يبني القاص المغربي قصته بمواجهة الواقع بالحلم في خلط يحيل السارد بضمير المتكلم إلى شخص تأخذه الظنون والهواجس شاعرا بدنو أجله، بينما يخبرنا السارد في النصف التالي للنص بكذب السارد الأول في حالة هي أقرب إلى الأزدواجية التي يعيشها العربي بين أحلامه والواقع.

البياض والهوس

كريم بلاد

ظل الطبيب صامتا، سادرا يدون على ورقة العلاج، وأنا بين يديه كالذنب الممقوت، تفصلني عنه مسافة مرض، أنظر إليه بعينيي التعبتين، وأفرك يدي بعضهما ببعض. لن يكون الخبر قاسيا علي، أنا أقسى منه، وأشد عتوا، رفع رأسه إليّ، وقال:

  • على سلامتك، لا تعاني شيئا، التهاب بسيط سرعان ما يزول.

تنهدتُ منتصرا، وقلت بأن الهوس النفسي أكبر مرض يمكن أن يصاب به إنسان، خاصة إذا كان ضعيفا مثلي، ونحيلا في نحولي. انشرحت أساريري، وكففت عن الفرك، أضاف غريمي قائلا:

  • واظب على تناول دوائك في أوقاته، وسوف تتحسن حالتك.

لم أجبه. شكرته باسما فقط، أعتقد أنه اعتاد صمتي الذي أواجهه به، منذ أشهر قليلة خلت.

خرجت من العيادة مبطئا، لا داعي للعجلة فالمدينة تعرفني، وهواؤها البارد يلج مسامي فأحس بأني حي، لي وزن على هذه الأرض، ولي مسافة أوالي فيها الخطو. يشعرني الخطو في الأرصفة أني بشر له وجود حق برغم وحدتي التي أعيش فيها منذ وفاة زوجتي. سرت على الهوامش، وتحاشيت النظر في السيارات التي تمرق كالشهب الميتة، لم يعد يسوقها غير المخبولين من شباب وشابات اليوم، لذلك غالبا ما أسير في عكس اتجاهها تماما، حتى إذا زاغت إحداها عن الجادة، بصرت بها من كثب لأتجنب صدمها لي. لست حريصا على حياتي التافهة، لأنها لم تعد تعني لي شيئا كثيرا، خاصة وأن المرض والشعور به لم يعودا يزايلاني، بالرغم من أن هذا الطبيب يُكذّب أعراضه فيّ، ويواجهني بغير ما في سريرتي المبطنة. صحيح أنها كانت سندي، ولكن الموت اقتطفها ونحن في عز زواجنا.

رأيت الهلال مضاء بنور متلاعب، فتذكرت أن عليّ شراء الدواء الذي وصفه لي الغريم، تحسست جيوبي، وأنا أقطع الطريق حذرا، قد يصدمني متهور مخمور أو كاعب مغرورة، وضعت النوتيس على الكونتوار، ولم أتكلم. هؤلاء الذين يبيعون الدواء للزبائن هم الأجدر أن يبادروا، هذا من باب الاحترام الواجب، ثم إن النوتيس تنطق بكل شيء، اسم الطبيب ودرجته العلمية وشهاداته وأعماله السابقة وتاريخ زيارته واسمي المنكوب والدواء وعدد الجرعات ومواقيتها من اليوم والليلة وعلاقتها بالأكل، ثم توقيعه مكررا، وفي الأسفل عنوانه كاملا، وبريده الإلكتروني وأرقام هواتفه ثابتة ومحمولة، كل ذلك على بياض تحف به الزرقة المخطوطة. ما الذي بقي لي أن أقوله؟ لا شيء. تقدمت سيدة أنيقة تضع نظارات على أنفها الرقيق، وترتدي بعناية ملاحظة وزرة بيضاء، مزررة بإحكام، كأنها تخاف تلصص المتلصصين على نهديها العامرين، وهي لا تشبه في شيء المعلمات.

  • سيدي!

أومأت إلى النوتيس بسبابتي، وطفقت أفرك راحتي. ربما استغربت سلوكي، ولم تكن تعلم أن البياض يصيبني بالهوس، أخذت الورقة بين يديها، وغابت من حافة الأعمدة التي تحمل أدوية متنوعة. كففت عن الفرك، وتوجست أنتظر مَقدمها من المكان نفسه، فجأة ظهرت من الجهة الأخرى، وضعت الطلب بين يدي، ولم تنبس ببنت شفة، ربما تردّ الصاع لي صاعين، لا بأس، مقبول منها مادامت تحمل من المعلمات شَبَهًا. جعلت الدواء في كيس بيئي، ودفعته إلي.

  • مائة وسبعون درهما.

نقدتها ورقة المائتي درهم، حملت الكيس متأبطا، جمعت المردود من النقود بخماسية نظيفة، ودون أن أعدها أدخلتها في جيبي، من حيث أخرجت ورقة العلاج، ثم غادرت الصيدلية متعجلا.

على كورنيش البحر تمشيت، صار الوقت غلسا، أمشي وحيدا بين أمواج البشر الرائحين الغادين، لا أحس حقيقة بأحد، وحدها النفس المكلومة تأنس بجسدي المنهك، والأفق يمتد على خط البحر داكن الحمرة، وخيالات سفن صغيرة تعبر الخط متجهة صوب الميناء، وفي حدائق الفنادق الفخمة سياح ينخرطون في اقتناص المتعة. بين الفينة والأخرى، أتحسس علبة الدواء، سأعود إلى البيت، حتى آخذ دوائي في وقته المحدد.

فتحت باب الشقة من دون صرير، وضعت يدي على الجدار، أتحسس موضع زر الكهرباء، رددت الباب بباطن قدمي من الخلف، وجدت الزر، كبسته فأنيرت الشقة، ووضعت المفاتح على حائط الصالون. في المطبخ، أذبت حبتين في كوز ماء، وعببته، تركت الدواء على المائدة من دون أن أتكلف عناء رده في علبته، سوف أستعمله صباحا قبل الأكل أيضا، لا داعي إذن لأفعل. تناولت بعض الفاكهة فقط، ليست بي شهية إلى الأكل، ربما خلدت إلى النوم مبكرا، وغريمي أزوره الأسبوع المقبل. صحتي لا تتحسن، لست أدري كم من مرة يلزمني أن أعبر له عن ذلك، حتى إني تعبت بين يديه من الكلام، الشكوى، المرض، الهزال، أووف تعبت، تبا.

في الحلم رآى نفسه رجلا كاملا، رآى نفسه على حقيقتها، لم يصدق بصيرته، لكنها أفصحت له عن كل شيء، الغريم نفسه الكاذبة، والطبيب لا يحتمل حتى أن يُذكر بين يديه. صحيح أنه يعيش وحيدا، لكن ليس بعد وفاة زوجته، فهو لم يتزوج قط، ولا مرض يعانيه، ولا يزور الطبيب حتى ولو مرض. في وحدته يخاف المرض إلى درجة الهوس القاهر، والوزرة البيضاء لا يحبها، غالبا ما كانت تستحيل في نظره كفنا أبيض يخنقه، ويلفه وحيدا مغتاضا. تلك المعلمة التي لا ترتدي غير البياض تلبَّستْه كأنها جني ممسوخ. هو كان مجدا، مثابرا، محبا للدراسة والاجتهاد، غير أنها كسرت عزيمته، فانقلب الجد كسلا، والمثابرة خمولا، والاجتهاد تقاعسا. إذا دخلت من باب القسم، بحثت عنه، ولا يجلس إلا في آخر مقعد، وقبل أن تستقر عيناها الزائغتان عليه، توجه له سؤالا أو تطالبه باستظهار ملخص الدرس السابق، وقبل أن يستجمع أنفاسه ليجيبها، تهجم عليه، وتكيله من العصا الصلبة الضربات تلو الضربات، على رأسه تهشمت عصي بلا عدد. تعب من الضرب، وهي لم تتعب من قهره وتعذيبه، حتى استقر في نفسه الضعف والهوان والهوس.

في الحلم يصير على حقيقته، ويعيشها.

وفي واقع الحال، يحايل النفس المكلومة، مختلقا حياة مغايرة، يعيشها بتفاصيلها الموجعة، التفاصيل التي لا تجد لها في الواقع صورة ولا ظلا.

في الحلم يعود طفلا يعذب.

وفي واقع الحال رجلا منكوبا من زمن منكوب بناسه وحوادثهم.

 

أكادير يوم 2 فبراير 2018م.