يرى الناقد المصري أنه إذا كان الحاضر هو ابن الماضي، وإذا كانت مصر مثلها مثل كل الدول العربية، تعيش السلفية بكل ألوانها، فكان منطقيا أن تسعي الروائية عبر روايتها للبحث عن النسق الثقافي، المتسلل من الماضي عبر أجيال طويلة، ليترسخ ويصبح هو المحرك لسلوكهم في الحاضر، مؤمنة بأن ما نعيشه ليس إلا حلقات زمنية متداخلة، حتي لو تباعدت الأمكنة، والأزمنة.

كيف الخروج من .. «تابوت الماء»؟

شوقي عبدالحميد يحيى

 

الماضي والحاضر، علاقة عطاء دائم، فلا زال الماضي هو المخزون الاستراتيجي للحاضر، في الحياة عامة، وفي الإبداع خاصة. يعود إليه المبدع كي يبحث عن مشعل يستطيع به أن يري الواقع من حوله. وإن كان قد شاع استخدام الماضي كدروس وعبر، واستخلاص عبرة التاريخ، فإن المبدعة مني منصور، تعود إليه لتحاكمه في روايتها "تابوت الماء" حيث تراه هو سر الحاضر، بمراراته واستسلامه لقدريته المستمدة من عقيدته الدينية التي تُرجع كل الأفعال للغيب، فكان استغلال الدين هو وسيلة الوصول للحكم، والاستمرار فيه.

إذا كان الحاضر هو إبن الماضي، وإذا كانت مصر مثلها مثل كل الدول العربية، تعيش السلفية بكل ألوانها، فكان منطقيا أن تسعي مني منصور- عبر روايتها البدية "تابوت الماء"[1]، للبحث عن النسق الثقافي، المتسلل من الماضي عبر أجيال طويلة، ليترسخ ويصبح هو المحرك لسلوكهم في الحاضر، مؤمنة بأن ما نعيشه ليس إلا حلقات زمنية متداخلة، حتي لو تباعدت الأمكنة، والأزمنة {آه من تلك الأزمنة التي تعصرنا بين حلقاتها حين نعتقد بفرارنا من قبضة المكان إلي آخر فإذا بنا نمشي بخطي وئيدة علي جسر يلقم غيمة الحدث ويعصر النفاية في فئِّ الحاضر}ص8.

ولا تكتفي الكاتبة باستحضار التاريخ مجسدا في شخص السارد، المتقمص لصورة الجد، في حيلة روائية مقنعة، تستعرض بها تلك المراحل المؤثرة ، والمستمرة علي حياتنا الحاضرة، بل تتخير بؤرتين تاريخيتين، ترتبطان في الجذور، وإن تباعدا في الفروع والزمن، ويتمثلان في فترتين زمنيتين مختلفتين، تعود الأولي إلي زمن الخلافة الإسلامية، وبداية إنحرافها، عندما سعي معاوية لتولية ابنه "يزيد" خلافا لما كان قد اتفق عليه مع ابن عمر الذي كان قد تنازل له عن الولاية، علي أن تتم الولاية من بعده – من بعد معاوية- بالشوري بين المسلمين. حيث تشير الكاتبة إلي ذلك فيما يشبه الإشارة العابرة، وإن أتبعتها بإشارة تفتح صفحة التأويل علي مصاريعها، حين تنبه إلي ما يبثه (صدي الإسم : معاوية) وانتباه السامع فور سماع اسم معاوية، في تجسيد لمشهد الحوار ليجسم أمامنا الواقعة، لنستحضرها، ونعيها: { أمهلني أرفع كم سترتي .. أترين ذراعي المفتول ؟ تفحص هذا الوشم، هو اسمي معاوية ما بك؟...... كلما اهتزت دوائر الهواء وهي تكيل لك صدي اسمي، نعم أنا جدك}ص16، لتؤكد حفر الاسم، الكنية علي الجلد، وكأنه إلتصاق أبدي، ليس من السهل إقتلاعه. وكأنها تشير إلي حاضر حياتنا المعاصرة، وسلوك رجال الدين الذين لا يتورعون يرددون كلمة حق يُراد بها باطل ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[2]. وكأن الدين يكرس للإستسلام للحاكم، وييسر للحاكم التجبر والتكبر. وهو ما استدعي ثورة وحركة، كان يراد لها الخروج من الأسر، وهي محاولة التوريث التي كان يسعي إليها مبارك، وكانت أحد أسباب الخروج في 25 يناير 2011. واستمرت فيما بعدها متمثلة في تلك المقولة التي انبعثت من البؤرة الأولي، وتغلغلت في الوجدان الجمعي عبر السنين، والمتمثلة في قول الكاتبة: {في أجساد لا تعرف سوي نكهة الجوع وخبز مقدد علي آتون السمع والطاعة}ص8، وحيث لم تعد (السمع والطاعة) هي ما يَسْمُ الفكر الإسلامي فقط – الذي تصدر المشهد بعد ثورة يناير - وإنما أصبح منهج حياة الحكم تجاه الشعب فيما بعده- كما كان قبله - وهو النتيجة التي يمكن أن تؤدي بنا إلي البؤرة الثانية التي ارتكزت عليها الكاتبة، بعودتها إلي فترة تاريخية أخري، تعتبر أحد رموز السُخرة للإنسان المصري تحديدا، وهي فترة حفر قناة السويس في عهد الخديوي عباس{ كان العمل بحفر القناة اختياريا والآن أصبح سُخرة للرقاب، أيساق الرجال كالشياه للذبح؟}ص35. ثم تجسد الكاتبة تلك المرارة في أعمال السخرة علي أرض الواقع، حين تعرض سرد السارد لفقد ابنه، وهو في عنفوان عطائه {بقامتها القصيرة وبطنها المكور يحمل ابني الأكبر سعد، الذي ابيضت عيناها حزنا عليه حين مات عطشا تحت طمي القناة، آه من وجع فقد فلذة كبدك وقد شب قوي البنيان، يحمل نخوة وشهامة الرجال في سنوات عمره القليلة}ص20، ليعتصر قلوبنا علي ذلك الوجع الناتج من القهر، وغياب القدرة علي رده. وحيث تحولت عملية حفر القناة التي سيسير بها الماء إلي "تابوت" كبير يضم رفات المئات من أبناء المصريين المقهورين.

وقد يري البعض أن حفر القناة (مشروع قومي – بلغة هذه الأيام). ولكن الأمر يكشف عن منطقية الاعتراض في ذلك الحين، حين نتبين إنعكاسه علي حياة المصريين عموما، حيث ترك الفلاحون أرضهم وتم جلبهم لحفر القناة، وتركوها للنساء يعملن فيها. فضلا عن إنسحاب الفرنسيين من العمل، بعدما تبين لهم صعوبته عليهم، فلم يكن أمام الوالي إلا استخدام الكرباج ليسوق الفلاحين إلي العمل في الحفر كالحيوانات التي تساق إلي الذبح. ويلجأ السارد إلي شيخ الجامع، الذي هو في العرف، صاحب العلم والمعرفة، لتسوق الكاتبة تغلغل النسق في العروق، بإعتبار شيخ الجامع هو المرجع في كل الأمور، ليسأله{أي مشروع يقتل الخضرة ويفرض الجفاف علي أرض وهبها الله النماء؟}ص37. وليفتح المشروع الفرصة أمام الدخيل علي البلاد (الفرنسيين) ليستغلوا خيرات البلاد، بينما يظل المصري يرزح تحت سياط الفقر والقهر حتي لم يعد أمامه من عمل، سوي مزاولة الحياة الخاصة التي لا تثمر إلا المزيد من المقهورين، والمزيد من العقول التي { أخرسها الاحتياج، وأكلت مدارات تفكيرها الفاقة والسغب، فأحنت رؤوسها وأدغمت كل احتياجاتها من الحياة في مطلبين: الخبز الذي يشبع البطون، والجنس الذي يمنح لأرواحهم لذة المتعة والطريق الشرعي لذرية ترث الذل والجباه المحنية المغبرة من تراب الأرض}ص22. وهو الشق المواجه الذي تصنعه الكاتبة، للتغلب علي تلك الحياة الضنينة، وهو (الحب) الذي اشتعل في بعض الصدور، ليرطب جفاف الحياة، ، ولتترجم لنا أحد عتبات الرواية، الإهداء، الذي تقول فيه {إلي شعب شق من الموت شريانا للحياة}. مستمدة من عمليه حفر القناة كشريان، وما تخللها من سُخرة وقهر وموت، مستخلصة منها حياة تتمثل في الحب، رغم أن العشق ذاته به من الفرح أقل مما فيه من الوجع. خاصة أن معظم قصص الحب الواردة، تخرج من رحم المعاناة، لتترجم المضمون بالشكل، مثل حكاية الشيخ "غريب"، غريب الأطوار الذي هام عشقا بالأرمنية "أزنيف"التي انتحرت حتي تُفَوتَ علي "الغريب" فرصة الاعتراف بأنه والد مَن ببطنها، حين هددها سيدها بالقتل إن لم تبح. وقصة "كرم" رفيق السجن مع السارد، الذي هام عشقا ب"رسيل" ابنة قاسم الشامي الخياط. حيث يتعلق "كرم" بالحب، وهو في سجنه، ذلك الحب الذي سبق له رفضه، وهو حر، وكأن الحب هو الخلاص، فرغم ما يعانيه في السجن تحت الألم والمعاناة، يتمسك بالحب ، وكأن الكاتبة تري أن الحب هو الأمل الذي يمكن أن نقاوم به معاناتنا، ذلك العشق الذي يتمكن من الإنسان، ولا مهرب منه، كان في الأجداد والآباء، وكأنه نسق آخر يربط بين الأجيال{ تلك الأفكار الشبقة لاتنكرها أو تضحك ضحكتك الفجة وأنت تفتخر أنها إرث من عصب الأجداد فلا ذنب لك فيها. حين تختمر روحك بتلك الغواية وتسير خلفها لا تملك إلا الرضوخ لما يعتمل في كيانك حتي تصل حد الارتواء}ص9.

وتتوالد الحكايات من الحكايات علي طريقة ألف ليلة وليلة، لتروي شهرزاد حكايات السخرة، وحكايات الحب، دون أن تُشعر شهريار/القارئ بتلك التنقلات، وكأنها تستدرج شهريارها وتكتسب معه الوقت قبل أن تصل به إلي ما تستدرجه إليهن وما وضعته في صدارة روايتها، دون أن يعلم أنها قد أعطته جرعتها منذ البداية، وما حكاياتها إلا محاولة لإبتلاع الدواء، وكأنها تضع الحصان أمام العربة.

تبدأ الرواية بعملية ولادة، وسط أجواء ليست مستقرة، حيث يأتي المولود وسط جو ملبد بالريح والغيوم والعواصف { الطقس ردئ، ريح صرصر تضرب الشوارع والأزقة المخبوءة تحت غيمة راكدة..}ص13. بينما الأب غائب في السخرة {فزوجها - كما يعلم الكل- مسافر، بل أسير لدي الحكومة مجبر علي السُخرة في حفر القناة}ص15. حيث تحولت تلك القناة المحفورة للماء، إلي تابوت يضم رفات أؤلائك الذين حكم عليهم السادة بالعمل تحت الشمس القاتلة. وكأن المولود/ الحفيد، كُتب عليه منذ مولده بالشقاء والاغتراب، وهو داخل الوطن { الصراخ والألم هما طريق الخلاص والراحة}ص14.{ يخرج هذا الكيان اللحمي باكيا وقد لفظه موطنه الأول علي أرصفة الحياة، لم يملك حق التمرد}ص15. ولتزداد مرارة اللحظة، ينبثق العشق الذي كان في سابق الأوان، لتعلن الكاتبة منذ البداية أن الألم والحرمان اللذين تعاني منهما، الأم والزوجة، لايمنعانها من الحلم بالحب والدفء، الذي ليس يمثل ما كان فقط، وإنما هو الأمل والخلاص لغد أفضل{حياؤها يأبي عليها أن تطاوع شوقها لترتمي بحضنه الذي طالما رسمت له صورا عدة، حتي يوم زفافها، قبلاته تبث وهج الاشتياق فوق جيدها، تعربد النشوة بجسدها ...... تتمني لو يأتيها الآن لتخفي وجهها في حضنه الذي في رحابه يجتمع أهلها وعزوتها}ص15.

إلا انه رغم قبول عملية الميلاد برؤيتها القريبة، الإنسانية، إلا أن الكاتبة، تخفي وراءها بعدا آخر، وتعني بالميلاد، ميلادا لأمة بأسرها. وكما أن الولادة تمر بآلام الوضع، بعدها تشعر الأم بالراحة والسعادة، فور خروج المولود، كذلك الأمة، لايمكن أن تنجب (الولد) إلا بالمعاناة والجهاد، لتشعر بالراحة والآمان، فور خروج المولود للحياة. فهكذا صورت وعبرت الكاتبة عن تلك العملية بما يحتوي الرؤيتين {عبق السكون يفوح من خلف الحجرة المغلقة، هي لحظة السكينة التي أنست بها الأم بعد أن أفرغت بطنها من حملها، عالمها الذي حملته بمفردها، سكن لمواطن واحد، اختلط بين جدرانه كيان لحمي وتجاويف سر لا عن محتواه، هذا العالم له باب يطرق من الداخل وعندما يشتد إصرار ساكنه علي أن يجتاز حدوده، يلهب بابه الركل والتذمر، حتي يتلقي إذنا إلهيا ليجتاز بوابة المرور، ما بين الانتظار والرجاء هوة وجع هي الجسر الذي يصل بين الصمت والبوح، الظلام والنور، لابد من فعل الاختراق لميلاد النور، الأخذ والعطاء ضدان ولكنهما يكتملا ليكون الناتج إيجابيا}ص17. وتعطي الكاتبة مفتاح الدخول للرؤية الثانية، حيث تأتي المولودة بنتا، غير أن ذلك لا يمنع من الغضب والثورة، وتأتي الثورة في اقتحام خصوصية السيد المستبد ، الآثر لكل شئ، حتي الأسماء، فتسمي المولودة "شويكار" إقتحاما لعالم البشوات{ هو اسم لا أحب صاحبته المتعجرفة، لكني سأسميها بها نكاية فيها}ص18. وكأن عملية الولادة ما هي إلا عملية عبور من الصمت إلي الصراخ، ومن الظلام إلي النور.

ثم لتعلنها صريحة، في نداء لذلك الإنسان المقهور المُستَعَبد المستسلم، لينتفض ويثور { إذن حل أزرار قميص يومك المخنوق، وحرر صوتك المرتعش}ص10.

لم تكتف الكاتبة في خلق ألف ليلة وليلة جديدة، فقط بتخليق الحكاية من الحكاية، والخروج من إحداها للدخول في أخري، في يسر وانسيابية، وإنما استخدمت إسلوبا يجذب القارئ ويمسك به، دون أن تٌشعره بأنها تستدرجه، كأن تنهي أحد الفصول ب:{ هلم بنا لنلحق بصلاة العشاء.. فهناك خطب جلل يجب البت فيه وخطر محدق بنا جميعا}ص31 لينتهي الفصل، ويعلق القارئ في انتظار معرفة ذلك الخطب الجلل. وأيضا {أراك متلهفا لباقي الحكاية، اشعر بالعطش دعنا نبحث عن أحد السقاة لنشرب كوبا من الماء}ص70.

وكذلك استحضار الماضي وتجسيده للحاضر في مثل {لنتسلل ونقف خلف هذا العامود الرخامي ولن يشعر بوجودنا أحد}.و{صه يا فتي فلست أهذي فشتان بين أن تسمع عن .. تعال معي وأبصر بقلبك المترف واحكم بنفسك .. أتري هذه الأشباح المصبوغة بكلح الشمس؟ إنهم العمال، أقصد السُخرة}ص61. وكأننا أمام تشخيص للماضي ليلعب دوره في الحاضر. وهو ما أدي إلي التلاعب بالضمائر. حيث بينما يسير السرد بضمير الغائب، مستخدما لغة الحكي، دون أن نشعر نجد السرد يسير بضمير المتكلم، وهو أيضا ما يؤدي إلي استحضار الغائب وكأنه ماثل أمامنا، وهو ما يستدي اليقظة من القارئ، كي يستطيع السير في الخطوط المتداخلة.

كذلك استخدمت الكاتبة –من حيل ألف ليلة وليلة – عملية التناص مع القرآن في مثل { الذي ابيضت عيناها حزنا عليه حين مات عطشا تحت طمي القناة}ص20. في تناص مع الآية 84 من سورة يوسف {وتولي عنهم وقال يا أسفي علي يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم].

و {وعندما بُشر بالأنثي إسود وجهه وهو كظيم}ص28. في تناص مع الآية 58 من سورةالنحل:[ وإذا بُشر أحدهم بالأنثي ظل وجهه مسودا وهو كظيم].

و{ولم تفرضها علي قلوب البشر، فعلي بعضها أكنة فهم لا يفقهون}ص33. في تناص مع الآية 25 من سورة الأنعام: [ وجعلنا علي قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا].

كما استحضرت الكاتبة التناص مع الشعر، الذي كان أحد سمات ألف ليلة وليلة أيضا، بذكر كلمات رفاعة رافع الطهطاوي:

{أصبو إلي كل ذي جمال ولست من صبوتي أخاف

وليس بي في الهوي ارتياب وإنما شيمتي العفاف} ص87.

فضلا عن إسلوب ألف ليلة وليلة في الحديث عن المآسي، والعشق الذي أوضحناه بعاليه، والذي اخترق فيه عالم المرأة بخدعها وحيلها، الذي يُعد أحد أسلحتها، في مثل حديثها عن علاقة الشيخ بزوجته، كاشفة عن خفايا العلاقة بعد أن وهنت زوجته من المرض، وتزوج بأخري { لتسري عنه وحشته خصوصا وأنها صغيرة السن وتجيد أفعال اللهو وتأسر اللب، رغم اقترابه من منتصف العمر والمؤشر الزمنيي والجسماني للياقة في الوفاء بمتطلبات الزواج بدأ في الهبوط، واللجوء للعلل والأعذار آخذا في الصعود، لذا كان لابد من معادلة متطلبات الطرفين بما يعادل مقدار الاحتياج والافتقاد في شكل هدايا من حلي وأقمشة مزركشة لتبهر تلك العيون المتربصة به، تطلب بلا صوت، فيكفي إلتفاتاتها وتعمدها الانحناء بما يكشف عن عجيزة ممتلئة بخصر لا حيلة لمن يراه سوي أن يشده ويستلب عقله ..}ص23، كاشفة عن البعد الإنساني المغلف لتلك الرؤية الجمعية.

وأمام كل هذه النقلات، الموضوعية والشكلية، التي تتطلب الجهد في عملية التتبع، بين الطيران في الماضي، والغوص في الحاضر، نستطيع أن نقول بأن الفصل رقم (1) من الرواية، جاء بمثابة عملية إحماء، وإجراء التمرينات الشاقة، والتي أجهدت القارئ في عملية المتابعة، لاستخدام الكاتبة الجمل الطويلة فوق العادة. فأن تبدأ الرواية بمثل هذه الجملة { مأخوذا بشيخوخة أكلها معول الغربة ما زال يُنقب بين شقوق الذكري عن رائحة تمنح روحه طوَّافة لتعتلي طين القاع المتلبد بحوائط تلاحق حلمه وتعتصر سطورا مربوطة علي خصر اللحظة التي مضي بها العمر واهترأت أردية الحلم التي تعاقبت عليها مواسم العشق والجنون}. فإن ذلك بالتأكيد يعوق عملية الرؤية، ويُفقد القارئ حماس المتابعة، خاصة إذا ما اقترنت باستخدام الكاتبة لبعض الألفاظ المعجمية، أو المهجورة، مثل: السغب ص22. و الرازحين تحت نيوب الذل ص27. و يَعُد عليه أنفاسه ووهراته ص38. و أرسف في وجعي ص54. الأمر الذي يقلل من الاستمتاع بلغة الكاتبة، الشاعرة، المحملة بفيض الصور والمعاني، والحبلي بالتأويلات الفاتحة لتوسيع الرؤية، وما يمنح الرواية الأفق الأوسع في القراءة، لا لتقف عند رؤية واحدة، أو مستويً واحدا من النظر.

  • إبداعية تاريخية، حملتنا فيها المبدعة مني منصور عبر صهد صحاري الماضي، وحرارة لهيب الحاضر، إلي ضفاف الحب، ولوعة العشق. لنَخرُج من "تابوت الماء" وكل التوابيت، كي نزرع الأمل الذي يستحق المعاناة، الأمل الذي يضئ ظلام الغد المجهول، ليصبح اكثر إشراقا لأجيال تستحق أن نفعل لأجلها، فقط أن تتم عملية العبور، ان نغادر الصمت، ونرفض السُخرة، وأن ننفض عنا (السمع والطاعة).

Em:shyehia48@gmail.com

 

[1] - مني منصور – تابوت الماء – رواية - الهيئة المصرية العامة للكتاب –ط1- 2017.

[2] - سورة النساء – آية 59.