هل يمكن أن تكون مشغولات فنانة تهوى تشفير الحجارة والمصوغات وتحويلها إلى مفردات تكتب بها عملها الإبداعي كتابا يمكن قراءته؟ هذا ما تحاوله مقاربة التشكيلي السوري هنا، وهي تسعى لفك شفراتها وإماطة اللثام عن ألغازها، وتطرح علينا تأملاتها في مصوغات الفنانة الأردنية وفي جمالياتها المركبة وهي تخلق حوارياتها الفنية الباذخة.

جماليات البذخ ومشفّراته

تأملات في مصوغات لمى حوراني

عادل كامل

[1] النهايات بمقدماتها

أيا ً كانت دوافع الانشغال بالمعادن الثمينة، أو النادرة، في عالمنا المعاصر، فانه انشغال يسحبنا إلى أزمنة سحيقة، كان الإنسان فيها قد لمس لغز الموت وقفاه، فراح، برهافته المبكرة يحكي/ يحفر، وينقش لوعته، وفي الوقت نفسه: سر ولعه بما بعد الزوال. فثمة، في أقدم المدافن، مازالت الخرز، والقلائد، والنقوش، تحكي ما سيتم سرده، بلا كلل، وصولا ً إلى عصر لا نعرف اهو الذي يحدق في مجهوله، أم أن الأخير وحده يحدق في لا حافاته؟ أيا ً كانت الفلسفة، الكامنة وراء الدوافع، فان الممتلكات (إن كانت شخصية أو جماعية) لم تغب عن صياغة لغات راحت تبحث عن علاقة ما بين الحاضر والغائب، أو عن الذي سيترك أثرا ً بعد اندثاره.  فالمربعات والكرات والمثلثات والأشكال غير المنتظمة التي زينت الأطراف والعنق والصدر والأصابع، أو التي شغلت الجسد كاملا ً،  مازالت تتباهى  بالثراء وعلامات البذخ، إنما بديمومة لوعة بحثت عن معادلها بين المجيء من المجهول، أو الذهاب إليه. فقد كان لحضور القلائد والتمائم والأساور وجوده في الحضور، فضلا ص عن اقترانه بالبعث بعد السكينة والموت.

كان لتلك الخرز الملونة بألوان الطيور، وزهور البرية، وأوراق الغابات، وخيوط الشمس، ورذاذ الينابيع والبحار، وبومضات النجوم وما تتركه السماء من غموض وجلال ودهشة،  وكل ما هو ابعد من تمجيد (الملكية) و (الهيمنة) و(التباهي) نحو السحر بما صاغه من رهافة في الأشكال، والتكوينات، والمشفرات، فقد كان للزينة عند الذكر أو عند الأنثى، وظائف لغز الانجذاب في النبات، وفي مملكة الأنعام، عدا أن الإنسان راح يكمل، أو يعدل، أو يغامر بصياغة حساسية تمنح الديمومة ذروتها في الارتقاء، وما يجعلها تبتعد ـ قليلا ً أو كثيرا ً ـ عن اشتغالات الطبيعة. فالأصابع راحت تدّون بالأحجار الثمينة، والنادرة لغة أدت عمل الجسور، لكن ليس للعبور فحسب، بل للإقامة.

فأي لغز ـ هنا ـ صاغ دوافعه، بين أول عرس، للصيد أو للانجذاب، وأي لغز ـ في الوقت نفسه ـ صاغ أقدم تقليد شفر بوضع القلائد، والتمائم، والخرز، والأساور، مع جسد الراحل ..؟  ربما كي يجد الأخير نفسه، عند  الاستيقاظ، بكامل زينته، لا للصيد، بل للعرس، وابعد من ذلك: للحفاظ على طقوس قدر لها أن تمتد وتحافظ على ذاكرة أصبحت مخيالا ً، لا لرؤية الماضي، بل للمباهاة بما لم يدشن بعد. إننا إزاء كنوز وحّدت الذائقة الجمالية، بما فيها من سحر ولوعة ورغبات، وقد منحت الأصابع كل ما يأمل القلب أن ينقشه، لدى سكان البحر، كما لدي أبناء الصحراء، في الغابات أو المنجمدات، عند سكان البرية أو سكان المدن الكبرى، ولعاً بنقش علامات لا تثمن بندرتها، أو جمالا، أو رهافتها، أو ما تمتلكه من مقاومة للتلف فحسب، بل بما تتضمنه من خطاب شفر للحفاظ على لغز الحياة وانبعاثها، في حضورها العنيد.

كنوز لا تحكي حكاية للذكرى،  أو الاستعادة، وكفى، بل سمحت للصائغ ان يجعل مها ذاكرة امتدت عبر المخيال، وقد صار سكنا ً للإقامة، وللمجهول، وقد تزينت بالحضور: اللغز القديم وقد استحدث لغته، للاتصال، والمودة، والتهذيب، حيث علاماته شاخصة، مع فجر بذور الخلق الأولى، حتى حاضرنا في الذهاب إلى الفضاءات النائية. إنها حكاية علاماتها تلخص السَفر ـ والسِفر ـ عبر خرز، ومشبكات، وأساور، وقلائد، وأشكال لم تفقد قدرتها على جعل الفن يقيم في الأثر، والأثر يمتد عبر نصوص الحداثات.  

[2] ومضات: المفتاح ومشفراته

لم تختر لمى حوراني، في صياغة حليها وأساورها وقلائدها وأقراطها ومصوغاتها الأخرى، أقدم مهنة عرفها الإنسان، بعد أن تحولت أصابعه من الدفاع عن النفس، إلى صناعتها، والتي يشترك فيها البشر كافة، اشتراكهم في تنفس الهواء، واستحالة الاستغناء عن النار أو الماء فحسب، بل اختارت أن تمنح هذه (المهنة) لغز تجددها، لا بصفتها علامة بذخ أو ترف، إنما بصفتها فنا ً يسمح لمشروع تحول الإنسان، من صياد في غابة، إلى صانع أفكار وصانع أحلام بالدرة الأولى، وان يتجاوز الغواية، نحو ذروتها: الإقامة في المستحيلات. هذا الاختيار، في حد ذاته، سمح لها أن تشفر تجربتها في العمل بالأحجار والمعادن النادرة، والخامات الأخرى، وان تجعل من (المفتاح) علامة لازمت لغز الوعي البكر، في مواجهة الضواري، في الزمن السحيق، وفي مواجهة المجهول، في عالمنا المعاصر، بمنح هذا الرمز لغز حضوره في العصور بلا استثناء.  فالفنانة، بشعور عميق، وباليات نظام اللاوعي أيضا ً، أعادت للذاكرة استحالة تخليها عن المخيال، فلم تكن (الباب) هي التي سمحت بوجود المفتاح فحسب، بل لأن الأخير، عمليا ً ورمزيا ً، راح يدور في أبواب لم تفتح بعد، ذلك لأنها، باختيارها هذا الرمز، وحدت ما لا يوحد، بين الناس عامة، لا لأن المفتاح أداة دخول أو عبور، يعمل عمل الجسر، بل أداة إقامة في أكثر أزمنة الإنسان لغزا ً: الزمن. إنها، مرة أخرى، تقهر مسافات المكان، والعصور، والثقافات، والاختلافات الأخرى، في اختيارها أقدم ولع دفع الأصابع إلى مهارات عمل القلب: تهذيب الخامات، وصياغتها، وتشذيبها، نحو علامات لها ما لا يحصى من التدشينات.  ها ـ هنا ـ كم تبدو المهن المترفة، بانحيازها للبذخ والوفرة، أكثر صلة بخفايا النفس، ورغبات الإنسان وأحلامه. 

إن لمى حوراني، بالذهب أو بالأحجار، أو بالفضة، تمسك بفاتحة اللغز، ونهايته: اللغز المشترك بين البشر: المفتاح؛ هذا الذي استحال إلى أساور واقرط وقلائد وسلاسل ... لأنه لا ينتمي إلى أفق بحافات منغلقة، أو بهوية دون سواها، أو بجنس مضاد للديمومة، بل بما هو مشترك: كالحلم الذي سكن إنسان المغارات، والبحار، والصحارى .. وهو حلم إنسان عصرنا في بحثه عن لذائذ مغايرة للقهر، والاغتراب، والمحو. إن عملها الشاق، والمشوق، ليس مغامرة بلا لذائذ أو مرارات فحسب، بل له مذاق الحلم الذي لم يقهر، ولم يخسره الإنسان أيضا ً. فهي تمسك بالجسد، من الرأس إلى أصابع القدمين، مرورا ً بالوسط، كي تزينه بما سعى أن يكون عليه: بهيا ً، وليس جذابا ً حسب. ففي الجسد  لا تسجن ومضات النفس، أو أثير الروح، كما قال المعري ذات مرة، لكنها تكون شيئا ً آخر بالانفصال عنه. لمى حوراني، في الاختيار، تمنح فنها جدلية الصورة بالجوهر: وحدة المتضادات، كي تثمر عن أبجدية أشكال لا تحكي أو تسرد، بل تمتد، وتتنوع، إنما بضرورات  أن لا تكون للضرورة، إلا ديناميتها: قهر الخامات! إنما، بتشذيبها، وتهذيبها، ومنحها كل ما رسم في القلب أو العقل، وليس إيذاءها. ففي هذا النظام تكمن فجوة بين جعل العناصر (الخامات) أدوات للقهر، وأخرى، أن تمتد بها الأحلام. ولمى حوراني، بحداثة تمتد جذورها إلى ما قبل عصر اكتشاف النار واختراعها، تمنح خاماتها (عناصرها) لغة الأصوات وقد استحالت علامات وإشارات ومشفرات لها وظائف الحلم، بعد أن كانت قابعة في خاماتها.

إن المتلقي، هنا، إن لم ينشغل بإعادة قراءة الحلم، في فن لمى حوراني، فانه لن يسمع شيئا ً ما سكن في صمت الخامات، أو في ما يتوق إليه المخيال في صياغته للذاكرة. ذلك  لأن الفنانة، منذ تولعت بعملها، راحت تصغي للذي أقام في الأصوات، وليس لها حسب؛ ألتوق للذي يعمل عمل الأطياف في الزمن، للزائل، وقد ترك علاماته. إن الفنانة لا تحفر بحثا ً عن الكنوز، بل تسن حفرياتها، لتجعل عملها، في الأخير: أثرا ً تسكنه (نصوص) الرغبة، والحلم. فالفنانة لا تمج محتويات (المتحف) أو مكونات (الذاكرة)  أو ما ينتمي إلى الممتلكات، بل تدعها تشتغل خارج قيودها، ووظائفها المباشرة، نحو هذا الذي في النهاية، كاد يغيب، بعد أن غدا حضوره مشفرا ً بين أصابع الفنانة، وومضات مخيالها العنيد.  

[3]  الأشياء والمشفرات: ثنائية السلعة/ الروحي

لا تصنع لمى حوراني سلعا ً، في إطار انحسار الجانب الروحي، وانحيازه إلى الأشياء، في فنونا المعاصرة. على أن (السلعة) ـ بمعنى كل ما هو معد للاستعمال، ضمنا ً للاستهلاك والتلف ـ ليست مجموعة أجزاء تنبني لتحقيق وظيفة أخيرة او محددة، وإنما، منذ أول فأس وأول إناء وأول قلادة، كانت تتضمن محركاتها الداخلية، إن كانت ميتافيزيقية، أو ملغزة في حدود عجز الإدراك عن تحديد غائيتها. لكن هذا العزل لا يمنح السلعة أبعادا ً مستقلة، أو خالصة. فقلائد أو أساور لمى حوراني، تذكرنا، أن الماهية ـ الجوهر ـ كالدماغ، كلاهما  لا يعّرفان إلا بالصور: الأشكال بصفتها لا تتكون إلا عبر العلاقات. فالوظيفة أو الجانب العملي ليس أدنى تعبيرا ً أو قيمة، وإنما، كلما ذهب ابعد من (الاستهلاك) غدا أكثر تعبيرا ً عن مثال يقاوم التلف، والزوال. فلمى حوراني، وهي لا تحول التراب إلى ذهب، أو الذهب إلى رموز، وإنما تسمح لرهافتها أن ترتقي بالخامات إلى الأشكال التي تتم صياغتها داخل المخيال: المهارة إلى جانب الحساسية. فلسلعة تكف عن الاستهلاك طالما تتضمن رمزيتها. فأحجار الفنانة  ومعادنها محض عناصر، أما رموزها، فلا تعمل إلا على دحض السلعة، لأنها مازالت تعمل عمل الساحر، في تقصي القوى الخفية. إنها لا تحول نصوصها إلى أشياء، أو علامات لسلع، بل تعيد للأشياء كل ما يكمن داخل النفس، وكل ما يتم استخراجه بالتنقيب أو بالحفر ا بالصياغة لمعالجة الخامات، ومنحها (لغة) لنظام تتمثل فيه ذروته: اللا استعمال.

فالروحي ـ إن حررنا هذا المفهوم من التصّورات المسّبقة ـ يشتغل شغل اللا عمل، أو التأمل، أو السكينة التي هي أعالي الاكتفاء، أو اللا حاجة. هذا النسق، دفعها لصناعة أشكال هندسية، وأخرى غير منتظمة، مثلما فعلت الخزافة لعراقية نهى الراضي، في استدراج المخفيات للظهور. فلمى حوراني عملت عمل الساحر، كأول  من منح (الحداثة) هواجس المشتغلين بالعناصر، في البحث عن المستحيلات، وقد أصبحت جزءا ً من المشهد. فهي لم تستغن عن استثمار الخزين البصري للطبيعة، ولم تستغن عن ذاكرة الحضارات القديمة، كي تجد ثمة صلة ـ وليس علاقة ـ مع الكائن بصفته جسدا ً يتمتع بامتياز الديمومة، وليس مجموعة أشياء قابلة للتلف، والاندثار. فهنا يتم إلغاء مفهوم التداول، لصالح عمل الساحر وقد امسك ببعض الخفايا. فالفنانة تعيدنا إلى الأصل: الجسد كمحور للوعي، من ناحية، والجسد بصفته ذروة، من ناحية ثانية.

على أن الجسد ليس خامة خالصة، أو مجموعة عناصر، كما أن عمله ليس آليا ً، وإنما سيبقى، في هذا السياق، يجمع الوظيفة ورموزها، خارج نطاق التداول، والاستهلاك. هنا يتشكل مفهوم حداثة (البذخ) الذي ترجع جذوره إلى تلك القلائد والأساور والأقراط التي رافقت رحلة الرجوع إلى العالم الآخر ـ العالم السفلي عند السومري والكوني عند الهندوسي ـ  وهي ليست زائدة أو باذخة أو تزيينية حسب، إنما ذات صلة بالجسد ككيان تضمن لغز انبعاثه، وتجدده.

وإذا أبعدنا مفهوم تحديد قيمة (السلعة) ـ بالمعنى الكلاسي ـ فان دلالتها لا تنفصل عن الجسد: الكيان، والجسد: الرمز. لأن كل ما سيضاف إلى الجسد سيشكل وحدة تلك العلاقة،  يضاف إليها: المرئي بأشكاله وتنوعها، واللا مرئي بما يتضمن من محركات  مخفية. إن لمى حوراني تعامل الجسد، بصفته وحدة، وبصفته كيانا ًديناميا ً، وكيانا ً يرجعنا إلى جذوره الأولى في التكوين. فالفنانة تستمد أشكال مصوغاتها بدراستها للعلاقة الدينامية بين الجسد: الكون/ والجسد: الطبيعة/ والجسد: الآخر. فالنصوص الفنية ليست مستقلة في ذاتها إلا في حدود أنها تضمنت صلتها بالإنسان. فهي علامته.  وهي علامة لأبعاد متداولة، كعلاقات، وأخرى مازالت تؤدي عملها. فليس للمصوغات نهاية. وإذا كانت (حداثة) أعمالها الفنية اقل ميلا ً للتعقيد، فذلك يرجع إلى دافعها الاختزالي. فثمة  ـ مع مفهوم موت الإنسان الحديث؛ منذ لفت الفيلسوف الألماني هيغل النظر إلى طابعه السلعي ـ إشارة لبحث عن أطيافه. فالإنسان، كجسد، قد يمتد لبضعة آلاف سنة، إنما، كرمز، لا يتوارى إلا باختفاء الآخر. إن مفهوم الصياغة ـ وعند لمى حوراني ـ تمنح الحداثة جذورها الموغلة بالقدم، وفي الوقت نفسه، تتمسك بومضات مازالت تمنح البشر ولعا ً بوجود يجعل الجميل ـ مدرجا ً للجمال. فالذروة تكمن في إعادة السرد ـ في الصياغة ـ كالإقامة، لن تفقد معناها إلا بغياب السفر.

فهل ثمة مفهوم ما للسلعة، لم تدحضه غواية الاشتغال بالتخلي عن الحرفة، نحو: الإمساك بما و ناء ٍ، لا يمسك، كما فعلت الفنانة وهي تكّون أناشيدها من الأحجار، والمعادن، والأطياف؟ أليست لمى حوراني، باستلهام موروثات مكوني بذور الحضارات، عملت عمل الجسر، ليس في وظيفة العبور، بل في السفر داخل الإقامة، أولا:  إن الموروث العام، لن يتقاطع مع الهوية الايكولوجية ـ أو الشخصية، بل، على العكس، لا توجد محلية إن لم تكن قد تمثلت الكلي، فلسفيا ً، أو على صعيد الأشكال. ثانيا ً:  وان مفهوم اللا سلعة، ينبثق، بما يتمتع به من باثات على صعيد: السحر/ الجمال. ثالثا ُ: وان الجسد، لا يعّرف بصفته جسدا ً، إلا وقد أعلن عن: كل ما لم يكتشف، وعن كل ما لم يدشن بعد. ذلك لأن الجسد لم يعد جسدا ً إلا بالخطاب الذي لم يرحل، ويغيب، بل الذي امتد معه، وانبثق من غيابه.

[4] التركيب: أو الفنون في وحدتها

لا تثير نصوص (مصوغات/ مجوهرات) لمى حوراني، انشغالات ما إذا كانت  أشكال (النصوص) تتحكم معانيها بها، أم العكس،  أي ما إذا كان لحضور التصميمات المبكرة لهذا النمط من العلامات يلفت النظر إلى معان محددة، كما لا تشغل نصوصها المتلقي بأسئلة ما إذا كانت هذه المصوغات علامات باذخة أم رمزية أم محض مقاربات لوجود حواس غدت تدل على قدرتها في الإعلان عن نفسها ووجودها. وربما لا يكترث المتلقي ـ ذكرا ً كان أم أنثى أم مزدوجا ً أم مثليا ً خالصا ً ـ ما إذا كانت النصوص مركبة  وقد مرت بإضافات، وتعديلات، أم أنها اتخذت أشكالها ـ ومعانيها ـ لوظائف سحرية أو جمالية أو اقتصادية أو معرفية بعد أن غدا  الاتصال، في الجماعات البشرية، نزعة لا إرادية استحالت إلى مشروع لا يمكن فصل الإرادة ـ والوعي ـ عن سياق عمله بعد أن اقترنت أدوات الحواس بالعقل أو بالدماغ...؟  على انها أسئلة ليست فائضة أو (باذخة) في عصر متخم برموز وضع ما بعد (الصناعة) والدخول في مخيال عالم ما بعد المعلومات، وما بعد الحداثة، والعولمة، ونحو فضاءات لم تعد أنظمة (الأرض) وحدها تتحكم بالأشكال والمعاني والغائيات.

هنا، تسحبنا مصوغات الفنانة وتصميماتها إلى جذورها: لقى افترقت عن أشكال الطبيعة، بعد أن استمدت منها هيأتها وألوانها وعلاماتها .. الخ بل وتسمح للمتلقي بردم الفجوات بين المقدمات وحاضرنا. لا  لأن أقدم العلامات لم تكن تلقائية أو أحادية أو خالية م الرهافة، بل، على العكس، انها إشارة إلى تبلور حساسية وخبرة ومعرفة أدت إلى التركيب، ومقترنة بعلاقة جدلية بين الصانع، ومصنوعاته. فالتركيب لا يعّرف بدمج خامات مختلفة، أو بمعالجات أسلوبية متباينة فحسب، بل بما يتضمنه من نزعة لا تنفصل عن الدوافع ذاتها، بما تتضمنه من أهداف معلنة (واعية)، وأخرى ستبقى مضمرة،  ومشفرة، لغايات مازالت تتطلب التقصي والتفكيك. ا لمى حوراني، لم تختر اختزال نماذجها إلا كتركيب مغاير للمفهوم المباشر (أو الصريح) للتركيب، ومع ذلك فإنها لم تهمل لغز (التزامن) ـ التراكم والتحول وتعدد الأهداف ـ في موضوعاتها. فالفنانة لم تهمل الطبيعة، وخاماتها، ولم تهمل أساليب إنتاجها، وأشكالها، وما تخفيه شفراتها من معان ٍ كامنة فيها، إنما ـ وبسبب تقاليد  لم تندثر في إنتاج الحلي والمصوغات وكل ما يعد كماليا ً أو باذخا ً أو علامة لترف،  أو ملكية دالة على الوفرة، والاستقرار ـ  راحت تعالج نماذجها بمهارة لم تنقصها خبرة ورهافة مقاصد أن الحذف لا يتقاطع مع مفهوم تراكم الدلالات والرموز.

فثمة أحجار، بيضوية، أو دائرية، أو مستطيلة، أو مثلثة، أو لا هندسية منتظمة، عشوائية وحرة، تماثل الصخور، والأشكال في الطبيعة، تسحبنا إلى العالم الخارجي، ولا تفصلنا عن أنثوية الطبيعة في مقاومتها للزوال. انها أشكال تنحاز  إلى المشهد في كليته؛ حيث نماذجها تؤكد مدى ما تمتلكه هذه الأشكال من قوة إيحائية بالجانب التوليدي ـ التركيبي ـ الكامن في العالم الخارجي: الطبيعة والكون بأسره. وفي الوقت نفسه، ثمة أشكال تنحاز لإحياء ذكرى أدوات الإنسان المستخدمة في الصيد، وفي حياته اليومية، أو تلك التي تضمنت رمزيتها ومشفراتها.

انها أشكال ليست بريئة، في نهاية المطاف. فالاختيار بحد ذاته، منح النوع (الإنسان) امتيازه،  كصانع أدوات بالدرجة الأولى: أدوات بلغت ذروتها بعد أن عزلت عنها وظائفها، وأصبحت تشتغل بدوافع أخرى: سحرية/ رمزية/ ومشفرة.  فالوظيفة ستغدو جزءا ً من حلم شارد، وآخر يستكمل بذور  النزعة (المجتمعية) في سياقها ألتحضري، لطبيعة العلاقات وتحولها من تصادمية، وتنازعية، وافتراسية، إلى توليدية/ معرفية/ وجمالية.  إن مفهوم التركيب، هنا، سيشحذ مهارات الصانع للتعبير عن مضامين يصعب تحديدها، كالحلم بعالم مستعاد، أو مغاير لحتمية الهرم، الموت. فكما تكّون الماء بوحدة عنصرين أساسين،  إضافة إلى عناصر أخرى، فان وجود عناصر خالصة لم تعد دقيقة، هذا إذا أضفنا عنصر (الزمن) بعد تأمل العناصر غير المرئية وأثرها في العملية التركيبية بأسرها.  إن لمى حوراني،  بدراستها لهذا الفن، لم تعد أسيرة جدران الحرفة، وأدواتها. فعلوم العصر برمتها ستسهم ـ كالكيمياء واللغات والفنون والآثار والحدوس ـ ببلورة نصوص تؤدي ما هو ابعد من التأويل، أو التفكيك.

فنماذجها، أولا ـ وفي هذا النسق ـ منحت الكتلة دورها في التعبير. فالنحت سيستعاد بما يمتلكه من قدرة اتصالية، ودلالة انبثاق عصر تخصص الحواس، وقدرتها في التحكم بصناعة العلامات، وليس بصناعة الأدوات أو الأشياء حسب. ففي تصاميمها نزعة نحتية اندمجت بنصوصها الفنية. فالحجر غدا خامة أساسية، إلى جانب المعادن، والمواد الأخرى، وبعملية الدمج، والتوليف، والتداخل، فان البنية الجديدة ستعبر عن أبعاد تطلبت استثمار النحت، واستحالته إلى علامة جمالية: سحرية، أو رمزية. على أن الفنانة لن تدع مصوغاتها خارج اثر فن التخطيط، والرسم عامة، حيث ستستلهم فنون التخطيط في تصاميمها، كنزعة تركيبية، بنائية، ظهرت مع أقدم الأواني الفخارية، والدمى الطينية، إلى جانب أقترنها بأساليب الحداثة المعاصرة. فاستخدام الرسم، فوق السطح، كلون أو كحفر غائر، اقترن بتنوع الخبرة، وتعدد مصادرها، كي يمثل التركيب، نزعة بنائية في التعبير، وفي منح المعنى معادلا ً موضوعيا ً مع أشكاله. فثمة حروف للغات قديمة، مندرسة، أو حديثة، إلى جانب الخطوط الهندسية، والحرة، والمساحات، والألوان، تندمج حد الانصهار، أو تبقى واضحة المعالم، لمنح المصوغات كثافة حرصت الفنانة أن لا تثقلها بالزخارف، والزيادات. فالاختزال منحها توازنا ً بين استلهام النحت ـ الرسم، في مصغراتها، بغية الحرص على بناء وحدات شكلتها مصادر متنوعة،  سحيقة في عمرها الزمني، أو معاصرة، كي تحافظ على حضورها، وما يتضمنه هذا الحضور، من مخفيات. فالحلي، أو الجواهر، راحت تعيد للمعنى القديم قدم الإنسان، مقدماته: التهذيب.

هذا المنحى، عامة، وفي نصوص لمى حوراني الفنية، يضع لمحات مغايرة للنزعات الكامنة في مشروعات: التهذيب، وصولا ً إلى حضارات جمالية، بدلا ً من الحفر في  معان تجعل من الخطاب أداة للتصادم، حد دحض الجهد المرهف للفنون وما سعت إليه. انه ليس رهانا ً ـ على م َ؟ ـ من اجل وجود  خال ٍ من الرداءة، وإنما من اجل وجود يؤدي الفن فيه دور (الأطياف) وان لم يرها احد، إنما مازال رفيف لغزها ينقش علامات يصعب الاستغناء عنها.

[5] ومضات

تتداخل أزمنة حضارية متعددة، في نصوص لمى حوراني، لا لتحورها، أو تدمجها، أو تجردها، أو تعزلها، بل لتمنحها: هوية لها خصائص لا تنغلق داخل الزمن، إنما لتعمل عمل النص في الأثر، وعمل الأثر بما يمتلكه من باثات. لكنها لا تستنسخ أشكالا بذاتها، بل تتعامل معها كموروثات عامة. فإذا كانت قد  اختارت حجر(النورمالين) و (الجمشت) و (العقيق) و (العقيق الأحمر) و (الفيروز) إلى جانب (اللؤلؤ) و(الكوارتز)  و(الجزع) و(اليشب) .. الخ ـ وقسم منها مستورد من الهند وايطاليا والبرازيل ـ فإنها ستغذي رؤيتها بموضوعات مستوحاة من وادي رم، أو من البحر الميت، أو من الآثار النبطية والرومانية والفلسطينية، كي لا تنغلق نصوصها عند رموز أو أشكال محددة. فالمكان، هو الآخر، كالزمن، ينبني ضمن انساق نماذجها ورؤيتها. والتأثير البيئوي (الايكولوجي) بمعناه الدقيق، يؤكد مدى تعاملها مع تداخل الأزمنة بحضارات تشكلت عبر التوليد، وليس عبر المحو. هنا تشتغل ذاكرتها بمخيال التوليد: النص بصفته تام المخفيات، وقد راح يبتكر لغة لا تنتظر الترجمة، في إيصال المعنى، وإنما بما تمتلك من خصائص مشتركة، بلورتها ثيمة أن (الحلي) تمتلك أزمنة، ومساحات، لم تفقد ومضاتها أو ما عمل القلب عليه في صياغة الأشكال.  إنها سمحت لرهافتها أن تتبع المحركات الشعرية، عبر العصور، والمعاني، والتقنيات، في تدفقها. فهي ـ في الأخير ـ تجعل من (زمنها) سكنا لأزمنة لم تفقد لغزها، كما تجعل من الأردن، وطنها، مكانا ً يتسع لمساحات كان القلب قد لامسها، وترك آثاره عليها. فالمحلي، كعلامات هندسية، أو تعويذات، أو إشارات، يغدو موحدا ً، وبنية متماسكة، داخل مصغرات حرصت الفنانة أن تجعلها دربا ً تشتبك فيه الدوافع، إنما بحثا ً في الأسباب ذاتها التي  منحت الأوائل انشغالات لن تغدو (بذخا ً) أو (فائضة). فليس ثمة مفهوم بيئوي إلا وقد اقترن بمهارات لم تفقد ازدواجيتها: المخيال وقد استحضر تدشيناته المبكرة، فيما الذاكرة منحت النصوص الفنية ذروتها: علامات تحكي استحالة نهايتها. فهي تمسك بالطيف الذي لم تدمره الخبرة، او مفهوم موت الفن، وتحوله إلى (سلعة). فقد كانت دراستها للفنون في جامعة اليرموك ـ الأردن، وحصولها على دبلومين في التصميم، والماجستير في معهد (مارانغوني) في مدينة ميلانو الايطالية، تدريبات لتحافظ على (بدائية) ستمتد مع كل تدشين لم تقهره أحادية الزمن، أو المكان الأخير. فدراستها لم تمنعها من استبصار سر عمل الأصابع في صياغة ولع لم تقهره صراعات البشر، أو ما خلفوه من رماد وانين ولوعة؛ أي الإمساك  بالمخفي ـ الذي جعل البدائي حاضرا ً في عصر ما بعد الحداثة، وداخل أسواق العولمة ومخفياتها، حاضرا ً برموز وجدت للأعياد، والأعراس، ووجدت لآفاق امتدادهما بالانتقال من المحدود، إلى حيث اللا عنف وساما ً رمزيا ً، تتضمنه سرديات الذاكرة البشرية، ومخيالها العنيد.

إن دراستها سمحت لها أن لا تجعل من الحرفة غاية، بل أداة من صاغ حلي العصور السحيقة، عند المباهج،  وقد أعادت لمى حوراني صياغتها، في عصر غدا الرقص فيه أما محرما ً، وأما جزءا ً غوايات الزوال. إنما لم تكترث الفنانة للخراب، والعشوائية، بل راحت تحفر، وترسم، وتنقش، وتصمم، وتدوّن ومضات آمال مازالت تجعل من نصوصها، علامات حياة، واضاءات لأحلام لم تفقد جاذبيتها، ولغزها.

[6] المشفر ولغزه

لم تحول لمى حوراني أحجارها، ومعادنها، من تراب إلى ذهب، بل، كالبلبل الذي لفت انتباه (سليمان) وجعله يتساءل: من علمك هذا التغريد؟ إذ ْ سلكت الفنانة الدرب نفسه: إخفاء المعنى، في فنها، وتركه يذهب ابعد من الوظيفة. فقد محت أصابعها حرية صياغة لغة استمدت أصولها من الزمن السحيق: إنها، لم تغرد، كالبلبل، ولم تنشد، كما في أناشيد تموز، كمهارة، بل كي لا تجعل الأشكال أسرى معانيها.  ثمة، في الأصول، بدائيات لم تترك (الحداثة) تحدق طويلا ً في المجهول. ومع أن الفنانة تلقت تعاليمها الفنية، في الأردن، وايطاليا، إلا أنها، لم تخف أنها تعلمت من ثنائية الزوال/ الانبعاث، لغز الابتداء (الكامن في كل نص لم تندثر فيه الذاكرة، أو الباثات) أي في: المقدمات، وقد تضمنت ذروتها. ففي الفنون المبكرة التي كانت شاهدة على تحول الإنسان من عصر البرية، إلى عصر الحلم: عصر التأمل، بفعل نظام العمل وتراكماته، تكمن إرادة منح العلامات ما هو ابعد من: لفت الانتباه، نحو: هذا الذي يكمن في الصياغة ـ النشيد ـ وفي كل لغة تمدنا بلغز أطياف لم تر النور بعد. لمى حوراني، لا تغرد، وإنما هي تصنع من ا لخامات البكر، جماليات لذائذها، ومراراتها، عبر ثنائية تحول المعادن إلى أشكال، والأشكال إلى اثر يتضمن باثاته. فالمعادل بين الذاكرة، والمخيال، سمح لها أن تعيد للموروث المحلي، العربي، والأقدم، حداثة كان الطير قد اكتنزها،  ولم يتعلمها في معهد أو في مدرسة. لمى، هي الأخرى، لمست مكونات ـ ومحركات ـ  استحالت إلى علامات. فالغابة، كالصحراء، تكمن في أحجار وأساور وخرز وقلائد الفنانة. فنصوصها تؤدي دور اللغة، إنما بما تتضمنه من غوايات. فهي تكتم ما تريد الإعلان عنه: ولا تفصح إلا عن ما سيجعلها تأخذنا معها حيث الأزمنة لا تنغلق عند نهاية. انه عمل (انانا/ عشتار/ فينوس) وهو عمل أول آلهة جعلت الموت يتريث في استكمال نهايته. أي في منح البذرة ـ وكل ما يكمن فيها ـ نظامها العنيد في الإنبات. ففي رموزها، ومصغراتها، وتصميماتها، ثمة حكاية تحكى بالأصابع، لا من اجل اللعب، أو الرقص،، بل لتأمل المخفيات في قدرتها على الانبعاث. ففي عالمنا المحكوم بالبضائع، وما فوق الرأس مال، حيث الحداثات بلغت ذروتها في التجريد، والاختزال، والقسوة، نجد الفنانة تشتغل، شغل البلبل، وتشتغل شغل البذرة، وتشتغل شغل من لم يتخل عن التدشين. فالفنانة وازنت بين الحلم الذي سكن الخامات، والخامات التي اخفت أحلامها فيها. وكأنها ـ هنا ـ تعثر أو تجد ـ ولا تصنع أو تنفذ ـ أشكالها: إنما، في هذا النظام،  لا تنغلق المسافات. فومضات القلب علمت الأصابع كيف تمنح أشكاها أن تعيد سرد الحكاية: كيف يتكون الحلم وكيف يغدو مدرجا ً للإقامة، وليس للسفر أو الغياب. فالحضور في النهاية، يفصح عن بلاغة النص: الأثر وق توارى، كي تنبت أسئلة الوجود، ولا تغدو فائضة. إنها تصنع  حداثة مضادة، ومغايرة، لموت (السلعة)، ولموت (الفن) عبر صخور وأحجار  تحولت إلى لغة، ومعادن، لا يمكن فصلها عن المخيال، أو الذاكرة. فالنصوص لم تعد تنتمي إلى صنف أخير، بصفتها باذخة، أو بصفتها ترفا ً، بل لأنها مشفرة ببدائيات عرفت كيف تبلغ ذروتها: لغز الثمرة.  انه لغز الجمال، مهما خضع للتفكيك، يذهب ابعد من الأسر. ففي هذه المصغرات، والتصميمات الشبيه بالدمى، والخرز، والتعاويذ، واللغات السحيقة أو المندثرة، باثات لم تر النور بعد، ولا تعمل إلا عمل أبجدية لا نهاية لها إلا عبر  إقامتها في التدشينات: مقدمات الصفر، وقد غدا عددا ً. وهو لغز وجود الحلي،  وقد نسج ذكرى أقدم راحل، ترك للعشاق مفاتيحه، كي لا توجد أبوابا ً للانغلاق.