يتميز السّرد في هذه الرواية بسلاسة الربط بين أزمنة الحاضر وأزمنة الذكرى، وبين العوالم الكونية، الدولية، الإنسانية، وبين الأجيال، سواءً عبر فصول الرواية المتسلسلة التي لا تُتعِب القارئ في المتابعة، أو عبر جسورها الفنية غيرِ المنظورة، والتي تفصح السّاردة عنها من خلال تكرارها الحديث عن الجسور.

»صَيف مع العدوّ «إعادة صياغة فاتنة للذات والتاريخ والمكان

المثنى الشيخ عطية

 

لا تكتفي الروائية السورية شهلا العجيلي في روايتها “صيف مع العدوّ” بتقديم رواية عميقة عن اندماج اللاجئين، السوريين بصورة خاصة، في مدن اللجوء الأوروبية، من خلال لاجئة سورية تخرج بصورة مأساوية، (يتخللها تفجير أمها أمامها بلغم، وحملها لنصف جثتها على حصان)، من الرقة المحاصرة بحكم “داعش” من الداخل، وبقصف قوات التحالف وقسد لجميع من بداخلها دون تمييز من الخارج. بل إنها تَدفع روايتَها ارتقاءً، إلى محاولة ترميم الذات المهشّمة للقارئ إن كانت، دون حصر لطبيعة هذا التهشيم، من خلال لملمة شظايا ذات بطلتها السّاردة للرواية، وتخليصها من عقد الذنب وجلد الذات، التي تولّدت عن أوهام وسلوكيات، ساهم الجهل والفهم الخاطئ والقيم السائدة، في تراكمها بالروح إلى درجة تكبيل الذات وتعطيل الحياة.

ولا تكتفي شهلا العجيلي، في البنية العميقة لروايتها هذه، بمحاولة تثبيت مكان الوطن المفقود في الذات الفاقدة، بنهج الاندماج المثقف العميق بمكان اللجوء، وبما يغاير نهج السلوك المعتاد في عيش الحنين المكبِّل لدى اللاجئ. بل هي تدفع هذا التثبيت ارتقاءً كذلك، إلى الفعالية المكينة في عجلة الدمج والتخليص، التي تدور بطيف باذخ من عناصر الجمال الروائي، يتضمن كل ما تحتاجه روايةٌ للتألق، وما تحتاجه نهايةُ رواية لتدوير أزمنتها إلى البداية، ولإعادة القارئ إلى إهداء الروائية الساطع لمدينتها المفقودة: “إلى (الرَقّة)، كما ستبقى في ذاكرتي”.

في البنية الظاهرة لهذه الرواية تمتدّ سبعة فصول تحت عناوين: “جريمة صامتة”، “سجلّ عائلي”، “رائحة الهجر”، “ليالي المقطورة القديمة”، “يوم التفاحة|، “رجال كارمن الثلاثة”، و”بيغ بانغ”. ويجري السرد ببساطة ضمن هذه الفصول حاضراً كأحداث، وماضياً كذكريات، مع التداخل الشفاف بين الأزمنة، على لسان اللاجئة السورية لميس، التي تلتقي بصديق طفولتها عبّود، وبالصديقة الألمانية كارمن التي تعرفت عليها من قبل خلال عملها ودراستها بسوريا، في مدينة كولونيا الألمانية، التي تكون مسرح الحاضر. وتصيغ لميس بهذا السرد حياتَها وحياةَ أمّها وجدّتها، وحياةَ مدينتها الرقة، بعلاقاتها التاريخية مع ما حولها، على مدى هذه الأجيال.

وتُعمّق لميس أبعاد سردها الحياتية، النفسية، والثقافية، بنسج هذا السّرد مضيئاً ومتشابكاً بظلال عقدة ذنبها السرّية في أنها كانت سبباً مع صديق طفولتها عبود، في موت جدّتها. ويُبرِز سردها البسيط الممتع الحافل بغرائب وطرائف وأسرار البشر، شخصياتِها النسائية والرجالية، وأحداثِها، بتألّق ملفت، يتضمن العمق النفسي، والأبعاد الثقافية والتراثية.

ويتميز السّرد بسلاسة الربط بين أزمنة الحاضر وأزمنة الذكرى، وبين العوالم الكونية، الدولية، الإنسانية، وبين الأجيال، سواءً عبر فصول الرواية المتسلسلة التي لا تُتعِب القارئ في المتابعة، أو عبر جسورها الفنية غيرِ المنظورة، والتي تفصح السّاردة عنها من خلال تكرارها الحديث عن الجسور. الحال ذاتها عند استعراض ذكرياتها عن جدّتها التي تعود جذورها إلى بيت لحم، وتاريخ رجال عائلة الجدة الذين بنو الجسر الواصل بين طرفي اسطنبول:

“حدثتنا كثيراً عن ذلك الجسر (جسر غلطة) الذي يجمع العالم، حيث تتمشى أرستقراطيات أوروبا القادمات من الأحياء الجديدة إلى جانب الدراويش والمجذومين المتجذرين في معالم المدينة القديمة، وكلما ذهبنا في زيارة إلى إسطنبول، كانت تصر على المشي عليه في موقعه الجديد الموازي للقديم. تفعل ذلك بفخرِ وريثة شرعية، وكأن أجدادها، الذين مضوا من قرنين قد بنوه بالأمس! أقول لها: نانا. إنه ليس هو الجسر الخشبي القديم المقصود، فترد غير عابئة: “لو لم يكن ذاك لما كان هذا”.

في صَقْلها لسردها بزيوت الواقعية السحرية، لا تتردّد الكاتبة، بقدرة واثقة على التفرد، باستخدام روح أساليب كتاّب أمريكا اللاتينية المميزين، مثل غابرييل غارسيا ماركيز في “مائة عام من العزلة”، ومثل إيزابيل الليندي في “بيت الأرواح”، حيث يتشابه عرض تسلسل الأجيال، بثراءِ إبراز تفاصيل المكان والأثاث والثياب والزينة التي تعكس الحالة الاجتماعية، والبنية النفسية، وأحلام وأوهام وآمال الشخصيات:

“كان ثوبها مقصوصاً من المخمل الأسود، ومقصَّباً بمعيّنات ذهبية، وأكمامه قليلة الانتفاخ، ومفتوح الصدر، ومنسدلاً، وكان مثار جدل الجميع، إذ لأول مرة تجرؤ امرأةٌ على الظهور في المجتمع الراقي بأرداف طبيعية. عرف كارل منذ ذلك اللقاء أن تلك الصبية التي تمتلك طلّة بجعات بحيرة (وان) ستكون حبيبته الأبديّة، وظنّ أن مساءات البسفور ستمنحه اللقاءات الطويلة التي يأملها”.

وفي تمييز سردها بتجسيد فصاحة المكان، لا تُتعِبُ الكاتبة نفسها بنحت مفردات لغتها بإزميل الفصحى الثقيلة، ولا تزيّف روح المكان بهذا النحت، بل تَدَعُ مفرداتها تنبض كما هي حياة الناس في الرقّة، ودون أن تسقط في ركاكة العامية: “وقد أبقى أحياناً عند جدّتي، فأخرج إلى الحارة أو أجلس أمام باب بيتها منتظرةً أيّ أحد لألعب معه، أو أُقمّع لها البامياء أو الفاصولياء، أو أنقّي العدس، فتجلس هي في الحديقة تعدّ طبختها، وأكون أنا والشارع في مرمى نظرها”.

وكما هو سرد الذات الوطنية، الذي يجري بثراء التاريخ والثقافة والعمق النفسي، تسرد الكاتبة على لسان اللاجئة لميس، ولسان الحاضنة كارمن من خلالها، أبعادَ ذات الآخر، الغربي الذي يشكل الضفة الأخرى لنهر الاندماج بين اللاجئ وحضن اللجوء. ويدخل في هذا تاريخ الاحتكاك الأول بهذا الآخر الباحث عن مشتركاته الإنسانية والكونية، قبل أن يتحول إلى حضن، حيث تنشأ علاقة حبّ بين الألماني نيكولاس، راصد النجوم والباحث عن آثار عالم الفلك البتّاني في الرقّة، وبين نجوى أم لميس، التي يخونها زوجها ويهاجر إلى اليونان، بما يثير حنق الابنة المراهقة من احتلال نيكولاس مكان أبيها، فتعتبرَه عدوّها، في صيف الحب والكراهية الذي تأخذ الرواية عنوانَها من أحداثه. وبما يعيد لنيكولاس صفةَ الصديق بعد موت الأمّ المأسوي، وتصالح الابنة مع ذاتها، حيث تتمنّى لو أتيح لأمها تطوير علاقة حبّها مع نيكولاس، وأن يكون هذا العدو بمكان أبيها.

في حساسية تسجيلها للواقع، وعدم إخفائها أسماءَ الأمكنة الواقعية، والعديدَ من الشخصيات، تثير هذه الرواية تساؤلات فضولية عن مدى انحيازها للثورة السورية، التي تجري الأحداث في زمنها وعلى وقع أحداثها. كما تثير التساؤلاتِ عن مدى معارضتها لنظام بشار الأسد، حيث لا تفصح الرواية مباشرة عن ذلك، لكنّ مؤشرات هذا الانحياز وهذه المعارضة، تفصح عن نفسها بوضوح في منح الرواية الصفات الإيجابية، للشخصيات التي عارضت النظام، وقتلتها مخابراته تحت التعذيب في المعتقل (مثل شخصية خالها نجيب، الذي تمنحه صفات فاتنةً أقرب إلى صورة السيد المسيح، وتصفه أنه من حزب شيوعي معارض). في المقابل هنالك الصفات السلبية للمرتشين والفاسدين من مسؤولي النظام، الذين يدمرون المشاريع الإيجابية ويدفعون الناس قسراً للتحول مثلهم إلى فاسدين. إضافة إلى حديثها عن انشقاق رائد الفضاء السوري محمد فارس، ورواية رؤيته لسورية من الأعلى كأجمل بقعة في الكون، وإن لم تُكمل ذلك بإفصاحِ رؤية وضعها بعد براميل النظام المتفجرة وصواريخ الطائرات الروسية التي تحاول مسح جمالها من ذاكرة الكون، واستبدلت ذلك بحديث يبدو مقحَماً حول عمل رائد الفضاء، وحول تمنّيات إنصاف بديله.

وختاماً، فإن “صيف مع العدو”، روايةٌ تم إبداعها بجهد كبير، يتضمن البحث الدقيق الذكي الواسع، الذي لا يقتصر على العمارة القوطية في تقريبها لعوالم المكان، ولا على موسيقى رخمانينوف التي تُناغِم وتؤالف البشر، ولا على علوم الفضاء التي تفتح فضاءات الذات وذات الآخر على إنسانيتيهما، ولا على الجياد التي تصقل الشخصية وتزيل خوفَها وتمنحُها الشجاعة بكرم الالتحام بها في عدوها، ولا على الكثير الكثير من المعرفة المسرودة بغنىً مثير للمتعة فحسب. بل إنها تتجاوز ذلك إلى البحث في دواخل ذات المرأة التي تتعرض لخيانات الذكر، فتنكسر روحُها وتظهر جراحُ انكسارات الروح على جسدها، بإضافة محاولة الروائية ترميم الذات المكسورة. وهي تفعل ذلك بنجاح.

 

شهلا العجيلي: “صيف مع العدو“

منشورات ضفاف، بيروت؛ الاختلاف، الجزائر 2018

جريدة القدس العربي