تكشف الناقدة أن هذه القصص استطاعت أن تزاوج بين الزمن الكرونولوجي وبين الزمن النفسي في المجموعة مما لعب دورًا هامًا في ايقاع حركية المجموعة القصصية . كما نقلت لنا سيسسولوجيا الواقع من خلال رؤية أديبة ناضجة تتخذ من الصدق الفني وسيلة للولوج للمتلقي دون أن تمارس عليه سلطويًة وهذا من جماليات المجموعة .

الواقعية الاجتماعية في «همس الملائكة»

المجموعة القصصية للكاتبة وداد معروف

نجـلاء نصيـر

 

مما لا شك فيه أن مصطلح الواقعية قد تبلور على يد الناقد الفرنسي " شا نفلوري champ Fleury " 1821_1889)) ليس هذا فحسب ؛ بل إن المذهب الواقعي قد تطور على يده كما يرى فيليب فان تيغم " فقد رفض شانفلوري جميع الأشكال المعاصرة للأدب الخيالي .ما عدا روايات بلزاك وفي سنة 1852 وضع مبادئه بطريقة أكثر إيجابية، فعلى الروائي قبل كل شئ، أن يدرس مظهر الأشخاص، ، ويسألهم ويمحص أجوبتهم، ويدرس مساكنهم، ويستجوب الجيران، ثم يدون حجة واضعًا حدًا لتدخل الكاتب إلى أقصى درجة ممكنة، فيكون المثال الأعلى نوعًا من اختزال مقاصد الأشخاص، وسلسلة من الصور لمظاهرهم المتنوعة، إن الملاحظة الدقيقة هي عمل الروائيين الأساس . فقد زال الهوى والوهم "(1) فقد خرجت الواقعية من رحم الرومانسية في القرن التاسع عشر ثم تبلورت تدريجيا في أعمال مثل : رواية "البؤساء" لفيكتور هيجو. ومن ثم أصبحت الواقعية تفرض نفسها على الساحة الأدبية في القصة والرواية والمسرحية والرسم وكان من أهم مبادئ أصحاب تلك المدرسة الموضوعية والبعد عن الوهم والخيال .

وفي فرنسا برز الكُتاب فولبير، بلزاك، ستاندال، زولا . وفي انجلترا اشتهر كل من تشارلز ديكنز، ووالتر سكوت . وفي روسيا التي برز بها هذا المذهب منذ أواخر القرن الثامن عشر على يد بوشكين، تشيكوف ومن المتأخرين دوستتيوفسكي، تولتستوي صاحب رائعة "الحرب والسلم " ومجمل القول إن الواقعية تؤمن إيمانًا تامًا برصد مشكلات وقضايا الواقع، فالأدب مرآة العصر .

تقع مجموعة همس الملائكة في مائة وخمس صفحات ، والمجموعة صدرت عن دار النابغة للنشر والتوزيع 2018م من الغلاف الذي يعد العتبة الأولى التي تطرقها عين المتلقي، جاء باللون البينك الفاتح وتخللته زهرة أزيلت أوراقها ونبت مكانها فتاة بجناحين تشدو بلحن همس الملائكة تقف على ساق تتخلله الأشواك على اليمين وعلى اليسار تمسك بزهرة تفرعت إلى اثنتين وعشرين ورقة إشارة إلى عدد قصص المتن، وجاء العنوان في أعلى الدفة الأولى وعلى اليسار جاء اسم الكاتبة "وداد معروف" مما شكل بناء معماريًا لفضاء الرواية من الوهلة الأولى .فاللون النبفسجي الغامق يدل في علم النفس اللوني على الحزن والتردد .وعلى الدفة الثانية تخيرت الكاتبة كلمة الغلاف مقتطف من قصة هي والبحر . والسؤال الذي يطرحه المتلقي على نفسه حين يطالع العنوان " همس الملائكة " هل تهمس الملائكة ؟

ومن الإهداء "إلى تلك المرأة الصلبة وإن بدت رقيقة هادئة" ص :4 الذي نجد به الإجابة على السؤال فالملائكة تعد المعادل الموضوعي للمرأة وما الغلاف إلا ترجمة صريحة لبطلات قصص المجموعة .

من القصة الأولى والتي جاءت بعنوان :"إلا بضاعة الحاج حسين ": رصدت هنا بساطة الريف ورحمة التاجر وشفقته على الطفل الصغير الذي كان ينتظر هذا اليوم من كل أسبوع لشراء الكرملة والذي انتهى به الامر بسؤال هل سيعطيه عم حسين القرش في الأسبوع القادم أم سيحرمه لأنه أعطاه إليه مقدمًا .

هذه القصة ترصد معاناة نساء القرية ومقايضتهن بقوت يومهن، فهن يحرمن أنفسهن من القوت ويدخرن البيض حتى يتمكن من إكمال جهاز الفتيات، وللنظر كيف رصدت الكاتبة بتكثيف واختزال معاناة الشعب في تلك الحقبة الزمنية ورصدت العادات الاجتماعية في سطور مكثفة ببراعة أديبة ناضجة تمتلك أدواتها .

وفي قصة "البيت" يحضر المكان فالبيت الذي يحوي كل الذكريات لم يعد يمثل شيئا لها أو لأولادها فرحبوا بفكرة البيع رغم أنها قضت فيه أكثر من ثلاثة وعشرين عامًا وأخذت تجتر ذكرياتها مع أهل زوجها الذين نظروا لها على أنها "محتلة" ولننظر لدالة "محتلة" ومدلولها والأثر النفس الذي تتركه في نفس المتلقي فقد قصت لنا مئات الحكايا عن معاناة هذه السيدة مع أهل الزوج من خلال كلمة واحدة، فالكاتبة تحسن انتقاء الألفاظ وتتقن في تضفيرها بقصصها فالمعاناة لم تكن من أهل الزوج فقط بل تزوج زوجها من سكرتيرته النصف حسناء، وموت ابنها وكيف خرجت من شقتها إلى الطابق الأعلى ..

قضية اجتماعية شائكة فالبيت أصبح المعادل الموضوعي للوجع، ليس هذا فحسب بل ينعش ذاكرة البطلة لاجترار آلامها ؛ لذلك لم تتردد في بيعه، وحين ودعته لم ترد العودة في الغد لأخذ الدفعة الأخيرة من المالك .فالبيت يمكن أن يراه القارئ (الضحية) المنزل ويمكن أن يراه القارئ الفطن المجتمع أو الوطن فالأماكن حين تلفظنا نلفظها ويموت الانتماء بداخلنا.

وفي قصة القرط الذهبي :قصة واقعية لأرملة استثمرت قرطها لستر بيتها وتربية أولادها وتنكأ جرح اجتماعي فكم من أرملة يدرك من حولها حاجتها للمؤازرة والدعم المادي ولكن الجميع يغض الطرف فهنا تطرح قضية هامة عن دور المجتمع المدني بمؤسساته وفشلهم في احتواء المرأة المعيلة وسد حاجاتها .

وفي قصة حلم منتهي الصلاحية :ففي هذه القصة نقلتنا الكاتبة لمعاناة المرأة النفسية حين تجد حياتها مع شريك لا يشبهها فهي حالمة ولذلك كل يوم يفرج اللاشعور عن مكنونات النفس المكبوته في هذا الحلم الأسطوري المتكرر لذلك يعد العنوان المعادل الموضوعي لصدمة الواقع الذي تحدثت بلسانه صديقتها يسرا .

وفي قصة مكيدة :رصدت لنا قصة لفتاة صغيرة يردد إخوانها على مسامعها أنهم وجدوها على باب المسجد منذ أن كانت في الخامسة، ظلوا يرددون ذلك ولم تجد من الأم ردًا فلعبت الفتاة الصغيرة في تلك القصة دور الراوي العليم فما كان منها إلا الفرارمن البيت وتكبد عناء الرحيل، بدون مال وأشفق عليها السائق وأعطاها ربع جنيه ووصلت للمسجد ..في تلك القصة تعالج الكاتبة الجانب النفسي في بناء شخصية الطفل، وكيف تتحول كلمات المزح وسلبية الام لقنابل موقوته ربما تفتك بالطفل والأسرة من خلال قرار انفعالي من طفل غير مسؤول، فلولا أمانة السائق وإمام المسجد لضاعت الطفلة .

ومجمل القول إن الكاتبة استطاعت أن تاخذنا معها من خلال شخصيات المجموعة التي اكتفت برسم البناء الداخلي لمعظمها بدقة واتقان وقليلا ما نجدها ترسم البناء الخارجي للشخصيات مثل شخصية الحاج حسين، شخصية "سمية " في قصة بين قهرين وكان المكان حاضرًا في قصة البيت والشارع في قصة السيارة الزرقاء والصعيد في قصة عروسة بتول والبحر في قصة هي والبحر وغيرها من قصص المجموعة كما حضرت مدينة دمياط في قصة كوب لبن

الزمان

يعد الزمن أحد محاور البناء الفني للسرد القصصي، فالكاتبة استطاعت أن تزاوج بين الزمن الكرونولوجي وبين الزمن النفسي في المجموعة مما لعب دورًا هامًا في ايقاع حركية المجموعة القصصية .

كما نقلت لنا سيسسولوجيا الواقع من خلال رؤية أديبة ناضجة تتخذ من الصدق الفني وسيلة للولوج للمتلقي دون أن تمارس عليه سلطويًة وهذا من جماليات المجموعة .؟

فقد استخدمت السارد العليم أحيانا، وضمير الغائب أحيانا أخرى في السرد لتشرك المتلقي في القراءة . ورغم سهولة اللغة وسلاستها إلا أن المتلقي لا يشعر بالملل أو السأم فقد استخدمت الكاتبة اللهجة البيضاء وهي لغة السهل الممتنع .

دمجت الكاتبة ق.ق.ج بعنوان "علاقة "في المجموعة القصصية وإن حذفت من المجموعة فلن تخل بجماليات السرد .

جاءت عناوين المجموعة مباشرة بعيدة عن الانزياح ولكنها المباشرة التي تحمل الرمزية ففي قصة الكلاب ص:29 كان العنوان هو المعادل الموضوعي لبشر أفعالهم أقل من أن توصف أو تشبه بالكلاب، فالبطلة كانت تعاني من فوبيا أو رهاب الحيوانات إلا ان المفارقة في تلك القصة أن الكلاب التي كانت تخشاها هي التي آنستها في ظلمة الطريق المضمخ بالوحل والظلام حتى بيتها في حين تخلى عنها زملاءها الذين يمتلكون سيارة، ولم يكترثوا لظلمة ووحشة الطريق بل تركوها تكابد الرجوع سيرًا على الأقدام . ففي تلك القصة رصدت قضية اجتماعية هامة وهي تعيين المرأة في الاماكن النائية عن سكنها، وكيف تتأثر وتخاطر وتكابد من أجل لقمة العيش .

وفي قصة فراش من قش : وبمشهدية رائعة سردت لنا عرس فتاة تفاجأت ببيت العائلة يستقبلها بصمت بلا زغاريد أو إعلان للفرحة فهي ريفية وتفاجأت بعزاء في منزلها يوم زفافها فحماتها استقبلت المعزين في زوج أخت زوجها بمنزلها !!

وسريرها كان من القش والقش هنا هو المعادل الموضوعي للعلاقة الهشة بينها وبين العريس فالفتاة التي لم تفرح بزفافها استيقظت في الصباح الباكر ونظفت ونظمت الفوضى التي عمت المنزل وحماتها جاءت لتطمئن على ابنها .. فالعروس عذراء .

تنكأ وداد معروف جرحًا مجتمعيا وترسم بقلمها لوحة للمسكوت عنه في المجتمع وكيف تُغلب الفتاة على أمرها في الزواج وكيف تعاني من القهر والظلم والحياة وتحيا عذراء وتكتفي باجترار الصبر على قسوة الحماة . فالعنوان رغم ا يحمله من مباشرة إلا أنه يحمل رمزية .

إلا ثلاث قصص :

بين قهرين (التي لعب فيها الخط النفسي دورًا هاما فالبطلة سمية تعاني من مرض الوسواس القهري كما تعاني من قهر المديرة (تحية) فقد كانت تستغلها في أمور منها "شراء الخضار _توقيع مستند من مدير المؤسسة ..كما يستغلها زملاءها حتى ماتت حين مات طبيبها المعالج وذهبت لآخر وأخذت دواءه ودخلت في غيبوبة حتى ماتت " نجحت الكاتبة في رسم البناء الخارجي للبطلة "سمية " من مظهر رث اختزلته الكاتبة في قولها " لا يمكن أن يحسبها إلا خادمة .."

كما رسمت البناء الداخلي للبطلة في قولها على لسان الرواي العليم :" حتى فهمت أن سمية غير طبيعية تسأل أسئلة ساذجة .."

وفي قصة رائحة الكذب :

رصدت قضية زنا المحارم بين زوج البطلة وأختها المتزوجة بلغة سهلة سلسة بعيدة عن الابتذال وختمت القصة بسؤال استنكاري "هل إمام هو الذي كان هناك ؟"

_ وفي قصة همس الملائكة :

التي تحمل عنوان المجموعة والتي تعد المعادل الموضوعي للألم النفسي الذي عانت منه بطلة تلك القصة حين رفضها حبيبها بسبب فقدها لبصرها ولكنه كان ا فاقدًا للبصيرة .

فالكاتبة قدمت لنا وجبة دسمة عكست الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع وفي كل قصة تهمس للمتلقي همسا ملائكيًا من خلال شخصيات المجموعة المرأة والطفلة والطفل والرجل وتوجه رسالة من خلا ل عملها الأدبي للمتلقي احذر من النهايات فلا تبدأ، فقد توحدت الكاتبة مع مجتمعها فسردت لنا قصصًا لعبت فيها المشهدية دورًا هامًا فأضفت عليها الصدق الفني والنضج الأدبي فكان قلمها بمثابة عدسة لاقطة لعبت دور المرآة التي شكلت أدبًا يقدم رسالة حقيقية للمتلقي الفطن .