يقدم لنا الكاتب السوداني هنا عرضا مفصلا لكتاب سوداني يطرح تصورا جديدا لفكرة الهرب، حيث يحيلها إلى مفهوم يتغلغل في ثقافة المبدعين السودانيين ويبتعد بهم عن جذور الروحانية الصوفية السودانية الكوشية/ المسيحية/ الإسلامية، التي انطمرت تحت ركام فقه مدرسي وافد أطفأ وقدتها، وأهال عليها ركاماً من الرماد.

النور حمد و«مهارب المبدعين»

حامد فضل الله

 

الى النور حمد: ناقداً مبدعاً وهَارباً مجازاً

 

غادرت برلين الى الخرطوم لزيارة غير مخططة، بعد غياب سنوات طويلة عن الأهل والوطن. وعدت مرهقا جسدياً ونفسياً، بسبب الأوضاع المزرية في الوطن، وبالرغم من كل المحن التي يعاني منها، فالسودان عظيم بأهله الطيبين وجميل بدماثة خلق أناسه الصابرين. ولكنني عدت وفي جعبتي هدية ثمينة، هي كتاب النور حمد "مَهاربُ المُبدِعين، قراءة في السير والنصوص السودانية". لقد اصابتني الدهشة، بأن الكتاب الصادر عام 2019 من دار المصورات هي الطبعة الثانية، كيف فلت مني كتابه الذي صدر في عام 2010، بالرغم من حرصي الشديد على متابعة كل ما يصدر في السودان، عن طريق الاصدقاء القادمين الى برلين بجانب متابعة مقالات النور في صحيفة العربي الجديد والصحف الاِلكترونية السودانية العديدة؟ الكتاب من الحجم المتوسط ويضم 304 صفحة ويحتوي بالإضافة إلى المقدمة والتوطئة والخاتمة على خمسة فصول بالعناوين التالية:

1. الكبت والهرب. 2. إشكاليات المدينة السودانية. 3. مهارب العباسي والناصر. 4. المحجوب والواثق والانجذاب إلى الخارج. 5. مهارب المجذوب المتعددة. بجانب عناوين فرعية لكل فصل، تصل احياناً الى اربعة عشر.

السطور التالية ليست مراجعة لهذا الكتاب القيم، الصادر منذ تسع سنوات، فهناك بالتأكيد من قام بذلك، وربما سيقوم به أخر، وانما هي انطباعات وملاحظات لقراءة أولية اثارت فيَّ ذكريات حميمة تعود الى فترات زمنية متباعدة. يقودنا الكاتب بأسلوبه الرشيق وفكره المتناسق إلى سيرة شخصيات معروفة بدورها الكبير في الحياة الأدبية والثقافية والسياسية ومتتبعاً هروبهم "مجاز".

ينقلنا النور حمد الى مَهارب العباسي والناصر، مشيرا الى شاعرنا الكبير محمد سعيد العباسي وهروبه من بيئة مدن الوسط السوداني الكئيبة الخانقة لروح الشعر، إلى بادية كردفان، ويضيف بأن العباسي والناصر قريب الله قد اتخذا من الريف، ومن الطبيعة البكر، ملاذين يأويان إليهما والبادية بوصفها فضاءً شعرياً، لينطلقا بقصائدهم في وصف الطبيعة والأنثى أكثر رقة وحرية، بعيداً عن قبضة الطهرانية الدينية.

وفي تعرضه للشاعر محمد أحمد محجوب أشار، في حين اختار العباسي والناصر البادية والريف، إلى لجوء المحجوب إلى صالونات السودان في مقتبل عمره، ثم لاحقا الهيام بحواضر المتوسط وبحواضر أوروبا، هربا من صرامة الحياة السودانية، وما اتسمت به من الجفاف. ومكنت السياسة والنفوذ وعمق الثقافة العصرية المحجوب من ارتياد آفاق لا تتاح لغيره مثل، مخالطة الرؤساء وكبار السياسيين وكبار الأدباء والشعراء في الدول العربية المطلة على المتوسط، مما أكسبه شهرةً واسعةً.

نال الشاعر الفخم محمد المهدي مجذوب حيزاً واسعاً في الكتاب (43 صفحة)، تعرض فيها النور حمد إلى مَهارب المجذوب المُتعدِّدة، واصفا اياه بالهارب الأعظم، ويعتبره بجانب التيجاني يوسف بشير من أقوى الأصوات الشعرية التي سادت الساحة الشعرية السودانية في الثلثين الأول والثاني من القرن العشرين. لقد جسد المجذوب هروبه في الشعر والنثر، فشعره يمتاز بجودة الصنعة، وبالمقدرة على صياغة الأفكار العميقة. ونطلع على جزء من رسائله الطريفة لصديقه علي أبو سن وتوقه وشوقه الأبدي للأنثى الاجنبية، بدون طائل. ويشير النور الى العلاقة العميقة التي ربطت بين الأستاذ محمود محمد طه والمجذوب، فالمجذوب كان من المجموعة التي أنشأت مع الأستاذ الحزب الجمهوري. ولم يحظ المجذوب بالشهرة التي نالها الشاعر المحجوب، وما نالها الشعراء من الجيل التالي. هل يعود ذلك لتواضعه وكرهه للشهرة وعزلته؟ واحجام نقاد الأدب ــ عن شاعر رقيق حداثي، ينطلق مع نفسه وسجيته، مع شعر مكشوف لا تكبله الطهرانية ــ خوفا من الوقوع في المحظور، والشاعر ينتمي الى طريقة صوفية مشهورة.

قلت لباحث جيد يعيش في برلين ويحضر لدراسة دكتوراه عن أدب الطيب صالح وهو نفسه شاعر وصوفي النزعة. لماذا لا تكتب عن المجذوب، فأدب الطيب صالح تم قتله بحثا، صحافيا وأكاديميا؟ ولكنه سلك الطريق الأسهل، فجاءت أطروحته باهتة ولا جديد فيها. إن الحيز الكبير الذي ناله المجذوب في كتاب النور حمد، هو تقدير واعتذار متأخر لقصور النقد الأدبي إزاء هذا الشاعر الكبير.

التقيت بالأديب والكاتب والمعلم حسن نجيلة عرضاً في الخرطوم ولفترة قصيرة، ولكنني قرأت كتابه المهم "ذكرياتي في البادية". وكتابه الموسوم "ملامح من المجتمع السوداني" يقع في (جزئين). ويحتل نجيلة موقعا معتبراً في كتاب النور، بوصفه الشيق للبادية وسحر ليلها ومقدماً وشارحاً ومعابثاً للعباسي. والكتاب حافل باستشهادات من الشعر الصوفي لعبد الغني النابلسي، جميل بن معمر، محي الدين ابن عربي والشيخ عمر بن الفارض، مع تعليقات أدبية نقدية موجزة و لمَّاحة من النور حمد.

يكتب النور في مقدمة الطبعة الثانية "أما أهم مباحثي التي انبثقت من اشتغالي على هذا الكتاب، فهو في نظري، مبحث "الجذر الكوشي". وهو مبحث أخذ يتلمَّس طريقه في شعاب أصول الروحانية السودانية. والروحانية السودانية بدأت كوشية، ثم صارت مسيحية، ثم صارت إسلامية، صوفية، وبهذا اكتمل ثالوثها. هذه الروحانية القديمة، انطمرت تحت ركام الفقه المدرسي الوافد. فهو الذي أطفأ وقدتها، وأهال عليها ركاماً من الرماد. وكل معاناتنا الراهنة، فيما أحسب، إنما تعود إلى انبتاتنا عن ذلك الجذر المركب، ثلاثي الأضلاع". نعم لتراثنا وتاريخنا، ولكن ما جدوى البحث أو العودة الى هذا التاريخ القديم للتغلب على معاناتنا الراهنة، وأن السودان كان فرعونياً أو وثنياً أو مسيحياً. أن الواقع الاجتماعي والسياسي، الذي نعيشه الآن هو الحكم والمحرك لحياتنا ونحن جزء من عالم معولم. ويقول في الصفحة التالية "فالاتصال بالجذر الكوشي، وإعادة انتاج التصوف في إطار الحداثة، هما السبيل لصياغة مشروع نهضوي سوداني بارئ من الاستلابات، الغربية، والعروبية، والإسلاموية السياسية". لماذا اختفى هنا "الجذر المسيحي"؟ سهواً؟

ويناقش الكتاب " التأثيرات التي أحدثها الفقه المدرسي العثماني الذي جلبه الاستعمار الخديوي للسودان (1821 - 1885) وحتى الآن "مشيرا الى الناصرية" والنهج الاستتباعي، الاِلحاقي، الذي ظلت مصر تنتهجه منذ احتلالها للسودان في الحقبة الخديوية. ولم تجر مناقشات موضوعية، موسعة، ومعمقة، لهذه التأثيرات الاستعمارية الاستتباعية، حتى الآن". ربما يكون الكاتب محقاً، عندما يشير الى الحقبة الخديوية، ولكن ربط ذلك ايضا بالحقبة الناصرية واستمراره حاليا، في نظري غلواً لا مبرر له. أليست هذه ، هي رؤية الأستاذ محمود محمد طه عن مصر، التي لايزال يتمسك بها البعض، ولماذا لا تكون الثقافة والأدب والفكر المصري، رافداً واثراءً ومصدر قوة لثقافتنا وفكرنا؟ وهل تتعارض عروبتنا مع افريقيتنا؟ اللهم الا إذا كانت الثقافة والأدب والفكر، الذي تصدره مصر (الدولة الاستعمارية!) للسودان يختلف عن الثقافة والفكر والأدب الذي يتمتع به الشعب المصري. ولم يشر النور حمد الى دول الخليج بتدخلاتها الفجة وفكرها المتزمت، المتخلف ومالها الفاحش.

لقد كتبت في بداية المقال، ما أثاره فيَّ كتاب النور من ذكريات حميمة. هنا اعود الى الخمسينيات من القرن المنصرم، عندما كنت وانا في منتصف المرحلة الدراسية الوسطى أواظب على حضور ندوة الأستاذ محمود محمد طه ــ الذي تردد اسمه عدة مرات في الكتاب ــ في دار الحزب بالقرب من مكتب البوسطة بأم درمان وبالقرب من سينما قديس (برامبل)، كنا نستمع بشغف ومتعة وانتباه لحديث الأستاذ، وكان الوحيد الذي يسأل ويستفسر واحيانا يجادل الأستاذ، هو مدثر عبد الرحيم، وقتها كان طالبا في كلية الآداب بجامعة الخرطوم.

وأشير ايضا الى الندوة الكبيرة التي قمنا بتنظيمها في صالة المسرح الكبيرة بدار ثقافات العالم في يناير 1995 بمناسبة مرور عشر سنوات على استشهاد الأستاذ محمود محمد طه. كان الحضور كبيرا ومتميزا من العرب والأجانب والألمان من ضمنهم البروفسير اُدو شتاينبخ Udo Steinbach مدير معهد الشرق في هامبورج والمستشرق الألماني المعروف وأستاذ كرسي الدراسات الإسلامية بجامعة برلين الحرة فرتز شتبات Fritz Steppat. وكان د. عبد الله النعيم المتحدث الرئيسي في الندوة وبمحاضرة رائعة ومفصلة حول الشريعة الإسلامية وبمداخلة من اوتو شيلي Otto Schilyوقتها كان عضوا في البرلمان الأوروبي عن حزب الخضر، ثم وزيرا للداخلية لاحقا.

وكذلك اشير الى قدوم عبد الله النعيم مرة أخرى قادما من امريكا، لتقديم المحاضرة الدورية (لعام 2009) التي تقام باسم المستشرق الألماني الكبير والشاعر ووزير الثقافة البُرُوسي كارل هاينرش بيكر Carl Heinrich Becker( 1876 – 1933) وهو القائل: "هكذا يرتبط العالم الإسلامي مع العالم الأوروبي الأمريكي بألف خيط وبفك هذه الرابطة التاريخية لن يستطيع المرء فهم لا العالم الإسلامي ولا العالم الأوروبي" (الإسلام في إطار التاريخ الثقافي العام 1923) وكان موضوع محاضرة النعيم- الذي قدمه في معهد الدراسات العليا- Wissenschaftskolleg zu Berlin "الشريعة والدولة العلمانية في الشرق الأوسط وأوروبا" وشاركه أيضا محاضراً السيد فولفجانج شويبله Wolfgang Schäuble وزير الداخلية الألماني متحدثا عن "الإسلام ووضع الدين في القانون الدستوري الألماني" أدار الحوار ومعقباً ديتر گرم Dieter Grimm القاضي السابق في المحكمة الدستورية الألمانية. كانت محاضرات النعيم مدخلا هاماً للألمان للتعرف على الحزب الجمهوري وعلى فكر الأستاذ محمود محمد طه، مما انعكس في الكتابات الصحفية والأكاديمية، قبل ان تخبو من جديد.

كما أود أن أشير في هذا السياق الى عالم الجيولوجيا في جامعة كولون (Köln) استیفان كروُبلينStefan Kröpelin الذى قدم محاضرة رائعة في المتحف الاِسلامي في برلين عن نتائج ابحاثه التي امتدت إلى وادي هور في غرب السودان. وعند النقاش ذكرت له شاعرنا الراحل الأحيائي الكبير محمد سعيد العباسي والذي كان يزور تلك المناطق. ويتغنى بجمال الطبيعة وذكريات حميمة لتاريخ اِندثر وإن استلهمته رائعته الطويلة (وادي هور) وقرأت له بعض أبياتها:

وسُرى ليالي لم تذق طعم الكرى حتى السحر

سبحان ربي أين وادي النيل من وادي هور

وعواصم القوم الذين بذكرهم تحلو السير

زرت الربوع فخانني صبري لذكرى من غبر

ما كان لي كبد السلو ولا فؤاد من حجر

هنا يتجاور العلم مع الفن والثنائيات: العلم والحدس، الواقع والخيال، الحقائق والأوهام وما بينهما من تضاد وتشابه.

وكذلك أشير الى المقال الذي كتبه في صحيفة فرانكفورتا روندشاو(Frankfurter Rundschau) - والتي عُرفت بخطها اليساري الليبرالي واِشتهرت بالموضوعية والشفافية - بتاريخ 12 أكتوبر 2004 وبعنوان لافت "Spielball der Mächtigen" "تلاعب ذوي السلطان"، هاجم فيها التدخلات الخارجية، التي تعوق التطور والتنمية في السودان وختم المقال الطويل بجملة رائعة: "Man soll fair sein mit diesem Land und seinen Menschen, sie haben es verdient." "من حق هذا البلد وأهله أن ينالوا الانصاف الذي يستحقونه".

في مراجعتي لرسالة ماجستير تقدم بها عثمان سعيد لقسم الفلسفة والعلوم الاجتماعية \ جامعة برلين الحرة في فبراير 2002 بعنوان: السودان: نموذج للتناقض بين الدولة والثقافة Der Sudan Konflikt als Beispiel für den Konflikt zwischen Staat und Kultur ونشرت في (مجلة الديمقراطية التي تصدر عن مؤسسة الأهرام \ مصر، العدد19 \ 2005) يتعرض الباحث الى قضية العروبة والاِسلام والنظرة الاستعلائية من قبل الكتاب والشعراء وبعض أفراد الصفوة الشمالية حيال المواطنين في جنوب السودان، دون أن يذكر شعراء أخرين تعرضوا إلى إشكالية الهُوية السودانية وذكرت له ابيات من قصيدة محمد المهدي المجذوب التي جاءت في كتاب النور:

وليتي في الزنوجِ، ولي ربابُ، تميد به خُطايَ، وتستقيمُ

واجترع المريسةَ في الحواري، وأهذرُ، لا أُلام، ولا أَلوم

طليقُ، لا تقيدني قريشُ ، بأحساب الكرامِ ولا تميم

وكذلك الشاعر صلاح أحمد إبراهيم وقصائده عن أوهام النقاء العربي الذي يفتخر به السوداني الشمالي.

"كذاب الذي يقول في السودان –

إنني الصريح

إنني النقي العرق

إنني المحض

أجل كذاب"

الطريف ان المجلة التي تُدعى الديمقراطية! حذفت هذه الفقرة من النص الأصلي. أليس هذا التصرف الصحفي، يعضد وجهة نظر النور، حول المشاريع المصرية لإثبات عروبة السودان.

ليسمح لي القارئ، ان اثبت فقرة مطولة جاءت في توطئة الكتاب لأهميتها: «أحب أن أشير في ختام هذه التوطئة إلى أن هذا الكتاب لا يمثل مساءلة أو محاكمة لزمرة الهاربين، من جيل الرواد والجيل الذي تلاه، بقدر ما يمثل محاكمة لنا نحن السودانيين أجمعين، وبلا استثناء. أعني محاكمة للجوانب السالبة والخانقة في ثقافتنا، وللضعف الذي وسم حياتنا الفكرية والسياسية، وقعد بنا عن الاِحياء الفكري، والثقافي، والسياسي. لم نقدم وإلى اليوم نقدا صائبا لتجربتنا، ولحالنا، ولتاريخنا الفكري والسياسي، من أجل التعرف على مواطن الضعف في بنيتنا الفكرية والوجدانية، والطريقة التي ننظر بها لديننا، ولثقافتنا، ولتعليمنا. نحن لا نرى أوضاعنا في الاِطار الشامل لمنظومة الحراك الكوكبي الزاخر المحيط بنا».

كتاب النور مثل كل الكتب الجادة، يزعزع المستقر والثابت، ويوسع الرؤية. ويكتب النور في ختام مقدمة الطبعة الثانية: «وأرجو أن تجد، عزيزي القارئ، في هذا الكتاب، ما يغذي الروح والوجدان، وما يبعث على التفكير، وما يلهم، ويجدد الأمل في المستقبل». وأقول لك " يا نور "، وهذا ما تحقق فعلاً.

 

برلين 23. فبراير. 2019