ينطلق الباحث العراقي هنا من عبارة جرامشي المفتاحية: القديم يحتضر، لكن الجديد لا يولد! ليكشف لنا كيف تساهم جراماتولوجيا الهيمنة واستمرار المثقفين في انتاج خطاباتها في إطالة أمد استمرارية هذا القديم برغم أنها قد تحول إلى جثة هامدة فاحت روائح عفنها في كل أنحاء عالمنا العربي.

غراماتولوجيا الهيمنة عند غرامشي

من بلاغة المثقف التقليدي الى بلاغة المثقف العضوي

حيـدر علي سلامة

 

فلسفة الهيمنة: بين المشروع الاستطيقي والدراسات الثقافية

نسعى في هذه الدراسة الى إعادة مساءلة مفهوم الهيمنة وموقعها ضمن مؤلف كراسات السجن للفيلسوف أنطونيو غرامشي، ولن يقتصر اهتمامنا فيها فقط على إعادة قراءة الابعاد السياسية التقليدية التي أصبحت من الأخطاء الشائعة والمألوفة في الدراسات والأبحاث حول فكر غرامشي السياسي والثقافي، بل سيمتد الى إعادة النظر في مفهوم الهيمنة باعتبارها تمثل المدخل الأساسي والرئيسي لفهم تقنيات البحث في النظرية السياسية والثقافية والفلسفية. بمعنى آخر، اننا سوف نتعامل مع مفهوم الهيمنة ليس بوصفها نسق مفاهيمي ونظري مكتمل وجاهز كما في استعمالها الشائع اليوم، وانما بوصفه بحث وتأويل مفتوح في بنية برنامج غرامشي الاستطيقي والادبي والثقافي. وبالتالي، فأن مفهوم الهيمنة سوف لن يتحدد او ينحصر ضمن البيلوغرافيا التقليدية التي طالما عملت على ضمه بشكل قصري وايديولوجي مع مفاهيم الحزب والمجتمع المدني والمجتمع السياسي - سوف نناقش هذه الأفكار من خلال النماذج المرشحة للبحث والنقد- بل على العكس من ذلك، فأن مفهوم الهيمنة سوف يمثل منطق بحث جديد في النظرية الأدبية والدراسات الثقافية واللسانية والاستطيقية الى جانب الدراسات الاسلوبية والسيميو-طيقية والشعرية.

من هنا، فأن مفهوم الهيمنة عند غرامشي سيمثل أحد المداخل التفكيكية نحو تحليل جينالوجي لظاهرة شرعية النظرية ونظرية الشرعية التي تحولت الى مجموعة من المبادئ والاسس الحتمية الكامنة في بنية العمليات الثقافية من جانب؛ وفي بنية تقنيات ومناهج واشكال الكتابة واسلوبيات التفكير عند المثقفين والباحثين والأكاديميين. ولعل مصطلح الادب والماركسية عند غرامشي هو، في الواقع، خير من يعبر عن طرح مجمل هذه الإشكالات التي اتينا على ذكرها أعلاه، خاصة اذا علمنا «ان أفكار غرامشي في الادب وثيقة الصلة والترابط مع مفهوم الإنتاج الثقافي، بحيث ان القراءة الدقيقة لكتاباته في هذا الموضوع تستلزم بالضرورة ان نأخذ ذلك بعين الاعتبار فيما يتعلق بكتاباته الأخرى، على الوجه الخصوص هذه رؤية غرامشي في العلاقات القائمة بين الادب وبين المجالات الأخرى لفاعلية الانسان...وهنا يطرح غرامشي إشكالية تتعلق بإمكانية السماح لنقده الادبي ان يمارس النقد لمملكة الاستطيقا النقدية Critical –aesthetic realm. Rentate Houlb: Beyond, Antonio Gramsci, Marxism and Post modernism, Rutledge, 1992, p. 33

لهذا، فأن عمليات تشكيل العلاقة بين كل من: النقد الادبي ونقد الاستطيقا التقليدية، في كراسات السجن عند غرامشي، سوف يشكل جسد المعرفة والسياسة لعمل الهيمنة. بعبارة اخرى، فأن البرنامج الاستطيقي عند غرامشي لا ينفصل عن برنامج نقد السلطة والسياسية وتمثلاتها المتداولة في بنية وممارسات الحياة اليومية، وهذا ما توضح من كون ان «الجزء الأعظم من ملاحظاته في الثقافة والادب ينبغي ان تفهم باعتبارها جزء من منهج السياسة الثقافية، وكنتيجة لسياسته (او استراتيجيته) في التحالف الذي طوره ومارسه قبل ان يتم سجنه». (Ibid, p.33)

ان عملية فهم غرامشي لبرنامج الهيمنة وعلاقته ببرنامج الاستطيقا/ ونقد نقد الاستطيقا، يمثل المفتاح الأساسي لإعادة قراءة كراسات السجن من جهة؛ وعلاقة غرامشي بالماركسية والمادية التاريخية من جهة أخرى. خاصة ان غرامشي كان «من الاساس استطيقياً وناقداً ادبياً، اهتم بأسئلة الشعرية Poetics والاستطيقا، وكان انشغاله بالقضايا والمشاكل التي طرحها مفهوم الادب جزء لا ينفصل عن نقده لمصطلح الادب بوصفه يعبر عن Canon قانون مطلق/ او ناموس ميتافيزيقي يسيطر على الوجود، إضافة الى الموروث الادبي التقليدي الذي طالما كان تابعاً للعلاقات المطلقة للاستطيقا الى جانب الاخلاق والانطولوجيا، او العلاقة التاريخية للنوع الادبي، اللاشعور الجمعي والإنتاج الاقتصادي». (Ibid,P,37)

اذن، ان التفكير في إعادة بناء العلاقة التاريخية والتأويلية بين مفهوم الاستطيقا/ والنقد وتشكيل الخطاب الثقافي عند غرامشي، هو مسألة تمثل، في واقع الامر، إعادة اكتشاف لمفهوم الهيمنة وطرق قراءتها وفك شيفراتها الرمزية واللسانية. بمعنى، ان غرامشي هنا سوف لن يتعامل مع هذا المفهوم من خلال ترسانة مفاهيم الماركسية الارثوذكسية/ والمادية التاريخية التقليدية، وإنما من خلال مختلف التكنولوجيات التي تسيطر وتهيمن على عمليات تشكيل اللغة وإنتاج النص والمعنى في السياقات الثقافية والتاريخية. وعليه، فأن غرامشي لم يكن يبحث في طبيعة الهيمنة بوصفها أنظمة استراتيجية تشكل النظرية السياسية من جهة؛ وبنية النظام السياسي/ السلطوي من جهة اخرى، بل على العكس من ذلك، ان غرامشي عمل على قلب هذه العملية، وذلك من خلال سعيه الدؤوب والمستمر الى التعامل مع هذا المفهوم بوصفه نظرية بحث في سلطة اللغة والخطاب وإكراهات انتاج المعنى وايديولوجيا تشكيل الذوات الإنسانية بواسطة تقنيات البلاغة والاقناع، حيث تغدو الهيمنة هنا "ممارسة اقناعية" بامتياز يتحدد فضاء تشكلها بين الرضى والقبول والطواعية والقسر والاكراه المستمر. وهذا ما جعل غرامشي يؤكد على ضرورة رصد "فينومينولوجيا الهيمنة" واركيولوجيا تشكلها ومواطن كمونها في بنية اللغة والعلامة والمعنى واستطيقا انتاج النص في سياقاته السوسيو-تاريخية والثقافية، لان مجمل هذه العمليات سوف تعيد قراءة مفاهيم كثيرة في الخطاب الفلسفي والابستمولوجي والعلمي على حد سواء، لا سيما وهي تكشف عن مفهوم الهيمنة عندما يتحول الى برادايم تداولي يعيد تشكيل نفسه من خلال مبادئ كلية/ثابتة وانتاجه لمفاهيم الوجود والعالم والممارسات الإنسانية المختلفة.

مفهوم الهيمنة: بين بنية اللغة وبنية الانطولوجيا
مثل هذا الشكل من اشكال البرادايمات، سوف يمثل الأساس الانطولوجي لبداية إعادة التفكير والتأويل لمفهوم الهيمنة، وذلك من خلال تفكيك هذا الاساس، والبحث في خصائصه ومظاهره النصية والاسلوبية واللسانية، يمكن تجاوز حالة العزل بين المفاهيم التالية؛ الانطولوجيا؛ الاستطيقا؛ الابستمولوجيا والتقريب فيما بينها. وهذا يعني، ان مفهوم الهيمنة عند غرامشي سوف يمثل مجموعة من التعهدات/ او الالتزامات الانطولوجية ontological commitments تساعدنا على البحث في بنية اللغة عامة وبنية لغتنا خاصة. وبالتالي، فأن العلاقة الإشكالية التي نحاول البحث فيها، تكمن في اكتشاف الرابط المسكوت عنه بين كل من: بنية الهيمنة Structure of hegemony وبنية اللغة وبنية الواقع/ او الواقعية Structure of reality. وإذا ما حاولنا ان نعيد ترجمة هذه العلاقة بالمفهوم الماركسي، فأنها ستمثل البنية الفوقية للهيمنة، حيت نلاحظ كيف ستكون بنية الواقع انعكاس لبنية اللغة-بالطبع العلاقة هنا بعيدة عن التصورات الميكانيكية والارثوذكسية للماركسية التقليدية التي رفضها غرامشي، العلاقة هنا تعبير مجازي-. وبما ان غرامشي عمل على مجاوزة الإرث الميتافيزيقي في الفكر الفلسفي عامة والسياسي والماركسي خاصة، فقد عمد الى تقديم تأويلات جديدة للهيمنة تنتقل بالوجود الإنساني من سيطرة الوصف الميتافيزيقي المجرد لبنية وعينا الى أسلوب التفكير style of thought. بمعنى آخر، ان غرامشي هنا يتجاوز مفهوم الانطولوجيا الارسطية التي يتركز البحث فيها على بنية الأشياء بذاتها، وهذا يعني ان غرامشي لا يتعامل مع الانطولوجيا بوصفها تسأل عن ما الذي يوجد هناك في الواقع، بل ان سؤال الانطولوجيا هو حول كيفية تشكيل/ وتفكيك بنيات الواقع من خلال خطاب الهيمنة والايديولوجيا.

فمن خلال هذه المقاربات المطروحة أعلاه، سوف يتضح لنا كيف ان فهم معظم ثيمات ومفاهيم غرامشي التي جاء على تحليلها في كتابه الأساسي "كراسات السجن" لا يمكن ان تفهم انطلاقا من مواضعها الإشكالية الدقيقة، دون محاولة إعادة التفكير في تأويل العلاقات الإشكالية المتداخلة بين : مفهوم الهيمنة والانطولوجيا واللسانيات، خاصة وان مقولات الانطولوجيا التقليدية قد سيطرت على اللغة واللسانيات بشكل كبير. فإذا كانت الانطولوجيا تستند الى نتائج وخلاصات العلوم الطبيعية، فأن اللسانيات اعتمدت كثيرا على مفاهيم الانطولوجيا، ولهذا، تحولت اللسانيات الى مناهج وصفية / وضعية/ امبريقية مجردة، أكثر مما هي زمانية. وربما هذا ما جعل عمل اللسانيات يتركز على مفهوم لازمانية الوجودbeing non-temporal . لهذا، فأن طبيعة البحث في اللسانيات - خاصة في خطابنا الثقافي والاكاديمي العام- ظلت محكومة بأنساق حتمية تتشكل من مجموعة من التمثلات الميتافيزيقية والمطلقة للغة والوجود والعالم، وهو ما جعل طبيعة البحث في هذه اللسانيات لم يتجاوز مفهوم الانطولوجيا الشكلية Formal Ontology على مستوى البناء التركيبي والنحوي للغة الذي يكون فيه العالم مجرد انعكاس حتمي وميكانيكي له بالضرورة. لكن غرامشي انعرج باللسانيات واللغة لينتقل بهما الى ما يعرف بالأنطولوجيا الماديةMaterial Ontology التي تبحث في جينالوجيا تبعية الانطولوجيا لسيطرة وسلطة مفاهيم أحادية للوجود والثقافة.

غرامشي: نحو نظرية أدبية للسيطرة والهيمنة الايديولوجية
ان اشكالية مفهوم هيمنة الانطولوجيا/ وانطولوجيا الهيمنة يمثل، في واقع الامر، عتبة اساسية لفهم وتأويل مختلف مفاهيم غرامشي، بمعنى ان هذا المفهوم لا ينفصل عن بقية مفاهيم النظام الفلسفي حول السياسة والنظرية الاجتماعية والنظرية اللسانية، إضافة الى نظرية النص والعمل الادبي وطرائق نقده وتفكيكه. لهذا، فأن التركيز على مفهوم الانطولوجيا بوصفها هيولى تتشكل من خلالها الهيمنة ويصاغ معها أيضا نظام ووظيفة الهيمنة في مختلف الخطابات الإنسانية، خاصة وإنها تمثل المدخل الطبيعي والحتمي لنظرية السيطرة والقوة والعنف، او قل ان شئت لنظرية: جماعات إنسانية ذات وجود لن يكتمل ابدا الا من خلال جماعات وجودها مكتمل ولن ينقص ابدا، اي: بعض الشيء من [X] لا يوجد دون ان يكون بعض الشيء من [y] موجود بالأصل. فخطاب الهيمنة المتشكل في المثال أعلاه، يستند الى علاقة "غائية بالضرورة" ذلك لان X يحمل أساسه الانطولوجي فقط من خلال y.

لماذا هناك جماعات تظهر في هذا الوجود وهي تحمل معها أسس وجودها الكامل؟ ولماذا هناك بالمقابل جماعات أخرى تفتقر الى هذه الأسس فتعيش في نقص وتبعية دائما للجماعات الأولى؟ وهل أصبحت هذه التبعية غائية فعلا؟ هل أصبحت جزء لا يتجزأ من الوجود؟ هل أصبحت تشكل بنية النظرية السياسية والنظرية الاجتماعية اليوم؟ هل أصبحت محور واهتمام الدراسات اللسانية والمنهجية والأبستمولوجيا؟ إذا كان كذلك، لماذا توجد مناهج لسانية امبريقية /عقلانية / وضعية لا تولِ أدنى اهتمام الى إعادة اللحمة بين النقد الانطولوجي والنقد اللساني؟ ولماذا تسيطر لسانيات ميتافزيقية دائما في خطابنا الأكاديمي والثقافي؟ وكيف انفصلت اللسانيات وفلسفات اللغة عن البحث في نظرية السياسة والنظرية الاجتماعية والثقافية؟ ومن هو المسؤول؟ وهل تسيطر طبقة y المكتملة الوجود على تشريع الخطاب اللساني واللغوي والفلسفي؟ وهل اشتغل خطابنا الفلسفي على ما أهمله الخطاب اللساني والبلاغي والحجاجي؟

اذن، مع غرامشي، لم يعد في الإمكان ان نردد مقولة هايدجر: لماذا ثمة وجود وليس ثمة عدم، لتتحول الى: لماذا ثمة طبقات لا يكتمل وجودها إلا بطبقات اكتمل وجودها من الاصل؟؟ من هنا، يتضح لنا ان إشكالية الهيمنة التي نبحث فيها في ادبيات التفكير الفلسفي/ السياسي عند غرامشي، تمثل في واقع الامر مشروع الوجود من حيث صلته بتوزيع مواضع القوة/ السلطة/ السيطرة/ الهيمنة، من قبل بعض الجماعات التي تتمتع بصلاحية ذاتية، تمكنها من ادامة وحفظ نوعها الثقافي والسياسي والأكاديمي والاجتماعي. وذلك لان هذه الطبقات تحمل بين طياتها التاريخية مسوغ او مبرر كلي Total Justification لوجود النظام، السائد والمسيطر بالضرورة.

ولهذا، فأن جدلية الوجود والمعرفة في ظل سيطرة واستمرار هذا الشكل الواحدي من نمط انتاج الهيمنة تحول بدوره الى نموذج من ميتافيزيقيا الحضور للسيطرة على الحياة الاجتماعية، والمشكلة الأساسية الناجمة عن استمرارية هذا الحضور، هو قابليته على التشكل دائما في تركيبة متجانسة فارغة homogeneous empty تشكل تاريخ انطولوجيا الثقافة/ وثقافة الانطولوجيا التي هي في نهاية المطاف سلسلة من الدلالات المتعالية والمطلقة، لكنها رغم ذلك، تمتاز بالزمانية التاريخية historical Temporalization التي يمكن ان نعدها شكل من اشكال Totality الذي يشير الى حالة او وضع الوجود بوصفه يعبر عن المطلق او الكلي. في الواقع، ان هذا المفهوم اشكالي قبل كل شيء، فهو يتداخل مع مفهوم الانطولوجيا والابستمولوجيا ومجمل اشكال انتاج الفعل Act عند الانسان، لهذا ينبغي ان نتوقف عنده، لان هذا سوف يساعدنا على تأويل جينالوجيا الفعل والإدراك الإنساني، او بمعنى آخر، تأويل العلاقة بين كل من السلطة؛ البنية؛ الفعل.

فلسفة الهيمنة: من دهاليز السياسة الى سياسة البحث والكتابة
من هنا، فأن عملية البحث في مفهوم" الهيمنة" سوف تأخذ ابعاد ومديات ربما لم نألفها من قبل في مختلف أبحاث ودراسات الفكر الفلسفي خاصة والفكر السياسي عامة. وذلك، قد يعود هذا في أحد اهم أسبابه الى استمرار ظاهرة الفصل بين الفلسفي/ السياسي/ اللساني، وقد استفحلت هذه الظاهرة في خطابنا الأكاديمي، حتى أصبحت تمثل الصحيح المعتمد في ممارسات الأخطاء الشائعة في البحث في النظرية السياسية؛ والنظرية الفلسفية؛ والنظرية اللسانية. ربما هذا ما جعلنا نقدم لمفهوم الهيمنة تقديما فلسفيا / انطولوجيا، لنتجنب الوقوع في أيديولوجيا الأخطاء الشائعة التي تحولت الى تقنيات ومناهج ونظريات معتمدة في الكتابة والتأريخ لنظريات غرامشي السياسية والفلسفية والاستطيقية. أضف الى ان الدافع الأساسي الذي جعلنا ننفصل عن تلك الأخطاء الشائعة المتداولة في اوساطنا الثقافية والفلسفية والأكاديمية، هو محاولة إعادة اللحمة بين مفهوم الهيمنة؛ ومفهوم الانطولوجيا وابستمولوجيا المناهج والعلوم الإنسانية، وذلك لان الهيمنة، لم تعد محددة فقط في النظرية السياسية ونظريات المجتمع المدني فحسب، بل انها أصبحت تشكل مفهوم الوجود والواقع وانماط تشكيله بطرق بيداغوجية مسيسه منذ البدء. ومن ثمة، فأن البحث في مفهوم الهيمنة يمثل إعادة مراجعة مفهوم الواقعية الثقافية، بل ومساءلة مفهوم الواقعية وعلاقته بالسياسة من جهة وبالفلسفة واللسانيات من جهة أخرى. وهذا بالضبط هو ما جعلنا نؤكد على أهمية المداخل الانطولوجية واللسانية والفلسفية لفهم راهنيه مفهوم الهيمنة من حيث صلتها بالوقائع الثقافية والممارسات الخطابية وتشكيل بنية الفعل، والبحث فيما اذا كان هناك ثمة فعل حقيقي ينتجه الانسان في ظل سيادة "علمنة زمانية" لأيديولوجيا التقاليد وإنتاج السلطة والسيطرة في مختلف البنيات التي تشغلها الذات، بدأ من بنيات التفكير وانتهاء بتكنولوجيا انتاج اللغة وصناعة الاحكام القيمية المكررة/ الزائفة. اذن، يبقى السؤال مفتوحا، عن العلاقة بين الهيمنة وعملية إضفاء الطابع الشمولي الكلي للظاهرة الثقافية والتاريخية Totalization؟

مشروع الهيمنة والتأسيس اليوتوبي للكلي الايديولوجي
ان المفهوم الأخير في أعلاه، يمثل" الواقعية الحتمية " التي تشكل جميع الأشياء للإنسان، الأشياء المادية في العالم الخارجي؛ النظام المعرفي وتشكيل البنية الادراكية للوجود؛ تشكل الاحاسيس والمشاعر؛ تشكيل العلاقات الاجتماعية. على ما يبدو ان هذا المفهوم سوف يشكل المدخل الأساسي للتقارب بين مختلف العلوم والمناهج، وبالطبع الامر هنا لا يتوقف عند المناهج النظرية للفكر الفلسفي واللساني فحسب، بل هناك أيضا المناهج الأدبية ونظريات السرد ...الخ. وبهذا فأن عملية إضفاء الطابع الشمولي هو مفهوم يشتغل بين مفهوم التاريخي historical وبين مفهوم الخيالي fictional وما بين التاريخي والخيالي تتشكل مفاهيم "الواقعية الحتمية" التي هي في نهاية المطاف سلسلة من العمليات البنيوية التي تقوم بنقل المعنى والسلطة او الأمر. اذن هي عمليه تحكمها علاقة حتمية تتشكل بين الغائية وشرط الوجود المنغلق والمنتهي Act/ Closure، وبالتالي، فأن هذا المفهوم يتحول الى نمط من أنماط "التمثل الكلياني" الذي يعمل على "انتاج الذات" من خلال سلسلة من المعاني الثابتة والقارة، وهو ما يبقي وجود الذات محدد ضمن حتميات هذا "التمثل الامبريقي" للوقائع والاشياء، الذي لا يعكس وجود الذات في العالم، بقدر ما يحولها الى مجرد تشفير أيديولوجي Ideological Encoding. وهذه هي نقطة البداية في إعادة قراءة مشروع الهيمنة في فكر غرامشي السياسي، عندما تصبح الهيمنة جزء لا يتجزأ من سلطة المناهج العلمية والابستمولوجية، ويتشكل جسد المعرفة لها من خلال "أيديولوجيا الممارسة العلمية -البرجوازية عند غرامشي-". وعليه، فأن عمليات تشكيل الذات في الهيمنة تتحدد بواسطة نسق من خطابات الواقع وانماطه السردية التي تمثل مقدمة أولية لكل عنف مستبطن في بنية الثقافة المقبلة.

من هنا، فأن مشروع الهيمنة لا يمكن له ان ينفصل عن مفهوم الانطولوجيا ومفهوم Totalization، خاصة وان هذا الأخير يكشف عملية جمع وضم الفعل ضمن ما هو كلي/ كلياني، وهذا يعني، ان فكرة الكلي/ الشامل تبقى دائما هي السابقة والمسيطرة على فكرة الجزء/الفرد في العالم، وهذا ينطبق أيضا على مفهوم الانطولوجيا فهي الأخرى لم تأت من اللامكان، فقد نشأت من تجارب السيطرة Domination السابقة على الاخرين ضمن عمليات الاضطهاد الثقافي الممنهج والمسستم، فالأنطولوجيا هنا، تعبر عن الوجود السائد والنظام المركزي له، انها أيديولوجيا الأيديولوجيات واساس الأيديولوجيات المركزية الضيقة.

اذن، في ظل سيطرة هذا المشهد الكلياني / الأيديولوجي، أي معنى للفلسفة سيكون في الحاضر والمستقبل؟ هل نبقى نردد بطريقة دوغمائية وارثوذكسية انها تعني حب الحكمة؟ وهل وجدت الحكمة في تاريخ الفكر الاغريقي بشكل منفصل عن السيطرة والهيمنة؟ اعتقد اننا مع غرامشي سنتجاوز مفهوم الفلسفة النظري/ الوضعي / الامبريقي/ العقلاني / المجرد/ الميتافزيقي/ المثالي، ليس هناك ثمة فلسفة هناك فلسفة السيطرة تشتغل ضمن فضاء الهيمنة الأيديولوجية Ideological Hegemony التي تعمل دائما في خدمة الطبقات المسيطرة، والتي لطالما روجت لفلسفة انطولوجية أحادية والتي تؤكد على ان الوجود، ميتافيزيقي؛ سياسي؛ لامتناهي؛ مركزي، "يمثل الواحد والشيء نفسه". ومفاهيم القوة، السيطرة، والمركز، كلها مفاهيم تعبر عن اشكال كولونيالية تتجاوز على الثقافة وآفاق الوجود نفسه، بل ان مشروع الخلق في الفكر الاغريقي ماهو الا ميتافيزيقا نظرية تعمل على تشكيل مسوغات ومبررات انطولوجية لخدمة الفكر السياسي الكولونيالي.

جدلية الانطولوجيا والمثقف التقليدي السلطوي
إذا كانت الانطولوجيا تمثل الأيديولوجيا الاساساتية fundamental ideology للوجود من جهة ولمشروع الهيمنة من جهة أخرى، فقد عمل هذا الأساس كذلك على تشكيل وصياغة الهيمنة كونها تمثل سيطرة بيداغوجية pedagogical domination وصياغة الفلسفة باعتبارها تمثل " فلسفة كولونيالية colonial philosophy في كل من التشكيلات أعلاه، ويعرف نمط المفكرين والمثقفين المنبعث منهما بنمط "مثقفين المسافة/ المثقفين التقليدين عند غرامشي" وهم المثقفون الذين ينطلقون من منظور معرفي ينطلق من المركز الى الهامش، وهم الذين يعرفون ويحددون انفسهم في بنية "الحضور الميتافيزيقي" ولهم القدرة على مأسسة وتشكيل المخيلة الجماعية، بل يمكن ان نعتبرهم الرابط بين التاريخي/ والخيالي في صيرورة المجتمعات الإنسانية، فمن خلالهم يتشكل السيمانتيك التاريخي historical Semantic.

ربما يمكننا ان نعتبر هذا المفهوم بمثابة المدخل الاشكالي والاساسي لمعرفة طبيعة المعرفة التاريخية ونظرية المعرفة التقليدية وسوسيولوجيا المعرفة. وطالما نحن نبحث في ميكانيزمات الهيمنة في مختلف الاشكال الثقافية والتاريخية، التي اصطلحنا عليها بـ "السيطرة البيداغوجية"، فمن الضروري اذن، معرفة المنطق الذي يعيد العلاقة بين "نمط انتاج الهيمنة ونمط انتاج الوجود الكلياني التقليدي". وهذا المنطق يعرف بالمنطق الزماني Temporal Logic فمن خلال هذا المنطق يمكننا فهم العمليات التاريخية للهيمنة ولخطابها وانماطها اللسانية والدلالية المتحولة الى "كيانات مطلقة" في الممارسات الثقافية اليومية. وبطبيعة الحال، ان هذه الكيانات هي جزء من مظاهر سيطرة الحضور الميتافيزيقي الذي يعيد القديم الجديد نفسه، فهنا تتشكل وظيفة المنطق الزماني، في كونه يعيد عمل البنيات الثقافية ويحافظ على ديمومتها واستمرارية سيطرتها الموزعة بطريقة متقنة بين مختلف المواضع الثقافية. وهذا ما يطرح لمعنى جديد لمفهوم "التقليد" في الممارسة الثقافية الذي يمثل في نهاية المطاف بنية تعمل لوحدها لغرض استمرار إضفاء الطابع الزماني Structure of Temporalization. بمعنى آخر، ان الثقافة هنا تتشكل ضمن العلاقات الزمانية بواسطة التشكيلات الاجتماعية التي تعيد بنية الزمانية بتكرار مختلف ومغاير، لكن للشيء نفسه، او للمطلق نفسه Self-absolutizing.

قد تعيدنا هذه المقاربات الى إعادة تأويل مفهوم "التاريخانية المطلقة" والكتلة التاريخية" حيث ان عمل هذه المفاهيم يتحدد ضمن الحقل الثقافي والدلالي للبنية الفوقية. وبالتالي، فان غرامشي هنا لا يؤسس لأي ابستيم ثقافي /مجرد ومطلق، بل على العكس من ذلك، فأن جل مشروعه الثقافي يكاد يتركز في البحث على اركيولوجيا البنية الفوقية، وهذا يعني، انه يبحث في منطق زمانية البنيات وتحولها من خلال صلتها وعلاقتها بالهيمنة والسيطرة في اللغة والخطاب والممارسات الثقافية المختلفة، الى جانب تفكيك انطولوجيا النظام الثقافي للهيمنة.

من السيطرة الأونطو-بنيوية الى البراكسيس الامبريالي
يتضح لنا مما سبق، ان العلاقة بين منطق الزمانية وتشكيل خطابات الهيمنة، تتضمن على تداخل بنيوي وتاريخي كبير. فالهيمنة لا يمكن لها ان تعيد تشكيل البنيات الثقافية نفسها، والتي بدورها تعيد تشكل وتثبيت النظام السياسي، دون ان تستند في عملها على هذا المنطق، فهو يعد بمثابة التشريع الفلسفي لولادة مشروع الانطولوجيا التي تظل نفسها، فهي يوتوبيا لتخييل استمرارية النفسه، باتجاه افق اليوتوبيا الواقعية. وهذا ما ينطبق أيضا على عمل الهيمنة التي تسعى دائما الى تكرار الواحد الانطولوجي نفسه؛ وجود واحد؛ دولة واحدة؛ ممارسات سياسية واحدة؛ جماعات مسيطرة واحدة؛ نخب ثقافية واكاديمية واحدة...الخ. ولهذا، نجد كيف ان جوهر العلاقات السياسية - العملية يتجلى بشكل واضح مع البنية المؤسساتية الكلية Totality باعتبارها- أي الكلية- تمثل تشكيل تاريخي اجتماعي. وهذا يعني، ان النظام السياسي لا يعمل بطريقة مجردة او متعالية، بل على العكس من ذلك تماما، هو بنية كاملة ضمن أجزاء تستمد فاعليتها من خلال استقرارها في بنية الفعل الإنساني. أي، ان العلاقات السياسية تستند في وجودها على العلاقات الاجتماعية التي تتمأسس بواسطة الطبقات المهيمنة، بالطبع نحن هنا، لانفصل بين وظيفة السياسة وتكنولوجيا تشكيل الطبقات المسيطرة، خاصة اذا عرفنا ان السياسة التي نعنيها هنا تمثل "بنية وظيفية كلية" أي ذات نزعة وظيفية محضة functionalism ونزعة بنيوية محضة structuralism. وبالتالي، فنحن لا نتكلم عن مفهوم السياسة على الطريقة الافلاطونية والارسطوطاليسية او قل ان شئت على طريقة الفكر الاغريقي الشمولي/ الميتافيزيقي، نحن نبحث في مفهوم الكلية السياسية political totality عند غرامشي، حيث ان مصطلح totality لا يشير بالضرورة الى معان تجريدية عن الوجود والانطولوجيا، بقدر ما يمثل وضع الوجود؛ حالة الوجود كما هو الان state of being يتشكل من خلال بنية ووظيفة السياسة التي تدار بواسطة الهيمنة الثقافية وثقافية الهيمنة.

واذا ما عقدنا مقارنة بسيطة بين طبيعة التفكير الفلسفي الافلاطو-ارسطي مع مشروع الفكر السياسي عند غرامشي، نجد ان الاختلاف الخطير والكبير يكمن في مفهوم البراكسيس praxis. فالفكر الاغريقي شيد لمملكة البراكسيس الامبريالي praxis of imperialism التي تحافظ على واقعيته العميقة. ربما لهذا السبب كان الفلاسفة أكثر تعاطفا وانسانية مع مفهوم سيطرة الشمولية dominating totality بدأ من مفهوم الوجود وانتهاء بالسياسة والاستطيقا. بمعنى آخر، انهم استعانوا بهذا البراكسيس من اجل شرعنة وتبرير الوضع القائم لبنياتنا الاجتماعية. في حين ان مفهوم البراكسيس عند غرامشي، يعمل على العكس من ذلك تماما، فهو مرادف لمفهوم "الغراماتولوجيا "عند ديريدا الذي يعيد تفكيك ثنائيات الوجود ونقد ديناميكية الفكر السلطوي المحافظ والمهمين بالضرورة. لهذا، ظل الفكر السياسي الافلاطو-ارسطي يعيد انتاج "سلسلة مراتب السيطرة" نفسها من خلال مفهوم المثال الميتافيزيقي المطلق، وهذا ما كرس لسطلة السياسة الوطنية او القومية والواقعية الثقافية. في المقابل، نجد ان غرامشي سعى الى تقويض هذه المفاهيم التي عدها جزء لا يتجزأ من أيديولوجيا الانطولوجيا البرجوازية المسيطرة.

من هنا، رفض فكر غرامشي السياسي مفهوم افلاطون "الفيلسوف – الملك"، ذلك لانه مفهوم يكرس ويعيد لشكل انطولوجي أحادي، يُفهم على أساس امكانيته لتأويل الوجود بوصفه معرفة الأفكار المتعالية/ المطلقة. بعبارة اخرى، ان جدلية الفيلسوف – الملك تقوم على المبدأ القائل ان الفيلسوف يمهد دائما لظهور وتكاثر انطولوجيات تراتبية وهرمية تخدم سياسة الملك / السلطة/ الأيديولوجيا. ولهذا، نجد كيف ان تعريف الفلسفة بوصفها "حب الحكمة" ليس له علاقة بالحكمة الفلسفية ومباحثها، بل ان له علاقة مباشرة بحكمة الملك السياسية التي من خلالها يتم إعادة تأويل مفاهيم ومناهج الفلسفة حسبما تقتضيه حاجة الملك وتطلعاته اللامتناهية نحو السيطرة والهيمنة. وعليه، فأن معنى حب الحكمة، يتضمن بالضرورة انعكاس حتمي وميكانيكي لسياسة الملك المنعكسة في واقعيتنا ووجودنا في العالم، ومنها يتحدد عمل الفلسفة ووظيفتها من خلال ما يوجد بصورة طبيعة / ميتافيزيقيا الحضور. وعليه، فأن مسلسل الانفصال بين الفلسفة والفلسفة النقدية critical philosophy سيظل قائما ومستمرا، وسيبقى التفكير منحصرا فقط ضمن افق الواقعية المركزية / التمركز الواقعي الذي من شأنه ان يجعل من مفهوم الوجود أساس، لنظام totality كلي ينتج ويعيد انتاج الثقافة ودلالاتها ومتخيلها السردي/ الرمزي والعلاماتي بطريقة مركزية بالضرورة.

من هنا، يتضح لنا الاختلاف الأساسي بين مفهوم البراكسيس عند غرامشي، والبراكسيس في الفكر الاغريقي عامة والفكر الافلاطو-ارسطي خاصة. ان البراكسيس عند غرامشي لا ينفصل عن عملية نقد وتقويض مختلف اشكال السيطرة والهيمنة الكامنة في بينات الوعي والعلاقات الاجتماعية التي اعتبرها انعكاس حتمي ووضعي لوظائف النظام السياسي، او بمعنى آخر، لأيديولوجيا الأيديولوجيات ونظام الأنظمة لسيطرة السياسة المركزية. فلا عجب ان يعتبر غرامشي تاريخ الفلسفة الكلاسيكي والقديم ليس الا مجرد سعي مستمر لتحقيق اعلى مراحل الاكتمال النظري والتطابق الميتافيزيقي، مثل هذا التطابق هو الذي سوف يشكل ما يعرف بفلسفة السيطرة philosophy of domination وسيطرة الفلسفة التي تعمل بشكل أكاديمي دؤوب في مركز الهيمنة الايديولوجية ideological hegemony للطبقات المسيطرة. فالبراكسيس عند غرامشي يقوض ما يعرف بالنظام الاستطيقي aesthetic regime للفلسفة وانتاجها للخطاب الثقافي الذي هو في الواقع كان يمثل أيديولوجيا استطيقية aesthetic ideology تجلت في الفكر الاغريقي من خلال الممارسة الاستطيقية المتعالية. لان مفهوم الاستطيقا عند غرامشي ظل يعمل بطريقة محايثة مع مفهوم النزعة الذاتوية السياسية political subjectivation الذي عمل غرامشي على قلبه، فلم يتعامل معه بوصفه يحمل وظائفه من قبل، ولا باعتباره مظهر للممارسة السياسية تعيد انتاج العلاقات الاجتماعية بوصفها كل مطلق وشامل. ان الاستطيقا عند غرامشي يمكننا ان نعرفها بوصفها منهج بحث في نقد وتقويض المعرفة المسيطرة dominant knowledge وبنية انطولوجيا الوجود الاجتماعي social being.

من هنا، يتبين أن منطق البراكسيس عند غرامشي يعمل، بالأساس، على تفكيك براكسيس السيطرة praxis of domination المتضمن في عمل أيديولوجيا الذاتوية السياسية، حيث يتحول هذا البراكسيس الى Ontic أي الوجود بوصفه حضور -البحث في الصلة بين الكيان والواقع-. وفي ظل سيطرة هذا الشكل من اشكال البراكسيس، فأن مفهوم الذات Subject عند غرامشي، لم يعد يعبر عن ممارسة ابستمولوجية / ديكارتية / كانطية مجردة، بل ان الذات بالنسبة له غير منفصلة عن تشكيلات السلطة والقوة والسيطرة والهيمنة، بعدما فقدت حضورها، لأنها أصبحت مجموعة من العمليات التي يتم انتاجها في ظل سيطرة براكسيس قمعي oppressive praxis وهو ما يقابله عند الفيلسوف ميشيل فوكوGovernmental Subjectivation .

بعد كل هذه المقدمات والمقاربات الفلسفية والنقدية حول موضوع الهيمنة عند غرامشي، نتساءل حول تأويل عبارة غرامشي التالية "القديم يحتضر والجديد لا يولد" ترى كيف يمكن فهم هذه العبارة؟ كيف يمكن قراءتها؟ وكيف يمكن تأويلها؟ وهل تم إعادة تأويلها من قبل الباحثين والمختصين في ادبيات التفكير الغرامشوي؟

قد تكون هذه العبارة، هي خير ما يلخص لنا كل ما طرحناه في هذه المقدمة الأولية / النظرية في مشروع "البحث المفتوح في فلسفة الهيمنة عند غرامشي" في هذه العبارة حيث نجد كيف ان غرامشي ركز على سلطة التكرار المختلف للواحد النفسه، المتمثل بسلطة وتقاليد القديم، الذي على الرغم من انه يحتضر، او قد مات وفارق الحياة، الا انه ما زال يعيد نفسه في مختلف بنيات الثقافة وممارساتنا اللغوية وتكنولوجيا انتاج المعنى في السياق والنص والخطاب. وعليه، فأن معنى عبارة "الجديد لا يولد" هو، في واقع الامر، يشير ويحيل الى مفهوم "بلاغة الهيمنة" التي تعمل بطريقة مستمرة ومتجددة عبر المثقفين والأكاديميين والباحثين والمختصين، انهم أصبحوا أداة الوصل والربط بين بنية القديم المحتضر وكيفية تحويله الى فعل قسري/ رضائي/ طوعي يكمن في الفاعلية الإنسانية اليومية. وبالتالي، فأن عبارة غرامشي، لا يمكن فصلها وبترها عن سياقها الأصلي، وأعني به هنا، عن ظاهرة صعود المثقفين والمفكرين والأكاديميين المتزامن مع صعود الأيديولوجيا النازية في إيطاليا، وقد انعكس ذلك سلبا، على ادلجة مختلف الممارسات العلمية وتشكيل الخطاب الثقافي الذي ترك بظلاله على ذهنية الناس العادين والعوام، بل وكان عاملا مساعدا، على استمرارية قبول الناس بطواعية لأفكار هذه الأيديولوجيا الشمولية. فمن اين يأتي الجديد اذن في ظل سيادة وسيطرة حراس السلطة؟

للبحث تتمة...