تكتب الكاتبة اليمنة عن تأثير تلك الرواية الجميلة (وحي) عليها، أكثر مما تكتب لنا عما دار ففيها، أو عن بنية عالمها الروائي الواقع في ذلك البرزخ الفاصل بين الواقعي والمتخيل، أو بين المحسوس والافتراضي، أو بين الوجود وتعلّة الوجود. وكأنها تفتح الباب أمام المزيد من الاستقصاء في هذا النص.

قراءة في سفر الوهم بين «شهد» و«وحي»

عن رواية (وحي) للروائي اليمني حبيب عبد الرب سروري

صباح الإرياني

 

بشارة الميلاد لبدايات المرحلة الأجد من يفاعة وشباب العقد الثاني من الألفية الثانية. تتلاحم السماء مع الارض في تمازج غريب يموه كل الألوان ليحولها الى عدمية صراع بين الفناء والحياة. خيوط تتشابك لهذا التقدم التكنولوجي العجيب ومع الاجد والأكثر جدة تتشابك العقول الانسانية في لهاث عدمي متداخل مع دهرية هذا الصراع الذي يفقد تدريجيا الطريق الى أسوار او حدود تحد النهايات الصادمة.

كان أجدادنا يخزنون الحاصل خوفا من قادم مباغت يجرف امالهم بالأيام القادمة وبشروقها البهي، الحاجة كانت الغاية للحواصل الصغيرة التي لاتدري عن القادم الغادر. وأصبحت أيامنا لهاث واعتلاء موجات مزبدة مبطنة بالمالح الدامي لأكبادنا، موجات قد تصل بمراسينا او تحطمها في تخبط عشوائي أمل في رقعة مكان بعيد عن قحط الارض وجفاف السماء ولوعة العدم.

تجمع كتب الإيمان وتعاليم ثقافة البشر ان العلي في نبراسه أوصى بالتوافق والتشافق والمحبة، لكنه السعار الجارف جعل الخلق نيرانا تصب حول بعضها، بتشابك نسيجه تختطف لونها الأحمر من شفق خلف تمترس ترسانات ذاك القوي المتترسن لحرق الأضعف، جعل للنيران احتفائية حريق تلهب الجوف ولا تدع لعظام نامية ان تخط حرف من ملحمة وجودها.

في اعماق اليم تتلاشى أجساد في ترحالها باحثة عن مأوى في العمق وحول الحوائط والأسوار، لكنه الدهر يحكم النهايات ويحدها، يمد بدل البقاع بحار من الدماء، ثمنها الباهظ يتلاشى في الأمعاء المتخمة بالدسم المتنامي من زرع السموم، في سفاحات القحط وخواء الاجواف.

يحكم الأكبر أذرعته الاخطبوطية في عالم الجهال "الصغار" ماسحا بناره اللاهبة قواهم ومحكما رباطه في مغارات افواههم. "أن ينشأ الإنسان في أرض كاليمن ومن ثم يتطاول منها خارجا الى عوالم اخرى سيدرك انه كان وسط أعشاب مرجانية ملونة تتقاسم سرمديتها ارض وسماء ترسم ذرات تربتها الصخرية مع ضبابية سحبها مسارب من التيه اللامتناهي".

"بركانية حواف أية ذاكرة تمسح بمسامها وخلاياها سراديب وأعماق الجروف المزروعة في محيطات الجبال البركانية آنى غاص البصر ستتلون عدساته بكل الألوان المتخيلة والواقعة، وحتى الدورة اليومية لتلك الارض بمدنها صغرت أم كبرت تشكل مفرداتها وضجيج وقعها مسارب للتدرج الحركي بوقع وميلوديا صخب اللامتناهي".

نعم هي اليمن التي تكسي ذاكرة صديقنا الروائي حبيب عبد الرب ليحلق ويحلق ليربطنا في سرده الذي تحمل كل عبارة فيه سرمدية وجودية لذلك القادم الى العالم من رحيق مرجان البحار وكحل الصخور الحبلى بالحمم.

نجح حبيب سروري في روايته (وحي) في تصوير عالم التيه المحموم للعالم المتحضر، ومزجه مع المقاييس القيمية للعالم الأقدم بتقليدية طقوسه الحياتية المجتمعية، ولا إرادية مسيرة أفراده، ومن ثم قسرية بداياتهم ونهاياتهم. سرمد مجهول وضياء فاضح. في حمى "وحي" المعلومة الطائرة عبر الأسلاك المرقمة ببدايتها الصفرية وتعابيرها المشفرة.

استهلال حبيب لفصله الاول من الرواية في تأملات فلسفية وجودية بذاكرة تتراوح بين أزمان متداخله تنسجها أبدية الحياة والموت في الزمن الألفي، ذلك الاستهلال التراجيدي يصدم حواسنا نحن القراء، ونحن نشهد توقعات النهاية لطائر النورس مكسور الجناح؛ ثم منظر الموت للسيدة التي حاولت منع ان تدهس الحافلات ذلك الطير الجريح، لتقع هي فريسة لقضاء حاولت منعه. قدرية جدلية تتداخل عناصرها بين المحسوس والمجرد المعروف والغامض.

في جل روايات "حبيب" تُّكون الثنائية عالما محسوسا ومتخيلا في ان واحد، الخرافة والعقل، الوهم والحقيقة، الايمان والإلحاد، العدل والظلم، لسمو والانحطاط، الأني والدهري، المكان والزمان، لثبوت والحركة، ومن ثم الحياة والموت، أو الوجود والعدم.

تسير تلك المتضادات في طرق متوازية تتوسطها كينونة بشرية "مشخصة" قد يصل بها بوصفه الى علو مثالي ويلبسها قيم جمالية، تجاوزت كل مايمكن إعاقة تناميها نحو مثالية ألوهية بأخلاقياتها وقيمها. يرسم الراوي ملامحها وسط هذا الكون بكل مايحويه من جمال او قبح، تقبع في خضم تلك المتضادات مابين طموحات جمالية عليا يضادها عجز مبكي لبلوغ كمال قيمي يتسامى بالعقل البشري المعجز الى طريق يتوازى وقدراته.

عقدة الرواية او حلقتها الرئيسية تلك الرسالة الغامضة التي يحاول بها السارد حل لغزها في رحلة طويلة بين العقل والوجدان والأمكنة، لشخوص الرواية ومن ثم التراكمات المجتمعية التاريخية والتي أنتجت عالما معاصرا لامتجانس. لاتحدده المسيرة المتصالحة للصفر وبقية الأرقام التي تشكل "وحي" المعاصرة، وتضاد تماما مع "وحي" العتيق من عتبات الثقافة.