يعود محرر السرد بالكلمة إلى سنوات الحرب العراقية الإيرانية، وإلى مجند معه من بلدته بل من الحي الذي نشأ فيه، جاءه خبر موته في منفاه ففتح بوابة الذكريات على كل ما هو إنساني وحميم. ليكتب كيف تتعانق المشاعر برغم تبدل البلدان وتنوع المآلات فلا يختلف الوطن عن المنفى.

ذاكر أحباب

سلام إبراهيم

 

جملة كان يرددها ابن مدينتي والجندي معي في الوحدة العسكرية نفسها على حافة مجنون 1984 وقت اشتداد المعارك في الغروب، كان يمّض به الشوق فيصرخ:

- أااأأأأأأأأأأأأأخ اليوم ذاكر أحباب قلبي!

فكان يثير شجن الجنود، وكنت وحدي أعرف قصة شجنه؛ فهو من مدينتي لا بل من محلتي ويكبرني بحفنة سنين متزوج يصور بسردٍ مفصلٍ كلما عاد من إجازته الشهرية؛ كيفية اللقاء بزوجته والجلوس على كرسي بدشداشةٍ بيضاء شفافة دون لباس داخلى، كان يروي لجنود شباب محرومين، فتتلمظ عيونهم بشرر الرغبة وتحتدم شهوتهم و"حسين قامة" يفصّل العملية الجنسية، ملمس الفخذين، وطراوة النهدين الكبيرين، ولحم البطن البارزة قليلا إذ كان يصفها مطولاً ويصف تدلهه بها، أما ما بين الفخذين فيحجم عن الوصف ويتحول القص إلى حركات وآهات وأصوات تجعل الجنود الملتفين حوله يضجون بالضحك والنشوة بعيونٍ تلمع بالشهوة والهياج في ليل الجبهة والقصف المتبادل طوال النهار. يشنف كل مساء ومع غروب الشمس ويصرخ:

- اليوم ذاكر أحباب قلبي .. ذاكر أحباب .. ذاكر .. ذاكر.. أويلي.. أويلي يمه أويلي!

يظل يصرخ بشجن مثل مذبوحٍ يشرف على لفظ أنفاسه الأخيرة، وكان صراخه يبعث الضحك المصحوب بالألم لقلوبنا وأجسادنا الملقاة في قفر شرق البصرة التي نقضي يومنا فيها بين الخنادق والمدافع وقت القصف المتبادل، وبين العمل ورواية الذكريات والقصص وقت الهدوء. كنتُ بدوري أصدق كل ما يرويه وأتأمل قسماته في خضم السرد التي تتصاعد في ذروة المشهد محتقنة بالدماء، وتخفت هابطة في وصف موقف فيه ترقب وخوف، وكنت ألبث طوال الليل في الفراش وفي نوبات الحراسة أرى المشاهد التي رسمها وجعلنا نراها مدهوشاً من قدرته على التصوير بذلك الأسلوب المحبب الناعم اللذيذ.

تحاشيته بالرغم من تصادفنا اليومي قبل الحرب في المدينة، فهو يسكن وسطها؛ في محلة "الجديدة" التي أقطعها بشكل يومي ثابت، كان مظهره مخيفاً بثوبه الملطخ بالدم وسكينته اللاهثة المحصورة إلى خصره بحزام أسود، ومشيته مباعداً ذراعيه كشقي من الأشقياء وهو في طريقه إلى مسلخ الذبح أو إلى دكانه وسط سوق القصابين، كانت ملامحه حادة ونظراته ثاقبة يشاع عنه العديد من قصص شراسته وجرأته وقوته.

لكن بعد حفنة سنين وجدتني معه في نفس الوحدة العسكرية في شرق البصرة، سنتقارب جدا ونصبح أصدقاء إذ وجدته شخصاً مختلفاً طيب القلب شهماً شجاعاً، حتى أنه ركض معي في ظهيرة حارة إلى وسط البطرية بالرغم من القصف المكثف والقذائف المتساقطة لنحمل جنديين أصيبا، في سيارة إلى وحدة الكتيبة الطبية فسبحنا بدمهما وبكينا لحظة لفظهما أنفاسهما الأخيرة، وعدنا إلى بطريتنا ناقعين بالدم حزينين لم نتمكن من الأكل ليوميين متتالين.

سألته يوماً:

- حسين ليش يلقبوك بحسين قامه؟!

أنفجر في ضحكةٍ عاصفةٍ حتى وقع على التراب جوار الملجأ، جرفني ضحكه العاصف ككل مرة، ولما تمالكت نفسي أعدت السؤال:

- صحيح حسين المدينة كلها تناديك بهذا اللقب والجميع لا يعرف من أين جاء!

- سلومي أنت ما شايفني يوم عشرة عاشور!.

ولم يكلف نفسه كعادة الشخصيات الشعبية بالشرح إذ تكتفي بالإشارة مستهينة بجهل السائل.

لم أتوان في الإجازة التالية كرست أياما لمعرفته، فعرفت أنه يُطّبر يوم مقتل الحسين "بسيفٍ قصير حاد" إلى أن يغمى عليه في حدث صار رمزاً لشدة حبه للأئمة، حدثتُ "محمد" أخ زوجتي القصاب أيضاً عنه وعن قصصه المسلية في ليل الجبهة، فأنصت لتفاصيلٍ من حكاياته وطالب بالمزيد وفي ملامحه الفتية ظلال سخرية مشرفة على الضحك ولما صمتُ، قال لي ضاحكاً:

- سلام هذا كصاص (قصاص) أصلي، يقضي إجازته بالسكر ولديه حبيب حلو!، وماله شغل بالنسوان. صحيح وعند أولاد متزوج بس! واليوم لمن ينزل الظلام راح أَشْوفَكْ!.

في المساء قادني إلى وسط المدينة، وفي شارع عريض مكتظ أشار إلى سيارة تكسي واقفة بمحاذاة الرصيف مطفأة الأضواء وهمس لي:

- أنتظر لمن يفتح الضوه!.

خلدنا جوار جدار معمل ثلج ننتظر إلى أن أشتعل ضوء قداحة، فرأيت وجه "حسين" منتشيا وجواره شعت قسمات صبي جميل جدا يصغره بأكثر من عشرين عاماً. لكزني "محمد" هامساً:

- شفت؟!.

- أي!.

فأردف:

- لا تسولفون أنتم المثقفين ما تعرفون شي!

فَرَبَتُ على ظهره وأنفجرت بضحكةٍ عاصفةٍ وأنا أردد:

- والله صحيح .. صحيح .. صحيح!

عندها أدركت أن كل قصصه للجنود مجرد أخيلة!

كانَ يغلف شوقه لمعشوقه الصغير بهذه القصص، وكان يصرخ كل غروب لاهجاً بذكر الحبيب البعيد في "الديوانية" الذي يَشْعِل القلب عند مقبل ليل الجبهة الحالك الموحش.

وكانَ الشوقُ يَشّده ويُضّيق الخناق عليه فيصرخ:

- أأأأأأأأأأأأأأأاخ ذاكر أحباب قلبي!

أحببتهُ ووثقت به فتوطدت علاقتنا جدا، حتى أنه في وقت معارك "مجنون" الشهيرة 1984 أشتعلت الجبهة وقامت القيامة، فجاء نحوي تحت القصف الشديد راكضاً وقال بصوت عالٍ:

- يردونْ أثنينْ يعبأون الشاحنات قذائفْ بالخلفي!.

- وشو علاقتنا!

- (تعال ماكو أحد يريد يروح، لنذهب أني وياك .. نموتُ من التعب ولا نموت بحرب "إبن صبحه")

هكذا كان ينعت الدكتاتور!.

راقتْ لي الفكرة، وحملتنا عربة عسكرية إلى مخازن خلف الجبهات، وليلتها لعنتهٌ ولعنتُ الحياةَ، فقد أوشكتُ أن أموت من التعب، إذ كان من المستحيل التوقف عن تحميل القذائف من أكداسٍ هائلة العدد ووضعها بظهر العربات التي بدت وكأنها لا نهاية لها، وكان صبرهُ صبرَ جملٍ يخفف عني وطأة التعب، ويجعلني أستمر وهو يقول في كل مرة تكلّ قواي:

- سلومي تحمّل .. حرامات نموت بهذي الحرب الجايفة! تحمل .. تحمل!

لم أصمد عدت في الصبيحة التالية بينما واصل "حسين" حتى توقف الهجوم وهدوء الجبهة.

أحببتهُ ووثقتُ به، فعدتُ أبعث معه كلما نزل في إجازةٍ رسائل سرية تتعلق بوضعي ووضع التنظيم السري الذي كنا نعمل فيه أنا وزوجتي وكان ينقلها ويأتيني بالأجوبة.

هربتُ ملتحقاً بالثوار في الجبل، لتغيبني الحوادث والأمكنة قرابة عشرين عاماً حتى إحتلال الأمريكان لوطني، فعدتُ في زيارةٍ لأجدهُ حياً. حدثني عن نجاته العجيبة من ميتات عديدة، وعما فعلته الأستخبارات العسكرية حال هروبي، إذ حققوا معه ومع كل جندي من مدينتي في وحدتنا. ظلَّ يعيد عناقي بين قصة وأخرى غير مصدقٍ. كانَ قد كَبَرَ وهدّتهُ الحياة يقفُ في محل تصليح مبردات محاطاً بأولاده، ويكرر بعد كل عناق:

- والله كنت أحس بأنك تخفي شيئا أعظم منا!

أسهرُ هذي الليلة محتفياً برفيقي الجندي "حسين عطشه" الذي خبّروني أنه مات بهدوءٍ مثلما يموت الملاك، لّف رأسه ونام ولم يستيقظ في الصباح.

حالي في المنفى كحالته في جبهة الحرب يعصف بي شوقٌ مستحيلٌ لتراب الديوانية، له، ولمن غادرني من الأصدقاء إلى الأبدية وتركني تائها في هذه الدنيا السافلة، أردد كلما أقتربتُ من حافةِ الحياة:

- ذاكر أحباب.. ذاكر أحباب!.

 

28-3-2013