في قراءة دالة لفيلم «عند بوابة الخلود» يشير الكاتب المصري إلى أن المخرج شانيل لم يحمّل عمله حوارات تلقينيّة في فلسفة الفن، بل تتغيا توريط المتلقي في السؤال: أين يكمن الحقيقي والخيال؟ مما يجعله يلاحق الكاميرا وراء هوس الفنان بالفن، وجحود الحياة، وبذخ الطبيعة.

فان جوخ «عند بوابة الخلود»

زارع الضوء لا ينتظر الحصاد

سعد القرش

 

بريشته ينتزع الموسيقى من الجماد

وداعاً يا ثيو، "سأغادر نحو الربيع"، هكذا خاطب الرسام الهولندي فينسنت فان جوخ أخاه قبل أن يخيّر وضع حد لمأساته، مأساة فنان أثقله وعيه الثاقب وروحه الحرة وعاطفته المنكسرة وموهبته التي جعلت ريشته لسانه، لكن في جملته الكئيبة تلك، تحقق للربيع، ربيع أبدي يعيشه الفنان الذي بقي خالدا كضوء الشمس الذي فتنه وقاده إلى الخروج من جسده إلى الخلود، خلود حاولت السينما مقاربته في فيلم عن الفنان.

ربما رأى فينسنت فان جوخ، في صباح 27 يوليو 1890، أنه أكبر من زمن يضيق بخياله، وأنه كثيرٌ على جيل وعصر، فالمجايلة والمعاصرة كلتاهما حجاب.

هل قدّر أن الطريق إلى الخلود، وصنع أسطورته، يبدأ برصاصة يصوّبها إلى صدره؟ الشاب الكهل ابن السابعة والثلاثين راهن على القادم، ولم يفقد الثقة بعبقريته، وقد جرّب يوما أن يختبر إنسانية المحيطين به، فقطع أذنه ولم يأبه له أحد، واكتشف أن العالم منزوع الرحمة، فأراحته رصاصة طرقت جدران قلوب صلدة، وهتكت حجابيْ المجايلة والمعاصرة، فافتضح نفاق العالم، وأُعفي ثيو فان جوخ من عبء الإنفاق، والإشفاق، على أخ يعجز عن بيع أي لوحة من إنتاجه الغزير البائر، لعيْب في ذائقة عمومية معطوبة عطِلت عن إدراك قيمة رسام سبق زمنه، واحتمل معاناة كان يقارنها بآلام المسيح.

جسر الخلود

انطلاقا من رهانه على الخلود اعتبر الفنان أعماله استحقاقا لأجيال قادمة، بعد إدراكه للفجوة بين رؤاه وما يريده الآخرون.

الحساسية التشكيلية للمخرج الأميركي جوليان شنابل مدّت جسرا بين فان جوخ ومشاهدي فيلمه "على بوابة الأبدية"، وهو العنوان الذي اختاره مهرجان القاهرة السينمائي الأخير لفيلمAt Eternity’s Gate، فلما اتجه غربا إلى المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، وعرض في الافتتاح، أمسى العنوان "عند بوابة الخلود"، وهي الترجمة الأقرب إلى نفسي.

وفي إغراء الأفلام الجيدة بمهرجان القاهرة، كدت أزهد في مشاهدة الفيلم؛ فأي جديد سيقال عن فان جوخ؟ ومن الأفضل استثمار الوقت في فيلم آخر، وكنت مخطئا في التوقع، ودفعني شيء غامض إلى فان جوخ. وعلى الرغم من المعرفة بالنهاية، نهاية الفيلم ونهاية الفنان، ظل لديّ أمل ما طوال الفيلم في إنقاذ هذه الروح المعذبة، ومصدر تلك الأمنية هو جسر إنساني صنعه جوليان شنابل بخلفيته كفنان تشكيلي قبل عمله بالإخراج. ولم يعتمد في تشييد هذا الجسر على الميلودراما؛ بوضْع فان جوخ على منصة الشفقة والتعاطف، وإنما اصطحب المشاهدين إلى حيث يعيش فان جوخ ويرسم ويفكر في الفن، ويواجه العالم القاسي وحيدا، أعزل إلا من خياله.

ففي إجابة ذات دلالة، يرد على سؤال "ماذا ترسم؟"، قائلا "ضوء الشمس". وقد عصمه عناده الفني وإيمانه برؤيته للفن من الاستسهال والاستجابة للرواج المؤقت وتلبية الحاجات الآنية. لم يرسم إلا ما يراه ويشعر به ويتماهى فيه، وهذا ربما سرّ لوحات كثيرة رسمها لوجهه في حالات مختلفة، فهو يهمس همسا كالصراخ "أنا لوحاتي ولوحاتي أنا. حين أرسم أتوقف عن التفكير، وأشعر أنني صرت جزءا من كل ما هو خارج ذاتي وداخلها… وكنت أظن أن عليّ تعليم الآخرين كيف ينظرون إلى العالم. لكن، لم أعد أعتقد هذا. لم أعد أفكر سوى في علاقتي بالخلود".

وانطلاقا من رهانه على الخلود، اعتبر تركته من الأعمال الفنية استحقاقا لأجيال قادمة، بعد أن أدرك الفجوة بين رؤاه وما يريده الآخرون. ولم يكابر ويتعالى على الذين لا يستوعبون قفزات وعيه، واكتفى بتعزية نفسه وهو ممزّق بالحيرة "ما أراه لا يراه أحد، وهذا يخيفني. أظن أنني أفقد صوابي. لذلك، أقول لنفسي: يجب أن أرى ما أراه لأجل إخوتي من البشر الذين لا يرونه. إنه امتياز. يمكنني إعطاؤهم الأمل. أحب مشاركة رؤيتي مع من لا يمكنهم رؤية ما أراه، لأن رؤيتي أقرب إلى حقيقة العالم".

كاد القصور عن الرؤية يكون إجماعا، بداية من مدرّسة وتلاميذها مروا به وهو يرسم في الخلاء، وظنوه مجنونا. وحين أودع في مصحة نفسية، سأله محارب متقاعد "هل كل الرسامين مجانين؟"، فأجاب بثقة "الأفضل منهم فحسب". ولكي يغادر المصحة، كان عليه الخضوع لتقييم الطبيب الذي ناقشه ولم يطمئن تماما إلى أهليته، وفي النهاية سمح لفان جوخ بالخروج، وتبرّأ إلى الله من الرسوم المحيّرة، ورآها ثمارا لهمزات الشيطان، ثم أدارها الرجل إلى الجدار؛ حتى لا يراها النزلاء.

أبجدية الطبيعة

في الفيلم البالغ 110 دقائق، أنصت فان جوخ إلى أبجدية الطبيعة، وحاور الضوء واستنبته، وأودع الزمن أعماله.

كتب كل من شنابل وجان كلود كاريير ولويز كوجلبيرج سيناريو الفيلم، وقام ببطولته ويليم دافو بأداء متقن يلخص في المشاهد الأولى حيرة فان جوخ ودهشته، وفوق ذلك غربة بددها مؤقتا لقاؤه بالرسام الفرنسي بول جوجان (الممثل أوسكار إسحق)، وإن بدا أصغر سنا من فان جوخ فهذا له ما يسوّغه؛ نظرا إلى أنه أيسر حالا من الهولندي البائس الذي يستجيب إلى نصيحة جوجان بمغادرة برودة الشمال وضوئه الواهن، والذهاب إلى مدينة آرل في الجنوب الفرنسي. وهناك يتقاسم المسكن والأفكار مع جوجان، الفنان الوحيد الذي آمن بموهبة فان جوخ.

في دفء البحر المتوسط وشمسه، بدأ فان جوخ مرحلة الثراء بالإنتاج المتواصل، والولع بألوان لم يرسم بها أحد قبله، والاندماج في روح المناظر الطبيعية، وتصوير أغراضه البسيطة ومنها الحذاء، والمحتويات القليلة في غرفته المتواضعة، ووجه مدام جينو (الممثلة إيمانويل سينيه). ولم تتوقف محاوراته مع جوجان الذي يؤمن بأن الفنان يعكس المشهد الموجود داخله، فيعيد تصويره في اللوحة، وأما فان جوخ فيرى أن على الفنان تحرير المشهد من الطبيعة الصامتة إلى حيوية اللوحة.

"عند بوابة الخلود" تعامل معه شنابل كفيلم روائي، معرضا عن إغراء المادة الوثائقية، ولم تكن الحوارات في فلسفة الفن عبئا على عمل لا يجعلك تسأل: أين الحقيقي والخيال في سيرة فان جوخ؟ فأنت هنا متورّط في التراجيديا، وتلاحق الكاميرا اللاهثة وراء الهوس بالفن، وجحود الحياة، وبذخ الطبيعة على فنان ينتزع الموسيقى من علاقات عناصر تبدو ساكنة.

في الفيلم البالغ 110 دقائق، أنصت فان جوخ إلى أبجدية الطبيعة، وحاور الضوء واستنبته، وأودع الزمن أعماله، بعد أن تأكد له أن موهبته سيكتشفها أناس لم يولدوا بعد، "في الحياة ينبغي أن نزرع، أما الحصاد ففي مكان آخر"، وفي أزمنة أخرى.