هنا دعوة لإعادة النظر في معنى الجمال، حيث تشدد الكاتبة على ضرورة فهم سيرورة الآليات وصناعة المعيار الجمالي المتعالي وكيفية تكريسه في المجتمع، كما تتناول أثر ذلك على الشخصية، لتخلص إلى أهمية نزع الأقنعة وقدرة الذات على مواجهة جمالياتها الخاصة.

خرافة الجمال؛ هل نستطيع النظر إلى المرآة بعيوننا حقًا؟

ريـما هديـب

 

لن يكون ثوريًا في وقت كهذا أن نقول أن الجمال يبنى مجتمعيًا؛ شأنه شأن سائر معتقداتنا وأفكارنا وأدوارنا الاجتماعية، إلا أن إعادة النظر فيما يعنيه الجمال وعكسه تظل منطقية في وقت يتعاظم فيه دور آلة الجمال بما يرتبط بها من صناعات.

في عام 1969 وعندما كانت الموجة النسوية الثانية قد بدأت تفرض حضورها في الفضاء العام، اتجهت نحو 400 امرأة للاحتجاج في حفل تتويج ملكة جمال أمريكا لذاك العام، في محاولة منهن لمجابهة تطبيع تسليع أجساد النساء في فعاليات احتفالية من هذا النوع. نصبت في هذا الاحتجاج حاويات قمامة ترمز إلى الحرية وتحمل اسمها ليحرق فيها كل ما رأينه يمثل "رموز" قمع المرأة باسم الجمال؛ من حمالات الصدر إلى الماكياج والكعب العالي. فما الذي تغيّر في تعاطي النساء مع خرافة الجمال من حينها إلى الآن؟

لا يمكن أن تفتح التلفاز إلا وتواجهك عشرات الإعلانات التي تخبر المرأة كيف عليها أن تظهر، وتقدم لها مثلًا عليا في الجمال ليس من السهل الوصول إليها؛ "فير آند لوفلي" يضعك أمام موقف تخسر فيه المرأة وظيفتها بسبب لون بشرتها، ثم تعود لتكسبها بعد أن تخضع لبرنامج الأسابيع الأربعة للتفتيح، يقدم هذا على اعتباره نجاحًا، "دابر أملا" تخبر طفلة دخلت المدرسة لتوها أنها لن تستطيع الحصول على صديقات طالما أنها "منكوشة" و"فيت" يحسم أن وجود شعر على جسم الفتاة مدعاة للبقاء في المنزل وعدم الاستمتاع مع الصديقات، ثم يأتي بالحلول السحرية للحيلولة دون هذه العزلة الاجتماعية؛ "بكل بساطة افركيه، حطيه وشيليه"، طبعًا لا بساطة في هذه العملية المؤلمة.

لماذا يحدث هذا الانفجار في صناعة الجمال وتسويقه؟

عندما بدأت تتضح ملامح الموجة النسوية الثانية في العالم، بداية الستينات، كان النموذج السائد للمرأة هو سيدة المنزل المثالية المهووسة بالتنظيف والطبخ وإعداد جو منزلي "مثالي" للزوج والأولاد، هذا النموذج صنع قاعدة استهلاكية مواتية للنظام الرأسمالي؛ صارت المرأة تتابع آخر صيحات أجهزة التنظيف لا لترتاح بل لتنظف أكثر، وتشتري المزيد من أجهزة المطبخ، لتصنع طعامًا أكثر.

بقاء النساء في هذه الدوامة هو من مصلحة السلطة التي تمتلك المال قبل كل شيء وصناعة هوس جديد يناسب المرأة التي خرجت من المنزل لتوها ويبقي رأس المال دائرًا بعد تراجع صورة سيدة المنزل المثالية مصلحة السلطة أيضًا.

ترى نيومي وولف أن خرافة الجمال هي آخر معاقل سطوة السلطة الذكورية على المرأة بعد تلاشي الأهمية الجنسية التي كانت تلعبها المرأة واتساع مساحة حريتها الجنسية بإقرار وسائل منع الحمل وإدخالها السوق. الإشكالية هنا تكمن –على حد تعبير وولف- بالتدريب الجنسي غير المتساوي؛ يدرّب الرجل على أن ما يثيره هو جسد المرأة أولًا، وعليه أن ينظر، يتفحص ويقيّم، دون أن يضطر لمواجهة تفحصه أو تقييمه من قبل المرأة، التي تدرّب على أن ما يثيرها في الرجل هو المشاعر قبل الجسد. هذا التدريب الذي تساهم المنظومة -بمختلف مكوناتها- في صناعته يحيل إلى التمثلات الاجتماعية لكل ما تعنيه الذكورة والأنوثة، وينتج عنها في آن معًا، لتظل هذه الحلقة المفرغة ضمانًا لسير السيستم.

الهيمنة تصنعنا على صورتها

لسنا بريئين ولا متجردين من خطاب الهيمنة حين نعبّر عمّا نراه جميلًا وما هو عكس ذلك؛ البشرة البيضاء جميلة لأنها بشرة المهيمن، والبشرة السمراء ليست كذلك لأنها بشرة من يراهم المهيمن عبيده، الشعر الأملس هو منتهى طموح أفواج الساعين إلى الجمال لأنه شعر المهيمن، والشعر المجعد مدعاة للإصلاح واستثمار الأموال في تغيير طبيعته لأنه شعر المهيمن عليهم. لا يستطيع المهيمن أن يتكلم لغته بأفصح مما يتكلم بها المهيمن عليه، فهو الآلة التي يعوّل عليها في إعادة إنتاج الهيمنة وتأصيلها في النفوس آلاف المرات.

عندما يصبح تسمير الجسم رائجًا فهذا لا يتضمن ابتعادًا عن صورة المهيمن الأصلية، بل لما يقدمه من نموذج مترف، يمتلك صاحبه القدرة على السفر في العطلات وترف الجلوس ساعات على الشاطئ والاستمتاع بأشعة الشمس للحصول عليه.

الطعام كسلاح بيد خرافة الجمال

النماذج الجمالية التي باتت تلقى رواجًا تبدو عصية على التفسير إذا ما أخرجت من سياقها؛ كيف يمكن تفهّم امتناع أحد عن تناول الطعام عند جوعه مع توافر الطعام في سياق بعيد عن اضطرابات الأكل النفسية، من فقدان الشهية العصبي إلى فرط الشهية المرضي، التي ما هي إلا صنيعة آلة خرافة الجمال أيضًا؟

فقدان الشهية العصبي اضطراب نفسي يتمثل في الخوف المرضي والرعب الزائد من زيادة الوزن وقلة الثقة بالنفس نتيجة الوزن مما يدفع الشخص إلى النفور من الطعام، ويحدث نتيجة فقدان السيطرة على الحمية الغذائية المُتبعة لإنقاص الوزن والانقطاع عن تناول الطعام أو ممارسة التمارين الرياضية بشكل مفرط بهدف إنقاص الوزن. مآلات اضطراب فقدان الشهية العصبي خطيرة، إذ يتسبب بالوفاة في 10% من الحالات التي يتأخر فيها التشخيص أو العلاج.

فرط الشهية المرضي اضطراب يتمثل في الشهية المفرطة لتناول الطعام، ثم الإحساس بالذنب ومحاولة التخلص من السعرات الحرارية بطريقة غير صحية وآمنة كالتقيؤ القسري أو الإفراط في ممارسة التمارين الرياضية. ينتج عن فرط الشهية المرضي مضاعفات تتراوح من الجفاف إلى انقطاع الطمث وعدم انتظام نبضات القلب.

الحميات الغذائية باتت شريطًا مشروخًا يقبع في خلفية حياة معظمنا، ولم يعد واضحًا ما إذا كانت هذه الحميات وسيلة أم غاية، إلا أن وصولها إلى النماذج المتطرفة يهدد حياة آلاف الناس حول العالم -معظمهم من النساء-.

هل اتباع نماذج الجمال من عدمه خيار المرأة؟

تحت سلطة الأخ الكبير، كانت مساحيق التجميل ممنوعة على نساء الحزب، ولجأت حبيبة وينستون سميث إلى شرائها سرًا ووضعها فقط داخل المنزل الذي كانا يلتقيان فيه بصعوبة وسرية لممارسة الجنس الذي كان ممنوعًا أيضًا. كيف يختلف هذا النظام الشمولي الذي تخيله جورج أورويل عن واقع يفرض على النساء في أحيان كثيرة أن يلبسن ويضعن مساحيق التجميل بما يناسب ذوق رب العمل؟

عندما يتم التعاطي مع جسد المرأة كموضوع؛ غالبًا ما يضيع الحد الفاصل بين ما هو خاص وما هو عام؛ يكون التجمّل فضيلة عندما تريد السلطة ذلك، ويصبح ممنوعًا عندما ترى فيه السلطة تهديد لاستحواذها على الأفراد.

المرأة لا تولد امرأة، كما تطرح سيمون دي بوفوار، وإنما تصبح امرأة، وفق ما يقدمه نموذج مجتمعها وما يقولبها فيه من معايير الأنوثة والجمال الأنثوي المتغيرة هي الأخرى.

البورنوجرافي صناعة ذكورية والمرأة ضحيتها

تصنّف البورنوجرافي كأكثر أصناف الأفلام متابعة في العالم، ويتعاظم دورها من خلال تقديمها للتثقيف الجنسي الذي يفقده المعظم لاعتبارات دينية أو مجتمعية.

تقدم أفلام البورنوجرافي صورًا للمرأة ترفع سقف التوقعات بما لا يترك للواقع مجالًا أن ينافسه، كما تعمل على ترويج العنف وتطبيعه في عيون المراهقين بربطه بالجنس، حتى لا يعود الحد الفاصل بينهما مرئيًا، لدرجة أن الفتيات الأصغر سنًا بتن يتقبلن العنف الذي يصل إلى الاغتصاب من شريكهن باعتباره جزءًا طبيعيًا من العلاقة.

"النساء اللواتي يحببن أنفسهن خطر، والرجال الذين يحبون النساء الحقيقيات خطر أكبر"، تقول وولف. استمرار خرافة الجمال بأذرعها التي تتداخل في أهم تفاصيل حياة النساء ليس من مصلحة أحد. الآلة الإعلانية التي تبيع الجمال للنساء بإضعاف ثقتهن بأنفسهن أولًا وتقديم الحل لاستعادتها بوضعهن في دوامة استهلاكية التفتت إلى الرجال أيضًا؛ أصبحنا نرى إعلانات تخبر الرجل كيف عليه أن يظهر "أكثر رجولة" وجاذبية؛ "إذا طنّشت، بطنشوك البنات" كما تقول دعاية معطر الجسم AXE، هوس بناء العضلات بات يهدد حياة الشباب ويقدم لهم نموذجًا لجمال الرجل المثالي، يحاكي القوة والصلابة المفترضة فيه. لا رابح في حرب كهذه.

عندما تنظر إلى نفسك في المرآة في المرة القادمة؛ تأكد أنك لا تستعير عدسة غيرك، انظر إلى نفسك بعيونك، وتذكّر أن الشعور بالجمال أكثر أهمية ودوامًا من السعي لرؤيته.

 

(عن انكتاب)