في مقالتها الدالة تتناول الباحثة السورية تسلط الضوء على تجارب النساء السوريات، مشيرة إلى أهمية تضمين التحليل "النسوي التقاطعي" عند دراسة أو توثيق تجارب النساء، الأمر الذي مازال غائباً حتى الآن عن معظم الدراسات التي غطت الشأن السوري والنساء اللاجئات.

النسوية التقاطعية وكيف يمكن تطبيقها على الوضع السوري

كاتي الحايـك

 

يعود الفهم النسوي المعاصر لمصطلح "التقاطعية" لسنة 1989 عندما صاغت المناضلة الأمريكية والعالمة الرائدة في مجال نظرية العرق النقدية "كيمبرلي ويليامز كرينشو" هذا المصطلح لوصف وتحليل تجارب الاضطهاد والتمييز الفريدة والمتنوعة التي تتعرض لها النساء السود في أمريكا. كان مفهوم "التقاطعية" و"النسوية التقاطعية" رداً على "النسوية البيضاء" التي كانت مُهيمنة على الفكر الغربي الأمريكي والتي تُركز فقط على تجارب النساء البيض من الطبقة المتوسطة متجاهلةً تجارب النساء من باقي الأعراق والخلفيات والطبقات الاجتماعية. من هنا فإن مصطلح "النسوية التقاطعية" يُشير إلى كيف تُؤثر نُظم القمع والاضطهاد المنهجية على تجارب النساء المتنوعة وفقاً لتقاطع عوامل مختلفة كالجندر والعرق والطبقة الاجتماعية والدين والأصل الوطني والإعاقة والمستوى التعليمي والتوجه الجنسي. فمثلاً تجارب النساء السوريات وفقاً لهذا المفهوم ليست متساوية لأنه لا يكفي للإنسان أن يكون امرأة لكي يتشارك نفس التجربة الحياتية مع باقي النساء بشكل متماثل.

لفهم تنوع وتعقيد تجارب النساء السوريات في هذه اللحظة التاريخية، يجب علينا أن نفهم كيف تترابط وتتقاطع عوامل مختلفة من اللامساواة والتهميش لتُشكل ليس هويتهن الوجودية فحسب بل والعقبات اليومية المادية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية التي تُعيق حياتهن وسبل تحقيق طموحاتهن وقدراتهن في الحياة. إذا أردنا مثلاً أن نُناقش موضوع اللاجئات السوريات من وجهة نظر"النسوية التقاطعية" فعلينا التفكير بكل العوامل التي تجعل تجربتهن مختلفة دون أن نهمل بالطبع أثر الجندر (كون الإنسان امرأة) في جعل بعض الجوانب متشابهة. فتجربة المرأة السورية اللاجئة الأرملة غير المتعلمة برفقة خمسة أطفال في الأردن أو لبنان والصعوبات التي تواجهها لا تتشابه إلا بشكل طفيف مع تجربة امرأة سورية لاجئة في نفس الدولة لكن لديها امتيازات كمستوى تعليم عال وخبرات عمل وعلاقات اجتماعية تجعل تجربتها أقل قسوة وحياتها أكثر أماناً.

يُؤكد مشروع "النسوية التقاطعية" فكرة أساسية مفادها أنّ اضطهاد النساء لاينشأ من فراغ وإنما تبعاً لعوامل (كالعرق والطبقة الاجتماعية والدين والأصل الوطني والإعاقة والمستوى التعليمي والتوجه الجنسي) التي تجتمع لتُشكل تجربة اضطهاد فريدة لكل امرأة وفقاً لما تحتله من مواقع تهميش أو امتياز. وهذا الفهم ضروري للمنظمات والوسائل الإعلامية النسوية عند تصميم برامج أو مشاريع تستهدف النساء؛ فاحتياجات وتطلعات النساء ليست واحدة لذا فعلى هذه المنظمات والوسائل أن تضع الاحتياجات الحقيقية للنساء المهمشات في عمق أجندتها وعملها. رغم أنّ غالبية المنظمات والوسائل الإعلامية النسوية السورية لا تُعرّف عن نفسها بأنها تتبع فلسفة "النسوية التقاطعية،" إلا أن الكثير من برامجها الإعلامية مؤخراً تُطبق عملياً هذه الفلسفة من خلال تسليط الضوء على قصص النساء المهمشات وتوفير منصة للنساء لرواية قصصهن والإضاءة على العوامل التي تجعل كل تجربة مميزة وفريدة عن الأخرى. يُمكن أن يُعزى السبب لانتشار هذا النوع من البرامج إلى عاملين: أولاً، رغبة الناشطات والإعلاميات السوريات بتغيير الصور الإعلامية السائدة عن النساء واللاجئات السوريات وإدراكهنّ للحاجة لعكس الواقع "التقاطعي" المعقد. ثانياً، تبني المنظمات الدولية الممولة للمؤسسات السورية مفهوم "التقاطعية" في عملها وفي المشاريع التي تدعهما وإن كان هناك الكثير من النقد لهذا التبني كرطانة لغوية أكثر من فهم حقيقي لفلسفة "التقاطعية."

حالياً هناك عدة منابر إعلامية سورية يمكن أن نصفها بأنها تُقدم منظوراً "تقاطعياً" لما تمر به النساء واللاجئات السوريات وإن كانت معظم هذه المنابر مقتصرة على تقديم تجارب النساء "المعارضات" أو ضحايا النظام السوري. من هذه المنابر الإعلامية: مدونة المرأة في موقع (حكايات سورية) التابع لمعهد صحافة الحرب والسلام والذي يُوفر منصة للنساء السوريات في الداخل أو الخارج خاصة اللواتي لا يتمتعن بأي خبرة سابقة في الكتابة الاحترافية لمشاركة تجاربهنّ الحياتية. وهناك أيضاً مدونة النساء الآن التابعة لمنظمة "النساء الآن من أجل التنمية" والتي كانت نتاج برنامج "تدريب الصحافة" سنة 2017 لتمكين نساء سوريات على كتابة تجاربهن وواقعهن في ظل الحرب بطريقة مهنية. ومن التجارب التعاونية الهامة في مجال نقل صورة تقاطعية عن تجارب النساء السوريات برنامج "جدايل" على راديو سوريالي والذي يُنتج بالتعاون مع مدونة المرأة وشبكة الصحفيات السوريات. يُعرّف القائمون على البرنامج مشروعهم بأنه ليس "برنامجاً عن حقوق المرأة" وإنما "محاولة إذاعيّة جديدة لنقل قصص نساء سوريّات بالداخل من الفضاء المكتوب للمسموع." شعار البرنامج "جدايل، وبكل جديلة حكاية بنت سوريّة!" ولا يهدف البرنامج لنقل قصص النساء السوريات فقط وإنما لعكس كيف ترتبط هذه القصص بقضايا الظلم والقهر التي يُعاني منها المجتمع السوري على النطاق الواسع.

يُضاف إلى هذه المنابر الإعلامية شبكة "الصحفيات السوريات" والتي تهدف لبناء جسور بين الإعلام و الحراك النسوي السوري بهدف تحسين صورة النساء في وسائل الإعلام. في حوار مع ميليا عيدموني المديرة الإقليمية وإحدى المؤسسات لشبكة الصحفيات السوريات، أكدت أن المدونات النسائية التابعة لمعهد صحافة الحرب والسلام ومنظمة "النساء الآن من أجل التنمية" ومشروع "جدايل" ساهمن بزيادة الوعي عن معاناة النساء وبمقاربة تجاربهن بشكل "نسوي تقاطعي." وتُشيرعيدموني أيضاً لكتابين في هذا السياق: كتاب "أمهات سوريات" الصادر عن "الرابطة السورية للمواطنة" والذي يتضمن شهادات توثق معاناة الأمهات السوريات أثناء الحرب الدائرة، وكتاب "نساء تحت النار-قصص بأقلام نساء سوريات" الذي يُوثق أكثر من ثلاثين قصة لتجارب نساء السوريات معارضات ما بين 2010 و2015. تؤكد عيدموني أنه رغم تزايد المساحات التعبيرية التي تنقل الواقع "التقاطعي" المعقد للنساء السوريات إلا أنّه ماتزال هناك تحديات تعيق العمل النسوي السوري. فهناك اختلافات بين أولويات المنظمات النسوية السورية وتهميش واسع لقضايا النساء اللواتي يُعانين من إعاقة خاصةً أن الإعاقات الناتجة عن الحرب كثيرة. وتُشدد عيدموني على فداحة غياب أصوات النسويات السوريات ذوي الإعاقة من الإعلام السوري النسوي والعام، كما تُشير إلى غياب عامل "تقاطعي" آخر عن العمل النسوي السوري وهو قضية المثلية الجنسية حيث يندر التطرق لهذا الموضوع والتضامن مع النساء المتحولات جنسياً على سبيل المثال. ومايزيد من مرارة واقع تهميش بعض التجارب النسائية هو الحملات الإعلامية الذكورية لبعض السوريين من "كارهي النسويات" الذين يستخفون بمعظم القضايا النسوية السورية ويحاولون تشويه وتجاهل الواقع "التقاطعي" لهويات وتجارب النساء.

أنتجت "شبكة الصحفيات السوريات" حديثاً مشروع "حكواتيات" وهو مشروع إذاعي يوثق التاريخ الشفوي لسبعة نساء سوريات. الحلقة الأولى "من القلب إلى القلب" تحكي قصة المناضلة السلمية دانيا الحاصلة على دكتوراة بالشرق القديم والتي اعتقلت مرتين على يد النظام السوري لكن خبرتها وإيمانها بالتواصل اللا عنفي يضيء على الوجه الإنساني لديناميكية العلاقة مابين السجان والسجين. الحلقة الثانية "قالت لي العصفورة" تُقدم قصة هند وهي امرأة أربعينية ومدرسة لغة إنكليزية في درعا. هند حالياً لاجئة في ألمانيا بعد أن اعتقلت عدة مرات في سوريا. أثناء اعتقالها كانت قد طورت وسيلة لمساعدة المعتقلين، حيث قامت بالاستماع لجلسات التحقيق وحفظ أسماء ومعلومات المعتقلين ومن ثم خياطتها على ملابسها وملابس باقي المعتقلات معها في الزنزانة لإيصالها لأهالي المعتقلين عند الإفراح عن إحداهن. الحلقة الثالثة "جيل الحرية" تروي حكاية نعمى (٢٤ سنة) ناشطة إعلامية كان قد اعتقلت مع أخوتها في فرع المخابرات الجوية بحمص ومن ثم في فرع الحيفاء بالشام. تسلط قصة نعمى الضوء على الضغوط الاجتماعية التي تعاني منها المعتقلات السابقات من أسئلة وشكوك حول مواضيع الاغتصاب والعذرية والمثلية. الحلقة الرابعة "روح لا تدري بها البشر" تُركز على قصة ليلى وهي امرأة ريفية عانت من الاغتصاب عندما كانت طفلة ذات سبع سنوات وكيف رافقتها الآثار النفسية والاجتماعية لهذه التجربة المريعة باقي سنوات حياتها. الحلقة الخامسة "الحقيقة هي ما نجده أثناء بحثنا عن شيء آخر" تُسلط الضوء على تجربة لارا زوجة وأم لطفلة عانت من صعوبات للحصول على الطلاق والحضانة في إطار الوضع العام من ازدياد حالات الخطف والاختفاء القسري. الحلقة السادسة "نور بعد الظلام" تحكي قصة نور سيدة سورية وأم لأربعة أطفال. عانت من كونها زوجة ثانية لرجل احتاز على دخلها من عملها في مشاريع خياطة ليصرف على زوجته الأولى وعنفها عندما لم تنصاع لأوامره. خاضت نور مشواراً طويلاً في ظل الحرب والجوع وتعرضت لإصابة في الفخذ الأيسر لكنها استطاعت الوصول إلى لبنان مع أطفالها والحصول على الطلاق ومن ثم العمل في الخياطة عن طريق جمعية كفى اللبنانية. الحلقة السابعة "بنات الفزعة" تنقل مساهمات النساء في المظاهرات السلمية في حلب من خلال قصة ريم، وهي طالبة ماجستير لغة عربية انضمت إلى تنسيقية جامعة حلب مما عرضها للاعتقال التي لاتناسب ظروفه الحاجيات الطبية لمرضى السكري كحالتها. بعد الإفراج عنها سنة 2014 غادرت إلى تركيا ومن ثم انتقلت لفرنسا.

تعكس التجارب السابقة مدى الاختلافات بين تجارب النساء السوريات وأهمية تضمين التحليل "النسوي التقاطعي" عند دراسة أو توثيق تجارب النساء الأمر الذي مازال غائباً عن معظم الدراسات وخاصةً الغربية منها التي غطت الشأن السوري والنساء اللاجئات خلال السنوات الستة الماضية. كما تؤكد "النسوية التقاطعية" على ضرورة تطوير برامج تستجيب لاحتياجات النساء الواقعية بدلاً من فرض برامج جاهزة فوقية تُعامل النساء ككتلة بشرية متجانسة ذات تجربة واحدة لا تمايزات أو اختلافات بينها وفقاً لتقاطع عوامل مختلفة كالجندر والعرق والطبقة الاجتماعية والدين والأصل الوطني والإعاقة والمستوى التعليمي والتوجه الجنسي. وأخيراً ما ينقص المشاريع النسوية الحالية التي تقارب وضع النساء السوريات وفقاً لتحليل تقاطعي هو مشروع شامل يتضمن النساء السوريات في الداخل والخارج من توجهات سياسية مختلفة بما فيهن النساء اللواتي التزمن الحياد السياسي وكيف ساهمت هوياتهن المتقاطعة في مواقفهن وتجاربهن الحياتية.

 

(عن جدلية)