يقارب الناقد المغربي رواية «القوس والفراشة» للكاتب المغربي محمد الأشعري. يجول في مراحل السرد كرحلةُ بحثٍ عن خصائصها التي تتأتى من جدل الحاضر، لتتخطاه إلى جمال التخييل وخطاب المناورة على الخسارة والخراب. تتبدى الرحلة المحملة بزاد السؤال، وكأنها ذهاب نحو أسلوبية الرواية للإياب بقولها.

الناقد الأدبي

الذهاب نحو الحقيقة، العودة إلى الذات

محمد معتصم

في كتاب "الرؤية الفجائعية: الرواية العربية نهاية القرن العشرين" درست رواية الشاعر والروائي محمد الأشعري "جنوب الروح"، التي كانت حدثاً أدبياً وأثراً فنياً، في هذه الرواية لم يقل الكاتب الواقع ولا وصف حالات الإنسان فحسب، بل كان مكتوبه من الواقع ملتحماً به ومن الناس وهم في لجة التحولات العنيفة وقد خضت وجود الكائن المطمئن إلى اليقينيات الكبرى، وهزت الكائن الثابت الخطوات الذي يمشي واثقاً نحو أهدافه ويرى عن بعد مراميه قريبة من امتداد اليد. كنت ختمت الدراسة بما يلي: "رواية جنوب الروح واحدة من روايات المراثي الممجدة للموت كحقيقة عليا... لكن الرحلة (الرواية) ليست موتاً فحسب، بل أحداثٌ مفرحة ومحزنة وأخرى مفزعة حاولنا نحن في هذا المقام التركيز على ما يدعم خصائص الرؤية الفجائعية محور هذا الكتاب: كالرحيل، والتيه، والألم، والشعور القوي لدى الشخصية الروائية بالحيرة والغربة والضياع". ص(49-48). فهل يسعفنا هذا الحكم النقدي في دراسة رواية محمد الأشعري الجديدة "القوس والفراشة"؟ وهل هناك علاقة بين "جنوب الروح" و"القوس والفراشة"؟ وهل يمكن أن تكون رواية "القوس والفراشة" رواية امتداد لرواية "جنوب الروح" أم أنها رواية مستقلة بذاتها؟!!

لا شك أن هناك علاقة يوحي بها الفضاء التخييلي الذي اشتغل عليه الكاتب، وتوحي بها الشخصيات الروائية الحاملة للصفات المميزة ذاتها كاسم العلم مثلاً، وكما توحي بذلك لغة الكاتب المميزة. لكن الرواية وإن اشتركت مع سابقتها في هذه العناصر والمكونات الخطابية، فقد اختلفت عنها في كثير من النواحي خاصة انخراطها العلني في معالجة قضايا الراهن المغربي، ومساهمتها في الكشف عن بعض خبايا المرحلة وما شملها من تحول وتغيير على مستويات عميقة، وتعرضها لبعض المشاريع المفتوحة التي تنهض على هموم وتعاسة الكثيرين ممن لا حول لهم ولا قوة، وقد انخرطت الرواية أيضاً في إبراز العبث الذي يلقاه الموروث الثقافي والحضاري المغربي على أيدي الجشع والجهل.

إنها رواية مختلفة من حيث إنها تعالج قضايا المرحلة وتلامسها وتسلط عليها الضوء في محاولة من الكاتب فَتْحَ ورشٍ جديدٍ وجاد يتساءل حول المفهومين الجوهريين للثقافة وللحضارة المغربيتين، وكيف يتم تدبيرهما حتى يأخذا وجهة تنمية الهوية وتغذية الحس الوطني عند القائمين عليها مؤسسات رسمية وجمعيات مدنية. إنها رواية مختلفة من حيث إنها ليست "مقبرة" لدفن الشخصيات الروائية التي وجدت نفسها وحيدة تصارع مصيرها تحت سماء عارية كما في "جنوب الروح"، وليست رواية وعي شقي يصارع بسلاح القيم العليا عالما بدون قيم، يصارع عالماً إنسانُه ممسوح بلا اسم أو هوية مميزة. إنها رواية مليئة بالمواقف الساخرة، والاحتجاج والانفعال، والغضب، والتوتر والانبساط، فيها حظ من الحزن العميق وحظ من الفرح الغامر، ليس فيها كراهية وفيها الكثير من ماء المحبة، فيها الكثير من التسامح لكن ليس فيها تساهلٌ ولا لامبالاةٌ، رواية فيها الكثير من وهج الحياة وفيها من سواد الموت، فيها غيرة على الكائن واحتفال بالكينونة، وفيها أجمل ما في الحياة لحظات الشعر، لحظات اختلاء الكائن إلى كينونته، حيث يتحسس بنباهةِ وانتباه القديسين في خلواتهم لمسارب الألم، وللمحطات التي يتوقف فيها الفرح مستقراً شغوفاً مزهواً بالحياة، حيث يصغي الكائن لنبضه ويسمعه وسط الصخب المرتفع كالرغوة والزبد. يقول يوسف الفرسيوي عن هذه اللحظة: "ماذا أريد أكثر مما أدركت، تلك الارتعاشة الأولى، واستجابة الخيط، وخفقان الجسد كله وهو يستقبل جسداً متمنعاً، واللذة التي تذهب حتى حدود القتل، والسكينة التي يمنحها الألم... ثم ماذا بعد؟ هل من الضروري أن نفسد المستحيل بفتات من الممكن؟" ص(313).

تبدو رواية (القوس والفراشة) للكاتب محمد الأشعري كسيل جارف متدفق من الأعلى نحو النهاية الفجائعية والبطولية والكاشفة، إلا أن تدفق السيل يحمل معه في طواياه العديد من الخطابات والقضايا الحالية المعاصرة، والعواطف والحيوات والمواقف الحكمية المتأملة في الحقيقة الجوهرية لمعنى أن تكون هنا الآن. لذلك فهي رواية ذات بنيتين: بنيةٍ سطحيةٍ يعالجها المحكي ويتتبع القارئ متوالياتها السردية المتدفقة، وبنيةٍ عميقة تقترح علينا فلسفة جديدة لتدبير الحياة الجديدة وسط كل هذه المتغيرات التي تشمل المادي والمعنوي والنفسي والعاطفي وشبكة العلائق داخل المجتمع أو المجموعات الصُّغْرى؛ إنها تقترح علينا ومن خلال وضعية يوسف الفرسيوي الشخصية الروائية الرئيسة تدبير الحياة بقليل من اليقين وكثير من السخرية والفرح الذاتي. إنها فلسفة الاقتصاد والكثافة والتركيز.

تبدأ الحكاية في رواية "القوس والفراشة" بخبر مقتضب عن وفاة ياسين الفرسيوي غريباً عن وطنه المغرب، وبعيداً عن مقر دراسته فرنسا، هنالك بأفغانستان. تقول الرسالة: "أبشر أبا ياسين، لقد أكرمك الله بشهادة ابنك" ص(15). إنها بداية تختلف عن البدايات التقليدية التي تختار البداية المطمئنة ثم الارتقاء نحو العقدة (الأزمة) مروراً بالصراع، ثم الانحدار نحو الحل أو النهاية، لذلك فهي بداية مضطربة ترمي بالمتلقي (القارئ) منذ اللحظة الأولى في مياه النهر وتورطه في المشاركة الفعلية في بناء الحكاية من خلال افتراض العديد من السيناريوهات الممكنة لإعادة الوضعية المضطربة إلى الحالة المطمئنة المستقرة.

يفتتحُ الكاتب الرواية هكذا: "عندما قرأت الرسالة بسطرها الوحيد، وخطها المرتبك اخترقتني قشعريرة باردة، ونأيت عن نفسي لحد لم أعد أعرف معه كيف أقطع الذهول الذي أصابني، وأعود إلى نفسي. وعندما عدت أخيراً بعد جهد قاهر، لم أجد شيئاً. كنت قد أصبحت شخصاً آخر يخطو لأول مرة في أرض خلاء. وفي هذه الأرض الجديدة بدأت أستقبل الأشياء بنوع من اللا إحساس، يجعلها سواء بالنسبة لي، لم أعد أحس بأي أثر للألم أو للذة أو للجمال، لم تعد لي سوى رغبة واحدة هي أن تتحرك دواخلي لشيء ما، ولم يعد لي سوى عجز واحد هو أن أحصل على ذلك". ص(9).

يتضمن هذا المفتتحُ مفتاحَ البرنامجِ السرديِّ المقترحِ في روايةِ "القوسُ والفراشةُ" والمتمثلَ في اختيارِ الروايةِ الحديثَ عن الشخصية الروائية وتتبع مسار حالاتها وتحولاتها وسلوكِها. لذلك ففي المفتتح إعلانٌ عن نوعية السرد الروائي وعن الرؤية السردية التي يتدفق منها السرد، وهي الرؤية الذاتيةُ الخاصةُ بشخصيةَِ يوسف الفرسيويِّ.

البحث عن الذات، يمكنه أن يكون عنواناً يختزل مسار شخصية يوسف الفرسيوي منتقلاً من حالة فقدان المعرفة الحسية الخارجية إلى لحظات تقوية المعرفة الباطنية، التي يمكنها أن تتمثل ذهنياً الأحاسيس الخارجية. يقول يوسف الفرسيوي مثلاً: "ذات زوال قائظ التقينا في مطعم الشاطئ، كنت محاطاً بعمال المطعم الذين هرعوا لنجدتي بعد أن سقطت من طولي وأنا أعبر الصالة عائداً من دورة المياه. يجب هنا أن أشير إلى أنني منذ فقدت حاسة الشم، أصبحتْ لي قدرة خارقة على تخيل الروائح، بل وعلى التأثر البالغ بها بطريقة عديمة التناسب أحياناً، لهذا السبب أغمي عليَّ في المطعم". ص(25).

إذن، رواية (القوس والفراشة) بحث في الذات عن الذات وسط كل هذه المتغيرات التي شملت الواقعَ وشروطه، والإنسانَ وقيمه وبدلت مواقفه ومواقعه التي كان يؤمن بها فيما مضى. ورحلة البحث عن الذات صراع ومقاومة للانجراف والانحدار الحاد نحو الاستسلام أو هي رغبة في الاختلاف ورفض الحالة الشاملة التي هيمنت على المرحلة، كما في التصريح التالي ليوسفَ الفرسيويِّ حول شخصية إبراهيمَ الخياطيِّ: "ثم انتهى طقس الجنازة، ودخل إبراهيم في علبة سوداء فقد فيها القدرة على التصالح مع الحياة، فكان أن انكب على نفسه مستخرجاً كل ما يعزز اقتناعه بعبث العيش في الأوهام، كان ذلك قبل أن يخضع إلى الاستسلام المهيمن على الساحة والذي أصاب جيلنا كله نصيب منه، مزيج من دروشة، وتصوف علماني، وروحانية حديثة". ص(36).

ومن أسباب السقوط في حال الهبوط واليأس الجماعيين سرعة التغيرات الطارئة وشموليتها ونماؤها في "الغفلة" بعيداً عن يقظة الفئة المتنورة حارسة قيم الحداثة وراعيتها. يقدم الكاتب مثالاً على ذلك الانهيار شخصية الحاجِّ التهاميِّ السلاويِّ والأستاذ الجامعي الذي استسلم وانعزل بعيداً في وحدته وَوَحْشَتِهِ تاركاً للتيار العبورَ بِحُرِّيَّةٍ كيف وأين ومتى يشاء، يقول: "لكن الرجل الأنيق الذي درس في باريس، وساهم في تحديث الجامعة المغربية، لم يتحمل ما كان يسميه بانهيار المغرب المستقل. لم يستسغ تشرذم العمران في مدينته التاريخية، ولا تآكل المدرسة المغربية، ولا تبدل القيم وهيمنة التسابق على المال. ولم يستسغ تلاشي اللغة العربية، وصعود طبقة الأغنياء الجدد، تجار التجزئات والخمور السرية والمضاربات الذين أصبحوا وجهاء المدينة وأكابرها، أن تصبح سلا نقطة في بحر، وتعبيراً فصيحاً عن تراجيديا التلاشي والاضمحلال التي فاجأت جيله". ص(96).

لم يكن الحاجُّ التهاميُّ وحده الذي أصيب بمثل هذه "اللوثة" المعاصرة هو فقط واحد من جماعة أكلتها الحيرة وأعياها التفكير في كل ما جرى ومتى وقع، وهو واحدٌ مِمَّنْ أدركوا هذا التغيير والانحدار والاستسلام والخدر الشامل وهم يحاولون الانفلات من بين أصابع الكماشة، يقول السارد عن يوسفَ الفرسيويِّ: "أما يوسف فلا يمكن أن ينتهي هكذا، وديعاً يثرثر في المقاهي ويحلم في القطارات! لا أعرف ماذا حصل لهم جميعاً، بعد كل ما اقتحموه بصدورهم، ها هم يتحولون إلى رماد تذروه الرياح. بعضهم ممن كانوا معه في مرحلة السجن أسمعهم في الإذاعة ينمقون الكلام ويفلسفون المهادنة كأنهم علب مراهم، لا أعرف ما جرى لهم. ولا هذه الحمى التي رفعوها إلى مقام جذبة صوفية، المصالحة، المصالحة، المصالحة، مع الماضي، مع الحاضر، مع الذات، مع الآخر، مع المصالحة. كأن حرباً عظيمة وضعت أوزارها. يا للسخف!". ص(190).

يسائل النص الحدث ويزحزحه عن موقعه حتى يُرى بصورة واضحة؛ هل ثمة حرب حقيقة؟؟؟ إذا لم تكن هناك حرب بمعنى الحرب، صراع بين عدوين حقيقيين، حول موضوع وهدف معينين، فإن الكلام مجرد تنميق وحذلقة لذريعة للتخلي عن المواقف والأفكارِ والانخراط في الحرب الجديدة من أجل الاغتناء أو العيش بسلام تحت أية جبة، حتى لو كانت جبة العبقري الذي يُعَرِّفُ الوَطَنِيَّةَ اليوْمَََ بقوله: "إن الوطنية اليوم هي أن يكون لك مشروع للتنمية". ص(185).

إذا كانت البداية خبراً مقتضباً في سطر، فإن النهاية كانت فاجعة لكنها بطولية وكاشفة. فاجعةٌ لأن يوسف الفرسيوي سيضع حداً لحياته متَفَجِّراً مع عصامٍ في مياه المنارة، تاركاً خلفه ليلى ومي الطفلة التي تبنياها، وعملَه، وكلَّ المتع الصغيرة لكن الخاصة والعميقة. وبطوليةٌ لأنها نهاية أشعرت يوسف الفرسيوي بالقيمة ومكنته من متعة اتخاذ القرار والتضحية بذاته من أجل الآخرين، لأن التضحية من أجل الآخرين هي الفعل الحقيقي الذي يمنح الذات الطمأنينة. وكاشفةٌ لأنها ستكشف عن سر ظل غامضاً في الحكاية وترتبت عنه مسارات سردية مختلفة، وتغيرت حسبه مصائر الشخصيات الروائية، وتم معالجة مواضيع حساسة راهنة، وليس ذلك السر سوى اختفاء عصام المفاجئ.

يقول السارد: "الآن قلت لنفسي. وانطلقت مثل سهم نحو الشخص الذي كان يصلي بخشوع مغمض العينين، لأجمعه بين ذراعي وأندفع به نحو الصهريج. وفي تلك اللحظة الحاسمة، التي انفصلنا فيها عن الأرض استدار الشخص برأسه كاملا نحوي، فرأيت في لمح البصر خلف اللحية الكثة والنظرة الحادة وجه عصام، مرعوباً كما لم يكن أبدا في حياته، كان ذلك قبل أن تأخذنا غيمة بيضاء باردة في دويها الهائل!" ص(332). إذا اختلفت البداية عن البدايات التقليدية في الرواية الواقعية العالمية والعربية، فإن النهاية تشترك مع العديد منها في التأثير على القارئ وشده إلى العمل الروائي وخصوصاً المسارات السردية التي تتشكل منها وعبرها شبكة العلاقات الدلالية، وهنا يمكن الوقوف عند ثلاثةِ مساراتٍ مختلفةٍ، وهي:

ـ مسارات الخيبة وخطاب الفشل.

ـ مسارات الغياب والاختفاء والرحيل.

ـ مسارات حافلة بالحياة.

تحفل رواية (القوس والفراشة) بمسارات من الخيبة والفشل المصاحبة أو الملازمة للعديد من الشخصيات الروائية الرئيسة، وقد اختار السارد لتمثيل هذا المسار السردي التراجيدي شخصية "محمد الفرسيوي" الأب راسماً خطيْ صعودِ ونزولِ نجمه، وقد خصص الكاتب لهذه التراجيديا الشخصية فصلاً من الرواية تحت عنوان (حجر "الزاوية") يتتبع فيه الساردُ محمداً الفرسيويَّ منذ وصوله إلى "زرهون" رفقة زوجته الألمانية "ديوتيما"، وبناء مملكته الشخصية واستنبات أهل الريف في عالمهمُ الجديدِ، قبل أن تبدأ دورة النحس مرفوقةً بالحقد والدسيسة لتنهار المملكة إيدانا بتبدل شروط مرحلة وصعودِ قيمٍ أخرى مختلفة بحسابات وشروط أخرى أيضاً.

من مظاهر الخيبة والفشل في الحياة وفي تحقيق الأهداف لدى "الفرسيوي" انتحار زوجته الألمانية "ديوتيما" لحظة الغروب أثناء العودة من رحلة صيد موفقة. وتعتبر شخصية "أحمد مجد" نموذجاً آخر عنْ تراجيديا الصعود والنزول بعدما حقق مملكته الخاصة من تجارة التجزئات السكنية التي توَّجَهَا بعمارة "الفراشة" الفاخرة، وقد اخترقت الفضاءَ الهندسيَّ المراكشيَّ المعتادَ والنمطيَّ. ويمكن اعتبار انتحار "ديوتيما" مساراً من الخيبة بعدما لم تتمكن من العثور على ديوان جدها الذي دفنه في مكان ما منْ آثار "وليلي"، إضافة إلى فشلها في تليين عاطفة الناس واستمالتها، رغم المجهودات التي بذلتها في تعليمهم وتوعيتهم، وفتح أعينهم على طرائقِ الاستفادة من حياتهم، وهو ما وقف عنده السارد في هذا السياق السردي الدال: "ثم ها هي ديوتيما تريد أن تغرسَ نفسها في هذا الجبل الأزرق، فتُنْشِئَ في المدينة مؤسسات لمساعدة النساء، وتلقيح الأطفال، ومحاربة انقطاع الفتيات عن التمدرس، والتوعية الصحية، وتذهبَ إلى الدواوير المجاورة، لتقضيَ اليوم كله تطوف في تجمعات سكنية ينام أصحابها مع الأبقار والماعز (...) وديوتيما لا تريد أن تفهم أن هذه الأرضَ لن تقبل منها أبداً جذوراً في أحشائها، إلى أن استسلمت في نهاية الأمر وهي تتربع على عرش بهو الاستقبال في فندق الزيتون إلى حزن قاهر محا كل أثر للطيبوبة من ملامحها، ذلك أن كل هذا الشغف الذي أغدقته على جغرافية الأمكنة ومنتوجاتها وكائناتها المعوجة، لم يفلح في إكسابها ولو ذرة واحدة من المودة الإنسانية". ص(71-70)

ليس أقسى على الإنسان أكثر من الجحود الذي يقابل الجهودَ الخَيِّرَةَ والنَّيِّرَةَ، وهذا ما عمق إحساس ديوتيما باليأس وباللاجدوى من الحياة، أو لنقل كان هذا الإحساس بالرفض هو ما زاد اللوحة أمامها سوادا وقتامة حتى أقدمت على مغادرة العالم عند المغرب. ويعزز مساراتِ الخيبةِ وخطابَ الفشلِ ما حل بإبراهيمَ الخياطيَّ جراء اختفاء عصامٍ واعتقاله بتهمة قتله وإخفاء جثته، بناء على الخلافات الدفينة بينهما حول سلوك الخياطي الشاذ وعلاقته بوالد عصام ومهدي قبل وفاته. وكذلك خيبة أمل فاطمة بدري في الارتباط بالعشيق الكوسوفي، وخيبة ليلى في الحفاظ على يوسف الفرسيوي والعيش معه تحت سقف واحد.

أما مسارات الغياب والاختفاء والرحيل، فتنهض بها الشخصيات الروائية التالية: محمدٌ الفرسيويُّ الأب الذي اختفى فجأة وتحول إلى صوت في الهاتف، قبل أن يغيب دون معرفة وجهته ومستقره، وغياب ياسينَ الفرسيويِّ مقتولاً بعيداً عن أهله وبلده في أفغانستان، وتحوله هو كذلك إلى صوت وصورة يزوران يوسف الفرسيوي بين الحين والآخر، أو بقوة الاستحضار. واختفاءُ عصام المفاجئُ قبل ظهوره في المشهد الأخير من الرواية مُعَدًّا للانفجار، واختفاء إبراهيم الخياطي داخل السجن. أما ديوتيما فقد غابت عن المشهد ولم نتعرف عليها إلا كشخصية روائية مستعادة في السياقات السردية المرتبطة بمحمدٍ ويوسفَ الفرسيويِّ، وليس كشخصية روائية فاعلة ومؤثرة ومساهمة في التنامي السردي، هي إذا شخصية روائية مُتَحَدَّثٌ عنها. وقد قامت مسارات الرحيل على شخصيات روائية مثل مهدي الذي سيرحل بعيداً عن الأجواء الصاخبة للفرقة الموسيقية الشبابية (أَرْتْرُوزْ) وما صاحبها من مشاكل التحقيق والتفجير لمتابعة دراسته بفرنسا، ورحيل فاطمة إلى مدريد للعمل والإقامة هناك، وسفر بهية الزوجة السابقة ليوسف الفرسيوي والزوجة الحالية لأحمد مجد للعلاج بفرنسا.

لكن أهم مسار ينبغي الوقوف عنده في رواية "القوس والفراشة": مسارُ الحياة، والإقبال عليها بقوة وبشغف. إنه مسار خفي اتخذ له طريقاً غير صاخب ولا بارز كما مسارات الخيبة والفشل ومسارات الغياب والاختفاء والرحيل. ويمكن تقديم هذا المسار الخفيِّ الذي تقوم عليه الرواية كنهر سريٍّ يمتد على مساحة المحكي وتنامي المتواليات السردية كما يلي:

النجاح الصحافي: بالرغم من الحزن المستشري في البنية السطحية للرواية هناك حياة صاخبة حيوية مليئة بالنجاح يحياها يوسف الفرسيوي الصحافي الذي فتَّح أعين المجتمع على أكثر الصفقات العقارية المشبوهة التي تَسْتَعْمِلُ كل الأساليب غير الشرعية للتحايل على المال العام ونهبه.

الإسهام الثقافي: تتجلى الحركة الثقافية والاهتمام بهذا الميدان عند يوسف الفرسيوي في استحضاره شخصية الكاتب ساراماغو في المتن الروائي، وتضمينه للعديد من المقاطع الشعرية المجتزأة من شعر الشاعر هلديرلين، لكن أهم ما يبرز انخراط يوسفَ الفرسيويِّ في المجال الثقافي غيرتُه على المآثر العمرانية والحضارية التي تلقى الإهمال من قبل عامة وخاصة الناس، ومن نهب وتدمير وتهريب، وما يستتبع ذلك من إهمال للمتاحف الوطنية ودفنها تحت الرماد دون إدراك فعلي لقيمة هذه الكنوز والذخائر التي تشهد للمغرب بالعراقة والإسهام الحضاري الإنساني. ومن بين الإسهام الثقافي كذلك تطرق يوسف الفرسيوي إلى الظواهر الجديدة، التي عرفتها الصحافة المغربية راهناً للتستر على ما يجري بابتداع مواضيع ذات الإثارة كالجريمة، والإباحية، والتهريب، والمخدرات، والوقوف عند الحدود الضيقة للفئات الصغرى والبسيطة والقضايا الهامشية.

المعالم والمآثر الحضارية والثقافية: تحتفي رواية "القوس والفراشة" بالمكان كأثر عمراني يدل على مرور الحضارة من هذا البلد (المغرب) من خلال نفض الغبار عن المتاحف المهملة، والكنوز المنهوبة والمتروكة. أما وصف محمد الفرسيوي لوليلي وهو الأعمى الذي يحفظ عن ظهر قلب كل صغيرة وكبيرة فيها فدليل على مكانة الأمكنة التاريخية في هذه الرواية.

السفر: يقضي يوسف الفرسيوي وقته متنقلا بين مدن مغربية وأوروبية: الدار البيضاء، فاس، مراكش، زرهون، مدريد، سواء للعمل أو طلبا للراحة.

الطعام: يحتفي يوسف الفرسيوي بالطعام واصفاً ومنتقياً، ويرتاد المطاعم والمقاهي، وهذا كله يبعث على الحياة، والشغف بها، وبمباهجها ضدا على الروح الحزين الذي يستشري في أوصال المسارات الأخرى: مسارات الخيبة والفشل، ومسارات الغياب والاختفاء والرحيل.

الحب: يبدو يوسف الفرسيوي محبوباً وله حظوة عند النساء، تتمنى فاطمة بدري لو أنها التقته قبل زواجه من بهية، وترغب ليلى لو يظلا معاً ولو لم يتزوجا أو لم يجمعهما سقف واحد. ومع ليلى اكتملت مشاعر وأحاسيس يوسف الفرسيوي التي فقدها بداية نسج الحكاية، واستعادها عندما استقبل بعضا من ثياب ياسين الفرسيوي. يقول يوسف الفرسيوي لفاطمة: "نعم يؤلمني كل شيء، يؤلمني خصوصا وحتى الموت أن أفقد ليلى". ص(315). ويجيب ليلى على الهاتف بالحرارة ذاتها والشوق نفسه على لسان يوسف الفرسيوي، يقول: "فجاءني صوتها ودوداً هادئاً وقالت إنها مشتاقة جداً لي، وأن عليَّ أن أعود سريعاً، إذ لا معنى إطلاقا لهذا السفر ولهذه المدريد. ووجدتني أتحول تحت تأثير نبرة صوتها الجديدة إلى شخص منهك لا يريد شيئا سوى الخلود إلى الراحة والاستمتاع بما توفره الحياة من فرص سلام مع النفس ومع الآخرين". ص(315).

إن رواية (القوس والفراشة) ورش كبير مفتوح على مسارات كثيرة، حاولت هنا إبراز ما يخفيه الخطاب الفجائعي من متع ومسرات الحياة، وأن تحت الرماد جمراً متوقداً مستعداً لإرسال لهيبه إلى الأعلى متى ما هبت الرياح. وأن اللغة في الرواية مليئة بالمواقف الساخرة كما هي في رواية "جنوب الروح". وهي رواية تعالج المتناقضات التي يحفل بها الحاضر، وتفضح التبدلات التي شملت مما شملت سلوك الناس ومواقفهم وما تسرب إلى الإرادة والطموح من استسلام وقدريةٍ. وإذا كانت الرواية تكشف عن العيوب، فإنها في الوقت ذاته تتساءل حول هذا الجنوح الجماعي للشباب نحو طالبان أفغانستان، أو نحو الموسيقى الصاخبة، وهو تساؤل عن تبدل القيم، وأسباب الخواء الروحي، والفكري، فإذا كان الجيل السابق قد عانى من انكسار الأحلام وإجهاضها، فإن الجيل الجديد والقادم الذي يتشكل الآن يعاني من غياب الأحلام.

ورواية (القوس والفراشة):

ـ رحلةُ بحثٍ عن الحقيقة؛

ـ منارةٌ تكشف في جنح الظلام عن الخفافيش؛

ـ عينٌ مفتوحة على الحاضر ومتغيراته؛

ـ منظارٌ يراقب أحوال الناس وتقلباتهم؛

ـ فلسفةٌ لتَدَبُّرِ الخسارة، ولِترويضِ الخراب؛

ـ ذهابٌ نحو الذات حيث الحقيقة؛

ـ سؤالٌ عن حال الجيل الجديد، سؤال عن المستقبل.

الهامش

ـ الأشعري، محمد: القوس والفراشة. رواية. لمركز الثقافي العربي. الدار البيضاء. المغرب. ط1. 2010م

ـ معتصم، محمد: الرؤية الفجائعية في الرواية العربية نهاية القرن العشرين. دار أزمنة. عمان. الأردن. ط1. 2004م.