في مقالته يتناول الناقد المصري رواية "أمطار صيفية". ويرى أنها تدور حول الحنين للماضي، حيث تتفاعل الشخصيات مع بعضها البعض، ويتساجل المحلي مع العالمي، كما تتواشج الموسيقى مع التاريخ، ويتردد عزف العود الحزين في تيارات الماضي وأفق المستقبل.

«أمطار صيفية» وتألق في عالم السرد

محـسـن صـالح

 

قليلة هي تلك الروايات التي تأخذك إلى عالمها فتظل في دوامات جمال السرد تحلق عاليا في سماوات من الإبداع الفني، فتظل تعيد مشاهدها المرة تلو الأخرى وأنت في متعة فنية خالصة. وهناك روايات أخرى نادرة هي تلك التي تظل تقرأها بتمعن أو بتأن وكأنها تخط كلماتها ومشاهدها وشخصياتها وأحداثها -عزيزي القارئ- في أرجاء الذاكرة وتضرب على أوتار النفس والروح، فتحار من أين يأتي الضوء ومن أين يأتي هذا الإعجاز الفني والروائي. تنتمي روايتنا "أمطار صيفية" إلى هذا الصنف الثاني للكاتب المبدع أحمد القرملاوي. كاتبنا درس هندسة التشييد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وحصل على درجة الماجستير في تخصصه من جامعة أدنبرة بأسكتلندا، ولعل دراساته في مجال الهندسة حيث كل شيء بحساب تركت أثارها على عمله الذي بين أيدينا، فكل شيء بقدر وحساب ومقدار كما ستتضح الإبانة.

تتفاعل الشخصيات مع بعضها البعض ويتفاعل المحلي مع العالمي، كما تتوازى الموسيقى مع التاريخ ويتردد عزف العود الحزين في تيارات الماضي وأفق المستقبل. يشف السرد أحيانا حيث نراه كترديدات الأنغام في معزوفات الحنين، ويتسارع حتى نجد له وجيبا في القلب كدقات آثار الحب في الجسم وأنحائه وتظل –عزيزي القارئ- في حالة الوجد هذه حتى تزايلك، فتعيد اجترار ذكرى أثرها في النفس وأنت تريد أن تستعيد كل شيء مرة ثانية، إنه التطهير للنفس والروح.

تدور رواية "أمطار صيفية" حول الحنين للماضي، للزمن الجميل ممثلا في الوكالة التي تتواجد على مقربة من حي الأزهر هناك. في هذا المكان الذي يتواجد من عصر المماليك عاش الموصلي صانع الأعواد والذي ألف في التدوين الموسيقى ثم تحول إلى أمام صوفي وله مريديه وله تاريخه الطويل الذي امتد حتى وصل إلى "ذاكر رسلان" إنه تاريخ حافل أمامنا حيث المريدين وحيث الورد وحلقة الذكر وتعليم المقامات والموسيقى. إننا أمام أحداث ذات خصوصية، حيث "رحمة" ابنة "ذاكر رسلان"، وهناك "يوسف" الذي سيتعرف على الوكالة من خلال "زياد" وسيجذبه عزف العود الجماعي مع الحضرة، وهناك "زينة" التي تلعب دورا في الرواية كأحد الشخصيات الهامة، إلى جانب تعليقها على الراوي في ثلاث مداخلات كأنها محطات تنويرية داخل العمل الروائي وهذا تكنيك في منتهى التأثير، حيث نتوقف في ثلاث مواقع نرى فيها بعيني طائر الأحداث والتعليق عليها فنجد زوايا جديدة تثري العمل الروائي من خلال تعليقات "زينة". وهناك الأسطى"عبيد" صانع الأعواد والذي يعود إلى الوكالة بعد خروج "ذاكر رسلان" من العناية المركزة، ونجده يلقي حتفه في حادثة الحريق.

نبدأ الرواية بما يسمي طريقة الإسترجاع للخلف في السرد أو Flash Back، حيث حريق الوكالة الذي تم في حميا "السلفيين" المتعصبين وكأن كاتبنا يريد أن يقول لنا بأن التعصب هو الداء الوبيل وأنه ينتهي بحرق كل جميل ومقدس مثل "وكالة الموصلي". نرى خيوط هذا التعصب من قبل السلفيين الذين يسمح لهم "ذاكر رسلان" بأن يصلوا في جزء من الوكالة وهنا تكمن المشكلة حيث يمتدون كالأخطبوط ويزداد تمددهم بعد أن احتاج لهم في ترميم السور الخلفي للوكالة.

من لحظة احتراق الوكالة وهرولة "يوسف" و"زياد" ثم حضور "رحمة" ثم تعليق "زينة" نجد الأحداث تكر إلى الخلف لتأخذنا في لقطات تدور جميعها في القاهرة اللهم إلا من الساحل الشمالي حيث صديق "زياد" الكويتي وصحبه. لقطات تتكدس في حي الأزهر والزمالك والقاهرة على تفاعلات في القرب المكاني تعكس ارتباط الأبطال بمدارات تتلاقي مع بعضها البعض. هذا ولا نريد أن ننسى "مبروكة" سكن "زياد" في الطالبية ومأواه وواحته وفتاته.

تتدرج الرواية كسيمفونية لها أجزاؤها التي نراها ونحس بها، فنغمض العينين ونجد أنفسنا نعجب من قدرة الكاتب على التنويع على الجمل اللحنية البسيطة داخل هذه السيمفونية في إخراج عمل ابداعي متميز حاز بجدارة جائزة الشيخ زايد لعام 2018. يجمع الكاتب في قدرة ومهارة فائقة عناصر من الفسيفساء ليخرج لنا عملا نعجب له.

فكرة العمل غير معقدة حيث الوكالة والشيخ الموصلي وطريقته ونقلها إلى الغير أو تدريب المريدين حيث حلقات الذكر. حول هذا نجد العود وهو البطل الخفي في هذه الرواية حيث نجد "يوسف" هو عازف قدير على العود لدرجة التميز وخلب الألباب ونلمح في تضاعيف العمل معلومات جميلة جدا عن المقامات ومعانيها والاحساسات التي ترتبط بها مثال "ستكون بدايتنا مع مقام الصبا ؛ مقام باك حزين، بعث في قلب مولانا شعورا بالحسرة على مافاته، وبتعاسة الابتعاد عن جناب الله. هو مقام ناقص من الناحية التقنية، فهو على عكس المقامات الأخرى، لايبدأ وينتهي عند نفس النوتة الموسيقية، ولهذا يبقى سلما ناقصا متفردا في إحساسه"(ص70).

هنا نجد الصوت يتردد داخل الرواية صوت الموسيقى الحلوة، صوت الحضرة، صوت المريدين وذلك جانب يجعلنا نستكشف عالم الموسيقى الشرقية ممثلة في ألة العود والعزف علىها وتعلم المقامات.

تترائ لنا "زينة ديناري" ابنة هيلجا الزوجة الألمانية التي تركهاـ "ذاكر رسلان" في ألمانيا وعاد لمصر ليتزوج وينجب "رحمة". كذلك نلحظ دور "زينة" في تعزيز دور الوكالة مع مؤسسة "باومستر" والتي تقدم دعما ماديا للوكالة. يترائ لنا من خلال "زينة" تفاعل المحلي بالدولي وندرك في الوقت نفس عالمية الموسيقى وكأني بالكاتب الفنان يريد أن يقول لنا أن الموسيقى هي روح الشعوب وأن الشرق سيظل السحر ومحط الأنظار للجميع في الداخل والخارج، ولا تنسى "زينة" مشروعها في تطوير الوكالة لمركز ثقافي للموسيقى الشرقية بعد إدخال التكنولوجيا عليها وجعلها ملتقى موسيقى العالم كما سيتم إنتاج آلات موسيقية قياسية. إنها عقلية الغربي في الفكر عقلية براجماتية تحسب لكل شيء قدرا ولكنها تصطدم بصخرة عناد "ذاكر رسلان" وحيادية "يوسف".

أمام هذا الاتجاه الخاص بتفاعل المحلي مع العالمي، وسعي الآخرين لخلق ذلك التزواج بين التكنولوجيا والموسيقى الشرقية العريقة، نجد هناك من يأخذ الأمور إلى الوراء ممثلا في السلفيين الذين ينتهي بهم الأمر إلى حرق الوكالة في فورة غضب عجيبة. يخرج من الضدين واللذين نلقاهما في الحياة قمة التوتر في السرد والعبارات بحيث نجد أن لكل منهما قاموس أجاد الكاتب في استخدامه وكأنه يستخدم فرشاة خاصة لرسم ملامح هذه الشخصيات.

مرض "ذاكر رسلان" وتطوراته يضعنا أمام الخوف من فقد القدوة لدرجة أننا نحس أنه الكائن الروحي –إن جاز لنا التعبير- والقدوة تتمثل في هذه الشخصية رغم أنها تحرص على عدم التغيير وتترك مكانا داخل الوكالة للسلفيين للصلاة فيها وكأنها تحن إلى الماضي ولا تريد أن تغيره. كما أنه يرفض اقتراحات "زينة" بتحويل الوكالة لمشروع ثقافي عالمي. وهذا بدوره يتضح على شخصية "رحمة" ابنته التي لا تعرف كيف تدبر مبلغ تأمين وجوده في الرعاية حينما أصابته الجلطة الدماغية. إنه الشخصية المهيمنة والتي لا تريد التجديد.

تستمر أحداث الرواية في تفاعل شخصياتها ودورانهم حول المكان "وكالة الموصلي" من وجهة نظر من يريدها مركزا عالميا وأن تتطور إلى الأمام "زينة"، وهناك من يريدها كما هي دون تغيير اللهم إلا من صيانتها والحفاظ عليها مثال "ذاكر رسلان" و"يوسف" و"رحمة"، وهناك "زياد" الذي تطويه أحواله والصدع الذي حدث بين والديه لزواج أبيه من امرأة أخرى. إنها دراما الأسرة تنتقل إلى الأبناء فيترددون في طرقات الحياة ويتخبطون، فمنهم من يجد سلامه النفسي ومنهم من لا يجد، ويظل في تخبطه على الدوام. تأخذنا الرواية إلي هذه العوالم التي نغشاها ونحن نرى من خلال عيني الراوي وتعليقات "زينة" ووقفاتها.

يهمني أن أختم هذا العجالة في كلمة عن اللغة التي يستخدمها الكاتب والتي أرى أنها من أجمل وأرق الأدوات التي ينقلنا بها إلى عالمه، فكما أن الموضوع شيق وحيوي وجديد وجاذب، نجد اللغة عبرت عن مكنونات الكاتب ونقلتنا في لفتات ذكية إلى عالم كل شخصية منفردة أو في تفاعلها مع الأخرين "التقطت زينة الهاتف وفتشت فيه بتركيز أطل من جبينها، بعد برهة عاد إليها الصفاء، وأخذت تهدهد الهاتف فوق راحتها كرضيع نام لتوه. قالت قبل أن تنقر الشاشة: "اسمع"(ص77).

"... لم يشعر يوسف بجسده وقد راح يتمايل مع توالي التكبير والآهات وتساقط منه الحس النقدي في دوامة الوجد، التي سحبته حتى نهاية المعزوفة"(ص33).

"هذه البقعة على اتصال دائم بالسماء، فلا ترهف جدرانها السمع لضجيج البشر"(ص57).

وهناك العديد والعديد من اللقطات التي تعكس لنا لغة الكاتب الفنان المعبرة. إن لغة هذه الرواية في حاجة إلى دراسة خاصة تتنكب جوانبها ودورها في رسم الشخصيات وطرائق السرد وتصاعد الأحداث ونموها.

تنتهي جولتي السريعة في عالم رواية "أمطار صيفية" الضافي الجميل، ذلك الاسم الذي نلقاه في الرواية وهو يتحدث عن الأسطى عبيد صانع الأعواد وعودته إلى الوكالة وعراكه مع السلفيين "صارت الدموع تنساب على وجنتيه، فلايدرك ما أوعز فيها؛ أهو الألم،أم الخوف؟! عاودته ذكري بكاء الموصلي والأمطار الصيفية، نظر إلى السماء المحتجبة فوق سقف الورشة، وعلم أن ميتة ستقع لامحال"(ص207).

في خاتمة المطاف، تحية للكاتب المبدع أحمد القرملاوي على هذا العمل الضافي متمنيا له المزيد والمزيد من الإبداع الفني في عالم الأدب.