يكتب القاص العراقي المرموق هنا تجربة القتل الدامية الأولى في حرب كان يقتل فيها الجندي شقيقه في الوطن. سواء عن قناعة فكرية أو عن قسر السلطة والتجنيد. ولأنها اللحظة التي تسود الآن في عالم عربي تعصف به أمواج تدمير الذات، يردنا إليها محرر (الكلمة) كي نتأملها عن كثب.

إنها الحرب

سلام إبراهيم

 

في قعر ليل الجبل الموحش أنحدر المقاتلون الستة بخطى واهنة متعثرة على ممرٍ ملتوٍ ينزل صوب نقاط ضوء متناثرة في أسفل الوادي العميق بدت كحفرٍ ثقبت جدار الظلام. الصمت لا شيء غير الصمت. إنهم ينصتون بشرود لوقع خطاهم الثقيلة وطقطقة احتكاك البندقية بصف الرصاص، لغناء طائرٍ حزين، لخرير نبع رتيب، لضجيج أرواحهم المنكسرة. تداخلت ظلال الأجساد المنهكة في الضوء الشحيح المتسرب من كوى بيوت الطين الغارقة بالعتمة، ثم تلاشت الظلال بالأجساد والظلمة وضجيج الروح ومداخل الأزقة المبعثرة. انتصف الليل قبل حين فأنام الحيوات التي همدت مستغرقةً بمجاهل الأحلام. يمموا شطر جامع القرية المنزوي في ركنها القصي، بائدي القوى، فبخلاف العمليات السابقة عادوا هذه المرة بعيونٍ مطفئةٍ وبأرواحٍ من رماد. تحاشوا الخوض في التفاصيل كما يحدث عادة حيث يشرعون حال وصولهم بالإفاضة وتصوير أدق الأشياء من لحظة الانطلاق وحتى العودة. اكتفوا بالتحية وعناق المقاتلين المنتظرين واحداً.. واحداً عناقاً حنوناً طويلا دون ضجة. أنفرد متسللاً إلى زاوية الجامع. خلد إلى فراش منعزل مبتعداً عن الفانوس الذي يبعث ضوءاً شحيحاً حيث تحلق الآخرون حول العائدين. أرخى رأسه إلى الجدار. مددّ ساقيه المتعبتين وأنغمر في الظل يدخن. كان يدرك أن الحديث لابد أن يتركز حول العملية فهم لم يتبادلوا كلمة واحدة في طريق انسحابهم الطويل، وعندما حاول أحدهم تبديد الصمت قائلا:

ـ ليس ذنبنا!.

ولم يرد عليه أحدٌ كف ولم يعد الكرة. فهنالك الكثير من الأشياء لا تحتاج إلى كلام.. كان الصمت معادلاً لإحساسهم بالمرارة. أنصت إلى سيل الأسئلة المنهالة:

ـ ماذا جرى؟.. حدثونا؟!.

والمقاتلون المنهكون يلوذون بصمتهم. أطفأ سيجارته مستذكراً كيف تسللوا قبل انبلاج الفجر بقليل متوغلين بين شبكة من الربايا. كُلِفَ اثنان بمشاغلة الكمين المرابط على التل أسفل الربيئة والذي يوفر الحماية لخمسة جنود ينزلون مع بغل إلى نبع الماء. كمن الآخرون في أماكن تسيطر على الطريق. رقد مختفياً بين صخرة كبيرة وشجرة "هفرست" كثيفة الفروع تحجبهُ عن المسلك الضيق الممتد مع حافة المنحدر الحاد المؤدي إلى فسحة النبع ومقر الفوج الكائن أسفل السفح. اتكأ على جدار صخرة رامقاً حافات الضياء الأولى زاحفة من جهة الشرق. خف وهج النجوم وظلت نجمة الصبح متلألئة ووحيدة تسكن عناق العتمة والضوء. كان مرتابا تتنازعه مشاعر متناقضة نشوة مصحوبة بقلق .. بهجة واضطرب.

ـ سأضرب.. سأضرب من أذاقني الذل.. سأنفِّس عن حقدي المكبوت منذ سنين .. ما أسعد اللحظة القادمة .. و.. لكن.. ماذا لو كان أخي الصغير الذي سيق جندياً قبل عدة اشهر ينزل مع الجنود الخمسة إلى النبع؟!.. أفترض ذلك.. أفترض أنك ستراه.. ماذا سيكون موقفك؟!.

أنتفض جسده بعنف، ثم استرخى لدقائق بائد القوى، انتفض ثانية متقلصا بتشنج مردداً بخفوت:

ـ لا.. لا.. مستحيل!.

بزغت الشمس من خلف القمة المقابلة وسكبت أشعتها الحارة على مكامنهم شبه العارية. سمع طنيناً بعيداً. أنصت برهافة .. أقترب الضجيج، همس مقاتل قريب:

ـ طيران .. لا تأتِ بحركة .. أختف جيداً!.

أرتعش ودَوَّر حدقتيه ينقبُ بعينين فزعتين ثاقبتين عن مصدر الصوت. ومن بعيد بانت ثلاث كتل بحجم الطير لاحقها. أخذت تكبر وتكبر مقتربة وكأنها تقصد مكان اختبائهم. الأزيز ضج الفضاء وقلبه الراكض. سكن بملاذه جامداً والطائرات المروحية حامت فوقهم تنخفض تارة وترتفع تارة أخرى. دارت عدة دورات ثم كرت راجعة من حيث أتت.

استرخى مُمدداً ساقيه المتشنجتين شاعراً بالجوع. تلمس جيب سرواله العريض باحثا عن رغيف خبز يابس حملهُ من أخر قرية مرَّ بها. وجده متكسراً. اخرج قطعتين ورمى بواحدة إلى رفيقه القريب قائلا:

ـ لقد تأخروا!.

ـ قليلا من الصبر.

ارتفعت شمس آب في السماء باعثةً قيضها المدوخ إلى رأسه. انحنى متكوراً وحاول النفاذ تحت فروع شجرة "الهفرست" وخزته أشواكها في رأسه وجنبه، فأرتد إلى جدار الصخرة الحار هامساً لنفسه:

ـ متى يأتون.. متى؟!.

نشّفَ بكم قميصه حبيبات العرق المتصببة بغزارة من مسام وجهه المحتقن ورمى بصره صوب المسلك الصاعد. لم يظهر أحدٌ. نفخ زفيراً مسموعاً. كان سكون المسلك وخلّوه والترقب المتوتر ودقائق الانتظار الموجعة تأخذ بروحه إلى فضاء موحش قاتم يشعره بالاختناق. اعتدل في جلسته واستنفرتْ كل حواسه مصغيةً إلى أصوات غير مفهومة صدرت من جهة الربيئة. ارتج قلبه وتحسس بندقيته بيديه المرتعشتين:

ـ سَتَقْتُلْ الآن .. ستقتل!.

أكنت تعتقد في يومٍ ما بأنك سوف تقتُل إنساناً .. أنت الفائح طيبةً ومحبة، التائق إلى صحبة الناس. كنت ترتاد المقاهي كل يوم ولا تكفيك وجوه أبناء مدينتكَ الصغيرة، فتنسل عند انتصاف الليل إلى محطة القطار تتأمل وجوه المسافرين عبر نوافذ عرباته المضيئة .. راغباً في صداقة الكل..

وضحت الأصوات، تخشبت أصابعه شبه ميتة على الحديد الحار:

ـ مالكَ.. كنْ هادئ الأعصاب.. هذه تجربتك الأولى وإلا ستربك الرفاق وقد تؤدي إلى حتفهم.

نفض يديه. قلص أصابعه ومدها. أسند بندقيته إلى ما تحت رمانة كتفه اليمنى. صوّبَ إلى الثنية التي سيظهر منها الجنود. انزل البندقية متذكراً:

ـ لا تطلق .. فأنتَ في مدخل الكمين العلوي. دعهم يمرّونَ حتى يصبحوا في وسطه تماما. لا تنس صوب بدقة دون ارتباك. بسرعة سنضرب ونستولي على أسلحتهم وننسحب فأي تاخير سيضعنا في موقف حرج.

ظهر من حافة الثنية جسدان ينحدران على المسلك النازل، يتحاوران بصوت مسموع. اشرأب بعنقه من خلف اشتباك الأغصان مطيلا بصره إلى ما خلفهما وهو يحاول رصد الثلاثة الآخرين والبغل. لم يستبِن أحداً. أصغى إلى الحوار الذي صار مفهوماً:

ـ توكل على الله.

ـ ماذا تقول لو أمسكوا بنا في نقاط التفتيش.

ـ نتوسل، فليس كل البشر أشراراً، علهم يتركونا نقضي العيد مع أطفالنا!.

ـ والله حيرة .. ألا تعرف أنهم لا يضعون في نقاط التفتيش إلا من كان بلا ضمير!.

ـ توكل على الله!.

تيبس وجهه وعصف بكيانه فراغ دوار ينوح بصدى صفير معدني يقشط الروح جعل يديه تضطربان وأصابعه تتراخى حتى كادت البندقية تهوي. أمتلك زمام نفسه بعناء، وقاس المسافة المتبقية حتى يدخلان دائرة الكمين:

ـ عشرون متراً.. إنها تكفي يا رب الحرب.. إنها تكفي.

والتفت إلى آمر المفرزة القريب:

ـ أسمعتَ؟!.

ـ نعم.

ـ لنحاول أسرهما!.

ـ قد يبدر منهما رد فعلٍ معاكس!.

ـ لنتركهما!.

ـ لم يجرِ الاتفاق على ذلك!.

ـ إذن.. لنحاول.

ـ حسن.

قالها وشرع يزقزق كعصفور زقزقتين طويلتين تفصل بينهما فاصلة قصيرة. توقف الجنديان وأجالا بصريهما بريبة. كان الهدوء تاماً. تحركا ببطء. بانت ملامحهما بوضوح مطلية بلون الشمس الذهبي. وجهان أسمران ناهزا الأربعين وخطَّ الشيب فوديهما. كانا ينحدران بمشقة من لم يرَ جبلاً في حياتهِ. اشتعلت أحشاؤه بنار ولا نار جهنم. همس مقاتل قريب:

ـ بعد أن يعبرا مكانك أظهر لهما من الخلف واطلب أن يلقيا السلاح.

قال أحد الجنديين:

ـ سنسلم بندقيتينا في مقر الفوج ونبكر غداً مع صياح الديك!.

أصبحا على مرمى خمسة أمتار. غاص قلبه إلى ما بين قدميه والوجهان الأسمران المتعبان المغضنان تجسما لعينيه أليفين، مسكينين قبل أن يغيبا خلف شجرة "الهفرست". انكبست نفسه فأحس بالهواء ثقيلا لزجاً. تقطعت أنفاسه وهو ينهض دائراً بساقين واهنتين من خلف الشجرة الكثيفة. غالب رعشة ألمت بجسده فأختض وهو يقفز إلى المسلك شاهراً سلاحه ومنادياً بصوت مضطرب .. مفكك الكلمات:

ـ ألـ.. قـ..يا.. سلا.. حـ.... كــ ما!.

استدارا بارتباك كلٍ إلى جهة رافعين بندقيتيهما. أزت الطلقات خادشة جلد إذنه. كان القريب يصوب نحوه بينما الآخر يطلق في الهواء بهستريا راكضاً على الأمام:

ـ لا.. لا..

وضغط على الزناد بإصبع متيبس. هوت البندقية من يدي القريب قبل أن يسقط رافساً بساقيه. ضجت الربايا المحيطة بالنيران وتساقطت قذائف الهاونات حولهم بكثافة. تقهقر الآخر عائداً بعد أن زخته المجموعة الأخرى بعدة صليات، فأصبح بمواجهته تماماً. صوب بقلبٍ دامٍ وسط ضجيج النيران وأطلق. انكفأ الجندي على ظهره لاطماً أعشاب الأرض وراح يتلوى متقلباً. كان العشب اليابس يهمس بحفيف للجسد المتقلص الذي تكور ضاماً أطرافه إلى صدره كالجنين قبل أن يسترخي هامداً وهو يشخر شخيراً مكبوتاً.

انقلب على بطنه. فرك قسماته بالسجادة فركاً. تقلب مراراً. أرتكز على كوعيه ناظراً بعينين ذاويتين، غائمتين إلى أجساد المقاتلين المبعثرة والغاطة في سباتها في قاع ضوء الفانوس الشديد الخفوت والتي راحت تدور .. وتتداخل وتطفو في الهواء المختنق ثم أخذت تتلاشى مثل كتلٍ جوفاء لينة في العتمة المبهمة لنوافذ وشقوق جدران وأعمدة وزوايا باحة الجامع. دفن وجهه بين يديه غير قادرٍ على نسيان صرخات الرعب المشوهة وجهي القتيلين والتي جمدته للحظة وهو يجردهما من بندقيتيهما.