تتأمل الباحثة المصرية هنا دور المثقف عند إدوار سعيد، وتميز بينه وبين الاستقصاءات النظرية لكل من جياتري سبيفاك وهومي بابا اللذين تأثرا بالنقلة الجوهرية التي أحدثها إدوار سعيد في أدب ما بعد الاستعمار والنقد الثقافي، حيث يكتسب بحث سعيد عمقا ومدى أرحب منهما معا.

دور المثقف في أعمال إدوارد سعيد

الفكرية والنقدية

فاتن اسماعيل مرسي

 

مقدمة:

لم يحظ أي مفهوم فكرى، أو اجتماعي، أو سيأسى على الاهتمام مثلما حظى مفهوم الثقافة؛ أحد أصعب المفاهيم المستعصية على الشرح أو الاختزال. وبشىء من التبسيط، يمكننا القول إن الثقافة هي مجموع الأفكار والمعتقدات والقيم الراسخة في وجدان الأفراد والجماعات والطريقة التي يتم بها فهم العالم . وبذلك، فإن مفهوم الثقافة مفهوم واسع ومتعدد الجوانب، كما أن ردود أفعال الأفراد تجاه مجموعة القضايا الثقافية الهائلة والمتنوعة بدورها متعددة ولانهائية. ويهمنا هنا حضور النخب الثقافية والفكرية العربية التي انخرطت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أو ما يعرف بعصر النهضة العربية الحديثة، فى سجالات ومواجهات فكرية كانت حتمية، في ضوء التحديات القائمة (الهيمنة العثمانية، وخطر التقسيمات الاستعمارية الجديدة الآتية من بريطانيا وفرنسا، على وجه الخصوص). ولا يتسع المجال لعرض السجال بين النخب الفكرية والثقافية منذ ذلك الحين ، تلك النخبة التي اقترن لديها التقدم، و«يقظة الأمة» بالنموذج الأوروبي الحديث القائم على مبادئ الحرية والتقدم المادي (عازروي، وصروف، وفرح أنطون، شبلي شميل، وسلامة موسى، إسماعيل مظهر... وغيرهم)؛ وأصحاب مزج الديني بالدنيوي أو ما يمكن وصفهم بـ«مزدوجى الانتماء» (الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ورشيد رضا، وطه حسين، وعلال الفاسي). ومهما تباينت المواقف والمواقع والسجالات، فيمكننا القول إن هناك قضيتين أساسيتين ظلتا مركز الاهتمام لدى المثقفين العرب على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والأيديولوجية. القضية الأولى هي قضية مقاومة أشكال الهيمنة والاستبداد، سواء الآتية من القوى الاستعمارية الخارجية، أو من النظم الحاكمة الداخلية. أما القضية الثانية، فهي إمكانية المزاوجة بين الهوية العربية الإسلامية، والفكر الليبرالي الذى يسمح بالحرية والديمقراطية والمساواة.

انطلاقا مما سبق، أرى أن أي مقاربة لفكر إدوارد سعيد وإسهاماته في الثقافة العربية والعالمية لا تكتمل إلا بالنظر إلى موقعه داخل بنية الخطاب الفكري أو الثقافي العربي أو الثقافة الغربية التي كان ينتمى إليها بالنظر إلى تكوينه الفكري أولا، وترحاله وهو في الخامسة عشرة من عمره، وإقامته في الولايات المتحدة الأمريكية حتى وفاته عام 2003. لقد انشغل إدوارد سعيد منذ بداية مسيرته الأكاديمية والفكرية بقضية المثقف ودوره ورسالته في الحياة. سأتناول من خلال مناقشة بعض كتاباته كيفية تضافر دور المثقف/ الناقد لدى سعيد في كشف أساليب الاستعمار الخفية والصريحة في السيطرة على الشعوب وقهرها من ناحية، وفى مقاومة أشكال القمع المختلفة، سواء كانت سياسية، أو حاكمة، أو اجتماعية، أو حزبية/ تنظيمية من ناحية أخرى.

وبذلك من الممكن أن نؤسس للحديث عن دور المثقف في فكر سعيد وممارسته لهذا الدور على مفهومين أساسيين لدى سعيد الناقد والمفكر. الأول: اضطلاعه بدور الناقد الثقافي، ومثقف العالم الثالث المقيم في الأكاديميا الغربية على غرار الناقدة والمفكرة جاياترى سبيفاك، والناقد هومى بابا الآتيان من الهند واللذين ساهما، مع سعيد، في وضع أسس النقد الثقافي وما بعد الكولونيالى في الغرب. أما الرافد الآخر في تكوين سعيد الفكري والثقافي، فهو تبنيه للمبدأ الإنساني أو الهيومانستي الذى يرى فاعلية الإنسان في التاريخ، والذى أسس له فيكو، ومن بعده أدورنو، أي أنه مفهوم خاص لثقافة إنسانية تتميز عن فكرة الجوهر الإنساني، تلك المقولة البرجوازية التنويرية التي تعتمد على المركزية الأوروبية، والتي ندد بها سعيد نفسه.

المثقف التابع ينهض:
لقد تأكد الدور الرائد لإدوارد سعيد في تأصيل ما عرف في ثمانينيات، وتسعينيات القرن العشرين بالنقد الثقافي، والذى عنى بشكل أساسي بالمفاهيم المركبة المتعلقة بموضوعات، مثل القومية، والهوية، والانتماء. ولعل من أهم منجزات إدوارد سعيد تقويضه لخطاب المركزية الأوروبية وهيمنتها، وهو خطاب لا يقوم على فرض تصوره عن «الآخر/ التابع» فحسب، بل كذلك على فرض الآليات التي يحاول من خلالها هذا التابع أن يبنى بها خطاباً يمكنه من تمثيل نفسه. ويمكن القول إن هذه هي الأطروحة الأساسية في كتابه الاستشراق Orientalism، كما تبنى ذات الفكرة في كتابه الثقافة والإمبريالية Culture and Imperialism. وسوف يقتصر تناولنا هنا لآراء كل من جياترى سبيفاك، وهومى بابا فيما يخص اهتمامهما بوصف العلاقة المتشابكة والمتصارعة سياسياً وثقافياً بين الثقافات الهامشية والثقافة السائدة في المجتمع الغربي عموماً، والمجتمع الأمريكي بوجه خاص. ويهمنا هنا، بالتحديد، مفهوم سبيفاك للتابع الثقافي subaltern ولوضعه الاجتماعي والثقافي، بل والسياسي أيضا.

فمشروع سبيفاك قائم على تساؤل جوهري يمكن تلخيصه على هذا النحو: هل يمكــن لأى هوية ثقافية تابعة أن تأخذ شرعيتها ويسمع صوتها، في ظل فداحة الواقع العرقي، وفـى سياق هيمنة قمعية؟ من ناحية أخرى، سوف نعرض هنا لمفهوم هومي بابا عن (Cultural Hybridity)، أي التهجين الثقافي، واحتفائه بما يسميه «الفضاء الثالث» أو «الفضاءات البينية» (Liminal Spaces). ويمكن وصف هذه الفضاءات بالمنطقة أو المساحة التي تجد فيها الاختلافات الثقافية الفرصة للإفصاح عن نفسها. ونحاول، من خلال عرض حالة إدوارد سعيد، توضيح أن فكره لا يمكن أن يستوعب بواسطة مثل هذه القوالب الجاهزة، فلا يمكننا القول إنه يمثل التابع Subaltern أو إنه مثقف أو كاتب هجين (Hybrid)، رغم ما يبدو أحياناً من حديثه هو، ورغم محاولة كثير من الكتاب والنقاد أن ينعتوه بهذه الصفة. فأي محاولة لاختزال «هوية» سعيد في إحدى هذه التصنيفات يعتبر إساءةً لا تغتفر إلى مفكر يرى أن إحدى مهام المثقف هي السعي الدائم لكسر هذه القوالب التي تقف عقبة في طريق التفكير الحر المنفتح على الثقافات المختلفة في تعددها وثرائها.

ولعل اختيار «سبيفاك» و«بابا» ــ تحديداً ــ له ما يبرره ليس فقط من حيث اهتمامهما بالكشف عن آليات العلاقات (سواء كانت حوارية أو صراعية) بين الثقافات المتباينة داخل الثقافة الواحدة، أو في سياق ثقافات مختلفة، وهو الوضع الذى يحيا فيه أي مثقف يقيم في المنفى، بل لكونهما يشتركان مع إدوارد سعيد في نفس المصير الأكاديمي. فكلاهما ينتمى إلى ثقافات غير أوروبية، ولكنهما تبوءا أماكن مرموقة في جامعات أمريكية(1). يتفق قطبا النقد الثقافي في الولايات المتحدة على أن هناك، داخل الثقافة الأوروبية بوجه عام، والأمريكية بوجه خاص، محاولة دؤوب من المركز لاحتواء الهامش. ويرى الناقدان أن هذا الوضع يمثل عنصراً مهماً من عناصر الحركة المتواصلة، بل إن التفاعل والصراع بين هذه الثقافات المتباينة يمكن أن يعد، في الوقت ذاته، نقطة اختلاف، ومنطقة تنافس واتصال دائمين بين هذين الاتجاهين(2).

ترى «سبيفاك» أن التابع Subaltern يحاول التدرج من موضعه البعيد عن محيط الدائرة إلى مركز الدائرة، وترى أنه لا سبيل لفعل ذلك سوى بخلخلة الثقافة الغربية من داخلها، لينقلب الوضع، وليصبح المركز/ المهيمن في محيط الدائرة (3). إن هدف سبيفاك – باعتبارها ناشطة سياسيا،ً وفاعلة في الحركة النسوية الأمريكية – هو بالأساس تمكين ثقافات الأقليات من تبوؤ موقع مركزي خارج العلاقات القائمة على الاختلاف داخل الثقافة الأوروبية أو الأمريكية السائدة . بيد أن سبيفاك نفسها تجيب بالنفي القاطع عن تساؤلها الشهير: «هل يمكن للتابع أن يتكلم؟» Can the Subaltern Speak? فهي توضح أنه في ظل سيادة الأبنية – الثقافية، والاقتصادية، والسياسية الغربية – والتي تستغل وضع الاختلافات العرقية لبسط سيطرتها ونفوذها، فإن التابع الثقافي لا يجد مجالاً للتعبير الحر عن نفسه. وترى سبيفاك أن الحل هو مساعدة هذا التابع، ليس فقط عن طريق تمكينه من التعبير عن نفسه (You Don’t Give the Subaltern Voice)، بل عن طريق مساعدته للتخلص تماماً من وضعه الهامشي. وهى لا تكتفى بأن يبقى التابع على حاله كتابع، حتى إن وجد سبيله إلى التمثيل(4) (representation).

بالمقابل، نجد أن خطاب هومي بابا يحتفى بالتابع إلى الحد الذى يصل به إلى تمجيد وضعه الهامشي أو ما يصفه بالفضاءات البينية الفاصلةLiminal or Interstitial Spaces. ويطرح «هومى بابا» بعض التساؤلات في كتابه موقع الثقافة The Location of Culture، حيث تتعلق كل تساؤلاته بالكيفية التي تتشكل بها هوية عناصر ثقافية تتسم بالاختلاف داخل نسق علاقات اجتماعية وسياسية معينة. ويتساءل بابا أيضاً – كما تفعل سبيفاك – عن الاستراتيجية التي تمكّن الثقافة المهمشة، تلك التي تتعرض لقوى الشطب erasure من قبل الخطاب السائد، من أن تعبر عن نفسها(5). وباستخدام مجموعة معقدة من الأدوات والنظريات النقدية كالتحليل النفسي عند لاكان والتفكيكية عند ديريدا. يحاول بابا إعادة طرح وخلخلة بعض المسلمات المتعلقة بمفاهيم، مثل القومية، والتمثيل، والمقاومة. ويخلص «بابا» إلى أن هناك طاقات كامنة وهائلة تتموقع فيما يسميه الفضاء البيني، حيث تجد هذه الاختلافات الثقافية فرصة للتعبير عن نفسها. ويضيف «بابا» بأن هذا الفضاء البيني ذو طبيعة هجين «hybrid» وملتبسة في بعض الأحيان، مما يجعله أرضا خصبة لإنتاج ثقافة هجين تتجاوز النزعة القومية والأصلية «الضيقة» إلى منطقة الفضاء الثالث الأكثر رحابة، حيث تتمكن هذه الأقليات من تحدى الخطاب السائد فتؤسس لهوية ثقافية تأخذ شرعيتها، وتظهر في لحظات تاريخية حاسمة(6).

ويهمنا في هذا العرض الموجز جدا أن نوضح أن آراء هذين الناقدين، وهى آراء تدين لإدوارد سعيد، لاسيما لنظريته في «الاستشراق» بالكثير، تعتبر جوهرية فى تأسيس النقد ما بعد الكولونيالى، والنقد الثقافي، وذلك بسبب اهتمامها بتحليل مواقف المثقفين ودورهم في المنظومة الاجتماعية والسياسية التي ينتمون إليها. بيد أن تميز سعيد عن تلك الآراء يتأتى من مفهومه للمثقف المنفى ومسئوليته ودوره الذى يتأرجح بين رغبة حقيقية في تغيير العالم، ووعى بدوره كمنتج للمعرفة، وارتباطه بموقع فكرى قوامه التمسك بأولويات الفعل الإنساني وشروطه، وهى في نظر سعيد مكونات هوية المثقف.

ففي حين تتشكك سبيفاك في إمكانية أن يقوم المثقف داخل المنظومة الثقافية الغربية بدور الوسيط الذى من خلاله يستطيع التابع أن يعبر عن نفسه، حتى ولو صدقت النيات، يرى سعيد أن وظيفة «المثقف الدنيوي» هي أن يقول الحقيقة في وجه السلطة (Speaking truth to Power)(7). وأرى أن هذه نقطة جوهرية في الخلاف بين هذين المفكرين الكبيرين. إن تشكك سبيفاك يصل أحياناً إلى درجة من التشاؤم، حيث ترى أن علاقة التابع بالقوة أو السلطة هى علاقة ملتبسة؛ فهذا التابع يرفض الانصياع للسلطة، ولكنه في الوقت ذاته لا يملك مفردات السلطة أو القوة التي تمكنه من تغيير موقعه. هنا يأتي دور المثقف الغربي «اليساري» الذى يحاول أن يقوم بمهمة تمثيل الثقافات المهمشة باعتبارها جزءا من مشروعهم للتغيير الاجتماعي. ولكن سبيفاك ترى في هذه الجهود محاولة استغلال وضع هذه الثقافات المهمشة خارج السلطة لإحداث تغيير سياسي معتبرة أنه من قبيل إعادة إنتاج الوضع الاستعماري المستغل للأقليات(8).

من ناحية أخرى، فإن تحيز «هومي بابا» للعنصر الهجين ذو الهوية المزدوجة في القوميات والأقليات، بل مفهوم الهوية نفسه الذى يتسم – بالنسبة له – بالسيولة وعدم الثبات يمكن أن يبدو على السطح أنه صدى لآراء سعيد عن التعددية الثقافية كما سنرى لاحقا. ولو قرأنا أعمال هومي بابا بشيء من الدقة، سوف نجد أنه يغرق تماماً في النظرية، بحيث يقوم مشروعه على تفكيك خطاب سعيد – وأيضاً سبيفاك – وبالتحديد فيما يخص الثنائيات غرب/ شرق، وسط/ هامش وهكذا؛ فيحول بذلك جميع هذه الاختلافات إلى صراعات على مستوى الخطاب والنصوص، بحيث يقوم بالتشكيك فى مفاهيم ثقافية «أساسية» كالهوية والقومية. من ناحية أخرى، سيتضح لاحقا أن مفهوم الهوية عند سعيد يرتبط ارتباطا وثيقاً بكونه مثقفا منفيا.

المنفى والهوية:
يصرح إدوارد سعيد فى كتابه الثقافة والإمبريالية Culture and Imperialism بأن مبدأ الهوية «الأصلية» لثقافة ما أو لشعب ما ليست سوى نتاجا للفكر الثقافي خلال عصور الإمبريالية، وأن الهويات بشكل عام هي في جوهرها متنوعة، ومن الصعب، بل من المستحيل اختزالها في عنصر واحد متجانس. يضيف سعيد أن تجربة الإمبراطوريات تعد من أكثر التجارب التاريخية التي ولدت تشابك الثقافات، بحيث يمكن القول إنه ليست هناك أي ثقافات «خالصة» أو أصيلة(9). فسعيد يجزم بأن هذا الوضع الهجين للأفراد والجماعات يتصف بغناه وبتميز تراثه الثقافي. ولكننا لا نستطيع بأي حال أن نكتفى بالقول إن سعيد مع التعددية أو الازدواج الثقافي على اعتبار أنه الوضع الأمثل أو المصدر الوحيد للثراء الثقافي، كما طرح العديد من أصحاب النقد الثقافي فيما بعد وعلى رأسهم هومي بابا. إن سعيد مدرك تماماً لإشكاليات هذا الوضع الهجين أو المزدوج الهوية.

ولعل ارتباط موضوع الهوية بالمنفى عند سعيد يجعل هذه المسألة أكثر التباساً وتعقيدا. ولا سبيل – في رأيي – إلى الوقوف عند كيفية تعامــل سعيد مع هذه الإشكالية سوى باستخدام أدوات إدوارد سعيد النقدية نفسها – والتي استخدمهـا في قراءته للنصوص الثقافية بوجه عام، والأدبية بوجه خاص، ألا وهى «القراءة الطباقية». ولقد استعار سعيد مصطلح Contrapuntalism أو الطباقية من الموسيقى، ونحت مصطلح «النقد الطباقي» الذى يمكنه من الكشف عن الأصوات المختلفة التي تعتمل في الساحة الثقافية، تلك الأصوات التي أهملت في أشكال النقد التقليدي أو المعتمد(10). من هنا، فإن حالة المنفى لدى سعيد يمكن أن تتسم في كثير من الحالات «بالمتعة» ــ إذا استغل الجانب الإيجابي لها ــ كما يمكن أن تؤدى بأصحابها إلى تبوؤ مواقع ريادية في منفاهم، على أن هذا يجب أن يوازيه اعتبار منفى سعيد نموذجاً يمثل قلق الهوية، وما يصاحبها من اغتراب، سواء في الوطن، أو اللغة، أو غيرهما.

وسنركز حديثنا على مناقشة بعض الأعمال أو المقالات التي تعبر عن هذا الموقف «الطباقى»، بحيث تقوم هذه القراءة المتوازية لبعض الأعمال التي تناولت هذا الموضوع على ملاحظة أساسية، وهى أن موقف سعيد من هذه المسألة كان دائماً يتأرجح بين الاحتفاء بالمنفى من جهة، والتعبير عن قسوة التجربة ومعاناة أصحابها من جهة أخرى.

لعل هذه «الرؤية المزدوجة» أو الطباقية التي تناولت موضوع المنفى ميزت كتابات سعيد في الثمانينيات كما جاء في مقاله الشهير «تأملات في المنفى» (1984) (11) «Reflections on Exile». فبالرغم من أن سعيد يحتفى هنا بمعظم كتاب القرن العشرين الذين ارتبط إنتاجهم الأدبي والفكري بالمنفى، فإنه يؤكد أن «إنجازات المنفى غالبا ما تكون ناقصة، وذلك بسبب فقدان شيء كان قد ترك ولا سبيل إلى استعادته أبدا.(ص173) وتجدر الإشارة إلى أن في هذه المرحلة من الكتابة بدا أن سعيد، عند احتفائه بوضع المنفى والمنفيين من المبدعين والكتاب، كان من اليقظة، بحيث لم يقع في الإشكالية التي وقع فيها بعض المنظِّرين الذين كتبوا عن المنفى فيما بعد من أمثال هومي بابا. يقول سعيد بوضوح في تأملات في المنفى «إن الحديث عن متع المنفى the pleasures of exile، لا يجب أن يجعلنا نغفل عن الحقيقة التاريخية في كون المنفى يتسبب في تشريد مئات الآلاف من البشر».

المثقف الدنيوي :
لقد ارتبطت كتابات سعيد عن دور الناقد الأدبي بشكل خاص والمثقف بشكل عام بموضوع المنفى. ولعل كتاب سعيد الشهير صور المثقف The Representations of the Intellectual، وما يحتويه من مقالات تجمع آراء سعيد عن المثقف ودوره، ثم كتاب تأملات فى المنفىReflections on Exile ليعبران عن محاولة سعيد صياغة موقف يوضح من خلاله – لنفسه أولاً قبل الآخرين – مفهوم المثقف المتحرر أو اللامنتمى. ويهمنا هنا مقال سعيد المعنون «المثقفون المنفيون: مهاجرون وهامشيون»(12) Intellectual Exiles: Expatriates and«Marginals، والذى نشر في «صور المثقف»، ومقدمة كتاب «تأملات في المنفى». ولعل هذه الإرهاصات كانت حاضرة في كتابات سعيد منذ بدايات الثمانينيات، خاصة في المقالين الشهيرين «النقد الدنيوي» Secular Criticism و«النظرية المسافرة» Traveling Theory، واللذين تضمنهمـــا كتـــاب العالم والنص والناقــد (13)(The World the Text and the Critic). ففي كتاب العالم والنص والناقد يصور سعيد المثقف «الحقيقي» ناقدا «ومتشككا ودنيويا»(ص 26) ويشرح سعيد أن النقد «يعتبر - بحكم تكوينه - قوة فاعلة في الحياة تكون عناصره متعارضة مع أي شكل من أشكال الطغيان، والسيطرة، والاستغلال» (ص 29). ويضيف سعيد أن أنسب صفة يمكن أن تلصق بالنقد «الحقيقي» هى صفة المقاومة أو المعارضة لكل ما هو سائد. وهذا بالتحديد ما يعنيه سعيد بلفظ دنيوي. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم سعيد لما هو علماني أو دنيوي لا يعنى بالضرورة مقابلة الدنيوي بالديني كما هو الحال في المفهوم الشائع لاستخدام اللفظ، بل يمكننا القول إن سعيد طوَّر المفهوم نفسه ليستخدمه في سياق سياسي وثقافي، بحيث يشمل – بالإضافة إلى الموقف اللاديني – موقفاً غير قومي وخارجا عن المؤسسة. وفى بحثه المستمر عن الدور الأمثل للمثقف ، يشرح سعيــد أن المثقف «المعارض» يجد نفسه في موقع يمثل نقطة محورية وحساسة a sensitive nodal point، بحيث يضطر لأن يأخذ موقفاً مسانداً أحياناً، وناقداً في الوقت نفسه للجماعة. مما جعله يعلن بعد عشر سنوات أو يزيد أن «المثقف الحقيقي هــو الكائن الدنيوي»(14).

منفى المثقف عند سعيد لا يعنى، إذاً، المنفى الجغرافي بل يعنى المنفى هنا حالة انتفاء التسامح مع أية سلطة أو مهادنتها (no reconciliation allowed)، من هنا جاء حديث سعيد عن «متعة المنفى». لقد حاول سعيد المثقف أن يحيا تجربة منفاه بطريقة طباقية، بمعنى أنه كان مثقفاً داخل المؤسسة الأكاديمية الغربية في نفس الوقت الذى كان يأخذ موقفا «لا منتمياً» أو معارضاً للسائد. ولعل نظريته في الاستشراق هي في حد ذاتها تجسيد لهذه التجربة الطباقية، هذا الموقف المتسم بالريبة والحذر من ناحية، وبالفهم الذى يصل أحياناً إلى حد التعاطف مع قوى معينة، كما عبر هو في مقدمة كتابه The World the Text and the Critic(ص 15) من ناحية أخرى.

إدوارد سعيد ومفهوم المقاومة:
كتب سعيد عن القضية الفلسطينية ثلاثة كتب: «القضية الفلسطينية» (1979)، و«غزة أريحا: سلام أمريكي»، و«أوسلو2: سلام بلا أرض» نشرتا عام 1994 و1995 تباعا. بيد أنه تناول القضية في عشرات المقالات، وعدة مقابلات منذ بداية الثمانينيات وحتى قبيل وفاته في سبتمبر 2003. نتوقف هنا عند موقف سعيد من محاولة الانغماس في السياسة، والتي كان أساسها رغبة حقيقية في أن يكون داخل الأحداث. فلقد بدأ اهتمامه بالقضية الفلسطينية بعد هزيمة 67، ووصل هذا الاهتمام إلى الحد الذى جعله ينضم إلى عضوية المجلس الوطني الفلسطيني عام 1982، ولمدة تسع سنوات، إلى أن استقال عام 1991. ونتساءل: كيف نستطيع أن نفسر التناقض بين صورة المثقف الذى يتبناها سعيد بوصفه مثقف هاويا، معارضا بامتياز، منفى قسرا أو طوعا ولا منتم لحزب أو جماعة، وانخراطه في العمل السياسي كما أسلفنا؟ الإجابة عن هذا التساؤل تحيلنا إلى تقسيم إنتاج سعيد الفكري - ويهمنا هنا مراحل تطور علاقته بالقضية الفلسطينية - إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى هي مرحلة النقد الأدبي والثقافي، والتي توجت بنشر كتابه المؤسس الاستشراق، يليها مرحلة ما بعد الاستشراق والتي شهدت اهتماما ملحوظا بالكتابة حول القضية الفلسطينية والوضع السياسي فى المنطقة، ثم مرحلة منتصف التسعينيات، وما بعدها، والتي أخذت منحى الاعتراف بعدم القدرة على إحداث تغيير مباشر للواقع؛ ومن ثمة، تفضيله للبحث عن القوة الكامنة في وضع المثقف المنفى والتحلي بنزعة طوباوية إنسانية (Humanistic)، كما أوضح مراراً في مقالاته الأخيرة(15). ولقد أشار سعيد لهذا التغيير في مقدمة كتابه «تأملات في المنفى»، حين أوضح أسباب تغيير موقفه على صعيد العمل السياسي، والذى انتهى به لأن يدير ظهره لأى انتماء مؤسسي أو سياسي للقضية الفلسطينية، وإن أبقى على انتمائه العاطفي، والنفسي، والأكاديمي - بطبيعة الحال – حتى النهاية.

وهذا الميل نحو إنسانية جديدة تتميز بخطاب أخلاقي ــ لا يأتلف مع أي خطاب سياسي ــ هو نهج سعيد في مرحلته الأخيرة أو ما سماه هو: «الأسلوب المتأخر Late Style» والذى نشر بعد وفاته (2006). هنا يحدثنا سعيد عن الأسلوب المتأخر، بمعنى أفكار وآراء المفكرين والكتاب، وهم على مشارف الموت، مؤكدا أنه يتميز بـ«قوة التعبير عن الخيبة والمتعة، دون سعى لحل التناقضات بينهما». ويصل إيمان سعيد بثقافة إنسانية تصل إلى حد التشكيك في مسألة وجود هويات من الأساس: «إنّ الهوية هي العملية التي تتسلط بها الثقافةُ الأقوى، والمجتمعُ الأرقى بواسطة العنف على شعوب يتقرر أنّها شعوب دونية، بمقتضى عملية فرض الهوية تلك. إنّ الإمبريالية ما هي إلا عملية تصدير للهويات» (15). فسعيد ليس فرانتز فانون الذى كان يؤمن أن الطريق إلى التحرر لا يتأتى إلا بالمقاومة الشعبية والعنف، إذا لزم الأمر، (المعذبون في الأرض). كما أن خطاب سعيد بعيد كل البعد عن خطاب جرامشي : مثقف سعيد هاوٍ، يقول الحق فى وجه السلطة، في حين مثقف جرامشي عضوي يسعى نحو تحقيق العدالة عن طريق الثورة الاشتراكية. في سعى سعيد إلى التأكيد على النزعة الإنسانية العلمانية للمثقف، والتي تضمنها الفصل الأخير المعنون «الدور العمومي للكتاب والمثقفين» في كتابه الأخير الأنسنة والنقد الديمقراطي (2005)، ينهى سعيد آخر وصاياه للمثقف محفزا إياه أن يتمسك دوما بقيم النقد الذاتي والنقد المؤسسي» من أجل بناء حقول تعايش، بدلا من ميادين قتال بواسطة الجهد الفكري» (159). إذ يرى في نهاية المطاف أن إحداث تغيير اجتماعي حقيقي يتطلب من المثقف «أن يقدم سرديات بديلة ومنظورات للتاريخ مغايرة لتلك التي يقدمها مقاتلون نيابة عن الذاكرة الرسمية، وعن الهوية والرسالة القوميتين» (159).

نخلص من هذا إلى أن موقف إدوارد سعيد النقدي والثقافي، بل والحياتي يتمثل في تحرير المعرفة من أي استغلال سياسي أو اجتماعي. إن طباقية سعيد، وتجليات المنفى في أعماله بمتعها ومتاعبها، ورفضه الانتساب إلى أي شكل من أشكال الأيديولوجية، قومية كانت أو غير ذلك، يجعله – في نهاية الأمر– يتبنى موقفاً ثقافياً ليبرالياً يتسم بنزعة كونية وإنسانية. لكن السؤال يظل مطروحا: هل بوسع هذا المشروع النبيل أن يقدم حلاً إنسانياً وتاريخياً، بل وعملياً، لدرء الظلم الإنساني والتاريخي العظيم الواقع على أي فلسطيني منفى داخل الوطن أو خارجه؟

 

الهوامش:

* راجع/ى مقال سابق للكاتبة بعنوان : «متع المنفى ومتاعبه فى بعض أعمال إدوارد سعيد»، ألف، مجلة البلاغة المقرنة، العدد 25 ،2005، ص (88-104).

(1) ولدت سبيفاك فى الهند، وحصلت على الليسانس من جامعة كلكتا، ولكنها أكملت دراسة الماجستير، وبعدها الدكتوراه في الأدب الإنجليزي في جامعة كورنويل، وتقوم بالتدريس في جامعات أمريكية منذ بداية السبعينيات. أما بابا فقد ولد أيضا في الهند، وحصل على الليسانس من جامعة بومباى، ثم أكمل تعليمه العالي في جامعة أكسفورد. ولقد قام بالتدريس ستة عشر عاما في إنجلترا قبل انتقاله إلى الولايات المتحدة في بداية الثمانينيات كأستاذ في اللسانيات والنقد الأدبي، وهو يدرِّس بجامعاتها حتى الآن.

(2) للتعرف على آراء هذين الناقدين بشئ من العمق وعدم التعقيد فى نفس الوقت، انظر مقدمة كتاب:

Peter Childs and Patrick Williams. An Introduction to Post- Colonial Theory(London: PrenticeHall, 1997) Intropp. 1-25.

(3) انظر مقال سبيفاك الشهير: «هل يمكن للتابع أن يتكلم»: «Can the Subaltern Speak» in Donna Landry and Gerald Maclean (eds.), The Spivak Reader, (London: Routledge, 1995).

ومراجعة المقال أيضا فى الفصل الثالث بعنوان «التاريخ» «History» في كتاب:

G.C. Spivak, A Critique of Post Colonial Reason(Cambridge, Mass.: Harvard University Press(1999).

(4)انظر مقابلة سبيفاك مع «دى كوك»

Leonde Kock, «New Nations Writers Conference in South Africa», Ariel: A Review of International English Literature, 23:3 July1992) 29 -47.

انظر:

Homi K. Bhabha, The Location of Culture (London: Routledge1994, ) Introp. 19.

(6)المرجع السابق ص 2.

(7)للوقوف عند مفهوم إدوارد سعيد للمثقف الدنيوي كما شرحه في بدايات كتاباته عن الموضوع، انظر:

Edward W Said, The World, TheText and the Critic( Cambridge, Mass.: Harvard Univ. Press, 1983), 29-30.

(8) تضع سبيفاك المثقفين الماركسيين، وزعيمات الحركة النسوية الأمريكية والحركات المناهضة للاستعمار فى الغرب فى سلة واحدة وتصفهم بأنهم يعيدون إنتاج عنف المستعمر القديم من حيث استغلالهم للتابع، سواء كان هذا التابع فئة البروليتاريا، أو النساء المهمشات، أو حتى مواطنى شعوب العالم الثالث، واستخدامهم كأدوات للتغيير السياسى. انظر مقابلة SaraHarasym مع سبيفاك:

«Practical Politics of the Open End», ThePost-Colonial Critic: Interviews, Strategies, Dialogues, Sarah Harasym(ed.) (London: Routledge, 1990) pp. 95 -112.

(9)انظر/ى مقدمة كتاب سعيد «الثقافة والإمبريالية»:

EdwardW. Said, Culture and Imperialism( London: Vintage, 1993).

(10)انظر/ى:

EdwardW. Said, «Reflections on Exile», in Reflections on Exile and Other Essays, (Cambridge, Mass.: Harvard Univ. Press, 2003) 173 -186.

11)) راجع/ى

EdwardW. Said, «IntellectualExile: ExpatriatesandMarginals», TheEdwardSaidReader, ed. MoustafaBayoumiandAndrewRobin(NewYork:VintageBooks, 2000 p. 378>

(12) The World, The Text and theCritic, , Cambridge, MA: Harvard UP, 1983.:

(13) السابق، ص 26.

(14) انظر/ى دليل بيبليوجرافى لإدوارد سعيد ، مجلة ألف: مجلة البلاغة المقارنة، العدد 25، 2005، ص 270-287.

(15) إدوارد سعيد، On Late Styleـــــ فى الأسلوب المتأخر: موسيقى وأدب عكس التيار، ترجمة فواز طرابلسى، دار الآداب، 2015، ص157.