يتناول الكاتب المصري في نصه "محنة" التربية والتعليم. ويشدد على أن تعبير "المحنة" فيه إمكانية حل فيما لو تم التعامل معها بشكل علاجي. ويتلمس الجذور التاريخية للمشكلة وكيفية استفحالها. ويرى ضرورة اجتثاث المعيقات جذريا، والبدء من الصفر بآلية وكادر جديد يتم فرزه بعناية بمقدار إيمانه بالعلم كطريق وحيد لتقدم البشرية.

محنة التعليم في مصر

عيد اسطفانوس

 

وهي ليست محنة في مصر وحدها، بل محنة في كل المنطقة ومحيطها الثقافي والديني، وقد وجدنا أن تعبير محنة أقرب للدلالة، فهي ليست قضية أو مشكلة أو عقبة مؤقته يمكن حلها باجراءات لوجستية، لكنها أقرب لعلة أو مرض مستعصي والجميع في انتظار مصلح جرئ مغامر يبتكر علاجا ثوريا تتجرعة هذه المجتمعات ولو بالقوة، أما مايقال عن خطط هنا وهناك عن تحديث أو تعديل أو تطوير لهذه المنظومة المتكلسة فكلها كذب ودلاسات على الناس وعلى الواقع، وهي ضياع لقرون نحن أحوج لكل يوم فيها وضياع لثروات نحن أحوج لكل قرش منها.

والبعض يتحدث عن تطوير منظومة التعليم، كما يتحدث عن تطوير منظومة الصرف الصحي أو النظافة على سبيل المثال، وهي نظم طرق تطويرها لاتتعدى توافر تمويل ومعدات وعمالة.. الخ، لكن ما نتحدث عنه هي محنة بكل المقاييس لا تجدي هذه الاساليب في علاجها ولا نقول تطويرها، فتطوير منظومة يفترض أنها قائمة بالفعل وتؤدي دورا ثم يجري عليها بعض التعديلات من آن لآخر أو بالأحرى تحديثات يفرضها التقادم الزمني، أما منظومة التعليم في مصر فهي تشبه نبات عشوائي نما وتجزر وتفرع وتسلق وتغول والتهم مداخيل الافراد والدول، ثم أفرز هذا المنتج النهائي جيوش عرمرم من أنصاف المتعلمين والأميين معدومي المعرفة والثقافة، أجيال خارج الزمن تعيش عالة على بقية سكان الكوكب ساهموا في القهقرى الى عصور التخلف والبداوة، التي خرجت منها شعوب كثيرة بفضل العلم ولا شيء غير العلم، العلم الذي فتح آفاق لم تخطر يوما على قلب بشر، العلم الذي أنقذ البشرية من الفناء وانتجت معامله الدواء والامصال واللقاحات ووسائل النقل والاتصال، العلم الذي خرج بنا الى عوالم كان مجرد الحديث عنها منذ عقدين أو ثلاثة مضوا ضرب من الخيال، هذا العلم الذي تحاربه شعوب هذه المنطقة حربا شعواء لاهوادة فيها شاهرين كل الاسلحة، وبالطبع وعلى رأسها السلاح الناجع الناجز في مثل هذه القضايا وهو سلاح الدين وايهام البسطاء والدهماء والعامة أن العلم خطر على عقيدتهم، حتى أنه رفع الشعار صريحا واضحا (بوكو حرام) أي التعليم حرام شرعا وتشكلت ميليشيات متخصصة للجهاد ضده ومكافحته، وما يحدث في نيجيريا وأفغانستان وباكستان وغيرها ماهو الا صورة من الأصل (الاوريجنال) الذي نبت في صحارى النفط، وألغى كل تأثير للعقل، وان كانت النسخ الاخرى تستخدم وسائل مختلفة إلا أنها في النهاية تؤدي الغرض بامتياز وهو ايقاف عجلة الزمن بل واعادتها الى الخلف ألف عام.

وكل يوم يخرج علينا -ونحن نتحدث من مصر- منظرين كل واحد يسبق اسمة عشرات الالقاب والشهادات والرتب، ليلقى علينا الخطة المدهشة البارعة الناجعة لاصلاح التعليم، وأنا شخصيا كلما سمعت كلمة إصلاح تضرس أسناني، وأعرف أننا على نفس النهج الفاشل سائرين، لأن الجميع يتعامى عن المشكلة ويجبن عن الخوض فيها خوفا من الميلشيات، التي تحتضن هذه المنظومة ومستعدة للدفاع عنها ضد أي دخيل يقترب منها ولو من بعيد.

وفي رأيي أن علاج هذه المنظومة هو اجتثاثها من جذورها اجتثاثا تاما، ثم حرث الارض وتطهيرها وتعقيمها والبدء من الصفر معلمون جدد لتلاميذ جدد، معلمون جدد يتم فرزهم وفحصهم بعناية وسؤالهم سؤالا واضحا هل تؤمن بالعلم طريقا وحيدا لتقدم البشرية؟ ويجب أن تكون الإجابة واضحة جلية شفافه نعم أؤمن، ثم تلاميذ جدد من سن الرابعة لم يتم حقنهم بجرعات من سموم الجمعيات السرية، وميليشياتها المختبئة في الحضانات أو بالأحرى الحاضنات التي ترعاها الدولة وتقدم لها الدعم بكل أشكاله، أما الدراسات الدينية فيجب أن تكون بعد مرحلة التعليم الاساسي أي في الخامسة عشر، ويكون اختياريا وباشراف الدولة ويكون مسارة منفصل تماما عن التعليم العام الموحد، ونحن هنا لا نخلط بين مهام دور العبادة ومهام دور العلم.

واذا كان الباشا الالباني الكبير متأثرا بموجات النهضة التي اجتاحت شمال المتوسط هو أول من وضع اللبنه الاولى في بناء نظام تعليم حديث -في حينه- فقد كان عبد الناصر هو من سدد أول ضربة معول هدم فيها، ففي منتصف الستينات أصدر قرارا بتأميم المدارس القبطية ووضعها تحت اشراف وزارة التعليم، رغم أنها لم تكن مدارس تعليم ديني ولا مقصورة على أتباع ديانة بعينها، وانتظر الجميع قرارات أخرى جريئة لتوحيد التعليم في كل المحروسة، لكن عبد الناصر فاجئ الجميع بتحويل الأزهر من مؤسسة لتعليم الدين الى مؤسسة تعليم ديني، أي من مؤسسة لدراسة وتعليم اللاهوتيات ومقارنات الأديان الى مؤسسة لصبغ العلم بالصبغة الدينية، أي تعليم الطب والهندسة وغيرها من العلوم الطبيعية من منظور ديني، وبغض النظر عن تفسيرات عنصرية بغيضة لهذا القرار وقتها، الا أن النتيجة كانت وبالا، حيث تم ويتم ضخ كل عام الى سوق العمل مئات آلاف من ذوي التعليم المشوه، وهاكم النتيجة على الساحة لاتحتاج لتفسير، وجاء سلفه ومكن المتطرفون من مفاصل كل منظومة التعليم، ولازالوا متمكنين منها وحولوها الى مفرخات تنتج أشباه بشر مسلوبي العقول والارادة، فقط مستودعات كراهية وتعصب وعنصرية انفجرت في وجه الكوكب كله.

ولقد انتفضت أوربا بعد أن حسمت أمرها في قضية الخلط بين العلم والدين، وصححت المسار حيث كانت الجامعات الكاثوليكية العريقة هي التي تحتكر تدريس العلوم، وهو ما أعاق وأرهب باحثون ومبتكرون كثر، وتم رفع عباءة الدين عن كل هذه الجامعات واليوم لم تعد تحمل من الدين الا الاسم فقط، وأصبحت منارات تشع نورا وحضارة وابتكار في جهات الارض الاربع.

وبدلا من أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون وصححوا أخطاؤهم بدأنا من حيث بدأوا، وصار النظام التعليمي مشقوق على أساس عنصري، حيث يتجرع قسم من أطفال مصر نظام تعليم وقسم آخر نظام تعليم مختلف، وبين هؤلاء وهؤلاء عشرات أنظمة دولية وتعليم خاص من كل نوع، ولنا أن نتخيل جيلا حائرا موزع الانتماء بين الدين والوطن ودولة أخرى تعطيه شهادة ممهورة بخاتمها مقابل آلاف الدولارات، ولا زال الجميع يصدق الكذبة الكبرى تطوير التعليم.

ان مشكلة هذه الشعوب في هذه المنطقة أنها شعوب حائرة، أنظمتها تضحك عليها فلا هم دول دينية ولا هم دول مدنية، واذا استثنينا تونس التي تحاول رغم مقاومة شرسة فالجميع كاذبون، ومن هنا تنشأ أنظمة مشقوقة قضاء مشقوق وتعليم مشقوق وثقافة مشقوقة ومجتمع مشقوق رأسيا وأفقيا والصراع على أشده بين الجميع، ويصبح الحديث عن مشروع قومي كاصلاح التعليم هو وهم كبير كبر المأساه.