهي: ظواهر لغوية (الأصوات، المفردات، التراكيب، المجازات)، ظواهر فوق لغوية (وسائل السرد والإقناع)، ظواهر سياقية (الزمان، المكان، الحدث، طبيعة المشاركين ووسائط الاتصال)، ظواهر سيميوطيقية غير لغوية (الموسيقى، الصوت، الحركة، الإشارات الجسمية)([xxi]).

ويشدد عماد عبد اللطيف على أهمية النظر إلى الخطاب اللغوي السائد في مجتمع يقدس الكلمة، ويربطها بالخطاب القرآني في لغة كلاسيكية، ويستخدم لغة أخرى (فصيحة أو عامية) في خطابات عديدة يبثها أو يستقبلها، فهو يعيش في ازدواجية لغوية، مع الأخذ في الحسبان ضيق هامش الحريات والقضايا التي يحق الخوض فيها علانية، وهناك أيضا ظواهر بلاغية مستجدة تتمثل في خطب الدعاة الجدد، والمناظرات والمحاورات التلفزيونية، وخطابات وسائل التواصل الاجتماعي وفن الكاريكاتير .. وكلها عظيمة التأثير([xxii]).

وفي سبيل تلك الرؤية، يقرأ باحثنا خطاب البلاغة العربية القديمة، مستحضرا مقولات عدد من العلماء المعاصرين، متوقفا عند آراء الشيخ أمين الخولي، فالبلاغة القديمة عند الأخير تأتي على دربين: المدرسة الكلامية المرتبطة بعلم الكلام وقواعد الجدل وهي تميل إلى الإقناع العقلي بالأدلة، والبراهين، والاستدلال، ويقل فيها جماليات القول. والمدرسة الأدبية وفيها يقل التقعيد وتزداد الشواهد الأدبية (شعر، ونثر، وحكمة) معتمدة على الذوق الأدبي وحاسة الجمال، والاهتمام بالتكوين الأدبي والتدريب على صناعة الكلام الجيد. وإن كان عماد عبد اللطيف يرى أن هذا تصنيف حدي، غير محدد القواعد والمفاهيم وإنما يميل للإطلاق([xxiii]).

لذا فهو يقترح تصنيفا جديدا للبلاغة العربية، على أسس ثلاثة: المادة المختصة بالدرس البلاغي، الموضوع المعالج، الوظيفة المرتجاة من البحث البلاغي . وبناء على ذلك، يرى إمكانية تقسيم المباحث البلاغية إلى ثلاثة أقسام: البلاغة القرآنية وتتصل بكل ما جاء في القرآن من جماليات وعلاقتها بالتفسير، والبلاغة الأدبية المختصة بالأشكال الأدبية وأساليبها، والبلاغة الإنشائية الحاضرة في الحياة اليومية والتي تستهدف الإقناع والتأثير، ولابد من النظر في جمالياتها وأدواتها([xxiv]). ومن ثم يتطرق إلى المؤسسات الأكاديمية والبلاغة المقدمة بها، فالأزهر يحتفي بالبلاغة الأدبية ويدرسها بأنها تاريخ علم. وتختص الجامعات المدنية بالبلاغة الوافدة، مثل علم الأسلوبيات، وتنظر إلى البلاغة القديمة بوصفها علما بائدا أو سابقا، يمكن أن يدرس ولكن لا يتم إحياؤه من جديد ([xxv]). وبالطبع هذا رأي تعميمي، فمعلوم أن البلاغة الأدبية كانت تدرس في الجامعات المدنية كما هو الحال في كليات دار العلوم، وأن الدراسات الأسلوبية وما قاربها حضرت في مناهجها منذ عقود قليلة، وفي المقابل فإن جامعة الأزهر شهدت تحديثا في الدراسات البلاغية، وتعاطت كثير من أقسامها بالإيجاب – مؤخرا – مع مناهج النقد الأسلوبي، والبنيوي.

ويتوقف الباحث عماد عبد اللطيف عند البلاغة الإنشائية، والمرتبطة في الأساس بكتاب مفتاح العلوم للسكاكي، ويرى أنه وضع أصولا، وقواعد بشكل مدرسي، تعين منشئ الكلام على تجويد خطابه وتزيينه، ومراعاة أحوال المتلقي، وكيفية التأثير عليه، وهو اتجاه يدعم سلطوية المتكلم، ويجعل المتلقي سلبيا، لأنها تتفنن في التأثير عليه، كما أن معايير الحكم على هذا اللون ترتبط بالمتكلم وتستبعد المخاطَب، لذا يقترح في هذا الصدد تطوير البلاغة الإنشائية، وإطلاق مصطلح "بلاغة المتكلم" عليها، ودراستها في ضوء أحوال المخاطبين، واستجاباتهم المتوقعة وطبيعة العلاقة بين المتكلم والمخاطب([xxvi]). وهو ما فصّله بأن الهدف من الاقتراح رفض سلطوية المتكلم، وإعادة الاعتبار لدور المخاطَب، والاحتفاء بالبلاغة اليومية: فصحى كانت أو عامية، وسائر الخطابات الموجهة للمتلقي في حياته، فيما يسمى "بلاغة المخاطَب" ومادته الخطابة الجماهيرية ودراسة الكيفية التي تصاغ بها هذه الخطابات لتحقيق الإقناع والتأثير على المتلقي ([xxvii]). مع ضرورة الاستفادة من حقول معرفية عديدة منها التحليل النقدي للخطاب، والعلاقة بين الخطاب، والسلطة، والبلاغة النقدية، وطبيعة الخطاب البلاغي السلطوي والبلاغة التحررية([xxviii]).

إنه مقترح مستمد من مدارس التلقي الحديثة، التي ترنو للقارئ/ المتلقي، وتعيد له الدور المفتقد في تكوين الرسالة، وصياغة بلاغتها. والباحث ساع في النظر المعتبر لبلاغة الخطابات المقدمة للمتلقي المعاصر، والاستفادة من المنجز البلاغي القديم والبناء عليه. وإن كنا نتحفظ على المصطلح ذاته " بلاغة المتكلم "، لأنه يتقاطع مع منشئي الخطاب الآخرين سواء في البلاغة الأدبية في سائر الأشكال الإبداعية، وكذلك مع البلاغة القرآنية ذاتها بالنظر إلى التفاسير الجديدة التي سلطت الضوء على مباحث قرآنية لم تأخذ حقها عند القدماء، على نحو ما نجد في كتاب "التصوير الفني في القرآن الكريم" للشهيد سيد قطب، والدراسات الأكاديمية المعاصرة على القرآن، من الجانب الأسلوبي، والتي قرأت البلاغة القرآنية بمنهجية حديثة، احتوت جهود القدامى، وأضافت لها، خاصة عندما تعاملت مع النص القرآني من رؤية كلية وليست نظرات جزئية (مثل أبحاث بنية الترادف، التوكيد، الاستفهام في القرآن ...). أيضا، لا نريد فصل "بلاغة المتكلم" عن الإبداعات الأدبية المعاصرة وبلاغتها على نحو ما نجد في الأغاني، والمسرحيات، والقصص، والمقالات، وكلها تمتاح من البلاغة القديمة، وتقدم أنماطا جديدة وجماليات مضافة. لذا، نفضل أن يكون المصطلح المستخدم هنا "البلاغة الجماهيرية" بديلا عن "بلاغة المتكلم"، فهو محدد، ومؤطر، ومرتبط بكل ما يقدم إلى الجماهير، وأيضا ينفتح على كل ما ينتج الجمهور من إبداعات.

وهناك إضافة عملية يقدمها الباحث في هذه الدراسة، تتصل بنقاط/ توصيات ثمانية ساقها الباحث من أجل توعية المخاطب/ المستقبل بأنماط الخطاب السلطوي، وكيفية تحرره منه، وإدراك أغراض المنشئ، وعدم السقوط في تضليله، وتطوير قدراته في إنتاج خطابات بلاغية أخرى موازية، ومقابلة للخطاب السلطوي ([xxix]).

كما يقترح وجود حقل أكاديمي يعنى بدراسة الخطابات الجماهيرية، خاصة غير السلطوية، على صعيد أغراضها، ودوافعها، وأشكالها، وبلاغتها، والعلاقة بين الخطاب غير السلطوي، وخطاب السلطة، وأنواع منتج الخطاب (مثقف، مؤدلج، بسيط)، أو الخطاب ذاته نصي، فعلي)، والنظر إلى طبيعة الاستجابة للجماهير (لفظية/ غير لفظية، مباشرة / غير مباشرة، خطابية/ غير خطابية)، وطبيعة العلاقة بين المتكلم وبين المخاطَبين (حاكم، داعية، مسؤول)([xxx]) .

إنها دراسة فيها كم كبير من الخيال العلمي، والانفتاح على نظريات ما بعد الحداثة المتحررة من هيمنة السلطوية، والدوائر الثقافية المرتبطة بها، وما أنتجته من خطابات موجهة للجماهير، وهو طرح مهم للغاية للعقل العربي المعاصر، الذي انبطح كثيرا تحت خطاب رموز السلطة، والمثقفين الدائرين في فلكها.

 

mostafa_ateia123@yahoo.com

 

[i] ) تحليل الخطاب البلاغي: دراسة في تشكل المفاهيم والوظائف، دار كنوز المعرفة العلمية، القاهرة، ط1، 2014م، ص39

[ii] ) السابق، ص10

[iii] ) تحليل الخطاب، ج. ب .براون، ج. يول، ترجمة وتعليق: د. محمد لطفي الزليطني، د.منير التريكي، وحدة النشر العلمي بجامعة الملك سعود، الرياض، 1997م، من مقدمة المترجمَينِ، ص: هـ، و.

[iv] ) المرجع السابق، ص: ك، مقدمة مؤلفي الكتاب .

[v] ) السابق، ص36

[vi] ) السابق، ص47

[vii] ) تحليل الخطاب البلاغي، ص18، 19

[viii] ) السابق، ص19 – 25

[ix] ) السابق، ص25-27

[x] ) السابق، ص42، 43

[xi] ) السابق، ص40، 41

[xii] ) السابق، ص169-171

[xiii] ) السابق، ص44، 45

[xiv] ) السابق، ص279

[xv] ) السابق، ص92-94

[xvi] ) السابق، ص97

[xvii] ) السابق، ص239، 246

[xviii] ) السابق، ص281، 282

[xix] ) السابق، ص282، 283

[xx] ) بلاغة المخاطب: البلاغة الغربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته، بحث منشور ضمن أعمال مؤتمر " Power and The role of the Intellectual " قسم اللغة الإنجليزية، بكلية الآداب، جامعة القاهرة، نوفمبر 2005، منشورات: 2006 م .

[xxi] ) السابق، ص19

[xxii] ) السابق، ص8

[xxiii] ) السابق، ص9

[xxiv] ) السابق، ص10

[xxv] ) السابق، ص11

[xxvi] ) السابق، ص13، 14

[xxvii] ) السابق، ص16

[xxviii] ) السابق، ص20

[xxix] ) السابق، ص22

[xxx] ) السابق، ص23