يكشف الناقد السوري عن أن جوزف حرب لا يؤمن في شعره بوحدة الأسلوب، بل بالمغايرة والاختلاف والتنوع حتى ضمن القصيدة الواحدة، لأنه يثور على ما يسمى إيقاع المشابهة، ويرسم قصائده وكأنه يرسم لوحات فنية متحركة الظلال، والألوان، والأحجام يلعب فيها المثير البصري والتشكيل دور المحفزات الشعرية المثرية.

المثير الجمالي في ديوان جوزف حرب

«أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها»

عـصام شـرتح

 

ما من شك في أن أي مثير جمالي مؤثر في نص شعري يتوقف على أثر هذا المثير في تفعيل الرؤيا الشعرية، وتحميلها من المعاني والدلالات الجديدة مالا يمكن أن يتضمنه نص شعري آخر بهذه السوية والرفعة الفنية؛ وما نقصده بـ(المثير الجمالي): المؤشر الجمالي البليغ الذي يستعلي على باقي المثيرات الجمالية في النص؛ مفعِّلاً الرؤيا الجمالية، ومحلقاً بالدلالات والمعاني التي تضمرها القصيدة؛ وبتقديرنا: إن شعرية أي مثير جمالي تكمن في قوة الضاغط الجمالي لهذا المثير في تفعيل النص، وفي ضخ دماء جديدة في جسد القصيدة؛ ولهذا نجد أن المنظرين للشعرية لا يقفون على مفهوم واضح ودقيق للشعرية، لأن لكل نص أفقه الجمالي، وشعريته المواربة التي لا تتكرر في نص شعري آخر.

ومن يطلع على قصائد جوزف حرب يجد أن لكل نص شعريته وأسلوبه البنائي الخاص الذي ينبني على حراك الرؤى والدلالات والمعاني والتشكيلات الأسلوبية المراوغة؛ أي يجد لكل نص من نصوصه الشعرية أسلوبه التطريزي الخاص من حيث تشكيلاته وأنساقه التصويرية المراوغة ومعانيه الخاصة.

وبتقديرنا: إن اللعبة الشعرية – في قصائد جوزف حرب- لعبة مثيرات تشكيلية جمالية تبثها أنساقه الشعرية الصادمة، وأسلوب بنائه الشعري التطريزي للجمل، ونمنمتها بأسلوب جمالي مبتكر على مستوى الشكل وهندستها التشكيلية واستراتيجيتها الدلالية.

ومن يطلع على قصائد ديوانه الموسوم بـ(أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها) يلحظ أن الشاعر يرسم قصائده؛ وكأنه يرسم لوحات فنية متحركة الظلال، والألوان، والأحجام، وكذلك يدرك أن الشاعر يقوم بترسيم المعاني والدلالات من خلال التخطيط الجمالي والدلالي للنص الشعري؛ فلكل مقطع رؤيته الخاصة، وأسلوبه التطريزي الخاص، وهذا ما يميز كل قصيدة من قصائده أن بنيتها التشكيلية تسبح في فضاء رؤيوي جمالي خاص، فالشاعر جوزف حرب لا يؤمن بالمعاني المترابطة، أو المعاني الضمنية المتفاعلة، إنه يجعل لكل مقطع منظوره المغاير، وأفقه الرؤيوي والدلالي الخاص الذي يميزه عن باقي مقاطع القصيدة، باختصار تام: إن جوزف حرب لا يؤمن بوحدة الأسلوب، بل يؤمن بالمغايرة والاختلاف والتنوع حتى ضمن القصيدة الواحدة، إنه يثور على ما يسمى إيقاع المشابهة في المقطع الواحد؛ فكيف الحال على إيقاع القصيدة بتكاملها النصي، أي قصيدة جوزف حرب تنأى عن الموضوع الواحد، والعاطفة الواحدة والشعور الموحد؛، فهي مختلفة باختلاف الحياة، تنفتح على دلالات جديدة وتشكيلات مبتكرة في كل مقطع من مقاطعها، أي مرجعية قصائده المقطعية مرجعية جمالية نفسية، رؤيوية، لدرجة أنها تنفتح على الصراعات والرؤى والتكتلات الشعورية، بمعنى أدق: إن صوره تنفتح على معاني الذات وانكساراتها وتأملاتها الوجودية؛ ولذلك، فإن قصيدة (دواة السنونو) التي جعلها خلاصة ديوانه (أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها) هي قصيدة حالات وتحولات شعورية شبيهة بالعالم المفتوح الذي نعيشه، ويعيشه الشاعر بإيقاع رومانسي ترسيمي دقيق للمشاهد والرؤى الشعرية، أي يعتمد دراما الشعور، ودراما الحواس، ودراما الحياة النفسية الداخلية.

والملاحظ أن المثير الجمالي- في قصائد جوزف حرب- تحولي أو متحول، سواء أكان ذلك على مستوى الرؤى أم حراك المشاهد، لتشكل النمنمة التشكيلية بؤرة تشكيل الصورة، وإثارة متحولها الجمالي الفعال الذي يبئِّر الدلالات،ويثير محفزها الجمالي الخلاق كما في قوله:

" يُطلُّ

عليَّ

الصباح

بوجهِ

بنفسج

ويقرعُ

بابي

بإصبعِ

ماءْ

فأفتحُ في الأرضِ بابي، ليدخلَ

بيتي

عليه

قميصُ السماءْ

ونمضي النهارَ

إلى أن يجيء المساءْ

فيرحلُ

لاشيء باقٍ لأعيننا غيرُ

عكازتيِّ ليلةٍ

من بكاءْ"(1).

هنا، يبدأ الشاعر تطريزه اللغوي عبر أنساق تشكيلية؛ بالغة الإثارة، والتحفيز الجمالي؛ لدرجة تبرز أثر المثير الجمالي اللغوي في إثارة النسق الشعري؛ ولعل أبرز ما يدل على بلاغة المثير الجمالي ما يمكن أن نلحظه في قوله: [يطلُّ عليَّ الصباح/ بوجه بنفسج]؛ إن الانزياح اللغوي التطريزي [بوجه بنفسج] يحقق قفزة شعرية جمالية في التشكيل؛ لدرجة تدل على نمنمة بليغة مثيرة: [ وجه بنفسج]؛ وهذه الإزاحة الفنية أتبعها بمثير انزياحي مؤثر: [يقرعُ بابي بإصبع ماء]؛ وهذه التشكيلات المراوغة جمالياً أتبعها بمثير جمالي آخر: [قميص السماء]؛ ثم حقق القفزة المثيرة بلاغياً بقوله: [لاشيء باقٍ لأعيننا غيرُ عكازتي ليلةٍ من بكاءْ]؛. إن المثير الجمالي المدهش الذي ولد هذه الإثارة في هذه النهاية المثيرة: [عكازتي ليلةٍ من بكاء]؛ فقد جمع في هذا المثير المشهد الحسي بالمعنوي؛ بالانتقال من الرؤية السطحية إلى الرؤيا العميقة؛ وأثار الذهنية الشعرية؛ لتفتح أبواب التلقي الجمالي على أشده؛ وهذا دليل أن المثير الجمالي- في قصائد جوزف حرب في ديوان ( أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها) متنوع بتنوع دلالات قصائده ومشاهده، ما يمكن أن نحصره بما يلي:

1. المثير الجمالي التصويري:

إن الصورة هي المثير الجمالي الأبرز في لغة الشعر؛ بل هي نقطة التمفصل الشاعري المرهف في تحفيز الشعرية؛ وهي التي تحقق المتعة في تلقي النص الشعري؛ وباختصار هي التي ترفع أسهمه الجمالية؛ شريطة أن تكون الصورة مبتكرة مثيرة في خدمة الرؤية الشعرية؛ وبهذا التنامي الجمالي يقول جوزف حرب: "الصورة هي اللقطة الجمالية التي تحملني على أجنحة الخيال؛ تستفزني الصورة إلى عوالم روحية لا أستطيع تفسيرها؛ أشعر بنشوة روحية حقيقية عندما تأتي الصورة في مكانها النصي المناسب من النص؛ وكأنها تشد القصيدة بدلالاتها ورؤاها، وأجمل الصور بالنسبة لي هي الصورة التي تشكل بؤرة الدلالة ، أو جوهر الرؤيا، ورحمها الإبداعي"(2).

ووفق هذا التصور؛ ندرك أن المثير الجمالي التصويري هو العنصر الأبرز في تفعيل الرؤيا الشعرية عند جوزف حرب؛ ومن أجل هذا؛ تعد الصورة هي المثير الجمالي الأسمى الذي تنبني عليها قصائده؛ من حيث المهارة، والترسيم اللغوي للأحداث ، والرؤى، والمشاهد الشعرية؛ ولا يخفى على القارئ أن جوزف حرب لا يشكل الصورة إلا بالاعتماد على الطبيعة ليسائلها؛ أي يشكل الصورة، من خلال معطيات الحياة؛ من الحياة لتعود إلى حضن الحياة؛ فهي ليست نسيجاً فكرياً؛ وإن بدت كذلك؛ وباختصار شديد، إن صوره مشتقة من الواقع البيئي، ومن عالمه الروحي الذي يعيشه في إحساسه الوجودي واغترابه الروحي، أي إن المثير الجمالي التصويري مثير بوحي شخصي، ينبعث من الذات، ويرتد إليها في صيرورة رؤيوية جمالية تشتغل فيها حواسه، ورؤاه ومشاعره بإحساس كوني شمولي منفتح، كما في قصيدة (حياة):

"الليلُ عندي قهوتي

والغيمةُ البيضاءُ

سُكَّرتي

وبحيرةٌ زرقاءُ

منفضتي

والأرضُ طاولتي

والشمسُ مصباحٌ عليها. البحرُ أوراقي

وكرسيَّ الجبالُ. وريشتي ريحُ الشمال

وزرقةِ الآفاقِ

محبرتي

والكونُ

مكتبتي"(3).

هنا، إن الشاعر يفتح دائرة رؤيته الوجودية؛ لتتشكل قصيدته من الحياة بمعانيها المنفتحة ورؤاها الخصبة؛ وهذا يعني أن الوجود كله مادة قصيدته: [الليل =قوتي – الغيمة= سكرتي- الأرضُ طاولتي- البحر= أوراقي- الكون = مكتبتي]؛ وهذا يعني أن الفضاء الرؤيوي الوجودي مفتوح في قصائد جوزف حرب؛ بمعنى أدق: إن الفهم الصوفي المنطوي على إحساس وجودي شامل هو ما يغلف رؤية قصائده حتى في سياق ما هو ذاتي، أو سياق ما هو كشفي عن اندماج الذات/ بالموضوع؛ أو الموضوع/ في الذات؛ فتغييب الذات لا يعني إقصاءها؛ وإنما اندماجها في فسحة من التأمل والاستشراف الوجودي.

ولو دقق القارئ في كل مثير تصويري، أو في كل مثير لغوي مؤثر لتبدى له أن النسق اللغوي في قصائده تفاعلي ينبثق من معطيات الوجود؛ وحراكه الرؤيوي المناسب؛ فالقيمة للرؤية الشعرية التي تباغت القارئ بهذا الإحساس الجمالي المتنامي الذي يتنامى تدريجياً ليصل إلى القمة في الفاصلة الختامية للقصيدة وقرارها النصي العام. وعلى هذا الأساس تتأكد فاعلية المثير الجمالي التصويري في قصائد جوزف حرب من خلال الجمالية الفنية في ترسيم الأحداث والمشاهد الشعرية بدقة متناهية؛ وذلك من خلال الحس الجمالي التأملي الذي يظهره في شعرية الصورة الصوفية التأملية،وشعرية المشهد الشعري،كما في قوله في قصيدة( جناحان):

"من كثرة ما تتدخلُ

روحُ الحريةِ

في نصي المملوء بإيقاعٍ يشبه

إيقاع

رفيف

العينين

والمكتوب على أوراق ٍ ملأى بسطورٍ

تشبه في الحبر

خطوطَ الكفين

لم أكتب أي كلام ٍ في نصٍ إلا

ورسمتُ عليهِ

جناحينْ"(4).

لابد من الإشارة بداية إلى أن ذروة الشعرية في أعلى توثباتها الجمالية في قصائد جوزف حرب ماثلة في دهشة الصدمات اللغوية، وهذه النمنمة الرؤيوية والتشكيلية البليغة التي تصيبها في موضعها النصي؛ تحقق أعلى درجات اللذة الجمالية في تلقي نصوصه الشعرية. وبمعنى أدق: إن المثير الجمالي التصويري- في بنية القصيدة السابقة- مثير مشهدي رؤيوي ينبني على إيقاع التشبيه المضاعف، أو تشبيه صورة بصورة، أو مشهد بمشهد بقفلات شعرية تعتمد القفلات اللغوية المنسجمة: [رفيف العينين]- [خطوط اليدين] [رسمت عليه جناحين]؛ وهذا الترسيم الدقيق للمشهد الشعري يدلل على شعرية مؤثرة لحركة المشهد الشعري؛ ذلك أن الترسيم المشهدي الدقيق هو المثير الجمالي التصويري الأسمى الذي يراوغ القارئ، ويثير نشاط الدلالات وحراكها الشاعري المؤثر.

ويعد المثير الجمالي التصويري- في قصائد جوزف حرب- الواجهة الفنية التي تستثير الرؤية الشعرية من خلال الأشكال اللغوية المبتكرة، والترسيم الرؤيوي الدقيق للمعنى الشعري المؤثر؛ فالقيمة الجمالية ماثلة في كل عنصر نصي ترتكز عليه القصيدة في إبراز ملمحها الخلاق؛ كما في قصيدة ( الروح):

للشعر

أشكالٌ

عديدهْ

منها

القصيدهْ

تلك ليست صياغتَهُ الوحيدهْ

في روحِ كلِّ إنسانٍ شعرٌ

إن هذي الروحَ محترقهْ

بقصائدٍ

لا ريشة ٌ فيها

ولا ورقهْ"(5).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن المقوم الجمالي التصويري يرتد - بالدرجة الأولى- من المتحول الجمالي في التشكيل، ليقف الشاعر على القفلة النصية التي تدلل على شعريته، والتي تمثلت- في القصيدة السابقة- بهذه القفلة الشاعرية التي تدلل على حنكة تصويرية في الوقوف على المحك الرؤيوي في تحفيز الشعرية وإثارة توثباتها البليغة؛،" إن هذي الروح محترقهْ بقصائد لا ريشةٌ فيها ولا ورقهْ]؛ وإن هذه القفلة تدلل على أن الشعرية – عند جوزف حرب- هي شعرية تبئير جمالي للمشهد الشعري، والقوة الفاعلة الضاغطة في الوقوف على الرؤيا البليغة التي تضغط على ذهنية القارئ مؤكدة الاستثارة واللذة في التشكيل.

وصفوة القول: إن المثير الجمالي التصويري- في قصائد جوزف حرب- مثير بؤري بنيوي مركَّز للجمل الشعرية في الكثير من مفاصلها الحساسة في التركيب؛ وهي تتنوع بين جمالية التفاعل بين الواقع/ والخيال، والمحسوس/ والمجرد؛ وهذا يعني أن المثير الجمالي التصويري- في قصائد جوزف حرب- يتمثل في القيمة الجمالية العليا لقصائده التي ترتكز على دينامية الصورة وبلاغتها في نسقها؛ ويظهر مردودها الجمالي أكثر عبر المثير الجمالي الضاغط الذي نلحظه في الكثير من الجوانب النصية المضيئة التي غالباً ما تتمظهر في تشكيلات لغوية فاعلة في تكثيف الرؤيا وتحميلها من المعاني والدلالات مالا تحتملها العبارة بعيداً عن سياقها النصي.

2. المثير الجمالي المشهدي:
ما من شك في أن الشعرية في الكثير من توهجاتها الجمالية محرضها الأساس القيمة الجمالية العالية لحركة المشاهد؛ وتفاعلها ضمن سياقها النصي؛ لأن الشعرية في المحصلة هي تفاعل صور ومشاهد وأخيلة تنعكس على الرؤيا الشعرية إثارة وعمقاً، ولذة جمالية في تلقيها. ولا نبالغ في قولنا: إن المثير الجمالي للمشاهد الشعرية ترقى بتفاعل المشاهد، وتضافرها في سياقها الشعري؛ ولهذا؛ نجد جوزف حرب صادقاً في نقله المشاهد الشعرية بإحساس جمالي خلاق مؤثر في الحركة الشعرية المشهدية؛ إذ يقول: "إن عينيَّ تمتلئ بأطياف الطبيعة ومثيراتها المرئية (البصرية/ والمتخيلة)؛ ولا أبالغ إذ أقول: لاشيء صامت أو فارغ في عيني؛ إن قصائدي تنفتح على الحياة بأطيافها ورؤاها ومشاهدها الحية المتحركة؛ فلصوت الريح، والمطر، والرعد إيقاعه الحي في قصيدتي .. باختصار العالم كله بجدلياته وتناقضاته الكثيرة مسرح لقصائدي، ولهذا أتمتع بالمشهدية التي تنطوي عليها قصائدي في تصوير الأشياء؛ لاسيما عندما تعكس الكثير من مشاعري المصطرعة وأحاسيسي المتوترة؛ أي قصائدي تملك ديكورها الخاص ومونتاجها الشعري الفني الذي يوازي الرؤية البصرية بالرؤيا المتخيلة؛ وهذه هي اللذة التي نكتسبها في تلقي الشعر لما يفيض بالحياة"(6).

والواقع إن من يطلع على قصائد جوزف حرب يلحظ غنى مشاهده الحية المتفاعلة بالرؤى، والأحداث، واللقطات، والتشبيهات، والصور الحية المقتنصة من الواقع العياني المباشر؛ لدرجة أن القصيدة- عند جوزف حرب- بانوراما تشكيلية تضج بالمشاهد الحية والمتخيلة؛ لتبدو قصائده متفاعلة في حيزاتها البصرية والأحداث اليومية المشهدية المرئية، أي إن قصائده وإن اعتمدت الخيال الشعري- لا تنفصل عن الواقع المحسوس ومشاهده الحية الطازجة ، كما في قوله:

"كانت

حياتي حرةً جميلة، صافية كعيد ينبوعٍ

كم اشتهيتُ لو تكون عندي

امرأةً

لكي

أضمها

غارقةً بالسحرِ والبها.

نبيلة ً كانت حياتي.

فإذا مرَّتْ

أمامي

أغني

لها"(7).

لابد من الإشارة بداية إلى أن المثير الجمالي المشهدي- في قصائد جوزف حرب- مثير تحولي مشهدي، من مشهد إلى مشهد، ومن رؤية مشهدية إلى أخرى؛ ومن طبيعة المشاهد الشعرية - في قصائد جوزف حرب- أنها مشاهد متحولة أو متحركة؛ أي مشاهده تلجأ إلى المثيرات البصرية التي تتفاعل مؤثراتها البصرية مع الواقع العياني المباشر؛ وفق قلقلة نسقية مفتوحة الرؤى والدلالات عبر جمالية الخيال الشعري؛ وهذا يعني أن غنى المشاهد- في قصائد جوزف حرب- من غنى متحولاتها النصية؛ ولو دققنا في المشاهد السابقة لتبدى لنا أن كل مشهد شعري يتحول إلى مشهد آخر؛ بإثارة لغوية مفتوحة الرؤى، والدلالات، والمؤشرات البصرية.

والملاحظ – على المستوى المشهدي الفني- أن الشاعر ينتقل من رؤية مشهدية إلى أخرى: [حياتي حرة جميلة= صافية كعيد ينبوع]؛ ثم ينتقل إلى مشهد آخر أكثر غنى ومرجعية جمالية كما في قوله: [نبيلة كانت حياتي= فإذا مرت أمامي أغني لها]. إن القارئ يشعر بالمتعة الجمالية من هذه الإسنادات الجمالية في ربط المشاهد والتفاعل مع حيثياتها الشعرية؛ صحيح هنا أن المشاعر العاطفية تطغى على الصور وحركة المشاهد لتبدو مجرد أحاسيس عاطفية تغرق في الرومانسية، لكنها تنطوي على حراك مشهدي متخيل لمشهد رومانسي يفيض بعذوبته ورقته. واللافت أن قيمة المشاهد تنبع من قيمة مثيراتها البصرية المتحركة، وتكامل الرؤى المشهدية، وتفاعلها ضمن الإطار النصي؛ وهذا ما نلحظه في الكثير من قصائد ديوانه (أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها)؛ ولاسيما قصيدته الموسومة بـ(تتار)؛ إذ يقول:

"دخلوا القرى؛ في كفهم كان الخريفُ

من الحرابْ

قتلوا الشجرْ

قتلوا غيوماً؛ ضُرِّجت إذا فاضتِ

الأرواحُ منها

بالمطرْ

قتلوا الجرارَ، ونسوةَ القمح الذي تركوهُ

مذبوحَ السنابل

في طواحينِ الغيابْ

وعلى بقايا حَوْرةٍ

لُفَّتْ بأكفانِ الضبابْ

صلبوا

الترابْ"(8).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن شعرية المشاهد وأثرها جمالياً ينعكس على شعرية الرؤية؛ وعمق المخيلة الشعرية التي أنتجت حراك المشاهد الشعرية وكثافتها؛ فالقيمة في شعرية المشاهد ليس تحولها من مشهد إلى آخر؛ ولكن في تفاعل المشاهد وتلاحمها على المستوى المشهدي العام. وهاهنا نلحظ أن المشاهد المتحركة تعكس سيرورة الرؤيا الشعرية التي تبرز نواتج التشكيلات التصويرية المراوغة في مجرى السرد الشعري؛ كما في المشهد المتحرك الخلاق بحراكه على مستوى الصور واللقطات: [في كفهم كان الخريفُ من الحرابْ]؛ إن هذا المشهد يعكس عمق الرؤيا، وفاعلية المنظور الشعري؛ فهذا المشهد على الرغم من أنه مشهد ملحمي متخيل إلا أن الشاعر حرَّكه بإحساسه الشعوري لينقله إلى حيز ما هو بصري أو ما هو مرئي عيانياً؛ وهكذا، تتوالى المشاهد الشعرية، وتبرز كقيم بؤرية محفزة للشعرية على مستوى تفاعل اللقطات والصور والمشاهد، كما في قوله: [قتلوا غيوماً ضُرِّجت إذا فاضت الأرواحُ منها بالمطر]، ثم تتابع المشاهد لتبرز شعرية المنظور الرؤيوي للمشاهد الشعرية المتحولة؛ لتنتهي الرؤية الشعرية التي تنطوي عليها القصيدة بمشاهد جمالية تعكس شعرية القصيدة بالكامل "وعلى بقايا حورة لُفتْ بأكفانِ الضبابٍ صلبوا الترابْ]. وهكذا تظهر شعرية المثير الجمالي المشهدي في تفعيل الرؤية الشعرية، وتحميلها من المشاهد والرؤى المتحولة الشيء الكثير؛ مما يعني أن شعرية القصيدة تتمثل في شعرية متحولاتها النسقية ومشاهده المتخيلة التي تقترب في أحداثها ومشاهده ولقطاتها من المشهد البانورامي الملحمي الدرامي.

وصفوة القول: إن شعرية المثير الجمالي المشهدي- في قصائد جوزف حرب- تعكس شعرية الصور وتحولاتها المشهدية ضمن الإطار النصي العام؛ وقيمة المتخيلات الشعرية، من خلال نقل المشهد من الحس إلى الحركة، ومن الحركة إلى الاستشراف البصري، أي صوره متخيلة تعكس فانتازيا الرؤيا، وعمق حركتها، وتلاعبها بالحواس لتعمل على ما يسمى تشويش الحواس، ونقل المنظورات المراوغة المتحولة من مشهد إلى آخر، ومن منظور شعري إلى آخر.

3. المثير الجمالي الرؤيوي:
لاشك في أن الشعر- في أسمى تجلياته – مثير رؤيوي يحول الأشياء، ويصورها، ويركبها، ويبث فيها الحياة؛ لتغدو القصيدة مسرحاً متحركاً للحياة؛ أو مسرحاً متخيلاً لمؤثرات الحياة بإحساس جديد يسبح في التجريد والخيال؛ أي يصبح الشعر المتحول الجمالي للطبيعية بإحساس جمالي؛ والمتحول الجمالي للفكر بإحساس شاعري يقرب المجرد من المرئي، والمرئي من المجرد عبر فاعلية الإحساس الجمالي. وبهذا المعنى يقول أدونيس صاحب الاتجاه الرؤيوي في الخلق والتشكيل اللغوي في بنية القصيدة "اللغة الشعرية – بطبيعتها- لغة إيحائية؛ ليست لغة منطق، وقياس، وتعليل؛ وهنا، تكمن الخاصية الشعرية في التعبير عن عالم تقف أمامه اللغة العادية عاجزة .. فهذه اللغة محدودة في حين أن هذا العالم غير محدود؛ ولا نستطيع أن نعبر بالمحدود عن شيء غير محدود؛ لابد، إذن، من اللجوء إلى وسائل نتغلب بها على هذه المحدودية؛ هذه الوسائل، هي تحديدا، خاصية الشعر أو لغته، وهي التي أسماها أسلافنا بلغة المجاز"(9).

وهذا القول ألمح إلى بعض منه جوزف حرب قائلاً: "إن لكل قصيدة من قصائدي مثيرها الرؤيوي المتحرك الذي يجعلها تحايث الحياة وتقترب من متناقضاتها وجدلياتها الوجودية المستمرة؛ ولا أبالغ في قولي: إن المدقق في قصائدي سرعان ما يلحظ أن قصائدي تبقى في حركة دائبة مستمرة، لاسيما في متخيلاتها ورؤاها، ومثيراتها المشهدية المفتوحة على الحياة واصطراعاتها، وجدلياتها ومتناقضاتها الوجودية على الدوام. إن مفتاح قصائدي المشهدية وذروة إثارتها في متخيلاتها وتجريدها الرؤيوي، وأرقى لذة تصلها في صورها العاطفية الرؤيوية التي تباعد الواقع إلى المثال"(10).

وانطلاقاً من هذا المنظور يمكن القول: يعد المثير الجمالي الرؤيوي المتحول من مثيرات قصائد جوزف حرب التي تشتغل على كل ما هو مؤثر في الرؤيا ونواتج الدلالة؛ ناهيك عن توزيعها الهندسي، وإيقاعها البصري المتحرك؛ وهذا يدل على أن الرؤيا تشكل جوهر فنية القصيدة وتحولاتها في تقنياتها وفنياتها كلها؛ في قصائد جوزف حرب التي تغامر في الرؤيا؛ كمغامرتها في تشكيلاتها اللغوية الصادمة التي تحرك إيقاع شعرية قصائده من الصميم. ولكن هذا لا يعني انفصال القصيدة عن طابعها الغنائي؛ ولا نبالغ في قولنا: إن جوزف حرب يشكل قصائده بإحساس رؤيوي جمالي مفتوح. صحيح أن الجانب الغنائي الرومانسي هو المسيطر على إيقاعها الصوتي وحركتها الداخلية ، لكن بلاغة الرؤيا وانفتاحها وأفقها الوجودي اللامحدود يجعل نواتج الرؤيا والدلالات مفتوحة على أشدها في البنية التركيبية والدلالية للقصيدة في شعره؛ لاسيما في رسم الحالة الشعورية التي تعتريه بإيقاع رومانسي- رؤيوي منفتح الرؤى والدلالات والمحفزات البصرية؛ كما في قصيدة (وداع):

"أيا جسدي

وداعاً سوف أمضي لأغدو

بلبلاً، أوزِرَّ وردٍ فإني اشتقت للأشياء حتى أراني

مثلها: قمراً، جناحاً، مدىً

شجراتِ شيح ٍ

أقحواناً

وأجملُ أن يكونَ الريحَ صوتي،

وكفي الماءَ، والأمواجَ قلبي.

وفي روحي اشتياقٌ، أو حنينٌ

لكي تغدو على وادٍ ضبابَهْ

وأحلمُ يا يدي لو أنتِ ريحٌ

وأقلامي غصونٌ في فضاء

تمارسُ فوق زرقته الكتابهْ

لو أني في البراري طفلُ نبع ٍ

له من زهرِ وزَّال ٍ قميصٌ

ومن أوراق صفصافٍ

ذؤابهْ"(11).

هنا، تصطدم عين القارئ بطريقة تشكيل القصيدة، أي بطريقة توزيع الكلمات وفق نمط بصري مهندس للجمل والكلمات الشعرية؛ ذلك أن الشاعر يرسم الرؤية رسماً بهندسة تصويرية تعتمد الوقوف على القفلة الشطرية المؤثرة التي ترفع وتيرة الشعرية؛ فالشاعر -هنا -يرسم الصورة المؤثرة بنمنمة تصويرية بالغة الاستثارة والتحفيز الجمالي؛ تؤكد دقة إصابة الشاعر للصورة المحورية المؤثرة؛ بإيقاعها التصويري المموسق الذي ينسجم مع وقع الحالة الشعورية لتشتغل الحواس، والرؤيا، بمحركاتها الشعورية المؤثرة في قلقلة الرؤيا، وإصابة الدلالات من الصميم؛ كما في هذه القفلة التصويرية المحكمة الني تدل على عمق الرؤيا، ودقة إصابة المشاهد المتحركة على شاكلة قوله:

"وأحلمُ يا يدي لو أنتِ ريحٌ

وأقلامي غصونٌ في فضاء

تمارسُ فوق زرقته الكتابهْ"

والملاحظ -على المستوى الرؤيوي الجمالي في التشكيل- أن الشاعر يحوِّل الدلالات والرؤى لتقف على الصورة القرار أو الصورة الموقف التي تسهم في تعميق شعرية الرؤيا. وهذا يعني أن شعرية المثير الرؤيوي المتحرك ماثلة في القفلات التصويرية المحكمة التي تعبر عن شعرية الرؤيا، وأفقها الدلالي المفتوح.

وبتقديرنا: إن شعرية المثير الرؤيوي المفتوح- في قصائد جوزف حرب- تتمحور على الأفق الرؤيوي المفتوح الذي تثيره صوره الشعرية عبر فاعلية ( الخيال الشعري الخلاق)؛ ففي قصيدته(عامٌ آخر) ينقلنا جوزف حرب نقلة نوعية في قصيدته من رؤية إلى أخرى، بفاعلية تصويرية رؤيوية مكثفة للرؤى والمداليل الشعرية، كما في قوله:

"بأسى الطيرِ

حينَ تعرى الحقولُ

قلتُ: يا عامُ ضمني، ووداعاً

جاءَ يا عامُ دمعُنا، والرحيلُ،

فمضى، تاركاً بجسمي عاماً، كلُّ ما فيهِ

أخضرٌ، وجديدٌ، وأنيقٌ ودافئٌ

وجميلُ

لم يُحبَّ العامُ الجديدُ بقايا جسدي

فهو متعبٌ وعتيقٌ؛ وهو مرٌّ وذو مساً

ونحيلُ

ألقتِ الأشهرُ الليالي عليها؛ ثم نامتْ

ولم يعدْ فيَّ يومٌ ذو صباحٍ، و غادرتني

الفصول"(12).

لابد من الإشارة بداية إلى أنَّ شعرية المثير الرؤيوي المفتوح- في قصائد جوزف حرب- شعرية تصورية مفتوحة الرؤى، والمداليل، والمؤثرات الشعرية؛ وهاهنا، يخاطب الشاعر عامه الجديد أن يفتح له آفاق الحياة، بدفقات شعورية مليئة بالأمل، والتفاؤل، والحياة. لكن الشاعر يغص بكلماته التي ألقت سراب جراحها على جسده؛ فبدا نداء الشاعر مخنوقاً؛ والصباح الجديد الذي حمله العام الجديد لم يكن سوى نسخة لأعوامه الحزينة. وهكذا، ينقلنا الشاعر نقلة نوعية في الرؤية من رؤية إلى أخرى؛ ومن إحساس شعوري إلى آخر؛ لتحقيق التكافؤ الداخلي بين ما يحسه الشاعر، وما يصوره النص من صور معبرة عن يأسه وحزنه من أيامه الراحلة دون أن تمنحه ما يريد من زهو، وإشراق، ونبض، وحياة. وعلى هذا الأساس تم تحقيق التفاعل بين مثيره الشعوري المأزوم وإحساسه المتوتر الذي عبر عنه بالرؤيا العميقة والإحساس الشعوري المتنامي.

وصفوة القول: إن شعرية المثير الرؤيوي المفتوح- في قصائد جوزف حرب- تتأسس على المعنى المراوغ والحياكة الجمالية للصورة والرؤيا؛ لتغدو قصائده نمنمات تشكيلية وشذرات تصويرية عالية التركيز والإثارة الجمالية.وهذا يعني أن المثير الرؤيوي الجمالي مثير تحولي أو تفاعلي على مستوى الرؤى الجزئية وصولاً إلى الرؤيا الكلية.

4. شعرية التشكيلات البصرية أو المثيرات البصرية:
يعد المثير البصري في التشكيل من محفزات الشعرية في لغة الحداثة في واقعنا الراهن؛ هذه الشعرية التي اعتمدت مختلف المثيرات في التشكيل، لتكثيف الرؤيا وتعميق التجربة الشعرية. وهذا ما انتهجه جوزف حرب في قصائده من ناحية الرؤيا والتشكيل؛ فقصائده تمتاز بهندستها البصرية المحكمة؛ وذلك تبعاً لمردود الرؤية، وفاعلية الصور المتحركة التي تبثها قصائده؛ وقد انتبه إلى أهمية التشكيل البصري في لغة الشعر الكثير من الباحثين والشعراء؛ ومن ضمنهم جان كوهن الذي يقول: "إن للبياض في القصيدة أهمية لافتة للنظر؛ فالنظم يقتضيه باعتباره صمتاً يحيط بالقصيدة"(13).

فإذا كان البياض صمتاً فإن هذا الصمت ليس محايداً؛ ولا يدل على مطلاقيته. إنه صمت وارد في سياق شعري؛ سواء أكان هذا البياض مؤكداً بنقط؛ أو مفروضاً من خلال تموقع النص في الصفحة"(14). وهذا يعني أن شعرية المثير البصري تتحدد من ناحية القيمة الجمالية والدلالية التي يحققها في النص على مستوى الرؤيا والدلالة؛ وكلما كان المثير البصري فاعلاً في تكثيف الدلالة ازدادت رؤية القصيدة وتفاعل مؤثراتها الشعرية؛ ولو دقق القارئ في بلاغة المثير البصري في التشكيل في قصيدة(ليل) لتبدى له الحراك البصري الفاعل على مستوى تناوب البياض والسواد في القصيدة، كما في قوله:

"في ليلِ الروحِ الحالك حينَ أكونُ

بلا ضوءٍ لمسارح تمحو

أحزاني

أو قنديلٍ يروي عتمة هذي الوحدة

أو

قمرٍ

تتأرجح عيناي بفضته

أهربُ من هذا الليل إلى ليلٍ آخر

يُدعى :

الحبرْ

كي يشعل َ في عتمةِ أوراقي

حتى

الفجرْ

شمعة َ

شعرْ"(15).

لابد من الإشارة بداية؛ إلى أن البياض الذي يحيط بالكتابة الشعرية يظهر على شكل مساحات بيضاء تتخلل السطور الشعرية؛ وهذا البياض يؤسسه الشاعر حسب الدلالة ومثيراتها البصرية في القصيدة؛ فقد يُبرِز الشاعر كلمة واحدة في سطر شعري؛ تبعاً لمتطلبات الدلالة وبلاغتها؛ أو مثيرات الرؤيا ومحفزها البصري؛ وهاهنا في القصيدة السابقة يهندس الشاعر الجمل بصرياً تبعاً لمتطلبات الرؤيا والوعي الجمالي في التشكيل؛ لدرجة أن لفظة (الحبر) جعلها محور القصيدة؛ ولهذا أبرزها بهالة من البياض ليجعل منها قيمة بؤرية محفزة للمعاني والدلالات التي تفرزها القصيدة؛ وهذا التوزيع البصري يهندس دلالات القصيدة وجملها هندسة بصرية بلاغية مؤثرة في تعميق الدلالات وتحفيزها، كما في قوله

[أهربُ من هذا الليل إلى ليلٍ آخر

يُدعى :

الحبرْ

كي يشعل َ في عتمةِ أوراقي

حتى

الفجرْ

شمعة َ

شعرْ]

إن هذا التوزيع الفضائي للجمل يثير الشعرية، ويبرز الصور كقيم جمالية مؤثرة؛ وهذا يدلنا على أن مساحة البياض عندما تسيطر في القصيدة تعبر عن سعة المعاني وكثافتها. ذلك "أن المعنى الشعري حين يكون قوياً تصعب الإحاطة به والتعبير عنه فلا يتمكن الشاعر من الكلام؛ ومن هنا يعبر البياض عن كثافة المعنى؛ كما يحدث عندما تجتمع الألوان جميعها فتشكل بياضاً"(16).

وهكذا يبدو أن المثير البصري ذو قيمة عليا في تحفيز الرؤية الشعرية التي تبثها القصيدة؛ والشاعر في القصيدة السابقة عبر عن ليله المظلم وتبديده لهذه الظلمة عبر قصائده الشعرية التي تنير ظلمة نفسه وليله اليائس الحزين، فشبه قصائده بالشمعة التي تبدد هذا الظلام . وتنقله إلى نور القصيدة وإحساسها الشعوري المتسامي. وهكذا؛ استعان الشاعر بالشكل البصري في التعبير عما يشعر به، لتؤدي مساحات البياض دورها التعبيري كما سواد الكتابة وهذا ما يسمى بالبلاغة البصرية التي تملكها القصيدة الحداثية مقارنة بالقصائد الكلاسيكية التي تعتمد شكلاً بنائياً مطرداً وهو نظام الشطرين.

وقد يتعمد الشاعر جوزف حرب شد انتباه المتلقي بمثيره البصري الذي يجعله مولداً بارزاً للرؤى والدلالات الخلاقة التي تثيرها القصيدة ؛ وذلك عبر هندسة تشكيلية بصرية من خلال توزيع الكلمات على بياض الصفحة الشعرية؛ لدرجة أن توزيع الكلمات يوحي بالمعاني والدلالات التي تنسجم ووقع الحالة الشعورية التي يعيشها الشاعر كما في قوله :

"شُكَّ سيفٌ أسودٌ

في خاصرهْ

أصبحتْ خاصرةً

فتَّحَ فيها جرحْ

أصبحَ الجرحُ الذي يقطرُ

وردهْ

صارتْ الوردة ُ

عشَّاً للحمامهْ،

حيث باضتْ بيضة ً

قشرتها البيضاءْ

خرجتْ من قلبها

سنبلة ٌ خضراءْ" (17).

لابد من الإشارة بداية إلى أن للبياض الشعري الذي يحيط بالكتابة الشعرية بلاغته في التعبير عن الحالة الشعورية، أو الوجدانية التي يعيشها الشاعر لاسيما إذا أتى في مفاصل مهمة في تحفيز الرؤيا الشعرية؛ وهاهنا يُلقي الشاعر الضوء على كل كلمة مهمة تشكل مفصلاً رؤيوياً في القصيدة؛ كما في البياض الذي أحاط سلسلة الكلمات التالية: [خاصرة- كلمة- جرح- وردة – سنبلة خضراء]؛ وكأن الشاعر بعد كل بياض شعري يريد أن يبرز بلاغة الكلمة في موضعها النصي في القصيدة؛ وهاهنا أراد الشاعر في كل كلمة مفردة أن يشكل جذراً تصويرياً في التعبير عن الحالة الشعرية؛ ليؤكد أن الجرح الذي أصابه تحول من مصدر للدماء إلى مصدر للحياة والخصوبة والعطاء؛ عبر رمز [سنبلة خضراء] أي تحول من دلالة الموت إلى دلالة الحياة؛ وكأن الشاعر يريد أن يبرز وجه الحياة الخصيب المشرق مضاداً للدماء في الحروب؛ وهكذا، يبدو لنا أن المثير البصري باتباع مساحة البياض/ والسواد دليل مرجعي على بلاغة الرؤيا الشعرية في قصائد جوزف حرب التي تشتغل على الإثارة بتمامها وكمالها؛ وتأسيساً على هذا" فإن التوزيع التقني لتشكيلات البياض والسواد في النص الشعري الحديث ليس محض مصادفة؛ وإنما نحن أمام تشكيل هندسي يشترك كل من المبدع والمتلقي في تأسيس جماليته. فالمبدع يضع حدود البنى الجزئية للنص الشعري من خلال التوزيعات السطرية؛ والمتلقي يؤول دلالات تلك التوزيعات التي يتجاوز فيها المتلقي سواد الكتابة إلى بياض الصمت، وفيض المعنى؛ على اعتبار أن الصمت كلام من نوع آخر يُترك للمتلقي أن يُتم تشكيله"(18).

وصفوة القول: إن للمثير البصري شعريته -في قصائد جوزف حرب- التي تشتغل على أعلى القيم الجمالية التي تبثها القصيدة؛ ذلك أن المثير البصري يمتلك قيمة عليا في التشكيل؛ ليدلل على هندسة القصيدة شكلاً ومضموناً؛ وهذا ما يحسب لها إبداعياً.

نتائج أخيرة
1. إن أية قيمة جمالية لأي مثير فني أو جمالي- في قصائد جوزف حرب- تتأسس على وعي جمالي وإحساس فني في رسم الصورة والمشهد الشعري؛ بحياكة فنية يبث معطياتها في شعرية الصورة وقفلتها النصية الموفقة؛ فالشاعر لا يرسم المشهد أو الصورة رسماً ساكناً؛ كالفنان التشكيلي؛ إنه يبث فيها الحياة والحركة ؛ لتغدو متحركة بمشاعره ورؤاه وتجلياته الشعورية المفعمة بالاستثارة والجاذبية الفنية؛ أي تعتمد فن المونتاج الشعري؛ فهو يتعامل مع الطبيعة تعاملاً جمالياً؛ لتشكل جزءاً مهماً من رؤيته البصرية وأحاسيسه المفعمة بالعاطفة والإحساس بالاغتراب الوجودي؛وتعبر عن انتمائه الشعوري لهذا الكون الذي يعيشه؛ أي إن الصورة الملتقطة واقعية متحركة بإحساس تخييلي مفعم بالإحساس الجمالي واللذة الجمالية في تشكيلها وتموضعها ضمن النص.

2. إن الكثير من القيم الجمالية-في قصائد جوزف حرب- ترتد إلى بلاغة التشكيلات الصادمة؛ سواء أكان ذلك في استهلالاتها النصية أم في قفلاتها النصية؛ وهذا يؤكد أن متعة المغامرة الجمالية ماثلة في مثيراتها التصويرية واللغوية والتشكيلية؛ وهذا يؤكد أن جوزف حرب شاعر رؤيوي بامتياز؛ يمتلك أعلى مستويات القيم الجمالية في تزيين قصائده بصور تعكس فحوى الواقع؛ وتنأى عنه جمالياً بإحساسه المفعم بالوعي الجمالي في التقاط المشهد المؤثر والمعنى العميق.

3. يمتلك جوزف حرب- في قصائده- شعرية الاستثارة التشكيلية عبر بلاغة التمظهرات اللغوية لاسيما في جسد الصورة؛ أي ليس في قصائده خلخلة في الصور؛ سواء المتحركة منها والساكنة؛ فهو مغرم بالصور النقيضة التي تجمع الحس/ بالخيال؛ والواقع/ بالمجرد؛ بأعلى قيم تفاعل الحواس، وتشويش الرؤيا؛ فهو لا يتعامل مع وسيلة واضحة أو أسلوب معتاد؛ إنه ينوع في أساليبه؛ تبعاً لاختلاف منظوراته، وأحاسيسه الوجودية.

وفي النهاية يمكن القول: إن المثير الجمالي في قصائد جوزف حرب أس جمالي ركائزه مقومات جمالية عدة تفجرها قصائده على المستوى الجمالي، ولهذا تبقى قصائده في توالد مثيرات جمالية على الدوام. وهذا ما يحسب لها إبداعياً عبر سموها على غيرها من التجارب الشعرية؛ ولعل اللذة الإيقاعية التي تعتمد الحراك البصري هو ما يجعل لقصائده مذاقها الإبداعي الخاص وحراكها البصري المنتج للرؤيا الشعرية؛ وهذا يحقق لها اللذة الجمالية في تلقيها؛ وكأنها أسراب عصافير طائرة تبشر بميلاد جديد.

الحواشي:
(1)حرب،جوزف،2009- أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها، دار رياض الريس، بيروت ،لبنان،ص227.

(2)شرتح،عصام ،2012- حوار مع جوزف حرب،مخطوط.

(3)حرب،جوزف،2009- أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها؛صفحة غلاف الديوان.

(4) المصدر نفسه،ص322-323.

(5) المصدر نفسه،ص260-261.

(6)شرتح،عصام،2012- حوار مع جوزف حرب،مخطوط

(7)حرب،جوزف،2009- أجمل مافي الأرض أن أبقى عليها،ص188-189.

(8)المصدر نفسه،ص318-319.

(9) شرتح،عصام،2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ملف حوار أدونيس، ص57.

(10) شرتح ،عصام،2012- حوار مع جوزف حرب، مخطوط

(11) حرب، جوزف،2009- أجمل مافي الأرض أن أبقى عليها،ص287-288.

(12) المصدر نفسه،ص194-195.

(13) كوهن ،جان،1986- بنية اللغة الشعرية،تر: محمد الولي ومحمد العمري،دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب،ط1،ص98.

(14) المساوي، عبد السلام، 1994- البنيات الدالة في شعر أمل دنقل، منشورات اتحاد الكتاب، دمشق، ص40.

(15)حرب،جوزف،2009- أجمل مافي الأرض أن أبقى عليها، ص324-325.

(16)ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص218.

(17) حرب،جوزف،2009- أجمل مافي الأرض أن أبقى عليها، ص98-99.

(18) ترمانيني،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث،ص226.