يخلص الكاتب إلى أن خليل الرز كتب هجائية متواشجة مع المكان السوري الأليم، هجائية أكثر سهولة على القارئ حين يحاول فك رموزها، مع الاحتفاظ بالمستوى الفني الرفيع ذاته، أو أكثر، وبدرجة الصعوبة ذاتها، أو أكثر، التي تبرر إعادة القراءة، للمتعة فقط.

البحث عن الزمن السوري المفقود

في رواية «البدل» لخليل الرز

علي العائد

 

ما بين انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، والثورة السورية 2011، مضت عشرون عاماً، والان 26 عاماً. في أول عشر سنوات من "استقلالها" عن الاتحاد السوفييتي، انحدرت روسيا الاتحادية فاقدة كل مقومات الحياة الكريمة، حتى وهي تحتفظ بسلاحها النووي، وعلومها الفضائية، ومقعد الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن. أما سوريا ففقدت في أقل من ست سنوات أكثر من نصف مليون من مواطنيها قتلاً على يد النظام، وعلى يد الفصائل المقاتلة المعارضة، والميليشيات المؤيدة للنظام الأسدي، وطيران روسيا والتحالف الدولي ضد داعش، إضافة إلى عدد يفوق 12 مليون نازح ولاجئ، في ظروف اقتصادية وإنسانية قاتلة.

نفترض، هنا، أن هذه المقدمةٌ حالت البلاغة الروائية دون أن يذكرها خليل الرز في روايته "البدل" (مركز المحروسة، القاهرة، 2016)، فبطل الرواية (الراوي) يعود إلى سوريا بعد تدهور الوضع الاقتصادي في روسيا، حاملاً شهادة في الأدب الروسي، وهو ما يتطابق مع سيرة خليل الرز، الذي عاش هناك منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي حتى عام 1993، أي ما بعد انهيار الدولة الشيوعية في عام 1991. يؤكد خليل الرز، كعادته، في "البدل" على الكفر بالمكان الروائي، متلاعباً بالزمن الروائي وفق ما يقتضيه السياق الذي يمزج فيه ملامح من سيرته الذاتية، مراهقاً وشاباً، بالتدفق اللاهث للمونولوجات والحوارات المسرحية التي تشبه الهذيان، أو الحوار الذي يجريه الشخص الفصامي مع نفسه، حتى لو لم تصل تلك الفصامية إلى درجة الشيزوفرينيا، أو الفصام المتمايز.

وشغف الرز بالمسرح معروف، متابعاً، وممثلاً بالصدفة، مرة، دون أن يكتب للمسرح سوى مسرحية واحدة (إثنان، 1996). وندَّعي هنا أن حوارات الرز في معظم رواياته تشكل مادة مسرحية جاهزة يلزمها فقط دراماتورغ ماهر لعله يكون الرز نفسه، إذا أُتيحت له الفرصة. حتى زمنه الروائي مطابق للزمن المسرحي، ويمكن خبن الزمن المتخلخل بإعادة توليف الحوار والمونولوجات، براوٍ أو دونه، لتتحول الرواية إلى مسرحية يصادف أنها من نوع الكوميديا السوداء، كما يحب خليل الرز ويرضى.

* * *

الزمن المفقود
في العشرين عاماً الروسية، والستة أعوام السورية، ومع المطابقة بين الأحرف المكونة لاسمي البلدين، هنالك مطابقة أخرى، تاريخية نسبياً، تجعل من رؤيا الروائي، وتوزيع شخصيات روايته بين سوريين وروس، وكلبة أفغانية (رئيسة بتروفنا: يصادف أن اسمها الأول يشبه اسم زوجة ميخائيل غورباتشوف رايسا غورباتشوف)، وعابرين من البلدين بالاتجاهين، من طلاب درسوا هناك وتاجروا في الفساد المتشاطئ في الدولتين الفاسدتين، ومواطنين من روسيا كانوا يعيشون في سوريا وشاهدوا بلدهم ينهار من داخله، ففضلوا استمرار العيش في البلد المعتل على العودة إلى بلد انتقل من الفساد والفقر المعقول إلى بلد تحول فيه السياسيون إلى مافيات، والفقراء إلى جوعى، حين أصبحت أهم صادرات روسيا العلماء والعاهرات والسلاح.

في الزمن المفقود من عمر الراوي، يسرد أنه كان مريداً في مراهقته الأولى لشيخ صوفي على الطريقة الشعبية، يقاتل الأمريكان في العراق، وفي اللحظة ذاتها، يؤم المصلين في مسجد الحي، أو يقود جوقة المداحين على الدفوف على إيقاع سيرة النبي وأسباطه في موالد الجزيرة، أو "يتشاهد" على من أصابتهم "رعيصة" (ما يشبه حالة الصرع) من شدة الوجد والتأثر بمناقب السلف، فدخلوا في حال صوفية.

ليس للبطل اسم، إذاً، لكن عمه رأى فيه منذ حصوله على البكالوريا مشروع قائد انقلاب، فأراد أن ينتسب ابن أخيه إلى الجيش تحضيراً لمستقبله السوري. يرفض البطل هذا السيناريو فينتسب إلى الجامعة ليدرس التاريخ. لكن العم يعاجله بخطة بديلة، فيزوجه من ابنته رجاء، ويساعده في التسلق على "الحزب" تحضيراً للانقلاب.

مع ذلك، كان للبطل بديله الخاص مرة أخرى، فاختار العمل مع صديقه عبدو، الخبير في معالجة المياه في سوريا، والمُروّج للتقنية الصينية في هذا المجال، في المسابح والمزارع، من دمشق إلى إدلب.

* * *

الزمن الأنثوي
ليزا امرأة روسية لها ماض يشبه ما عاشته أي فتاة روسية شيوعية، في بلدها، وفي مدرستها، ومن ثم في مدرسة التمريض. تعرفت ليزا على طالب سوري كان يتاجر في موسكو بكل شيء، من الكيلوتات النسائية الرخيصة، إلى ألبسة الجينز، والماكياجات، والشهادات الجامعية. عشقت ليزا في حبيبها السوري جلافته فقابلها بزواج، ثم طلاق، مع حرمانها من ابنتها.

تعيش ليزا في الفصول الروائية ما عاشه عازفو فيديريكو فيلليني في الفيلم الشهير "بروفة الأوركسترا"، عندما "علَّم" عليها زوجها السابق بحذائه ويديه علامات غيرت ملامح وجهها، تاركاً بقعاً زرقاء على جسمها. مع ذلك كانت حريصة على الحضور إلى الموعد في الكباريه لتقابل "لجنة" يمكن أن تُجيز لها العمل في الكباريه كعاهرة ما بين الساعة 12 والثالثة فجراً، فقط كي تشغل الفائض من وقتها آخر الليل، وكي تؤدي عملاً مفيداً ومنهكاً يجعلها تبتعد عن الأرق وتنام فور استلقائها على سريرها. في موعد اللجنة، كان الكشك أمام الكباريه مقفلاً، وفي ساعة مقابلة اللجنة صادف موعد الذهاب إلى درس الفوتوشوب تحضيراً للعمل كمصممة لمجلة روسية تدافع عن حقوق النساء. لكن اكتشاف صاحب الكباريه أنها بثدي واحد أفقدها فرصة تحقيق حلم العمل كعاهرة ليلية محترفة، حتى وهي ملتزمة بالموعد في الكباريه صحبة البطل الراوي الذي حصل على دعم صديقه عبدو (بعد أن استعرصه كزبون في الكباريه).

قبل الذهاب إلى الكباريه كان لابد من إصلاح ما يمكن من الكدمات على وجه ليزا، وهذه كانت مهمة خبيرة التجميل، داريا، التي حاولت تقديم كل خبرتها لتخرج ليزا بوجه "مطعوج" يحمل علامات تشوُّهٍ خَلْقي، لكن بوجه غير مدمى.

تتذكر ليزا اللحظات الحميمة مع زوجها السابق، فقد رافقها في المشفى قبل أن تستأصل ثديها، وكيف كان ينام على المقعد إلى جانب سريرها. لم تنس له عنايته بها في تلك المحنة، على الرغم من ضربه لها أمام ابنتها في ما بعد.

* * *

الحي الروسي
لا يوجد حي روسي في دمشق، أو حي روسي يحتضن كباريهات دمشق. وإذا كان هذا الحي موجوداً، فليس له الشهرة التي تصورها الرواية لكن، على المستوى الرمزي، يوجد حي روسي في دمشق، غير الحي الذي تقع فيه السفارة الروسية، وغير أطراف حي الصالحية، الذي تقع فيه الكباريهات التي تعتمد على "الفنانات" الروسيات، ورعايا نساء من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق.

و"الحال"، بالمعنى الصوفي للحالة الغيبية، وحده، ما يفسر وجود حي روسي، هو غير موجود أصلاً، لكن تشغل كباريهاته "فنانات" روسيات. يدعم ذلك وجود رعايا روس في الحي، وكلبة أفغانية اسمها "رئيسة بتروفنا"، وخبيرة تجميل، ومعلمة لغة روسية، وجمعية نسائية ترأسها امرأة روسية خنَّاء يقرأ خطاباتها في الاجتماعات زوجها السوري. ففي روسيا يوجد حي روسي في موسكو، بالتأكيد، من غير أن نتظارف ونؤكد وجود سفارة روسية في موسكو، مثلاً. لكن افتراض أن المكان ينزاح بين دمشق وموسكو، وأن الحالتين السورية والروسية في هذه السنوات هي نوع من "البدل"، ينسجم مع رؤية الرز للمكان الروائي.

وحسب الرواية، والواقع، انهار الروبل الروسي مع "استقلال" روسيا عن الاتحاد السوفييتي، ففضّل بعض من كانوا يعيشون في سوريا، وأتقنوا العربية فيها، مواصلة العيش هنا، على العودة إلى حالة الضنك الاقتصادي التي تزداد وطأة على سكان الجمهورية السوفييتية، على الرغم من تحسن الأحوال قليلاً منذ بدايات القرن الحالي.

"والحال" تفضي إلى "البدل" عند "قادة الحال"، فالقائد يؤم المصلين في جامع في الرقة، وفي اللحظة ذاتها يقود "مجاهدين" في شرق العراق ضد المحتلين الأميركان، على بعد مئات الكيلومترات. فما الذي يمنع أن يعيش هؤلاء الروس، ومن ضمنهم ليزا، في حي روسي في دمشق، دون أن يغادروا موسكو. جوانية خليل الرز هذه كررها في رواياته السابقة، وخاصة في "أين تقع صفد يا يوسف"، و"سلمون إيرلندي"، و"بالتساوي"، كجزء من مكانه الروائي الذي لا يعترف بالجغرافيا الخاصة التي نعرفها كقراء، وكونه يكتب لقارئ بعيد بالكاد يعرف أين تقع سوريا. ومن يعيش جوانيته، كاتباً، وإنساناً، مثل الرز، يضع حدود مكانه في ذهنه، ويرسمه كما كان، أو سيكون، أو من دون هذه أو تلك، ضمن شروط فنية تتقدم على خيال القارئ، ولا تنقاد له.

بطل الرواية لم يستطع الوصول إلى تلك الدرجة من "الحال" مثل أقرانه من المراهقين، حتى أنه شك في درجة عشقه لشيخه، وولائه له، لكنه في شبابه انفلت من مخطط عمه، وانقاد ليأسه بعد عودته من روسيا بالشهادة الكبيرة التي لا تساوي كأس عرق، وبدل إيجار شقة في الضواحي، استطاع أن يكون "بدلاً"، وأن يدخل في تلك "الحال" عبر نوع من الشيزوفرينيا جعلته يفعل ما يريد دون أن يخيب آمال زوجته في تنفيذ رغبات والدها، وهو عمه شقيق والده، في التحضير للانقلاب العسكري.

كما تأخذ بطل الرواية "الحال"، متحداً في بعض جزئيات الرواية بحال كاتبها، فيتقدس جسده في اللحظة عينها في الرقة، ودمشق، و"بحسيتا" في حلب، مع أنه استدرك وعاد من موسكو وبيده شهادة في الأدب الروسي، بعد أن عاش هناك على الأفكار الشيوعية والإلحادية المناقضة لحال الناس في بلاده. وحتى مع شهادة بهذه القيمة لايزال للحال وللبدل الذي عرفه في أول مراهقته مكانة تقيده إلى خيال جامح بديل من واقع عصي على التغيير.

هذه الحال الباراسيكولوجية، حتى لشاب متعلم وخبير في الحياة، ومتمرد على أفكار عموم الناس في محيطه، تشكل منقذاً من الناحية النفسية، فاليأس، أو الإحباط، قد يُلجئ الفرد إلى الحالة الغيبية، والدافع النفسي، كبديل للتغيير المتعذر بالعلم والعمل والإرادة، مثلما يحدث اليوم في سوريا، وفي الثورات والحروب الأهلية، عموماً، عندما تواجه عدواً لا تطيق الانهزام أمامه، ولا تتمكن من الانتصار عليه، فتذهب، كمشتغل في الفن، مثل الرز، إلى البحث في الأسباب البعيدة التي وحدت بين ضحايا نظامين استبداديين في بلدين يتنازع بطل الرواية نحوهما حس الانتماء المزدوج ثقافياً، على الأقل، كي يحب الضحايا في الطرفين، من غير أن يتمكن من هزيمة الجلاد هنا وهناك.

* * *

الحال والمطابقة
عودة خليل الرز من موسكو إلى دمشق عام 1993، بعد سنوات من الدراسة والعمل هناك، وضعته في شرك صديقه عبدو الشغوف بمنتجات الصين لمعالجة المياه الملوثة، منقذاً نفسه من استفراد زوجته وعمه اللذين يخططان لمستقبله الانقلابي، ولذلك تساوت عنده الأشياء ".. لم تعد الفروق بين الأدب العظيم وبين جمهورية الصين الشعبية جوهرية جداً بالنسبة لي في تلك اللحظة". مثلما لم تميز فتاة الكباريه الأوكرانية، أوليا، بين كلمات الشاعر نيكولاي غوميلوف، متسائلة إن كانت القصيدة صينية مترجمة إلى الروسية، حين اختلطت صين عبدو بكلمات غوميلوف. على كل حال، كان البطل يتساءل إن كان هنالك فرق بين فتاة روسية وأخرى أوكرانية، حين شعر بغدر ركبة أوليا، حتى بعد أن أزاح عبدو كفه الثقيلة عن ركبتها، فأنقذ نفسه بزجاجة الويسكي. فالويسكي، في حالة الهذيان، سيظل اسكوتلندياً، ولن يتحول إلى أوكراني، أو روسي، أو صيني.

تلك الليلة في الكباريه، لم تمنعه من الإشراف على تركيب عجلات لكشك ليزا في صباح يوم المرأة العالمي، الذي يصادف عيد الثورة - الانقلاب في 8 آذار، ساداً الطريق على فرقة الكشافة التي كانت تعزف لـ"الثورة" في اليوم العالمي للمرأة؛ ومن تلبية دعوة عمه وضيفه الرفيق في الحزب كي يختبروا تقدم البطل في الانتهازية كي يكون قائد انقلاب ناجح.

يحمل الفصل السادس، الأخير في الرواية، أطول عنوان يمكن تخيله "ما حدث البارحة في كشك ليزا.. ما حدث البارحة في خمارة آكوب.. ما حدث البارحة في المشفى الفرنسي"، حيث يجمل الرز أحداث البارحة، وكأن الفصول الخمسة مقدمات هنا نتائجها، فخمس سنوات مضت، والسادسة ستكتمل بعد قليل.

مقدمات الكاتب في الفصول الخمسة، بهذيانها الحواري، ما تحت الخيالي وفوق الواقعي، كانت متمايزة على لسان الراوي الذي يسرد ملامح من فكرته عبر الحدث فوق الواقعي إذا أردنا قراءته حرفياً، تلك المقدمات جمعت كل أطراف البناء الروائي كما يعبر عنه عنوان الفصل السادس، لتستدرك كل شخصية ما فاتها من القول، كشاهدة على زمانها المفقود، أو لتلخص ما حدث على لسان البطل ما مرت به كل شخصية قبل أن تبكي ليزا وتنام.

وبعد أن تبكي ليزا ما مرَّت فيه طوال حياتها مُعبَّراً عنه بأحداث اليوم الأخير المسرود في الرواية "كنت أنتظر بكاءها الصريح منذ الصباح، فأصغيتُ إليه الآن، بكلّ جوارحي، حتى مالت إلى ساعدي، ونامت..".

وينهي الرز روايته بكلمة "انتهت"، ويوقع باسمه مكان كتابة الرواية "دمشق"، كما يحدث لكثير من الكتاب، أو كي لا ينسى أين حدث كل ما قاله في "البدل".

* * *

تناصات استقبالية
تكتسب روايات مثل "أوليس"، و"بيتربورغ" إمكانية أن ننسبها للغة التي كُتبت بها، أو لجنسية كاتبها ولغته الأم، معاً، كروايات "وطنية"، فنياً، وهما الإيرلندي جيمس جويس (1882 - 1941)، والروسي أندريه بيلي (1880 – 1934)، واسمه الحقيقي (بوريس نيكولايفتش بوغاييف)، على التوالي. وتقترب منهما رواية "البحث عن الزمن المفقود" للفرنسي مارسيل بروست (1871-1922)، فكل من هؤلاء كتب رواية "وطنية"، بحيث يمكن القول أن هذه الرواية إنكليزية، وهذه روسية، وتلك فرنسية، مما قد لا نجده كثيراً في آداب الشعوب الأخرى، ومنها الشعوب العربية.

بالطبع، لا تعبر هذه الروايات عن ملمحٍ أيديولوجي، بالمعنى المائل للسياسة، وإلا لكانت رواية "الأم" لمكسيم غوركي حملت الصفة التي تحدثنا عليها، أو لتحدثنا عن كتاب "اسطنبول" لأروهان باموق كونه كتاباً وطنياً تركياً، بالرغم من جماله الأخاذ في اقترابه من نبض الحياة في المدينة الكوسموبوليتانية من خلال ملامح من السيرة الذاتية للكاتب المعاصر المولود عام 1952، والمتخصص في العمارة أصلاً. ومن كل هذه الكتب والروايات، فإن "بيتربورغ" الوحيدة غير المترجمة إلى اللغة العربية حتى اليوم، بالرغم من صدورها بين عامي (1917–1922)، بينما حظيت الرواية الإيرلندية التي صدرت في المدة (1918-1922) بترجمة واحدة، على الأقل، والفرنسية التي صدرت في سبعة أجزاء في المدة (1913-1927) بأكثر من ترجمة واحدة إلى العربية.

في "بيتربورغ"، يتحدث بيلي على المدينة، ويهجو بأسلوب رمزي البيروقراطية فيها. وفي "أوليس"، يتحدث جويس عن العاصمة دبلن، وشخصيات واقعية عاشت فيها عام 1904، ومقارنات بين شخصياته وشخصيات هوميروس في ملحمة الأوديسة، بين ليوبولد بلوم وأوليس، وبين مولي بلوم وبينيلوبي، وبين ستيفن ديدالوس وتليماك.

أما في "البحث عن الزمن المفقود"، فيسرد بروست أحزان زمانه، الزمن الميكانيكي، وزمن شخصياته التي تصل إلى مئتين، في ما يفوق مليون كلمة، لتكون مرثية طويلة لمجتمعه بدأت قبل الحرب العالمية الأولى، وما بعدها بقليل، حين تحولت أوروبا إلى أرضٍ يباب، وهدأت، مؤجلةً حسم المعركة ضد الفاشية والنازية، لكن ليس لزمن طويل.

بالطبع، سلسلة الروايات العظيمة طويلة، منها رواية "بيدرو بارامو" للمكسيكي خوان رولفو، و"مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز، وسلسلة الروايات النفسية لفيدور دوستويفسكي، و"الجبل السحري" للألماني توماس مان، وعدد كبير من روايات القرن التاسع عشر الروسي أدبياً بامتياز. لكن هذه الروايات كلها لا تمثل "رواية الأمة"، بالمعنى المتقدم.

في الحجم، لا يزيد عدد كلمات "البدل" على جزء من عشرين من عدد كلمات رواية بروست، ولا يزيد على جزء من خمسة من "بيتربورغ"، لكن الرز كتب هجائيته تامة، وبما يكفي لنتوقع أنه قد يكتب هجائية أكثر التصاقاً بالمكان السوري، وأكثر سهولة على القارئ حين يحاول فك رموزها، مع الاحتفاظ بالمستوى الفني الرفيع ذاته، أو أكثر، وبدرجة الصعوبة ذاتها، أو أكثر، التي تبرر إعادة القراءة، للمتعة فقط.