يتناول الكاتب المصري سيرة الشاعر جلال الأبنودي، وأثره في الارتقاء بالأدب في محافظة البحر الأحمر بمصر، ودور نشأته الأزهرية في إثراء ثقافته وثقافة محيطه، فكان العالم الموسوعي في علوم العربية وآدابها. ويشدد على ضرورة تكريمه وجمع شتات شعره في ديوان بعدما عانى من الإجحاف في حياته وبعد مماته.

جلال الأبنودي .. أمير شعراء البحر الأحمر

أبوالحسـن الجمّال

 

ساهم الشاعر جلال الأبنودي في الارتقاء بالأدب وفنونه في محافظة البحر الأحمر بمصر، وربى جيلاً من الأدباء تولاهم بالرعاية حتى صاروا مشاعل للنور في الغردقة والمدن الأخرى، وذلك في كافة دروب الأدب من شعر ونثر وقصة ورواية ومقالة أدبية، وكان لنشأته الأزهرية وتخرجه في كلية اللغة العربية، دور في إثراء ثقافته، فكان العالم الموسوعي في علوم العربية وآدابها.

كان جلال الأبنودي بمقدوره أن يذهب إلى القاهرة عاصمة الأضواء، ولكنه آثر المكوث في البحر الأحمر، لأنه رأى أنه من الواجب نشر الأدب في هذه المنطقة المجدبة، فأخذ يعلم الناس فنون العربية، وينهض بهم متنقلاً بين المدن في القصير والغردقة، وأخيراً أدى الرسالة، وتخرج على يديه كل أعلام الأدب في هذا الإقليم. وقد كان -صاحب هذه السطور- أول من كتب عن حياته وشعره، وجمع هذه السيرة من أفواه أسرته ومحبيه(1).

ولد محمد محمود أحمد عبدالوهاب الشهير بـ(جلال الأبنودي) في قرية أبنود بمحافظة قنا عام 1925، في بيت كل أفراده يقرضون الشعر، بداية من الوالد الشيخ محمود الأبنودي الذي كان شاعراً مجيداً، حفظ القرآن الكريم وتلقى علومه الأولى في كتاب القرية عن الشيخ علي الكريتي، ثم أخذ عنه علوم الحديث والسيرة النبوية والتوحيد وعلمي التفسير والفقه، كما أكب على الاطلاع وخاصة في علوم النحو والفقه المالكي، وقد عين مدرسًا للغة العربية والدين الإسلامي بالمدرسة الإنجيلية بقنا، كما عمل مأذونًا شرعيًا لبندر قنا، وله: "ديوان محمود الأبنودي" -جمع ودراسة أحمد عبدالمجيد خليفة- (مكتبة الآداب، القاهرة 2001)، وله مطولة بعنوان: "منحة المنان في مدح سيد الأكوان" تقع في 371 بيتًا -في سيرة الرسول r- (دار العهد الجديد، القاهرة 1956)، وله أرجوزة في النحو على نمط ألفية ابن مالك تضمنها ديوانه .واقتصر شعره على الغرض الديني والتوجيه والإرشاد والتصوف، فمدح شيوخه ونظم في تحيتهم والتعريف بكرامتهم. وتحتشد لغته بمعاني التصوف ورموزه وصوره، وفيها إفادات من القرآن الكريم وتراث الشعر العربي ولا سيما في الغزل والمدح، يتسم شعره بمتانة وقوة السبك ودقة التعبير، هذا عن والده، أما والدته فاطمة قنديل التي كانت تحفظ الصور الشعرية الموروثة في الصعيد، وأيضاً أخوته.. كان هو أكبرهم، ثم تلاه إلى مملكة الشعر أخوه الشاعر عبدالرحمن الذي اشتهر من بينهم، وحقق مجداً في عالم الشعر ودنيا الأدب(2).

حفظ جلال الأبنودي القرآن وجوده، ثم التحق بالأزهر الشريف، وحصل على شهادته الثانوية، ثم التحق بكلية اللغة العربية، ويتخرج فيها سنة 1957، وتلقى العلم على المشاهير منهم: أحمد شفيع السيد، وعبدالمتعال الصعيدي، ومحمد عبدالمنعم خفاجي، وبعد تخرجه حصل على شهادة معهد التربية العالي، ثم عمل بعدها بالتدريس في مدرسة قنا الثانوية، ثم انتقل للعمل بالبحر الأحمر، وبالتحديد في مدينة القصير -التي تضرب بجذور طويلة في أعماق التاريخ- من1963وحتى عام 1969، وفي سنة 1970 أُعير لدولة الكويت حتى عام 1974، ثم عاد إلى البحر الأحمر مرة أخرى مدرساً بالمدرسة الثانوية في الغردقة، ثم موجهاً عاماً للغة العربية بمديرية التربية والتعليم بالبحر الأحمر وحتى إحالته إلى المعاش 1990(3).

قبل مجيء الأبنودي إلى البحر الأحمر لم توجد به أية أنشطة أدبية، ومن حسن حظ هذا الإقليم أن حباه الله بهذا الرجل، الذي عمل جهده في إيجاد بيئة أدبية في هذا الإقليم الساحر ذو الطبيعة الخلابة النقية، التي ترهف حس كل شاعر يهوى الجمال ويقدّسه، فصار له مريدون وأعوان .. كانوا يجتمعون في جمعية الشبان المسلمين، وفى منزله.. الكل يدلو بدلوه، ثم يعقب عليهم ناقداً لأعمالهم، وموجهاً إياهم، فبدأ يعلمهم علم العروض والقافية، وكذلك درّس لهم الأدب العربي عبر العصور، وكان للتنقل بين الأماكن يسبب الحيرة والارتباك، ففكروا في إنشاء نادي لهم يجتمعون فيه، فأسس هو والشاعر محمد كمال هاشم "جمعية أدباء البحر الأحمر"، وهى بمثابة الجامعة التي تخرج فيها كل أعلام الأدب في هذا الإقليم.

وقد طرق جلال الأبنودي كل أنماط الشعر وتنوع فيه، من الغزل العفيف، إلى شعر المناسبات، والشعر الديني الصوفي والوصفي، الاجتماعي، وهو في ذلك ينتمي إلي مدرسة "الأحياء والبعث"، حيث الصور الكلاسيكية، والألفاظ الفخمة، وكان قاموسه الشعري زاخراً بالمفردات العذبة الجزلة، كما أن أشعاره لم تتطرق إلى الرمزية أوالإغراق في الغموض والطلاسم والحداثة، وإنما كان يميل إلى الأصالة .. فهو امتداد لمدرسة البارودي، وشوقي، وحافظ، والكاشف، ومحمد عبدالمطلب، ولم يعرف عنه أنه كتب شعر التفعيلة، وإن تطرق لها أتباعه، مثل: أحمد عمر، وجمال بدوى، وصلاح العويضى، وقد تمسك بالكلاسيكية تلامذة له أخرون، مثل: رمضان الخطيب، ومحمد المعتصم الببلاوي، والدكتور محمد أبو الفتوح.

جلال الأبنودى شاعراً:

يعرف الأستاذ جلال الأبنودي الشعر في مقدمته لديوان "أحاسيس وأصداء"، قائلاً: "إنه اللوعة في صدر الملتاع، والأهة في قلب المحزون، والبسمة في شفة السعيد، والأرغول الذي يرسم أغاني الحب والجمال، ولوحاته ليست إلا ترجمة فنية للسحر المتألق في الزهرة النديانة والومضة الخاطفة في النجم الثاقب، والهالة الشفيفة حول جبين البدر الوضّاح، وهو مع كل ذلك صوت الحق، الذى يتدافع مع لهوات النفس العالية، ويتدفق من ينابيع الطهر الصافية، والصيحة المدوية التي يتردد صداها كالزئير ينطلق من الصدور الأبية، والنغم الحالم الأخاذ الذي تسمعه، فتأخذك روعة سحره وإشراق ديباجته، وتأنس إليه وتهش له حين ينسل إلي قلبك من عالم نئىٍّ خفىّ، فيشجنك ويشجيك أو يوادك ويصافيك، أو يناجيك ويناغيك، ذلك هو الشعر، وتلك هى موسيقاه التي تنبع من بلاغة تعبيره، وسلامة أدواته، ومما يصاحب هذه الأدوات من شجى وبكاء، أوطرب وغناء، ويتحقق به الإنسجام بين السامع والمسموع، والقاريء والمقروء، أو بين اللحن والصدى. والشاعر هو الذى يستطيع بصدق بيانه أن يؤلف بين موسيقى الشعر وموسيقى الشعور، ويستطيع بدقة ترجمته أن يصور ما يشتجر في العواطف من انفعالات، وأن يرسم ما فى الوجدانيات من مشاعر ومنازع، كما يستطيع أن يحدو بشعره الأرواح والقلوب، فيثير مساتيرها وخوافيها ويهيج كوامنها وخوابيها . إن الشعر والشاعر ضرورتان من ضروريات الوجود والحياة كما أرادها الله، وهيهات يدرك ذلك إدراكاً وجدانياً أو عملياً نابعاً من حركة الحواس إلى الإشباع والإرتواء"(4).

ففي قصيدة له في مدح المصطفى r، بعنوان: (عرفتُ الحب)(5) يحشد فيها المعاني والصور، ويخيل لنا عند معانقة أول أبياتها أنه يتحدث عن خِلّ له، هاجه الصب وأضناه الشوق، حتى يجلي لنا لُغرها في أواخر أبياتها، وهى أعظم من مدح شاعر رسول الحق r وهو في يسير على نهج رموز الصوفية، مثل: الجيلاني، وابن عربي، وابن الفارض، لولا أنه لم يغرق في حبه، كما أحب هؤلاء القوم، فيقول:

قالوا عرفت الحب؟ قلت: نعم * * * ولمْ يشغلْ سواه من فؤادي موضعاً

قالوا: وتخضع للجمال ؟ فقلت: إى * * * هو يطبيني سافراً ومقنعا

أدنو وأسجدُ: للجمال مقدّساً * * * وأفر أبعد عن جمال مُدَّعَى

قالوا : ومذْ كم أنت نِضْوُ صبابة * * * قلت: اسكتوا مذ كنت طفلا مرضعا

غفر الإله لوالدي فهو الذي * * * روى فؤادي بالهيام فأجرعا

إلى أن يقول، ويفصح عن نيته:

قالوا: ومْن هذا الحبيب؟ فقلت صه * * * أفغير (أحمد) من حبيب يدعى

إني إذا غنيت باسم (محمد) * * * غنيته متضرعاً متخشعاً

وإذا التقيت بذاكرين (محمدا) * * * بكيت مثلهم بكاءً موجعاً

فأخو المحبة إن أصاب أخا المحبة * * * باح بالمكنون وانتحبا معاً

يا زاد روحي يا معين حقيقتي * * * يا شافعاً يوم الزحام مشفعا

هذى مواجيدى أرتل لحنها * * * قطرات قلب من جواه تصدعا

وكان لمصر نصيب من شعره، ففي قصيدة له عنه، وهى من أجمل ما قيل عن مصر بعنوان "في محرابها"(6) صوّرها في أبهى صورة، وأزين حلة، فهو يذكرها في غدوه وترحاله، ولون خديها كلون مجده المفروش بالطهر والصدق والإيمان.. وجمالها ملء الكون منتشراً في سمعه وفي بصره، تحتل وجدانه وتسيطر عليه، وحبه لها اتحد مع قلبه، فصارا كائناً واحداً، يذكره لكل الناس في غدوه وترحاله ونومه وسهره، وهو يرى هذا الحب أيضاً في العلم والحضارة والجيش الذي يجلب لها الانتصار، وفى كل من أعطى وأسهم في بناء صرح العلا والتقدم والنصر، فيقول:

منك الجمال ومني أقدس الصور * * * مرتلات بتنغيمي علي وتري

وأنا وأنت كلانا بيننا رحم * * * أنا وأنت كلانا عاشق الغرر

أنا أدين بدين الحب تكرمة * * * له وأسجد في الآصال والبكر

هذا جمالك ملء الكون منتشرا * * * هذا جمالك في سمعي وفى بصري

أراه في الجيش يعلى قدر أمته * * * يصمى بضربته المخدوع ذا البطر

أراه في كل من أعطى وأسهم في * * * بناء صرح العلا أو كان ذا أثر

فالحب دين ودين الله مكرمة * * * يا مْن يدين بدين الحب والطهر

فنحن أبناء مصر نحن عدتها * * * ونحن حراسها في حومة الغير

ومصر مصر (كما قال أولنا) * * * (من صنعة الله لا من صنعة البشر)

ولا ينسى دور الأزهر الذي أثّر في تكوينه العلمي والأدبي، منذ أن كان حدثاً وحتى شبيبته طالباً للعلم، فهو يدين له بكل فضل، وإن أغرقه مدحاً لا يوفيه قدره، ففي قصيدة بعنوان "تحية الأزهر"(7) يبين تلك المعاني، فالأزهر هو معقل الثقافة العربية حتى في أحلك العصور ظلمة، كالطود مرتكز الجوانب ثابتاً بمنهجه السليم، ووسطيته وتسامحه، وقد قاد الأمة ضد المحتل الغاشم، ووقف له بالمرصاد، كاشفاً عواره، وكذب أدعائه، يقول:

لبيت شوقي إذ دعا في كل االورى * * * (قم في الدنيا وحي الأزهرا)

فبأي لحن أبتديك محييا * * * وبأي تبيان أبين معبرا ؟

وصباي منك جماله وشبيبتى * * * هذبتها ونفيت عنها المنكرا

والعهد فيك وما محوت ظلاله * * * قد كان أحلى العمر عهداً مثمراً

أنا غرسك النامي فقد غذيتني * * * وسقيتني من فيض عذبك كوثرا

أقسمت باسمك ما ذكرتك تائها * * * إلا اهتديت وكنت أنت مذكرا

أنا لو نظمت العمر فيك ممجدا * * * وأشعت هذا الحب لحناً مسكراً

بل لو وهبتك نور عينى (والذي * * * خلق الضيا) لعجزت عن أن أشكرا

فالفضل منك ومن ضياك ثقافتى * * * أفإن كبرت أشيح عنك تكبرا؟

يا كعبة القصاد دمت محجة * * * للسالكين معلماً ومؤثراً

وتذود عن هذا الدين عداته * * * وترد عنه كل إفك مفترى

سأظل طول العمر أدعو خافقي * * * (قم في الدنيا وحي الأزهرا)

وقد ظل جلال الأبنودي في البحر الأحمر، يؤدي رسالته، حتى رحل في يوم21يناير2001م، بعد أن أنشأ فيها نهضة أدبية، وكانت من قبل يعدم فيها أي نشاط أدبي، وآن لنا أن نُكّرم هذا الإنسان ونجمع شتات شعره في ديوان، وننصفه بعدما عانى من الإجحاف في حياته وبعد مماته.

* * *

المراجع:

1- منهم نجله المهندس علاء الأبنودي، وأخوه الراحل كرم الأبنودي، ومن أدباء البحر الأحمر نذكر الشاعر جمال عبدالعزيز بدوي، والأديب إبراهيم مبارك خطاب، والمرحوم الشاعر محمد أبو الفتوح، والشاعر رمضان الخطيب.

2- محمد خير رمضان يوسف، "معجم المؤلفين المعاصرين في آثارهم المخطوطة والمفقودة وما طبع منها وما حقق بعد وفاتهم"، الرياض، 1425ه/2004م، ص 752؛ أحمد عبدالمجيد خليفة، "ديوان محمود الأبنودي"، جمع ودراسة، مكتبة الآداب – القاهرة، 1422ه/2001م، المقدمة.

3- سيرته الذاتية المنشورة في ديوان "أحاسيس وأصداء"، دار الصفوة للطباعة والنشر - الغردقة، 1992، ص11.

4- ديوان "أحاسيس وأصداء" المرجع السابق، ص9.

5- المرجع السابق، ص12-14.

6- المرجع السابق، ص15-18.

7- ديوان "همسات البحر"، دار الصفوة للطباعة والنشر - الغردقة، 1999، ص10-12.