يكشف الباحث المصري المرموق هنا كيف يصبح التحليل النقدي عملا خلاقا، تتبدى عبره طبقات من المعنى لا تدركها إلا البصيرة النقدية المسلحة بأدوات معرفية ومنهجية تناظر في حصافتها ثراء نص محمود درويش وتعدد مستويات معانيه.

القصيدة وشعرية السرد اليومي

هل كتب محمود درويش قصيدة النثر؟

دراسة في «أثر الفراشة»

محمود العشيري

 

ملخص:
من خلال نص مشكل إجناسيًّا من حيث كليته التكوينية هو "أثر الفراشة"، يكتب محمود درويش يومياته، التي تبدو نوعًا من مجابهة ذاكرة الإنسان المعيبة بالأصالة، مراوحًا بين قطبين؛ قطب مرجعي إحالي له طبيعة "واقعية" بالمعنى المادي التاريخي، وقطب آخر "أدبي" "نثري" أو "شعري" لا تنشد فيه الكتابة الشفافية والتعيين الذين تتطلبهما المرجعية الواقعية، في جنوح إلى التأمل والتبصر بالحكمة الثاوية خلف ما يسرد من أحداث.

يكتب عن اليومي في حركيَّته المتواصلة، التي قد تكون غير مرئية بما يجعل من معاودته حدثًا صعب التأويل. حيث يسكن المجهول قلب اليومي كما يسكنه العادي أيضًا. وهو ملمح من ملامح يلتقي عندها الكتاب وعنوانه وتصوراته الشعرية بما يقع في قلب الفيزياء والرياضيات مما يعرف بنظرية الشواش أو الفوضى أو علم اللامتوقع؛ فيعيد عبر نصوص هذه اليوميات صياغة المعنى العميق للنظرية شعريًّا؛ حيث إننا مدعوون لا لاكتشاف الانتظام خلف الشواش، خلف التبعثر، بل أيضًا لاكتشاف العشوائي في النظام نفسه؛ لأنه جزء مما يصنع هذا الانتظام ذاته والبحث عن نظامٍ لنظامٍ لا يعرف استقرارًا؛ نظام لادوري؛ يكرر نفسه كل مرة، لكن بصورة مختلفة.

وهنا نتساءل: هل يمكن للشعر الحر والشعر العمودي أن يستوعب جماليات قصيدة النثر التي تكتب التفاصيل واليومي والهامشي؟ هل يمكن له أن يقدم الإيقاع الداخلي الذي تقدمه قصيدة النثر في ظل قيم الوزن والقافية؟ هل استطاع درويش أن يكتب ما تمنى حين قال: "أريد أن أكتب الوزن كأنه يسرد وأكتب النثر كأنه يغني". وعلى نحوٍ ما هل يمكن لخطاب القصيدة الموزونة أن يستوعب خطاب قصيدة النثر، هل يمكن أن تكون ثمة حداثة خارج قصيدة النثر؟

وفي هذا الإطار نتأمل في النصوص النثرية عناصر شعريتها وفي النصوص الشعرية عناصر نثريتها؛ ندرس السردي واليومي فيما هو شعري، وندرس الشعري فيما هو سردي ويومي.

 

"لعل الأشياء البسيطة هي أكثر الأشياء تميزًا، ولكن.. ليست كل عين ترى"

جلال الدين الرومي

"يا لَلْبَداهة! قاهرة المعدن والبرهان" - محمود درويش

 

منذ أن كتب محمود درويش، على الأخص، مقاله الأشهر "أنقذونا من هذا الشعر" في مجلة الكرمل، العدد السادس- 1982، والعلاقة بينه وبين قصيدة النثر ونقادها وكتابها متوترة على نحو ما.. ولا يخلو الأمر من سجال أو إشارة أو إيماءة على نحو ما هنا أو هناك. حيث بدا المقال كما لو كان موجهًا إلى قصيدة النثر وكتابها- أو هكذا كان- حيث كانت قصيدة النثر تؤسس لشرعيتها وتشهد الحركة الثقافية صعودها وتنوع اتجاهاتها. ويمكن إيجاز أهم آرائه في النقاط التالية، التي لا تتوقف أهميتها عند كونها ملاحظات له على الإبداع الشعري المعاصر قدر ما تمثل جانبًا من رؤيته لمفهومه للشعر من حيث طبيعته ووظيفته. يرى درويش:

  • أن الشعر- أحد أفراحنا القليلة- يفلت من حياتنا بلا وداع أو بلا انتباه . فهذه القصائد التي تحول فيها "الكسل" إلى "مرض"، تمارس عدوانًا كالمذابح، لعب طائش بالشعر وسيل جارف من الصبيانية يجتاح حياتنا ولا أحد يجرؤ على التساؤل: هل هذا شعر؟ هذا النوع من الكتابة "خيانة" للروح؛ فهذا الشعر ليس "صوتها"، وهو ليس "كتابة"، هو "محو". إنَّ الأشياء في تجلياتها الحقيقية أكثر شاعرية من هذا الشعر الذي عجزت فيه الروح عن صياغة شكواها. هو "اللاقول" الذي يقول الضجر والتشابه والفجاجة المُدَرَّبة.
  • إن الشعر يتمتع بهشاشة تجعل تعرضه للخلل أكثر أنواع الكلام بشاعة، واستولت الطفيليات على الجوهر لتعطي الظاهرة الشعرية الحديثة سمات اللعب والركاكة والغموض والتشابه الذي يشوش رؤية الفارق بين ما هو شعر وما ليس شعرًا. ووصل بنا إلى إعادة التشكيك في حركة الشعر العربي الحديث وغَرَّبَها عن وجدان الناس.
  • لقد وقع الشعر الحديث في "نمطية" أشد انحطاطًا من نمطية القصيدة الكلاسيكية، فهو قصيدة واحدة تتألب عليها مئات الأسماء في تنقلها من جريدة إلى مجلة إلى منبر إلى ديوان. وأضاع تراكمُ الركاكة واللاشيء من الناس مفاتيحَ القراءة والتمييز، وبخاصة أن الشعر العربي الحديث لم يحقق بعد شرعيته الشعبية ورسوخه في الوجدان العام، وثباته في تاريخ التذوق. هذا فضلاً عن أنَّ ثمة مثابرة منهجية غير بريئة على تدمير الشعر العربي، تتغذى من اجتهادات التنظير لما ليس شعرًا كنموذج للحداثة الشعرية.
  • إن ما يرهقنا في هذه الفوضى هو أن التجديد والحداثة يراد لهما أن يتحولا إلى مرادفيين للعدمية، وللثورة المضادة أحيانًا، حيث لا يصبح هنالك معنى للأشياء واللغة والتضحية، والعمل، ولا معنى للمعنى في الشعر، معنى الشعر هو اللامعنى، لأن المعاني- كما تقول هذه الحداثة- مفاهيم قديمة بالية، كالفصاحة ذاتها التي اسْتُبْدِلَت بها الركاكة. تجد القصيدة مُتْقَنَة وفق فهمها هي للشعر، ولكنها لا تعنينا، لا تثير فينا الدَّهَشَ ولا الرعشة على الرغم من إتقانها المحكم، صارت عزلتنا هي مقياس إبداعنا، وبلغ بنا الدفاع عن الغموض الذي تنتجه طبيعة العملية الشعرية، أحيانًا، حد تربية هذا الغموض وتحويله إلى مستوى إبداعي، لأن قدرتنا على الكتابة الشعرية صارت أهم من حاجتنا إلى الكتابة([1]).

ودرويش الذي لم يكن قد كتب إلا شعرًا أو نثرًا خالصًا، مهما كانت درجة أدبيته، معني بالإيقاع، "أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. انني أحب الموسيقى في الشعر. انني مشبع بجماليات الايقاع في الشعر العربي. ولا أستطيع أن أعبّر عن نفسي شعرياً إلا في الكتابة الشعرية الموزونة ... وما زال في قدرة الوزن الشعري، إذا نظر إليه الشاعر في طريقة مختلفة وإذا عرف كيف يمزج بين السردية والغنائية والملحمية وكيف يستفيد حتى من النثرية العادية، ما زال في قدرته أن يحل بعض الصعوبات في البحث عن ايقاع شعري جديد"([2]).

"وجملة نثرية، لا وزن فيها ولا إيقاع،
إذا أحسن الشاعر استضافتها في سياق ملائم،
ساعدته على ضبط الإيقاع، وأضاءت له
طريق الـمعنى في غبش الكلـمات"([3]).

وهو يرى أنه من ثوابت تعريف الشعر، يقول: "الإيقاع ليس الوزن، بل هو طريقة تنفس الشاعر وموسيقاه الداخلية. الإيقاع ليس حكراً على الوزن. وقد يتأتى من العلاقات بين الحروف والكلمات والدلالات حتى في نص نثري. لذلك لا نستطيع كتابة قصيدة نثر موزونة"([4]).

ومع فهم درويش الموسع للإيقاع فإنه لا يتقبل مصطلح "قصيدة النثر" ويفضل أن يقول"القصيدة النثرية" كما يرفض مصطلح "قصيدة التفعيلة" ويفضل عليه تسمية "القصيدة الحرة"([5]).

ولكن درويش في الحقيقة من أولئك القلائل الذين نجوا مما أخذه على العديد من شعراء جيله، مما أسماه "التخصص الشعري في الشعر"؛ حيث كل الأسئلة هي أسئلة الشعر فقط في مواجهة أسئلة الحياة، وفي مثل هذا التخصص الشعري المحض لا يجد الشعر شعره ولا يجد إنسانيته([6])، وإنما هو منشغل بـــ"التعبير"، ومن هنا لم يوقف مشروعه الإبداعي على الشعر فقط، كما لم يوقفه على القضية الفلسطينية، كما أرادها له بعض نقاده؛ فانتفتح شعره على العديد من العوالم والموضوعات، كما خاض غمار الكتابة النثرية على أنحاء متعددة؛ من "يوميات الحزن العادي" (1973) و"ذاكرة للنسيان" (1986) إلى "في حضرة الغياب" (2006) بالإضافة إلى ما عنونه باليوميات في "أثر الفراشة" (2008). وإن كان من وجهة نظره النقدية أنه لم يكن مشروعه الإبداعي لأنه في النهاية مشغول بـ"التعبير" وما يلح على تسميته كثيرًا بــ"المعنى". يقول: "كتبت الكثير من النثر لكنني ظلمت نثري لأنني لم أمنحه صفة المشروع. أكتب نثرًا على هامش الشعر أو أكتب فائضًا كتابيًّا أسميه نثرًّا. ولكن لم أُولِ النثر الأهمية التي يستحقها، علمًا بأنني من شديدي الانحياز إلى الكتابة النثرية. والنثر لا يقل أهمية عن الشعر. بل على العكس، قد يكون في النثر مساحة من الحرية أكثر من الشعر. فإذا جفّ نصّي الشعري فقد ألجأ إلى النثر وأمنحه وقتًا أكثر وأولية جدية أكثر. عندما كنت أكتب نثرًا كنت أشعر أن النثر يسرق مني الشعر. فالنثر جذاب وسريع الانتشار ويتحمّل أجناسًا أدبية أكثر من الشعر. ويستطيع أن يهضم الشعر ويعطيه مساحة وحركة أكبر. وكنت عندما أكتب النثر أنتبه إلى أنني نسيت القصيدة وأن عليّ أن أعود إليها. هكذا أكون بين النثر والشعر"([7])، وهنا لا يتعرّف النثر إبداعيًّا لديه إلا في علاقته بالشعر، من حيث هو هدنة من الكتابة الشعرية لاستعادة طاقاتها، لكنه أيضًا لا يخلو من روحها التي يجتذبها ويغريها، ولعله لا يعود إلى "القصيدة" إلا لأنه يشعر أن ثمة شعر فيما يكتب بعيدًا عن الوزن، ثمة شعر في النثر. غير أن القصيدة هي عمل شعري أولاً وأخيرًا لا عملاً نثريًا، ولا يمنع هذا أن يحل الشعر في النثر لكن طبقًا لمحمود درويش لا يجعل منه قصيدة. "ما دمت أكتب نثرًا فأنا أكتب النثر، من دون أن أسميه قصيدة ... وانطلاقًا من التجنيس الأدبي مازلت أعطي للنثر اسمه وللشعر اسمه ... فأرجو أن أكتب نصًا نثريًا من دون أن أسميه قصيدة نثر."([8]).

يفكر درويش بالشعر خارج ما إذا كانت قصيدة النثر قصيدةً أم لا، ويرى أن هذا سجال تجاوزه العالم، وهو لا يحجر على الآخرين فيما يكتبون ولا يرفضه بل يراها من الإنجازات الشعرية المهمة في العالم العربي، من حيث كونها محاولة لتأسيس طريقة كتابة مغايرة للشعر التقليدي والحداثة التقليدية، ومن حيث تريد أن تميز نفسها وأن تضيف نصًا مختلفًا عن القصيدة الكلاسيكية وعن القصيدة الحديثة التي صنعها جيل الرواد، يقول: "ليس لدي أي تحفظ على قصيدة النثر. والتهمة التي لاحقتني في أنني ضد قصيدة النثر زمنًا هي باطلة"([9]). ويرى أن "قصيدة النثر هي شعر"([10]) وأن المعول إنما هو على كيفية تحقق الشعرية في قوام القصيدة، سواء أكانت تفعيلية- كما شاعت التسمية- أو عمودية أو قصيدة نثر. "هناك جنس أدبي اسمه نثر وجنس آخر اسمه شعر. وفي هذا الجنس هناك القصيدة الموزونة وهناك أيضًا قصيدة النثر. والنثر كجنس أمر آخر"([11]).

ولعل درويش عندما قال: "أرجو أن أكتب نصًّا نثريًا من دون أن أسميه قصيدة نثر ... أن أكتب الوزن كأنه يسرد وأكتب النثر كأنه يغني"([12])، كان لا يعني أكثر من كتابه "أثر الفراشة" الذي وسمه بالــ"يوميات".

وكما صاغ درويش بعض تصوراته حول قصيدة النثر في مقابلات صحفية وحوارات يصوغ جانبًا آخر منها عبر المجاز واللغة الشعرية، ربما كانت الاستعارة المتأبية على التحديد وسيلة ناجعة أحيانًا لمحاصرة تصور آخر متأبٍ كذلك على التحديد كالشعر أو قصيدة النثر. فتحت عنوان "كقصيدةٍ نثريةٍ" يكتب هذه اليومية:

صيفٌ خريفيٌّ على التلال كقصيدةٍ نثرية. النسيم
إيقاعٌ خفيف أحسُّ به ولا أَسمعه في تواضُع
الشجيرات. والعشب المائل إلى الاصفرار صُوَرٌ
تتقشَّفُ، وتُغري البلاغة بالتشَبُّه بأَفعالها
الماكرة. لا احتفاء على هذه الشِعاب إلاّ
بالـمُتاح من نشاط الدُوريّ، نشاطٍ يراوح
بين معنيً وعَبَث. والطبيعة جسدٌ يتخفَّف
من البهرجة والزينة، ريثما ينضج التين والعنب
والرُمَّان ونسيانُ شهواتٍ يوقظها المطر. لولا
حاجتي الغامضة إلى الشعر لَـمَا كنت في حاجة
إلي شيءـ يقول الشاعر الذي خَفَّتْ حماسته
فقلَّت أخطاؤه. ويمشي لأن الأطباء نصحوه
بالمشي بلا هدف، لتمرين القلب على لامبالاةٍ ما
ضروريةٍ للعافية. وإذا هجس، فليس
بأكثر من خاطرة مجانيّة. الصيف لا يصلح
للإنشاد إلاّ في ما ندر. الصيف قصيدةٌ
نــــــــــــــــثريَّةٌ لا تكــــــــــــــــــــــترث بالنســـــــــــــــــــــــور المحلِّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقة في الأعــــــــــــــــــــــــــــــالي

هنا يكتب محمود درويش عن "صيف خريفيّ على التلال" عبر تصور تعود استعاراته ومفرداته إلى الشعر وقصيدة النثر. يكتب عن الصيف الخريفي والنسيم ونشاط الدُّورِيّ وتواضع الشجيرات والعشب المائل إلى الاصفرار، عن التين والعنب والرمان الذي بانتظار النضح عبر الكتابة عن قصيدة النثر والبلاغة الماكرة ومراوحة الدلالة بين المعنى والعبث، عن الحاجة الغامضة لكتابة الشعر، عن الهجس بالشعر والإنشاد والخواطر المجانية.

ويسمح لنا هذا البناء المتوازي لتصور الصيف الخريفي وقصيدة النثر أن نقرأ أيًّا منهما في ضوء الآخر. فنتعرف على قصيدة النثر أيضًا عبر تصور الصيف الخريفي، كما تعرفنا على الصيف الخريفي عبر تصور قصيدة النثر؛ حيث يمكن التعرف إليها عبر جماليّات التقشف؛ فالإيقاع خافت كالنسيم الخفيف، والحفاوة بالجمال المحدود والخصوبة المتاحة، باصفرار العشب، لا بخضرته الناصعة، بالشجيرات القصيرة، بتينٍ وعنب ورمّان بانتظار النضج. وهي بهذا الحضور تُعْرِض عن جماليات أخرى لا تراهن عليها؛ فهي تراهن على شقشقات دورِيِّ على التلال لا على صدح بلبل أو تحليق نسور في الأعالي، على صيف خريفي وشجيرات متواضعة لا على ربيع دائم؛ فهي "جسد يتخفف من البهرجة والزينة". وربما هي الجمال المحدود الذي يبقي على فتنة الشعر حية في زمن السّأم: "لولا حاجتي الغامضة إلى الشعر لَـمَا كنت في حاجة إلي شيء"، هي "مشي بلا هدف، لتمرين القلب على لامبالاةٍ ما ضروريةٍ للعافية".

وداخل هذا التوازي التمثيلي ثمة توازٍ آخر بين الـمُتاح من نشاط الدُوريّ على الشعاب، والشاعر الذي يمشي بلا هدف، وبين كلا التصورين بما بينهما من مشترك وبين تصور قصيدة النثر أيضًا. فالدُّرِويّ ينتج من شقشقاته التي تبدو مزيجًا من نغمات أحادية عارضة ألحانًا مستقلة؛ تبدأ بمقدمة يعقبها ترجيع لتنتهي بسلسلة من النغمات التي قد تبدو مفتقرة إلى الانتظام، لكن حتى هذا "اللاانتظام" يمكن تمييزه وتمييز الانتظام في صوته، وربما ليس الإيقاع بأكثر من هذا من حيث هو "التناوب الصحيح للعناصر المتشابهة"([13])، حيث يمكن تمييز كل لحن عن آخر وكل نغمة عن جارتها، وفي هذا لا تفتقر في كليتها إلى تماسك ما جليّ أو خفيّ، ربما هو روح إيقاع قصيدة النثر. وكل دُورِيّ في هذا هو قادر على صياغة مئات الأشكال المختلفة من تغريداته الأساسية.

ويجمع نشاط الدُوريّ على الشعاب بمشي الشاعر بلا هدفٍ أن الأول "نشاطٍ يراوح بين المعنيً والعَبَث" كما أن الآخر "تمرين للقلب على لامبالاةٍ ما ضروريةٍ للعافية"، فكلاهما على موعد مع احتمال الحقيقة حيث "انبثاق الضروريِّ من عبث اللاضروريّ"([14]) أو حيث تكون "اللامبالاة فلسفة" و"صفة من صفات الأمل"([15]).

لكن هذا المجاز، مع هذا، لا يخلو من مخاتلة؛ فالدُّورِيّ يتعلم تقليد تغريدات الدُّورِيّ الآخر، وربما الأنواع الأخرى القريبة منه متجاورة الأحواز معه، وربما انتقى الدوري حوزه على مقربة من حوز طائر تلقن منه التغريد أو احتل حوزه بعد هجرانه إياه. وهي أيضًا مناطقية تحدد بتغريدها المعقد حدود حوزها، قادرة على تمييز تغريد جيرانها من تغريد العصافير الغريبة، وقد توصف بالعدائية([16]). ودرويش الذي يعترف لجيل قصيدة النثر بأنه خاض معركة يظنها من أشرس المعارك لتثبيت شرعيته. كان ثمة عدوانية ما فيها لدى بعض منظريها، يرى أنه اليوم- وقد أصبحت شرعيتها قائمة- فعلى شعراء هذه القصيدة أو منظريها أن يعترفوا هم بالشرعيات الأخرى([17]).

ولأن "الصيف لا يصلح للإنشاد إلاّ في ما ندر" يكتب درويش هذا النص قصيدة نثرية لا موزونة، ولأنه لا يصلح للإنشاد يكتب الكتاب كله يوميات لا ديوان، حيث صرح على الغلاف أنه كتب بين "صيفيّ" 2006، 2007.

لكن في الحقيقة فإن درويش يجد في إيقاع أوراق الشجر الصيفي إيقاعًا يخطفه من ثقل المادة إلى خفّة الإشراق، ولع بالموسيقى الخفية التي يجدها في قصيدة النثر وفي الصيف الخريفي ويجد الصيف الخريفي فيها.

وفي يوميته "حفيف"([18]) يقدم صورة إيروسية للذة الإيقاع الخافت، هذا الإيقاع الخفيف الذي يحسُّ به ولا يسمعه في تواضُع الشجيرات والعشب المائل إلى الاصفرار، حيث ينصت معه إلى "صوتٍ خَفِرٍ مُخَدَّر مُتَحدِّرٍ من أَقاصي النوم"، "صوتٍ شاحب ذي رائحة حنطية قادم من عزلة ريفيّة"،"صوتٍ متقطعٍ مُوَزِّع بتقاسيمَ مرتجلةٍ على أوتار نسيم مُتَمَهِّل، "لا يسترسل ولا يطيل الفواصل"، فيه "تَقَشُّف الهمس وتعفُّف النداء".

ويأتي "أثر الفراشة" المصنف باليوميات ليكون ردًا عمليًّا من محمود درويش على تلك الادعاءات النظرية التي ترى أنه لا شعر ولا حداثة خارج قصيدة النثر، وأن جماليات التفاصيل واليومي والهامشي ليست حكرًا عليها، وأن خطاب قصيدته الموزونة أو "الحرة" كما يحلو له أن يسميها يمكن له أن يستوعب خطاب قصيدة النثر([19]). هذا فضلاً عن قدرة النثر على أن يحمل مكونات الشعر وروحه، وقدرة القصيدة الحرة والموزونة على أن تقدم هذه الموسيقى الداخلية تمامًا كما يقدمها النثر([20])، وعلى نحو ما برهنة على إمكانية كتابة الشعر خارج حدود الوزن.

اليوميات؛ النص وأفق النوع:
في "أثر الفراشة" نحن بحضرة نص مشكل إجناسيًّا من حيث كليته التكوينية، يقول عند درويش نفسه: "استعصى بالنسبة لي على التعريف، نثرًا، أم شعرًا، أم نصوصًا تقف على التخوم"([21]). وربما كان العدول عن التصنيف الإجناسي؛ شعر، نثر، قصيدة نثر إلى تصنيف نوعي من حقل آخر هو "اليوميات" عدول إلى تصنيف لا يوصد الباب أمام حيازة أيٍّ من ملامح هذه الأجناس؛ إذ اليومية حكي استعادي عن حاضر مزامن لتحريره، عبر وجهة نظر سارد مبئـر للأحداث هو الاسم العلم للمؤلف الحقيقي، عنده تتجمع هذه النصوص، وإليه يرجع منطق تضامها؛ لأنها سواء أكانت خاصة أم عامة، تخصه أم تخص الآخرين معه- تعود إليه في تبئيرها السردي ووجهة النظر. ومن هنا فاليوميات كتابة عن الذات سواء أكانت هذه الذات عينها موضوعًا للسرد أم كانت الأحداث موضوعًا له، لأنها ببساطة لم تمنح هويتها السردية إلا بصدورها عنها.

وفي الأخير نحن إزاء مكون سردي يراوح بين قطبين؛ قطب مرجعي إحالي له طبيعة "واقعية" بالمعنى المادي التاريخي، فيؤطر "أثر الفراشة" بأنه "صفحات مختارة من يوميات، كتبت بين صيف 2006 وصيف 2007"، وهنا يمكن النظر إلى سياقها ومرجعياتها من خلال هذا التاريخ. وقطب آخر "أدبي" "نثري" أو "شعري" لا تنشد فيه الكتابة الشفافية والتعيين الذين تتطلبهما المرجعية الواقعية. بيد أنه عند أيِّ من القطبين لا يتجرد من إحدى الطبيعتين؛ فقط قد يكون أقرب إلى أحدهما من الآخر، غير أن طبيعته السردية تظل دائمًا على قدر من الوضوح الذي يمنحه هويته السِّـيَـرِيَّة "الأوتوبيوجرافية" اليومية. وتظل هذه الطبيعة السردية "السيرية" تعزز فيه حضور النثر، بينما تعزز فيه طبيعته "الذاتية" طابع الشعر، حيث كل منهما لا يخلو من الآخر، يقول درويش:

كُلُّ نثر هنا شعر أوليّ محروم من صَنعَة الماهر.

وكُلُّ شعر، هنا، نثر في متناول المارة([22]).

تقوم اليوميات على مبدأي "الانفصال" و"الدورية"، فحدودها حدود اليوم الذي تسجل فيه وقائعه على نحو مستقل منفرد، حتى لو ارتبطت هذه الوقائع بأحداث أخرى، ستظل استقلالية التدوينات فواصل بينها. هذا بالإضافة إلى طابع "الدورية"؛ حيث تكتب اليوميات يومًا بعد يوم، وإن كانت تحتفظ لنفسها بحقها في بعض الانقطاعات، لكنها تظل دومًا على وعد بأحداث يوم جديد وتدوين آخر.

وتحمل اليومية، قياسًا إلى أنماط سردية أخرى، كالسيرة الذاتية أو المذكرات، جنوحًا إلى التأمل والتبصر بالحكمة الثاوية خلف الأحداث، على خلاف المذكرات؛ حيث العناية بوصف أفعالٍ وحوداث قلما تكون في سياق حميمي، أو تُعنى بوصف الأنا؛ إذ تقضي اليوميات، من حيث المبدأ، على تلك المسافة التي قد نجدها في السيرة الذاتية بين المعيش والمحكي([23])؛ فما يحدث على مرأى ومسمع من الكاتب يسقط طازجًا على صفحته. فيكتب درويش عن الوجود الفلسطيني وعن الغربة، عن الموت والغياب عن الأنا، عن الروتين اليومي عن القتل الذي غدا جزءًا من هذا الروتين، عن الاقتتال الفلسطيني الداخلي وتناحر الفصائل، عن اللغة والمجاز والقصيدة والإيقاع، عن تصوره للشعر وماهيته، عن الشباب ومتعة الحياة، عن الخوف واللاشيء، عن الحقيقة والفقد والعجز، عن الأرض وشجرة الزيتون والطائرة الحربية التي تقصف الآمنين، والجرافات التي تقتل البيوت والبشر. عن الخلود واليومي والعابر، عن العاطفة والعشق، عن امرأة عابرة، عن الفراغ الأثير. كتب عن بيروت و"سكوغوس" من ضواحي ستوكهولم، عن الخريف في إيطاليا، عن الرباط، ومدريد، وكتب أيضا عن سليم بركات ونجيب محفوظ وأم كلثوم، و"مارك ستراند"، كما كتب عن النقاد وحروبهم، عن الشهرة والشعر والأفكار والمعنى. لقد كتب يوميات لا تُحَرَّرُ من عزلة تأملية، تدعي الحكمة، لتروي أحداثًا مجهولة لقارئ مُبْهَم، بل واقعًا يوميًا يراه كل عربي لا ينفصل عن شأنه العام في الوقت الذي لا يتوه فيه بعيدًا عن تأمل ذاته وفردانيته.

ولا يبدو أن دافع الكتابة هو ما قد يتبادر إلى الذهن عند تصور منطق كتابة اليوميات من إحساس غامر بالذات الفردية ومعاينة استمرار حضورها عبر لحظات الزمن المتتابعة، قدر ما هو معاينة للأحداث والمواقف ومآلاتها وردود الأفعال في ظل انثيال الزمن من حول الذات وتـَحدّره نحو المستقبل. فتغدو الذات كما لو كانت مجرد مساحة تنظيمية يتم عندها ترتيب الواقع.

أن تدرك أنك واعٍ بقضية ما قد لا يعني أكثر من أن تكون منتبهًا إلى تركيز تفكيرك فيها، فأن ندرك أننا واعين بالمستقبل قد لا يعني أكثر من أن نكون منتبهين إلى تركز تفكيرنا حوله، دون أن نعي عوامل تشكله التي تبدأ من الحاضر أو أنها بدأت بالفعل من الماضي، حتى مع أبسط الأحداث وأكثرها هامشية. إن محصلة هذه التفاصيل اليومية والأحداث العابرة وما هو عرضة للتحول والزوال والتلاشي هو في الحقيقة ماضٍ للحظة مستقبلية يتشكل بعيدًا عما يُـعْتَقَد أنه جزء منها.

وفي هذا الأفق تبدو كتابة اليومية نوعًا من مجابهة ذاكرة الإنسان المعيبة بالأصالة؛ فالعلم يثبت أن الذاكرة لا تعمل مطلقًا كمُصَوِّرة أو جهاز تسجيل أو قرص مدمج أو ما شابه لتخزين الصور والأحداث والمعلومات؛ لإعادة عرضها كما عايشناها. فــــ"ذكرياتنا ليست أبدًا نُسَخًا طبق الأصل من الأحداث الماضية"([24]). بل لا ذكريات تقريبًا تبقى ثابتة في ذهن الإنسان إلى الأبد، أو في كل الأحوال، هي ليست بالدقة التي نتصورها. ومن ثم يخالجنا غير قليل من الشك إزاء ما يعود إلى ماضينا؛ إزاء أمور رأيناها وقلناها أو فعلناها أو حلمنا بها أو تخيلنا أننا نفعلها. حتى تلك الأحداث البارزة التي نستعيدها وتبدو لدقتها كأنها صورة فوتوغرافية عن الأصل، ذات جودة عالية، تنطفئ جذوة ذكرياتها بمرور الوقت وتتغير معالمها وتتبدل، مثلها مثل الذكريات الخاصة بالأحداث الأقل إثارة([25]).

ولا يكفي المرء أن يكون شاهد عيان لكي تكون شهادته دقيقة أو صادقة أبدًا، مهما كانت درجة "الثقة" التي يروي بها معايناته؛ إذ يقول العلم إن العلاقة بين تلك الدرجة من الثقة التي يروي بها شهود العيان شهاداتهم و"دقة" ما يتذكرونه هي علاقة ضعيفة أو غير موجودة بالأساس([26]).

إن الذاكرة لا تنتج صورة طبق الأصل تمامًا لما عايشناه، ولكنها متجددة. فما تسترجعه أذهاننا هو غالبًا مزيج مشوش من الذكريات الدقيقة بالإضافة إلى ما يتوافق مع معتقداتنا واحتياجاتنا ومشاعرنا وهواجسنا. هذه الهواجس مبنية بدورها على معرفتنا بأنفسنا وعلى الأحداث التي نحاول استرجاعها وعلى ما عايشناه من أحداث مماثلة. ومن ثَمَّ فهي "وسط دائم التغــيّر يُبرز قدرتنا المميزة على خلق روايات طيِّعَة لتجاربنا الماضية والحاضرة"([27]). وهي في هذا لا تخضع لهيكل معرفي مرتب، أو نموذج ذهني مخزن في الذاكرة، وإنما يكتسب الإنسان مخططاته من خلال تجاربه الماضية وما تعلمه فيما مضى.

وتمثل الأنماط المتكررة نموذجًا مثاليًّا للكيفية التي يمكن أن تؤثر بها المخططات على ذاكرتنا، فدائما ما نعيد تشكيل الماضي لكي يتوافق مع توقعاتنا التخطيطية؛ حيث نغــيِّـر - دونما وعـي- بعض المعلومات الأصلية في الوقائع الـمُـتَذَكَّـرَة لكي تتوافق مع المخطط الـمُخَزَّن بالذاكرة. بل قد تقع الذاكرة فيما يسمى بـــ"الذكريات الزائفة" أو "أوهام الذاكرة"، حيث يمكن لبعض الذكريات الزائفة أن تتولد في سياق ما، ويراها المرء "حقيقية". ولا أحد ينجو من إعادة تشكيل الذِّكْرى. وعندما تكون "الذكرى هي النسيان مرئيًا"([28]) فلن يكون استعادتها هو حضورها الأول.

وما يحاول أن يقدمه النص هو "اليومي" قبل أن يقع سريعا في حقل الماضي، فتفترسه الذكرى. كل ما مـرَّ بنا أو فـكّرنا به مُسجّل تقريبًا كما مر بنا وكما فكرنا به، بعيدًا قدر المستطاع عن شَــرَك النسيان أو التوهم أو إعادة بناء الذِّكْرى. فاليومية عمل الحال لا عمل الذاكرة، ومن ثمَّ هي نجاة من مأزقها، حيث الأولوية للحدث في أقرب صورة إلى وقائعيته المباشرة.

وتتسع اليوميات لأنماط أدبية عديدة، فتبدو كما لو كانت الوعاء الذي يمكن له أن يتضمن أنماط الكتابة كافة بلا حدود، أو يكاد([29]). وهنا نجد تجاور الموزون المقفى مع التفعيلي مع النثري مع الشذرات؛ شعرية كانت أم نثرية، بالإضافة إلى قصائد النثر، سواء تداخلت هذه الأنواع أو افترقت أو تنوعت في داخلها لأنماط شكلية أخرى.

ولكم كان اليومي بعيدًا عن فكر النخبة، ولتاريخ طويل خاصمت الفلسفة كل ما هو ظني ونسبي ويومي وكل ما اعتبرته خارجًا عن مجال العقل؛ حيث التَّعقل تجريد قبل كل شيء ونزوع عما هو نسبي وعادي وعامي، استعلاء حتمي عن كل ما هو بديهي وساذج. ولم يكن الالتفات إلى العادي في تاريخها سوى التفاتة تعليميّة تروم نقد هذا اليومي ومحاكمته واستئصاله؛ فالإنسان الذي كانت تبحث عنه من قبل إنسان خارق للعادة خارق لليومي. وكان على اليومي أن ينتظر طويلاً بعيدًا عن دائرة الاهتمامات الفلسفية حتى يأتي نيتشه وهُسّرل وهيدجر وفتجنشتين وغيرهم([30]) حتى يحظى بالاهتمام.

يعني اليومي "مايحدث يوميًّا"، غير أن الإحالات عليه غالبًا ما تنطوي على مقابلة ضمنيَّة مع مصطلح آخر؛ ليعني "المطرد" و"المتوقع" أو "الموقت العابر"، أو "المألوف الاعتيادي" في مقابل الغريب والاستثنائي والخارج عن المألوف. وليعني "العاديّ"، أو ما لا يستدعي الملاحظة، أو "الرَّتـيب" في مقابل الاستثنائي والمتميز. أو يعني "الشائع" أو"المتفشي" أو "الـمُبْتَذَل". وهنا يتضمن معنى من معاني الدونية الاجتماعية، حيث تنأى النخب العقلية والاجتماعية عما هو سائد وعام([31]).

وقد يُقَدَّم اليومي بوصفه كل ما يحيط بنا وندركه حالاً ودون واسطة؛ ليصبح قريبًا منا وحاضرًا في أذهاننا حضورًا مستمرًّا. ويُشْتَـرط في اليومي- كما يقول التريكي- حَدّان؛ "محيط مكاني"؛ حيث تكون قرابتنا منه قرابة مباشرة، والآخر "محيط زمانيّ"، فيقع اليومي عند اللحظة الحالية من الإدراك، شريطة أن تتوفر فيه تواصليّة ما في الزمن أو استمرارية ممكنة، سواء من حيث "ثقل الحدث" أو من حيث "رمزيته". وهو ما يسم هذا الحدث حينئذٍ بطابعيّ "التواصل" و"التأثير"؛ ليدخل عبرهما بوابة "اليومي". فالحدث الذي ينتهي في اللحظة التي ينشأ فيها لا يدخل دائرة اليومي([32]). واليومي الذي يقتصر على حياتنا الضيقة ومجالنا اليومي القريب سيأتينا مبتورًا كما يقول موريس بلانشو([33]).

فالمعول في الحدث اليومي على "التكرار والمعاودة"؛ وحتى الحدث النادر والشاذ عندما تنصهر تمظهراته في نظام الأشياء سيصبح هو أيضًا شيئًا فشيئًا عاديًّا ويوميًّا([34])، فالموت أو القتل يمكن له أيضًا أن يدخل في دائرة العادي:

"... توابيت

مرفوعة على عَجَل .. إذ لا

وقت لإكمال الطقوس، فإنَّ قتلى آخرين

قادمون، مسرعين، من غارات أخرى، قادمون

فرادى أو جماعات... أو عائلةً واحدةً لا

تترك ورائها أيتامًا وثكالى"([35]).

وقد يكون لليومي حركيَّة متواصلة غير مرئية، تجعل من معاودته حدثًا صعب التأويل. إذ لا يسكن العادي وحده قلب "اليومي" بل يسكنه "المجهول" أيضًا. ويتمثل هذا العنصر التأسيسي والحركي لليومي في هذا التأرجح، أو تلك المحاولة الدؤوبة لتقريب البعيد وتأهيل الغريب([36]). فعالم الحياة اليومية يقدم نفسه بوصفه نظامًا متمركزًا سويًّا حين يهيمن عليه ما نترقبه، وفي الآن ذاته بوصفه نسقًا هامشيًّا فيه مكان دائم لما لا نترقبه. فاليومي لا يشمل العادي فقط الذي هو مجموعة منسقة من الممارسات الخاضعة لانتظام مجمَّد؛ فهو معرض أيضًا لهذا "اللامنتظم" الذي سيحوله بلا تمهيد إلى خارق للعادة، ومن ثم يظهر داخل هذا اليومي ذلك الحضور المشترك لما هو مألوف وأيضًا لما هو غريب ومنبع مفاجأة وتوتر؛ ليتشكل من معانقتهما نسيج اليومي([37])، ومن هنا يلتقي اليومي وما يسجل عنه من "يوميات" من باب واسع بــ"أثر الفراشة"، والتصورات اللاخطية للمعادلات الرياضية.

وتنفتح موضوعات محمود درويش على ما يقع في حياته/ حياتنا بصورة منتظمة أو غدت منتظمة، على نحو يصف حياتنا بالعادية؛ بدءًا من غسيل الصحون وصنع القهوة وميلاد نبتة جديدة وهجوم النقاد والملل والرتابة إلى الخطب السياسية والدينية الجوفاء هدم البيوت وقتل الأطفال وتناحر الفصائل الفلسطينية والصمت على مجازر الاحتلال. يقدم هذا الاعتيادي الرتيب أو العادي المبتذل أو ما لم يكن كذلك ولكن أسلمه التكرار إلى الابتذال، أو ما يبدو عارضًا متشحًا بالاختلاف والجدة، لكنه ليس إلا هذا السابق المتخفي بنعومة يعاود الظهور.

ويكتب درويش فلسفته لليومي في نصوص يعول فيها على بلاغة النص، لا على نوعه الأدبي، هذا النص الذي قد يفرط في بلاغته، أو تخييله، أو إحكام بنائه، أو يستدعي عبره أعرافًا شعرية راسخة؛ فيقع في قلب الشعر عبر مقاطع موزونة مقفاة أو تفعيلية، أو يقع على حدود الشعر دون أن تضعه في قلب القصيدة، ذائقة نقدية ألفت شعر درويش كما ألفت نثره وأحاطت بمواقفه النظرية من قصيدة النثر، أو يتخفى خلف الاسترسال ويُشَعَّث بناؤه النسقي وتُسْتَدعى معه أعراف تؤول به إلى قلب السرد من الكتابة النثرية.

ومن ثم نحن أمام نص "شعري- نثري- سِيَرِيّ" يستبدل بـ"الأنا" الملحمية التقليدية "أنا" "سِيَرِيّة ذاتية" (أوتوبيوغرافية) مرتبطة بالاسم الشخصي للمؤلف وعالمه المتعين. وهنا لنا أن نتساءل حول شعرية هذا النوع الأدبي الذي يُقَدَّم فيه اليومي السِّيَرِيّ (البيوغرافي) شِعْرًا، أو سيرية هذا النوع الشعري الذي يقدم موزونًا في قصائد حرة أو عمودية. وكيف تتبدى شعريةٌ هي محصلة تفاعل ما هو شعري مع ما هو سِيَرِيّ. كيف يخاتل النثر نصوصًا أخرى- تأتينا عبر وسائط غير شعرية أو ربما غير أدبية أو لغوية أصلاً؛ في تناص كثيف ويخلق إيقاعه الشعري بعيدًا عن الوزن.

يمكننا أن نعثر في "أثر الفراشة" على نصوص عمودية مثل: "كم البعيد بعيد"، "على قلبي مشيت"، وجوه الحقيقة"، "في صحبة الأشياء"، "ربيع سريع"، "عال هو الجبل" على سبيل المثال، وأخرى من الشعر الحر كما في "البنت الصرخة"، "الغابة" مكر المجاز"، "نسر على ارتفاع منخفض"، "بقية حياة"، "غريبان"، "شخص يطارد نفسه"، "عن اللاشيء"، "أثر الفراشة"، وكذلك أن نجد فيه نصوصًا أخرى نثرية بعضها سيقرأ من قبيل النثر وسيقرأ البعض الآخر بوصفه قصيدة نثر أو قصيدة منثورة أو شعرًا بعيدًا عن النثر ... منها نصوص مثل "أبعد من التماهي"، "ذباب أخضر"، "نيرون"، "البيت قتيلاً"، "البعوضة"، "واجب شخصي"، "عدو مشترك"، "ليت الفتى شجرة"، "ماذا.. لماذا كل هذا"، "لم أحلم"، "جار الصغيرات الجميلات"، "العدو"، "حَمام"، "لون أصفر"، "وصلنا متأخرين"، "يرى نفسه غائبًا"، "أنا خائف"، هدير الصمت"، "الجدار"، "شريعة الخوف"، "روتين"، "بندقية وكفن" ... فضلا عن شذرات أخرى تأتي قصيرة وحاسمة ومحكمة، كما في يومياته "إن أردنا"، "بيت القصيد"، "بوليفار سان-جيرمان"..

في تأويلية العنوان:
يعود العنوان "أَثر الفراشة" على نحو مباشر إلى عنوان إحدى قصائد الديوان التي تقول:

أَثر الفراشة لا يُرَى

أَثر الفراشة لا يزولُ

 

هو جاذبيّةُ غامضٍ

يستدرج المعنى، ويرحلُ

حين يتَّضحُ السبيلُ

 

هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ

أشواقٌ إلى أَعلى

وإشراقٌ جميلُ

 

هو شامَةٌ في الضوء تومئ

حين يرشدنا إلى الكلماتِ

باطننا الدليلُ

 

هو مثل أُغنية تحاولُ

أن تقول، وتكتفي

بالاقتباس من الظلالِ

ولا تقولُ…

 

أَثرُ الفراشة لا يُرَى

أُثرُ الفراشة لا يزولُ!([38])

 

يتقاطع العنوان "أثر الفراشة"(*) مع البعد الفلسفي لنظرية رياضية فيزيائية هي نظرية "إدوارد لورينتز"، فيما يعرف بنظرية "الشواش"([39]) أو "الفوضى" أو "علم اللامتوقع"([40])، حيث يعيد صياغة المعنى العميق للنظرية شعريًّا. خاصة وهو المعنيّ بالبحث عن "المعنى الخاص"، على نحو ما يلح في الإشارة إليه في مواضع عدة(**) من اليوميات.

لقد كان العلم يؤمن بأنه "انطلاقًا من حساب تقريبي عن الأوضاع الأولية، يستطيع الفهم الدقيق للقانون الطبيعي (الفيزيائي) أن يصل إلى حساب تقريبي عن سلوك النظم موضع الدراسة"([41]) كقوانين نيوتن الثلاثة للحركة، التي يمكن تحويلها لصيغة رياضية بسيطة (خطية)، يمكن معها التنبّؤ الدّقيق بالحركة ضمن مجموعة كبيرة من المتغيّرات الواسعة في نظام معيّن، ومن ثم يمكن التنبّؤ بتوقيت حركة الكواكب السّيّارة حول الشّمس ومسار حركة قذيفة على الأرض ووضع جدول دقيق لحركات المدّ والجزر في المحيط على طول أشهر السّنة.

وفي الحسابات الرياضية، مع تضافر القيم الكبيرة في العمل، يمكن إهمال التأثيرات الواهية (الكسور العشرية الصغيرة للغاية)؛ إذ لا تنجح تلك التأثيرات الهينة في التجمع لتولد تأثيرًا قويًا، ولكن ما حدث هو أن لورينتز وجد أن تجاهل القيم الصغرى للغاية للكسور العددية في حسابات تنبؤات الطقس قد تؤدي إلى تغييرات جذرية في التنبؤات البعيدة المدى، فَتَدَخُّل عناصر صغيرة نسبيًّا ومحدودة في ظاهرة ما؛ تستطيع أن تهوي بقيمة أفضل تنبؤ عن مستقبل تلك الظاهرة.

هكذا صِيْغَ "أثر الفراشة" تحت اسم "الاعتماد الحساس على الأوضاع الأولية" وصاغ محمود درويش يومياته تحت العنوان نفسه؛ ففي العلم وأيضًا في الحياة تصل الحوادث المتسلسلة عادة إلى نقطة حرجة، بحيث يتضخم بعدها أثر الأشياء الصغيرة([42]). فمقدار الاختلاف في قيم البداية لاضطرابين معينين في نسق ما، قد يكون ضئيلاً للغاية، غير أنه قد يؤدي إلى تغيرات كبيرة وبعيدة المدى في سلوكهما، فيما لو قلنا أن تأثير ضربات جناحي فراشة قد يُحْدِث، مع الوقت، إعصارًا ما في مكان ما بعيد من العالم.

إن أحداثًا أو وقائع بسيطة، تقع لبعض الأفراد، قد تقود، مع الزمن الطويل، مسارًا كاملاً إلى التشعّب، منتهيةً به إلى سلوك مختلف، متباعدٍ، على نحوٍ كبير، عن مساره الأصلي أو ما كان يمكن أن يُعَدُّ أصليًّا. فبعض ما يمر بنا اليوم غير عابئين به كثيرًا، بعض "اليومي" الذي يستوقف درويش للكتابة عنه؛ قد يكون له من ضخامة الأثر ما يفوق الحدود في المستقبل، ويفوق قدرتنا الآن على التخمين.

إن نظرية "الشواش" تُعنى بالنماذج المضطربة والظواهر التي يمكن وصفها في طبيعتها بالتشوش والاضطراب والعشوائية، ومن ثم تعنى بأشكال النظام والرتابة الخبيئة فيها. ويُعبَّر عن "التدفق غير الدوري المُحَتَّم" للظاهرة العشوائية أو بصيغة أخرى "التدفق الشَّواشي طويل الأمد" من خلال معادلات لاخطية، يتم تمثيلها بمخطط مُحْدَوْدِب، يشبه جناحي فراشة أو قناعًا يمثل وجه بومة. عُرِفَت هذه المخططات بــ"جواذب الحركة" أو "جواذب لورينتز". فخلف هذه العشوائية التي تنتظم يومنا، أيضًا كما هو عند "لورنتز" نوع من التعاقب، لكنه تعاقب غير ثابت عند نقطة، وهو ما يجعله غير ثابت ولا متعاقب في الوقت ذاته. كذلك تلك المظاهر التي تحكم سيرورتنا اليومية وتبدو عشوائية؛ من قصف للأرواح وهدم وتشريد، ستظل تتكرر لأن ثمة نظام لعشوائيتها يفرض تكرارها على نحو دوري واطرادي في نظام متعاقب ولامتعاقب في الوقت ذاته، بحيث أن الفوضى ذاتها تسير وفق قوانين شاملة. وما يبدو لحظيًّا وربما عابرًا واستثنائيًا قد يحمل على المدى البعيد نوعًا من التناظر، لأن ثمة عوامل استثنائية ما تتكرر، هي أيضًا، في دوال أوسع. وحينئذٍ يغدو ما قد يبدو شاذًا ومنحرفًا ووحَيْدًا قابلاً للتَّوَقُّع. وحينئذ سيتوجب علينا، بنماذجنا المترعة بالشواشية، وبوصفنا جزءًا من حركة الشواش نفسه، أن نصوغ حلقة ما، كما فعل لورنتز، بين ميل النظام لعدم تكرار نفسه وعدم القدرة على توقع تقلباته؛ حلقة تربط اللادوري باللامتوقع!

إننا نكتشف خلف الأحداث العارضة، خلف ما يدرج في إطار العشوائية، نظامًا ثابتًا لقيم التحولات وتعاقبًا للسلوك؛ حيث تدخل الأنظمة العشوائية ذاتها حلقات مفرغة، مكررةً نفسها باستمرار وإلى ما لانهاية. غير أن تتابعها لا يتمثل في خطوط مستقيمة، بل عبر قمم منحنية، لا تستقر عند نقطة، ومن ثم فهي لا تعود تكرر الفعل ذاته، وهو ما يجعلها غير متعاقبة وغير دورية أيضًا.

تقول لنا النظرية أنه لا يمكن لأحد أن يتحكم في كمية التحولات والاحتمالات، إلا إلى مدى معين، قصير نسبيًّا، وعند مدىً بعيد لن يتمكن أحد من السيطرة على ما يعد عفويًّا وبسيطًا وعشوائيًّا. فعندما تظهر أولى مظاهر الشواش/ الفوضى يصبح من المستحيل التنبؤ بمسار المعادلة؛ فالانقسام الفلسطيني شواش وحصار غزة شواش وقتل الأطفال شواش والهدم المنظم للبيوت شواش. وبمفاهيم أثر الفراشة أيضًا، علينا أن نعيد النظر فيما نتمثله عبر الحياة من معادلات خطية للظواهر، لأنها تؤدي بنا إلى المفاهيم المبسطة، متجنبين المعادلات اللاخطية، التي يصعب احتساب قيمتها، التي يشبه تحليلُها السيرَ عبر متاهة سحرية، تُبَدِّل فيها الجدران أوضاعها مع كل خطوة.

إننا مدعوون لا لاكتشاف الانتظام خلف الشواش، خلف التبعثر، بل أيضًا لاكتشاف العشوائي في النظام نفسه؛ لأنه جزء مما يصنع هذا الانتظام ذاته. إن الإيقاعات النثرية داخل البناء الشعري هي بعض قوانين اتساقه نفسها، وما يفعله درويش أحيانًا هو إيلاء الاعتبار لهذه المشتتات النثرية، هذه البِنى الكسرية، هذا الشواش، الذي قد ينقل التجربة إلى مسار آخر متباعد. يقول درويش:

كَسْرُ الإيقاع، بين حينٍ وآخر، هو ضرورة

إيقاعية([43]).

وعلى هذا النحو هل يمكن لنا، بخاطرة تأويلية، اعتبار كتاب درويش نفسه، الذي ربما تحقق فيه أكبر قدر من الشعرية النثرية أو مخاتلة النثر للشعر أو حتى انفتاح الشعر على النثر أو استحواذ الشعري على النثري- هو نفسه من قبيل "أثر الفراشة"! حيث

"أثر الفراشة لا يُرى

أثر الفراشة لا يَزول"

هل خامر النثري ما هو شعري في كتاب سابق لدرويش مثلما خامره في هذا الكتاب؟ هل ثمة نوع من الانتظام المضمر للنثر في أفق الشعر لديه أو للشعر في أفق النثر، هل هي أشياء من قبيل أثر الفراشة، تتغير ببطء، لكنها تتغير بانتظام!

إن الهدف من النظرية في الفيزياء وفي الشعر وفي الإيقاع ليس التأكيد على أهمية العناصر العشوائية الشواشية؛ بل البحث عن نظامٍ لنظامٍ لا يعرف استقرارًا؛ نظام لادوري؛ يكرر نفسه كل مرة، لكن بصورة مختلفة.

وفي السطور القادمة سنفحص نماذج ثلاثة من يوميات الكتاب نتأمل في نصين نثريين منهما عناصر شعرية اليومي والتفاصيل فيهما وفي الثالث الموزون (الحر) سنتأمل عناصر سرديته اليومية، فندرس السردي واليومي فيما هو شعري، وندرس الشعري فيما هو سردي ويومي. في الوقت الذي ثمثل فيه النصوص الثلاثة بعض وجوه أثر الفراشة في حياتنا، بل في حياة الفلسطيني بوجه خاص، على نحو يكشف كيف يعود فيه الخاص والشخصي واليومي والبسيط والهامشي وربما المبتذل أحيانًا على العام والوطني والإنساني.

شعرية اليومي:
إنَّ شعرية اليومي والتفاصيل ليست بحال كيانًا أو نمطًا يُكْتَشَف، هي أسلوب تُبْنَى جمالياته عبر جهود دؤوبة من شعراء كثر متفاوتين، بدءًا من أقدم نماذج الشعر العربي التي وصلتنا، متقلبة في عروض الخليل وقصيدة التفعيلة حتى قصيدة النثر. ولم تكن بحال قارة مجهولة تنتظر وسط الضباب مستكشفيها، وفي هذا الإطار يأتي نص درويش "البيت قتيلاً" الذي يكتبه ليكون فعلاً احتجاجيًّا شعريًّا ضد سياسة هدم البيوت العربية في فلسطين، يكتب عن اليومي الذي يواجهه الفلسطيني عبر هدم البيوت والمنازل، إن بقصفها أو بِدَكِّ الجرافات لها. وهو ما يتم تجاهله أو التغاضي عنه رغم ما تبثه النشرات من تقاير حية. يكتب عن هدم البيوت بما هو تأسيس واقع لمصادرة الأرض وتهجير السكان، يكتب عن الهدم عندما يصبح منهجيةَ سياسةٍ معمارية ديمغرافية لا للحياة وإنما للتطهير العرقي:

البيت قتيلاً([44])

بدقيقة واحدة، تنتهي حياةُ بيتٍ كاملة. البيتُ
قتيلاً هو أيضاً قَتْلٌ جماعيّ حتى لو خلا من
سُكَّانه. مقبرة جماعية للموادّ الأولية الـمُعَدَّةِ
لبناء مبني للمعني، أو قصيدةٍ غير ذات
شأن في زمن الحرب. البيت قتيلاً هو
بَتْرُ الأشياء عن علاقاتها وعن أسماء
المشاعر. وحاجةُ التراجيديا إلي تصويب
البلاغة نحو التَّبَصُّر في حياة الشيء. في
كل شيء كائنٌ يتوجَّع... ذكري أَصابع
وذكري رائحة وذكري صورة. والبيوت تُقْتَلُ
كما يُقْتَلُ سكانها. وتُقْتَلُ ذاكرةُ الأشياء :
الحجر والخشب والزجاج والحديد والإسمنتُ
تتناثر أشلاء كالكائنات. والقطن والحرير
والكتّان والدفاتر والكتب تتمزّق كالكلمات التي
لم يتسَنَّ لأصحابها أن يقولوها. وتتكسَّر
الصحون والملاعق والألعاب والاسطوانات والحنفيّات
والأنابيب ومقابض الأبواب والثلاّجة والغسَّالة
والمزهريات ومرطبانات الزيتون والمخللات والمعلبات
كما انكسر أصحابها. ويُسحق الأبْيَضَان الملح
والسُّكَّر، والبهارات وعلب الكبريت وأقراص الدواء
وحبوب منع الحمل والعقاقير الـمُنَشطة وجدائل
الثوم والبصل والبندورة والبامية الـمُجَفَّفة والأرُزُّ
والعدس، كما يحدث لأصحابها. وتتمزَّق عقود
الإيجار ووثيقة الزواج وشهادة الميلاد وفاتورة
الماء والكهرباء وبطاقات الهوية وجوازات السفر
والرسائل الغرامية، كما تتمزّق قلوب أَصحابها.
وتتطاير الصُّوَر وفُرَشُ الأسنان وأمشاط
الشَّعْر وأدوات الزينة والأحذية والثياب
الداخلية والشراشف والمناشف كأسرار عائلية
تُنْشَرُ على الملأ والخراب. كل هذه الأشياء
ذاكرةُ الناس التي أُفْرِغَتْ من الأشياء، وذاكرة
الأشياء التي أُفْرِغَتْ من الناس ... تنتهي
بدقيقة واحدة. أشياؤنا تموت مثلنا. لكنها
لا تُدْفَنْ معنا !

يُبنى "القتل" في العنوان "البيت قتيلاً" على "الحالية"، لا على الإخبار، إذا ساغ لنا أن نفترض صورًا أخرى للغة خارج لغة القصيدة، لا على الإخبار في إسناد خبري كـــــ(البيت قتيلٌ) أو فعلي (قُتِل البيت) أو (قَتلوا البيتَ) ... أو نحو ذلك. وفي هذا التركيب الحالي لا يُقَدِّر القارئ فعلاً للجملة فقط، بل ستظل الدلالة الزمنية المرافقة لدلالة الحال إطارًا للقتل لا يفارق أفعال النص، وهو المضارع الذي لا يقف عند حاضر التكلم، بل ما كان وما هو كائن وما سيكون؛ فأفعال النص لا تقدم قصف البيوت وهدمها أو بالأحرى قتلها على أنه سرد عن ماضٍ؛ بل تقدمه عبر سرد يقدم موضوعه بوصفه حالاً ثابتة عبر جمل اسمية: "البيوت تُقْتَل..." "القطن والحرير والكتان والدفاتر والكتب تتمزق". وعبر مجموعة من الأفعال، تمثل أنويةً تتحلق حولها مشتملات البيت، يتحقق مقتله وتتناثر أشلائه. هذه الأفعال "تتمزق، تتكسر، يُسْحَق، تتطاير"، التي تمثل أنوية مقاطع النص، تتجمع حولها مشتملات البيت؛ لتكون في علاقة مشابهة مع أهله الذين "انكسروا، تمزقوا، سحقوا.." من قبل.

ويمكننا أن نرى هذا الانتظام الدوري الذي يقف خلف نثار المفردات السابقة في النص عبر المخطط التالي:

وعندما تنبني بعض الجمل التي تشكل دوائر تركيبية مِفْصَلِيَّة في النص؛ فإنها تنبني على تعابير اسمية دائما معرفة بأل أو بالإضافة، ولا يفارق هذا التعريف شيئًا واحدًا من مشتملات البيت مما أورده النص كما في المخطط السابق.

على الرغم من أن أشياء البيت تقدم في إطار عاطفي آسٍ، إلا أن السرد المؤطر لها سرد محايد غير ذاتي، فَتُقّدَّم كما لو كان السارد خارج بؤرة السرد ومشاركته في موضوعه الذي يسرده، كما يُقَدَّم السردُ في أغلب النص كما لو أنه ليس سردًا عن البشر إلا في علاقة الأشياء بهم، ويظل بضمير الغائب على طول النص إلى أن تكشف الجملة الأخيرة عن أن ضمير الغائب ليس إلا قناعًا لضمير المتكلم: "أشياؤنا تموت مثلنا". والحديث الذي بدأ آخريًا هناك ينتهي أنويًّا هنا؛ ليعود الحديث عن موت الأشياء- حتى بوصفها أشياء لها وجودها الخاص وجوهرها المستقل وكينونتها المكتملة- حديثًا عن موتنا؛ فعندما لم تدفن معنا أشياؤنا، فإن جزءًا منا لم يُدْفَن، أو أننا لم نُدْفَن دفنًا كاملاً.. فدومًا ثمة هذا "النقص" الذي يعتري وجود الفلسطيني، حياةٌ غير مكتملة وأيضًا موتٌ غير كامل.. وربما يُبْعَثُ بعْثًا غير كامل،كما في الأسطورة الفرعونية؛ حيث كان تمام الدفن أن تُدْفَنَ مع الشخص أشياؤه اليومية ليعود لاستعمالها في حياته الأخروية، إذ يُبْعَثُ دونها، دون ما يعيده إلى حياته السابقة؛ ليكون بعْثًا مفتقرًا أيضًا إلى حياة أخرى. "أشياؤنا تموت مثلنا. لكنها لا تُدْفَنْ معنا"!

والقتيل هنا بيتٌ لا منزلاً ولا مسكنًا ولا دارًا؛ فالبيوت ألصق بساكنيها([45])، ألصق بما هو إنساني من التعبير بالمنزل أو السكن أو الدار. وبالإضافة إلى تحقيقها دلالة المأوى مرتبطة بنشدان الأمان والاحتماء من الوحشة بقضاء الليل فيها بالمبيت؛ فمدار الفعل بات على إدراك الليلِ الشخصَ بالمكان، يقال "بات فلان: أدركه الليل، نام أو لم ينم"([46])، ومن هنا لم يُعَدُّ كل بيت مسكنًا. و"بيت الرجل" أيضا هو: امرأته وعياله، وكذلك"البيت": القبر ! كما أن مسمى البيت لا يشترط أن يكون كبيرًا أو صغيرًا، بناء أو غير بناء؛ فالخباء بيت والقصر بيت والدار بيت والكهف بيت والقباء بيت والطِّراف بيت والقبو بيت .. والبيت أيضًا هو هذا المعنى العام الذي يمكن له أن يكون من "مُسْقَفٍ واحدٍ له دهليز"، يختلف عن المنزل الذي يشتمل على بيوت وصَحْنٍ مُسْقَف. والبيت أيضًا أعمّ من الدار التي يُشْتَرَط فيها البناء ويُشار معها إلى الأرض والبناء معًا وما إلحق بهما. والبيت لصيق اليومي والاعتياد والاستقرار وإن كان مؤقتًا، وانهدامه تلاشٍ لمعاني الاحتواء، المنع، العزل، الخاص، البقاء بعيدًا عن .. وليس أمره أيضًا كالدار التي تظل دارًا وإن تهدمت جدرانها([47]).

إن كينونة البيت تتعرف بوجوده وبالحياة المحتملة داخله، وفي هذا الطريق يقدمه النص؛ فهو العلاقة الضامة لنثار الأشياء وقد حملت ألق ساكنيه وروحهم ورحيقهم، هو واهب المعنى للأشياء وواهب المبنى للمعاني المتناثرة؛ فكل ما يتناثر عن هدمه أو قتله عليه "ذِكْرى إصْبَع" أو "ذِكْرى رائحة" أو "ذِكْرى صورة"؛ إذ هو أفق استعمال هذه الأشياء اليومية، التي تحمل آثارنا ويمنحها الاستعمال هويتها، ودونه ستبقى هذه الأشياء دون دلالة؛ فبدون البيت لا معنى للأَسِرَّة أو المِزْهريات أو مقابض الأبواب أو جدائل الثوم والبصل أو فاتورة استهلاك المياه والكهرباء.. البيت هو البُعْد الذي يسمح لهذه الأشياء اليومية بالظهور إلى الحياة، التي هي بتعبير القصيدة "موادّ أَوَّليَّة مُعَدَّةٌ لبناء مبنىً للمعنى"، والبيت قتيلاً هو "بَتْــرُ لهذه الأشياء عن علاقاتها".

في الحياة اليومية تظل الأشياء مرهونة لسيرورة اليومي ما استمر خضوعها لتلقائية الاستعمال، وغالبًا ما لا تكون في حيز الانتباه والتأمل إلا عندما تقع في قبضة تعثر استعمالها، حينئذٍ فقط تصبح موضوعًا. "إن العالم كبعد للظهور لا يثير اهتمامنا في الحياة اليومية... لا يخطر ببالنا عادة أن نهتم ببعد الظهور لأننا نكون مشغولين بما فيه الكفاية بتدبير أمرنا في الوضعيات التي تواجهنا في حياتنا باستمرار"([48])؛ فاستعمال الأشياء يقضي على فرصة تأملها بوصفها أشياء قائمة بذاتها مستقلة في وجودها ومن ثم يعيد القصف والقتل إنتاج حضورها عبر تغييب استعمالها وجعله ذكرى عالقةً بمستعمليها الغائبين. أو بعبارة أخرى: عندما يقتل الجانب الاستعمالي في الأشياء فإن ما ينطوي عليه الاستعمال من "فائضٍ" خارجٍ على حدود الوظيفة لا يقتل، ويتبدى لنا ما كانت تنطوي عليه الأشياء من جوانب كينونيتها من استقلال وثبات داخلي كانا يسحبان نفسيهما من نفوذنا الوظيفي، فلا يغيبهما الاستعمالُ.

قد يتمثل هذا "الفائض" في "الذكرى" "في كل شيءٍ كائنٌ يتوجع .. ذكرى أصابع وذكرى رائحة وذكرى صورة". وقد يتمثل في "الهَيْبَة" التي تُذْبَح عندما يلفظ البيت أشياءه وأسراره: "تتطاير الصورُ ... والثيابُ الداخلية والشراشف والمناشف كأسرار عائلية تُنْشَرُ على الملأ والخراب". كما يتمثل في "المشاعر والعواطف المؤجلة": "الكتب تتمزق كالكلمات التي لم يَتَسَنَّ لأصحابها أن يقولوها".

ولا تخفي القصيدة منطقها الذي يصدر عن "حاجة التراجيديا إلى تصويب البلاغة نحو التَّبَصُّر في حياة الشيء"؛ فإعلان الفحوى لا يُجْهِز على شعريتها، لأننا لسنا بصدد اكتشاف محجوبٍ، وإنما بصدد استبصار يكتبه ويشارك في اكتشافه. فلا يعود العالم مجرد حقل فاعلية أنشأته الذات لتثبت عبره وجودها "ذاكرة الناس التي أُفْرِغَت من الأشياء"؛ بل تعد الذات نفسها أيضًا- إزاء الأشياء- موجودًا من موجودات العالم، بل قد تغدو أحيانًا حقل فاعلية للأشياء؛ تثبت الأشياء وجودَها عبرها "ذاكرة الأشياء التي أفرغت من الناس". فالإنسان الذي عُدَّ أحيانًا مقياس الوجود، يقف هنا عند المسافة ذاتها مع الأشياء.

ويمكننا إعادة كتابة عبارته "كل هذه الأشياء ذاكرة الناس التي أُفْرِغَتْ من الأشياء، وذاكرة الأشياء التي أُفْرِغَتْ من الناس" على هيئة المعادلة التالية:

كل هذه الأشياء

=

ذاكرة الناس

(- الأشياء)

كل هذه الأشياء

=

ذاكرة الأشياء (- الناس)

لتكون بين يدينا هذه العلاقة:

ذاكرة الأشياء (- الناس)

=

ذاكرة الناس (- الأشياء)

ذاكرة بشرية تحتفظ بأشيائها وقد تغيب عنها، وذاكرة شيئية تحتفظ بأناسيها وقد يغيبون عنها! وما يجري على البشر من موت أو فقد؛ يجري أيضًاعلى الأشياء وتصبح كذلك موضوعًا للقتل.

إننا نتعرف على موتنا عبر موت أشيائنا، التي قتلت ولم تُدْفَن .. حيث نتعرف على موتنا لا بأن نُدْرِك غيابنا في ذاته، بل بأن نكون بالقرب من أشيائنا التي ماتت معنا، لكنها لم تُطْمَر أو تُدْفَن؛ فنعاني موتها وغيابنا عبرها.

عندما يمنح النصُّ الأشياءَ الموتَ؛ فإنه ينظر إليها بوصفها موجودات ذات حضور كليّ وكامل، ولا أدل على كلية هذا الحضور من جريان الموت عليها؛ إذ الموت كما يقول "كلاوس هيلد "هو الإمكانية القصوى للوجود، لأنه الإمكانية التي تهدد بأن تجعل كل الإمكانيات الأخرى غير ممكنة، حيث يتهدد وجود الموجود في كليته بالعدم، ويجعله مجردَ كونٍ ممكنٍ([49]). فـــ"في الموت وحده تتجلى كلية الموجود بما هو فَقْد، وتظل علاقته بالوجود من حيث إنه الوجود الذي فُقِدَ"([50]). ومن ثم عندما يمنح النصُّ البيتَ والأشياءَ التي يتضمنها "الموتَ" فإنما يمنحه الخاصيةَ الفريدةَ للموجود الإنساني؛ حيث "الفقدُ" الذي يفض به الموتُ إمكانياتِ الموجود الإنساني- طبقًا لهيدجر- هو الذي يجعل من الممكن الإحاطة الأنطولوجية بكليَّة الموجود([51]).

ومن ثم لم تعد علاقة ُهذه الأسر وتلك العائلات التي قُتِلَت في بيوتها ودفَنَها الهدمُ بالوجود علاقةَ "الموجود الذي فُقِد" بل الإجهاز على الذكرى التي كانت ترفد غيابه، الإجهاز على الإنسان العالق بذاكرة الأشياء.

شعرية التمثيل:
وفي نمط آخر من النصوص النثرية في "أثر الفراشة" يحقق النص من التنظيم ما "من شأنه أن يُحْكِمَ وثاق النص، بحيث لا يكون ثَـمَّ إمكان لجعل القصيدة تتبدى سابقة عليه أو لاحقة له"([52])، وهذا عبر التمثيل أو الأمثولة (Allegory)، أحد أهم الأشكال الفنية وثيقة الصلة بالطبيعة الأصيلة للفن الشعري والتعبير البياني بوجه عام، حيث يحيل التمثيل على طريقة في تقديم الواقع مُخْتَـزَلاً عبر صورة رمزية أو استعارة تمثيلية مركبة، يتجاوز المعنى فيها ما هو سطحي مباشر إلى مستويات ذات دلالة أخرى، تقع بين التمثيل والتورية، بين قول الشيء وإرادة آخر معه أو قول الشيء وإرادة آخر بدلاً منه[53]، على نحو يجعل النص دومًا مُدْرَجًا في سيرورة تأويلية مباشرة.

يقدم درويش في نصه النثري "البعوضة" تمثيلا من واقع الحياة اليومية شديدة الابتذال والمجانية، ليبني من خلال واقعة بسيطة عابرة تمثيلاً محكمًا إحكام أفضل ما يقدم في قصائد شعرية.

وهذا المعنى الذي قوامه "أثر الفراشة" يؤطر أيضًا نصًا مثل "البعوضة"، سواء في كليته النصية أو مكوناته الجزئية، أو تضامه مع غيره من نصوص اليوميات. حيث الانتقال الذي قد يبدو كما لو كان بدهيًّا من الأرق والضجر والوساوس إلى الحرب والقتل والشماتة .. هذا البسيط العرضي، كالبعوضة التي تحوم حولك وتحرمك النوم، حين يتصادى مع الفواجع الكبيرة التي قد تبدأ عرضيةً ثم يستهلكها الاعتياد ... كالقتل اليومي للبشر والبيوت .. يقول النص:

اَلبعوضةُ، ولا أَعرف اسم مُذَكَّرها، أشَدُّ
فَتْكاً من النميمة. لا تكتفي بمصّ الدم، بل
تزجّ بك في معركة عَبَثيّة. ولا تزور إلاّ في
الظلام كَحُمَّى المتنبي. تَطِنُّ وَتَزُنُّ كطائرةٍ
حربية لا تسمعها إلاّ بعد إصابة الهدف.
دَمُكَ هو الهدف. تُشْعل الضوء لتراها
فتختفي في رُكْنٍ ما من الغرفة والوساوس، ثم
تقف على الحائط... آمنةً مسالمةً كالمستسلمة.
تحاول أن تقتلها بفردة حذائك، فتراوغك
وتفلت وتعاود الظهور الشامت. تشتمها
بصوت عال فلا تكترث. تفاوضها على هدنة
بصوت وُدِّي: نامي لأنام! تظنُّ أَنك
أَقْنَعْتَها فتطفئ النور وتنام. لكنها وقد
امتصت المزيد من دمك تعاود الطنين إنذاراً
بغارة جديدة. وتدفعك إلي معركة جانبيّة
مع الأَرَق. تشعل الضوء ثانية وتقاومهما،
هي والأرق بالقراءة. لكن البعوضة تحطُّ
على الصفحة التي تقرؤها، فتفرح قائلاً في
سرّك: لقد وَقَعَتْ في الفخّ. وتطوي
الكتاب عليها بقُوَّة: قَتَلْتُها... قتلتُها! وحين
تفتح الكتاب لتزهو بانتصارك، لا تجد
البعوضة ولا الكلمات. كتابك أَبيض! البعوضة،
ولا أعرف اسم مُذَكَّرها، ليست استعارة ولا
كنايةً ولا تورية. إنها حشرة تحبُّ دمك
وتَشُمُّه عن بُعْد عشرين ميلاً. ولا سبيل
لك لمساومتها على هدنة غير وسيلة واحدة:
أن تغيِّر فصيلةَ دمك!

تحمل البعوضة رصيدًا مهمًا في تراث العربية في الحجاج والتمثيل، سواء في المثل ذاته ودلالته أو في الخطاب الانتقادي الدائر حوله ووجاهة التمثيل. فقد كانت دائمًا مضرب مثل للضعف وتفاهة القدر، فقد جاء في الأثر:

  • " لو وزنت الدُّنيا عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ، ما سقَى كافرًا منها شربةَ ماءٍ"([54]).
  • "...لو أنَّ أولَكم وآخرَكم وحَيَّكم ومَيِّتَكم ورَطْبَكم ويابِسَكم اجتَمَعوا على أتقَى قَلْبِ عبدٍ من عِبادي ما زاد ذلك في مُلكي جَناحَ بَعوضَةٍ ولو أنَّ أولَكم وآخرَكم وحيَّكم ومَيِّتَكم ورَطْبَكم ويابِسَكم اجتمَعوا على أَشقَى قَلْبِ عبدٍ من عِبادي ما نقَص ذلك من مُلكي جَناحَ بَعوضَةٍ...."([55]).
  • "إنه ليأتي الرجلُ العظيمُ السمينُ يومَ القيامةِ، لا يزنُ عند الله جناحَ بعوضةٍ"([56]).
  • "لا يَحْلِفْ أحَدٌ ولو عَلى مِثْل جَناح بَعُوضَة إلا كانَت وَكْتَةً في قَلْبِه"([57]).

كما كانت عند العرب مَضْرِبَ مَثَلٍ في التناهي والمبالغة فيه، فيقال "أضعف من بعوضة"([58]). وقال جل وعلا: )إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِيْ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوْضَةً فَمَا فَوْقَهَا) ([59]). كذلك سجلته الأدبيات العربية أليجوريًا، من خلال تمثيل حكائي بين بعوضة ونخلة، صار يضرب به المثل في الضعف والهوان: فقد جاء في قول أحدهم: "...فإنما مَثَلُك كمَثَل بعوضة وقفت على نخلة فقالت لها استمسكي فإني أريد أن أطير فقالت لها النخلة ما علمتُ بوقوفك فكيف يشق عليَّ طيرانًك"([60]).

قد يكون مفهومًا أن يكون الإزعاج والإقلاق في النص هو أساس العلاقة مع "البعوضة"، لكن أن يتحول الإزعاج والانزعاج إلى نزاع أو عراك وقتل بما يستلزم المسالمة والمصالحة والمهادنة ... فهذا ما يرشح لتصور آخر حول المغزى؛ حيث لا يكون المعول على "التعبيرات اللغوية، وإنما على "محتواها المفهومي" والتصور الذهني المعرفي المتولدة عنه. إذ يعيننا هذا التصور على فهم الأدب والخطابات والعالم على نحو أعمق وأوضح من مجرد التوقف الجزئي عند قطع لغوية متناثرة لا ترتبط بمرجعياتها المؤسسة لها. ولعل البعوضة "أمثولة" لهذه الرؤية التصورية؛ فالوقوف عندها عبر استعاراتها اللغوية الحرفية سيعشي العين عن حقيقة القتل وامحاء الهوية.

إن إزعاج البعوضة يتم تعيينه من خلال نموذج الحرب، أو في ضوئه. وباعتبار حيثية المؤلف والطبيعة الإجناسية للنوع الكتابي- كونه يوميات- يطفر الكيان الصهيوني إلى واجهة النص ومركز المعنى. لا لأن ثمة تراتبية شعرية ضمنية تقضي للموضوعات العامة والكبرى كالاحتلال والأوطان والسلام والحرب بالأولوية على الموضوعات الأخرى الشخصية والهامشية كإقلاق بعوضة شخصًا أو غيره؛ فالموضوعات إزاء الشعر- بوصفه فاعلية منتجة- سواء، ولكن لأننا نراها السمة المفهومية التي تصبغ النص وتسري في تجاعيده، وتدور حوله دوامات المعنى؛ فكل ما يُبْنَى من معنىً حول البعوضة، إنما يدعم موضوعة الحرب قبل أن يدعم موضوع البعوضة.

إن البعوضة يتم تنميطها استعاريًا، من خلال تصور الحرب وآلتها. بل إن المستعار منه، الذي يبدو موضوع النص للوهلة الأولى، ليقصي المستعار له شيئًا فشيئًا، من خلال تآذر مكوناته؛ فالهدنة والفخ والاستسلام وإصابة الهدف والطائرة الحربية التي تطن وتزن والغارة الجديدة .. كلها أمور لا تعدو إلا أن تكون حربًا خالصة؛ ليكون الكيان المغتصب أوالحرب هي الموضوع؛ وتغدو البعوضة هي التمثيل الذي يتزيّا برداء الموضوع.

إن ما يؤلف الاستعارة طبقًا للمنحى التصوري هو الترسيم الأنطولوجي عبر المجالات التصورية التي يُتَصَوَّر الشيء من خلالها ومن ثم تُـبَنْيِـنُ تصوراتُنا ما ندركه، وطريقةَ تعاملنا مع العالم وكيفية ارتباطنا بالآخرين. وبهذا يلعب نسقنا التصوري- كما يقول جورج لايكوف- دورًا مركزيًّا في تحديد حقائقنا اليومية([61]). إن الترسيمات التصورية الأساسية والتعميمات حول البعوضة تفضي بنا إلى الحرب وإلى الكيان الصهيوني في علاقته بالوجود الفلسطيني.

فعندما يكتب درويش عن "البعوضة" فإنما يكتب حينئذٍ عن "الحرب"، لا على سبيل المشابهة والتمثيل وإنما يكتب "خبرته بالعالم" الذي يأتيه عبر الأزيز والقصف والمهادنة والمراوغة والمساومة([62]). الذي ربما كانت البعوضة تعبيرا عنه. وهو في تصوره لهذه الحرب غير منفصل عن تجربته الجسدية اليومية مع عدو يترصده ولا سبيل للفكاك منه. حيث لا تغدو الحرب حدثًا عابرًا، مهما كان طويلاً وكارثيًّا، بل نسقًا لمعايشة الواقع حتى لو كان عند أقصى حدود البساطة كـ"تأريق بعوضة".

ويمكننا أن نتقدم بالتمثيل أكثر ليكون (الموضوع/ المصدر) ليس الحرب بل "الكيان المحتل"؛ لانطواء الحرب على سيناريوهات محددّة سجلها التاريخ، ولا تنفك تمارس يوميًّا ترتبط بمحاولات طمس التاريخ أو محوه والولوغ في سياسات للتطهير العرقي، فهذه البعوضة التي "تزن وتطن" هي التي أردت "البيت قتيلاً" في يوميته السابقة. وعلى هذا النحو تصبح الحرب موضوعًا فرعيًّا للتمثيل.

يمكن لقارئ أن يسلم بتأويل النص على الكيان المغتصب، ولكن قد لا يرى آخرون فيها أكثر من "بعوضة" لا غير، خاصة وأن النص ذاته يلح على نفي ما عدا ذلك، "البعوضة، ولا أعرف اسم مُذَكَّرها، ليست استعارة ولا كنايةً ولا تورية..."، وأنه يمكننا أن نمضي في قراءة النص قراءة حرفية متابعين معنى البعوضة وموضوعة الأرق للنهاية، ويمكن لها أن تكون هي مراد النص، إن كان يمكن للنص أن يكون له مراد. أو يرون أن تقديم المثل للكيان المحتل وشراسته وطغيانه بالبعوضة افتقاد للجامع، أو في أحسن الأحوال تهوينًا من شأنه وجهلاً بخطره، وكأنه يفترض أن تكون ثمة مشابهة جامعة؛ فيها من تناسب الحجم أو الضخامة والخطر ما فيها؛ إذ في البعوضة من "الصغر" و"الضعف" ما يقصيها عن أفق المشابهة، وربما من "الحقارة" أو "التفاهة" لتكون موضوعًا شعريًّا أو أفقًا للتشبيه، عند شاعر كان يكتب عن الأرض والنضال..

لكن قارئًا آخر ربما يرى أن للشاعر الحق، كل الحق، في أن ينفي ما يشاء له أن ينفيه أو يثبته، لكن تظل القصيدة- كما يقول درويش نفسه- "محتاجةً إلى ما يشبه الخلل الماكر لكي نصدق الشاعر حين يكذب"! ([63]) وأن قوله"ليست استعارة ولا كناية" ليس إلا شكلاً من ارتباط الاستعارة في نموذجها الأولي بالشعر والقصيدة، الذي ينفيه ظاهرًا ويثبته ضمنًا، فيثبتها من حيث ينفيها ويكتب بها من حيث يتهرب منها ويتنصَّل، وهو الذي تكلم في النص السابق عليه مباشرة في ترتيب الديوان عن "مخاتلة المجاز". فضلاً عن أن يكون هذا التنصل الظاهري مناقشةً معرفيًّة لإعادة فهم علاقة الشعر بالمجاز، وعلاقة المجاز بالشعر.

ولقد بنى النص هذا النمط من التوازن عبر أنماط ثلاث من التراكيب الاستعارية:

المجموعة الأولى

المجموعة الثانية

المجموعة الثالثة

-لا تكتفي بمص الدم

-تزج بك في معركة عبثية

-أشد فتكًا من النميمة

-لا تزور إلا في الظلام

-تزن وتطن كطائرة حربية

-ولا سبيل لك لمساومتها على هدنة

-دمك هو الهدف

-لا تسمعها إلا بعد إصابة الهدف

غير.. أن تغيِّر فصيلةَ دمك!

-تختفي في ركن ما من الغرفة والوساوس

-آمنةً مسالمةً كالمستسلمة

-لا تجد البعوضة ولا الكلمات، كتابك أبيض

-تقف على الحائط

-تفاوضها على هُدْنَةٍ

-تحاول أن تقتلها بفردة حذائك

-الطنين .. إنذارًا بغارة جديدة

 

-تراوغك وتفلت وتعاود الظهور الشامت

-لقد وقعت في الفخ

 

-تشتمها بصوت عالٍ فلا تكترث

-قتلتها .. قتلتها

 

-نامي لأنام

-مساومتها على هدنة

 

-لكنها وقد امتصت المزيد من دمك تعاود

 

 

الطنين

 

 

-تحط على الصفحة التي تقرأوها.

 

 

-تطوي الكتاب عليها بقوة

 

 

تختص كل قائمة بنمط من التراكيب الآتية:

  • في المجموعة الأولى تراكيب تعمل في اتجاه سلوك البعوضة اليومي، وعليها تسير قاطرة النص وبناء معناه الظاهر أو موضوعه "الهدف".
  • وفي المجموعة الثانية تراكيب تعود إلى موضوعٍ آخر قد يكون "الحرب"، هذا الموضوع هو "المصدر" الذي عنه تأخذ الاستعارات منطقها.
  • وفي المجموعة الثالثة تراكيب تتحرك بين المجالين، تدعم المجال المصدر وتؤكد منطقه، ولكنها لا تبتعد عن المجال الهدف مع شيء من اعتماد التأويل ومنطق المبالغة.

وهنا نلحظ أنه عند اعتماد تراكيب المجموعة الثانية (تراكيب المجال المصدر) والانتقال من (الموضوع- الهدف) إلى (الموضوع- المصدر) باعتباره هو المعنى الشعري الذي يتعقبه النص، تعود- مع التوسع والتأويل-معظم تراكيب المجموعة الأولى لتندرج في أفقها.

وتجدرالإشارة إلى أن المبدأ الحاكم لهذه الأمثولة التي يقدمها النص للاحتلال عبر استعارة البعوضة، التي تعود إلى تصور الاحتلال عدوًا يمص الدم، مقتاتًا عليه على نحوٍ "روتيني" بما يجعله في قلب "اليومي"- لا تنفصل عن التصور ذاته الذي قدمه درويش قبل هذا النص بسنوات في نصه الشهير "عابرون فبي كلام عابر"

"أيها المارون بين الكلمات العابرة

احملوا أسماءكم وانصرفوا

واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا ..

إلى أن يقول:

"فخذوا حصتكم من دمنا .. وانصرفوا"([64])

من "مص" الدم اعتياشًا عليه وتقوتًا إلى اقتسامه "حصةً" وكلاهما واقع في قلب الروتيني واليومي. ثم يصر على أن هذه "ليست استعارة ولا كناية ولا تورية"، لأننا بالفعل أمام مشهد دموي واقعي يتطامن دونه المجاز. ليظل على وضوحه من المحتل، من حيث اختار الحجر/ الانتفاضة ليحرك مدار الأسئلة، وظل يكتب عن الأرض والوجود.

غير أن البعوضة التي كان تتخذ مثلا على الضعف والتناهي في الهوان تتخذ أيضًا للتمثيل على القوة والفتك، فيتجاذبها تصوران مختلفان يعملان معًا، قد يبدوان على نحو من التعارض الأولي، غير أن أحدهما فرع عن الآخر، فتصور قوتها لا ينفصل عن هذا الوسم بالضعف والهوان والركون إليه. وليس درويش أول من كتب من الشعراء عن أذى بعوضة أوالضجر بها؛ فالجاحظ يقول عنها إنها تؤذي بالنهار بعض الأذى، وإنما سلطانها بالليل، حيث يشتد كَلَبُها([65]). وهذا الراجز يشتكي أرقه في ظلمة الليل في عدة أبيات أيضًا، منها:

ولَيلةٍ لم أدرِ ما كَراها

 

أمارِسُ البَعُوضَ في دُجَاها([66])

بالإضافة إلى ابن شهيد الأندلسي، الذي ربما كان مرجعيةً لمحمود درويش في بَنْـيَـنَـة إيذاء البعوضة عبر تصور "الحرب"، يقول: "تؤذيه بإقبالها، وتعرفه بإراقة دمه ما لها، فتعجز كفه، وترغم أنفه، وتضرج خده، وتفري لحمه وجلده، زجرتها تسليمها، ورمحها خرطومها ..."([67]).

هذه الحرب نجد لها أيضًا ظل في الموروث العربي بما يدعم دلالتها النصية القائمة على شدة إيذائها وضراوتها، على خلاف ما يبدو من تأسيس دلالي حولها من حيث ضعفها وهوانها؛ يقول الجاحظ عن جنس البعوض: "عُذِّبَتْ به أمم"([68]). ومنه ما وصلنا من روايات حول "النمروذ/ النمرود" حيث عوقب جيشه ببعوض ملأ السماء ودخلت إحداها منخره وصعدت إلى دماغه! وعُذِّب بها أربعين يومًا لا ينام ولا يطعم([69])!

يقول درويش: "البعوضةُ، ولا أَعرف اسم مُذَكَّرها، أشَدُّ فَتْكاً من النميمة."... قد تبدو عبارة "ولا أَعرف اسم مُذَكَّرها" مجرد عبارة معترضة، لا تدعونا إلا إلى الاهتمام بما بعدها؛ وهو كونها "أشد فتكًا من النميمة"، فسواء كنا نعرف الكلمة المُذَكَّرة من اسم البعوضة المؤنث أو لا نعرفه؛ فإن ذلك لن يغير من حقيقة الفتك شيئًا. فالمعول على الأثر وحقيقة الأفعال لا على الأسماء.

قد يبدو هذا وجيهًا على نحوٍ.. غير أنه على صعيد آخر قد يدعونا للتفكير فيما نألفه ونعتاده لدرجة أننا لا نتساءل حوله. فاستشارة سريعة لبعض الموسوعات والمعاجم، نجدها تقدم لنا بعض البداهات التي قد لا يعرفها البعض، وثيقة الصلة بالنص، فالمعاجم تذكر عنها أنها: "تغتذي الإناثُ منها بدم الإنسان ... أمّا الذُّكور فتغتذي برحيق الأزهار"([70]). ومن ثم نحن أمام "هي" لا "هو".. هي التي تغتذي بـ"مص الدم" و"تزجّ بك في معركة عَبَثيّة. ولا تزور إلاّ في الظلام"! ومن ثم لا يحتفظ الوعي الشعبي بذكرٍ لهذا "المذكر" الذي يغتذي برحيق الأزهار، ولا يمثل في الوعي إلا "الأنثى"، إلا القوي المؤذي! وفي النهاية إلا "هي" التي هي الحرب.

ولا تتخلى الاستعارة هنا عن تعزيز قوة أدائها بالسخرية والفكاهة، ليرجح من كفة أنها "ليست استعارة ولا كناية ولا تورية" عبر هذا التناص الواضح والقريب بين صيحة النصر المزعوم بقتل البعوضة: "قتلتها.. قتلتها" وما تحفظه الروايات حول أرشميدس الذي جرى عاريًا من حوض الاستحمام صائحًا "وجدتها .. وجدتها"، معتقدًا أن ما اكتشفه من ظاهرة ستحل معضلته الرياضية. لكن محاولة الشاعر في قتلها لا تمنى إلا بالفشل، "وحين تفتح الكتاب لتزهو بانتصارك، لا تجد البعوضة ولا الكلمات"؛ فالبعوضة التي وقفت على صفحة الكتاب محت كلماته وهربت! "كتابك أبيض". وإن كان البياض في الكتاب والصفحة والصحيفة يعنى الطُّهْرِ والنقاء والبُـرْء، فإنه في هذا السياق لا يغادر دلالة "المحو" و"الفراغ"؛ فبَيّضَ الشيءَ جعله أَبْيَضَ. لم يُسَوَّد بكتابة، ولا بعلمٍ أو تاريخ. فهذا العدو لا يسطو فقط على الجغرافيا، إنه يمحو الثقافة والتاريخ.

يقول درويش عن البعوضة: "ولا تزور إلاّ في الظلام كَحُمَّى المتنبي". عندما يقرن النص أرقها بحمى المتنبي فإنه لا يشبهها بها ولا أن أرقها كأرق الحمى فقط؛ إنه يستحضر حالة كلية متشعبة وحزمة من الدلالات والمعاني والسياقات المتشعبة تقلبت فيها حمى المتنبي؛ وفارقت مجرد زيارتها في الظلام؛ بل تعاف المطايا والحشايا وتبيت في العظام.

وزائـــرتي كأن بــــــها حــــــــــــــــــــــياءً

 

فلـيس تزور إلا في الــــــــظــــلام

بذلت لها المـــطارف والحشــــــايا

 

فعـــافتها وباتت في عــــــــظـــامي

يَضيقُ الجِلدُ عَن نَفسـي وَعَنهـا

 

فَتوسِـــعُـهُ بِـأَنـواعِ السِــــقـام

جَرَحــتِ مُجَرَّحًا لَـم يَبــــــــقَ فيـهِ

 

مَكـانٌ لِلسُيـوفِ وَلا السِــهـامِ([71])

فالبعوضة التي تبنين على طول النص عبر استعارات منها الطائرة الحربية تبنين هنا عبر استعارة الحمي المبنينة أصلاً من خلال تصور المقاتل في أفق من الإمراض والجروح والقروح والغُسْل والموت. وسيظل نص المتنبي يؤشر على اجتماع ألمين على درويش اجتماعهما على المتنبي؛ ألم المرض والقلق والأرق وألم الغربة والحيلولة دون تحقيق المراد. وهذه النفس التي تضيق بما اجتمع عليها:

بِنتَ الدَهـرِ عِنـدي كُـلُّ بِنـتٍ

 

فَكَيفَ وَصَلتِ أَنتِ مِـنَ الزِحـام

هكذا يقول المتنبي.

وليس ببعيد أن نرى في الإشارة للحمى في نص المتنبي في مطلع نصه الذي يرد ذكرها فيه تأملاً يجسد قلق درويش في علاقته بالمكان والآخرين وعلّة الجسد وخصومة آخرين من شانئيه، ودافع كل منهما عن إبداعه في شعره. يقول المتنبي:

أقَمْتُ بأرْضِ مِصرَ فَلا وَرَائي

 

تَخُبُّ بيَ الرّكـابُ وَلا أمَامي

وَمَــــلّنيَ الفِرَاشُ وَكـــانَ جَــــنبي

 

يَمَـــــلُّ لِقَـــــاءَهُ في كُــــــــــلّ عامِ

قَــليلٌ عَائِدي سَقِـــــــــــمٌ فُؤادي

 

كَثِيرٌ حَاسِــــدي صَعْبٌ مَرَامي

عَليـــــــــــلُ الجِسْمِ مُمْتَنِعُ القِيَامِ

 

شَديدُ السُّـــكْرِ مِنْ غَيرِ المُدامِ

لم تكن البعوضة في النص موضوعًا شعريًّا فقط، بل كانت "ميتاشعر" إذا جاز لنا أن نقول، كانت دالاً لخطابٍ حول اللغة الشعرية ذاتها، امتدادًا للخطاب القرآني حول قوله تعالى: )إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِيْ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوْضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِيْنَ آمَنُوْا فَيَعْلَمُوْنَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِيْنَ كَفَرُوْا فَيَقُوْلُوْنَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيْرًا وَيَهْدِيْ بِهِ كَثِيْرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِيْنَ(([72]). فقد جاء في الأثر أن لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون، ما بال العنكبوت والذباب(*) يذكران؟ فأنزل الله تعالى قوله: )إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها (أي "لا يمتنع من ذِكْرِه"([73]). وقيل إن المنافقين قد استنكروا أن يضرب الله- جل وعلا- أمثالاً في خطابه؛ نحو )مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا( ([74]) و)أو كَصَيِّبٍ من السماء(([75]). فجاءت الآية جوابًا لِنَكيرهم ما ضرب من الأمثال في هذه السورة بقولهم : )مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً(. وأن الأمر ليس فقط على موافقة المعنى؛ إذ كان بعضها تمثيلاً لآلهتهم بالعنكبوت وبعضها تشبيهًا لها بالذباب في الضعف والمهانة، وإنما أيضًا هي "خبر منه جل ذكره أنه لا يستحيي أن يضرب في الحق من الأمثال صغيرَها وكبيرها"([76]).

وجه آخر للبعوضة في هذه العلاقة السجالية راجع- إلى جانب اعتبار "الضَّعف والقِلَّة والصِّغر"- إلى قوله تعالى: "بما فوقها". فَبِعَدِّها مثالاً لتناهي الصِّغَر؛ يكون تأويل "ما فوقها" أي ما هو "أعظم منها"، وقيل: "ما فوقها في الصغر والقلة"([77]). فما فوقها أي فما فوقها من الكِبَر والعِظَم من أمثلة القرآن الكثيرة؛ إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة، لا على المطلق وإنما فيما يلاحظ ويعاين دائمًا، ولذا بَعَّضَها الحديث النبوي؛ "جناح بعوضة"، في معرض تمثيل آخر يدور على القِلَّة واليُسْر. ويبقى الحوار حوارًا حول اللغة القرآنية، حول ما يضربه الله مثلاً وما يتوقع الآخرون بناءً على ما ألفوه أو توهموه أو ما يتصورون أنه حق لهم وملكية..

ولم يكن محمود درويش أيضًا ببعيد عن سجال نقدي واسع حول لغته وموضوعاته الشعرية خاصة حينما عده البعض متخليًا عن قضاياه الوطنية عندما أخذ يكتب في موضوعات لم يروا فيها الأرض والمقاومة الفلسطينية، وكأن عليه أن يكون مدوِّنًا للقضية أو مؤرخها الشعري، عندما لا يرون الوشيجة صارخة بين ما هو ذاتي ووجدان الجماعة على النحو الذي ألفوه في وجهه الصراعي مع الآخر المحتل، عندما يتحدث عما هو عاطفي وما هو إنساني من غير أن يروه ظلاً للأرض أو السياسة.

فيكتب يومية تحت عنوان "اغتيال":

يغتالني النقاد أحيانًا

يريدون القصيدة ذاتها ...

والاستعارة ذاتها ....

.... وإن عثـرت على بلاغة عشبة

قالوا: تخلَّى عن عِناد السنديان"([78]).

ومبكرًا جدًا كان يرى أن "الكثيرين من الشعراء الذين يستمدون وهم شرعيتهم الشعرية من مواطنيتهم الصالحة، ومن تضامنهم مع الثورات، قد تحول الوطن في أفواههم إلى حشف، وتحولت الثورات في أفواههم إلى قمع لغوي"([79])، فالالتزام المحض ليس وعيًا، وإنما هو سلطة. كما أن القضايا الكبرى لا تنفصل عن وجوه يومية كثيرة عابرة. وإنما المعول على مراجعة المسلمات وتمحيص البداهات وتكون الكتابة عن البعوضة أو بها مساجلة بفعل الكتابة حول مشروعه الوطني.

سردية الشعري:
في نموذج آخر من اليوميات،يقول درويش في يومية: "البنتُ / الصرخة":

على شاطئ البحر بنتٌ. وللبنت أَهلٌ
وللأهل بيتٌ. وللبيت نافذتان وبابْ...
وفي البحر بارجَةٌ تتسَلَّى
بصَيْدِ المُشَاة على شاطئ البحر:
أَربعَةٌ، خَمْسَةٌ، سَبْعَةٌ
يسقطون على الرمل، والبنتُ تنجو قليلاً
لأنَّ يدًا من ضبابْ
يدًا ما إلهيَّـةً أَسْعَفَتْها، فنادتْ: أَبي
يا أَبي! قُمْ لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا !
لم يُجِبْــها أبوها الـمُسَجَّى على ظلِّهِ
في مهبِّ الغيابْ

دَمٌ في النخيل، دَمٌ في السحابْ

يطير بها الصوتُ أَعلى وأَبعدَ مِنْ
شاطئ البحر. تصرخ في ليل بَرّية،
لا صدى للصدى .
فتصير هي الصرخةُ الأبديَّـةُ في خَبَرٍ
عاجلٍ، لم يعد خبرًا عاجلاً
عندما
عادت الطائرات لتقصف بيتًا بنافذتين وبابْ !

رصدت عدسة مصور صحفي الفتاة الفلسطينية "هدى غالية"، ذات السنوات العشر، وهي تبكي بالقرب من جثمان سبعة من أفراد عائلتها على شاطئ بحر غزة؛ حيث قصفت البوارج الإسرائيلية شاطئ غزة في بيت لاهيا، وقتلت عائلة هدى؛ فاستشهد والدها وخمسة من أشقائها. وبدت في الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية وهي تبكي في الرمل ملتاعة، بجوار جثة أبيها وتقول: "بابا.. بابا.. صوروا.. صوروا". ادعت التحقيقات الإسرائيلية التي جرت لاحقًا أن ما حدث لعائلة هدى لم يكن بسبب القصف، بل بسبب لغم أرضي على الأراضي الفلسطينية! محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية وصف الحادث بالمجزرة وطالب بتدخل دولي عالمي، وبعث وزير الدفاع الإسرائيلي ببرقية عزاء ورفض رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت أي تحقيق دولي في الحادثة معتبرًا أن جيش الدفاع الإسرائيلي من أكثر الجيوش أخلاقية([80]).

في البحث عن تمييز كثافة ما هو سردي وما هو شعري غنائي في النص السابق سنعود إلى رومان ياكبسون في تصنيفه المبكر لأنماط اللغة، وتمييزه، تبعًا لنظرة وظيفية، بين ما يُعَدُّ لغة ذات مظهر "انفعالي" أو "تأثري" وأخرى ذات مظهر "مرجعي" أو "تواصلي"- دون أن تحتكر رسالة ما وظيفة أو أخرى دون سائر الوظائف المتعددة، وإنما المعول في تنوع الرسائل على الاختلافات الهرمية بين وظائف اللغة المتعددة. وفي مخططه التواصلي الأشهر يُولَّد المتكلم أو المرسل وظيفة لسانية "انفعالية" أو "تعبيرية"، تعبر بصفة مباشرة عن موقف المتكلم تجاه ما يتحدث عنه. وتنزع- كما يقول- إلى تقديم انطباع عن انفعال معين([81]). في حين يولد السياق، الذي تحيل عليه السيرورة اللسانية أو فعل التواصل اللفظي، أو ما يُدعى بــ"المرجع" وظيفة "وضعية" أو "معرفية" أو "مرجعية"([82])، ولكون معظم الرسائل مآلها إلى الإفهام كانت الوظيفة المرجعية هي المهيمنة على أغلب الوظائف الأخرى، ومن ثم ينبغي أن تؤخذ المساهمة الثانوية للوظائف الأخرى في هذه الرسائل- كما يقول- بعين الاعتبار.

وإذا كان تمييز ياكبسون السابق ينطلق من "المرجع" فسنأخذ على طريق تصنيف عبارة ما أو رسالة- بتعديل "جون كوين" عليه حيث يميز بين "المرجع" و"المحتوى"، وحيث يرى أن تخصيص طبقة ما من القول لغويًا لا يكون انطلاقًا من مرجعيتها، لكن فقط انطلاقًا من محتواها، وحيث يميز أيضًا بين المعنى و"الفعالية المؤثرة" على المتلقي([83]).

وأتصور أن هذه النظرة اللسانية تعيننا شعريًّا على تمييز كثافة ما هو سردي وما هو غنائي في نَصٍّ ما وتنضيد أسلوبيته.

يبدأ النص بهذه العبارات القصيرة التي تبدو لغويًا، موغلة في مرجعيتها :

على شاطئ البحر بنت، وللبنت أهلٌ

وللأهل بيت وللبيت نافذتان وباب..

لا وظائف أخرى حاضرة في هذا السرد التقريري، الممعن في إبداء تقريريته ربما عبر تحاشي "التعريف"، الذي يسلمه، مغلفًا بتقريريته، إلى اللاتحدد حيث الشعر. فالبنت التي لازمها التعريف في العنوان، ولازم صرختها (البنت/ الصرخة) وبادل بينهما، والذي كان فيه إلحاق (أل) بها مغنيًا عن اسمها؛ يغلفها التنكير ويغلف كل ما يتصل بها؛ عدا الشاطئ، مسرح المأساة الفاصل بين القاتل والضحية؛ بين الصياد والفريسة. "على شاطئ البحر بنت" وكل تفصيلة أخرى تبني دلالة أو تقدم سردًا حول البنت تُقَدَّم مُنَكَّرة؛ أهل، بيت، نافذتان، باب. وكل تعريف يراكم جملاً حولها لا يعمل من حيث الوجهة الشعرية إلا في عكس اتجاه ما يبنيه، فمع كل تحديد جديد لا نتوصل إلا لمطلق التعميم؛ فبعد "بنت على شاطئ البحر، وللبنت أهل، وللأهل بيت، وللبيت نافذتان وباب"، ليس بين أيدينا شعريًّا سوى "بنت على شاطئ البحر". كان يمكن لها أن تكون أي بنت؛ مجرد بنت! لكنها غدت "البنت" بأل التعريف، غدت "الصرخة" بـ(ألـ) التعريف أيضًا، لتكون المسافة بين الفتاة والمشهد، المسافة بين الفتاة والقصيدة، هي المسافة بين دوامة التنكير واستقطاب التعريف وامتلاك العَهْد.

وعبر القصيدة يحضر هذا البحر وشاطئه بقوة، ليمثل جغرافيا للإقصاء والتهميش، بل للإنكار والحصار؛ فالقاتل في "البحر"، والبنت على "شاطئ البحر"، القاتل في المركز والبنت في الهامش، القاتل " في البحر" يملكه ويتسلى بالقتل، والمقتول على الشاطئ هدف مجانيّ للتسلية، بل إن الشاطئ الذي كان العنصر المعرّف الوحيد في الصورة، كان نكرة أيضًا تتعرف بالنسبة إلى القاتل وحيزه. والبحر الذي يبدو مجرد إطار فضائي للحدث، يبدو ضالعًا في المأساة؛ فـ"غَزَّة" المحاصرة من كل جانب يبخل عليها البحر أيضًا بفضائه الرحب، ويغلق في الحقيقة الدائرة على الأرواح ويقتلها. ويضحى تماس الماء مع اليابسة، التي هي نقطة وصول ونجاة وأمان ساحةَ رِمايةٍ وقنصٍ.

إذا كان السطران الأول والثاني محسوبين على اللغة المرجعية؛ فإن اللغة الانفعالية تبدأ في التسلل من السطر الثالث شيئًا فشيئًا إلى جسد النص إلى أن تصل إلى ذروتها في وسطه. قد تبدو عبارة من مثل "بارجة تتسلى بصيد المشاة" عبارة مرجعية إذ تحيل على محتوى مادي وسياق يمكن تصوره، لكن هذا المحتوى المادي يبدو انفعاليًا من حيث طبيعته، أو من حيث فعاليته المؤثرة على المتلقي. وهو ما ينطبق تمامًا على تعداد هؤلاء القتلى: "أربعة، خمسة، سبعة"، الذي هو تقرير مرجعي محض، لكنه أيضًا ذو طبيعة انفعالية، ليفيد معنى "الكثرة" من وراء الرغبة في محاولة التحديد، وكذلك" يسقطون على الرمل".

ولكننا عندما نصل لندائها: "أبي.. يا أبي قُمْ لِنرجع" نصل إلى ذروة خاصيته الانفعالية، حيث تحيل العبارة على دلالة انفعالية محتوىً ومرجعًا. تعود بعدها لتزاوج بعض التعبيرات مرة أخرى بين المرجعية محتوىً، والانفعالية مرجعًا، ".. فالبحر ليس لأمثالنا"! فالمهددون بالقتل ليس لهم إلا الأخبية.

وربما كان التفسير ذاته ينسحب على عبارته التالية" "البنت تنجو قليلاً"، غير أن الوصف بالحال "قليلاً" يشتت التصور المرجعي؛ فهل يمكن على التحقيق تصور "النجاة" من خلال مبدأ الكم؛ هل تُبَنْيَنُ "النجاة" من خلال استعارات القلة أو الكثرة؟

إذا كانت النجاة هنا هي "السلامة من الموت" وليس مجرد الأذى، فلا معنى للقلة والكثرة في الانتساب إلى الموت أو النجاة منه، فالموت لا يتجزأ.

غير أن ثمة تلميح يتجاوز مواضعة (اللغة)؛ حيث نجد في الأفق التراثي استعمالاً آخر يتصور النجاة من الموت "موتًا" أيضًا، "فاليوم ننجيك ببدنك"([84]) أي نُهلِككَ. لقد كانت نجاة جسد فرعون موسى علامة الإهلاك والموت المحقق، جسدًا كاملاً طافيًا على الماء، لكنه بلا حياة. ولم تكن الفتاة الناجية من القصف "لأن .. يدًا ما إلهيةً أسعفتها"، الملقاة إلى جوار أبيها تدعوه للعودة إلى للديار- ببعيدة أيضًا عن ذلك.

وهنا يتنـزل التساؤل حول معنى "النجاة" بالنسبة للفتاة، الذي قد يعني عينيَّة الإهلاك أيضًا. إن تصور "القلة" تصور كميّ، لكنه يحيل مع "النجاة" إلى تصور كيفي، ليعود هذا الأخير فينقض معنى النجاة ويقوضها. لقد أزهقت روح فرعون وبقي الجسد، وأزهقت روح الفتاة وبقي الجسد أيضًا. لقد نجت "قليلاً" لتضحى أيقونة للمروعين من قبل آلة الحرب:

"فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية"!

لــ" يطير بها الصوت أعلى وأبعد من

شاطئ البحر.. ".

يعيد النص صياغة الخبر الذي كان عاجلاً في لحظة ما، للمشهدٍ الذي تناقلته معظم وسائل الإعلام المهتمة بالواقع العربي، وعلى الرغم من هيمنة الواقع الصوري الذي يُعَدُّ مصدرًا لسائر تناولات الحادثة، إلا أن اللغة الشعرية تستطيع عبر تلميحات، قد تكون شديدة الرهافة، أن تقرأها في إطار أنساق ودلالات أخرى لا تقدمها جمالية الصورة الخبرية.

كانت صرخة المسيح على الصليب: "إلهي، إلهي: لماذا تركتني" استغاثة بشأن لحظته القاصمة، لقد كان النبي عند هذه اللحظة من الألم والعذاب بانتظار معجزة؛ "لماذا نسيتني"، لماذا تخليت عني! وكانت الحشود حوله ممن آمنوا به بانتظار معجزة، "يطير بها الصوت أعلى وأبعد من شاطئ البحر". وكما بدأ الجَمْع المحتشد حول المسيح بالتفرق شيئًا، لأن معجزة لم تحدث، ولأن معجزة لن تحدث، ولو أن شيئًا ما كان سيحدث؛ لكان قد حدث! فـــ"لا صدى للصدى"، كما يقول درويش. ينصرف كذلك المحتشدون حول صورة البنت وصرختها في التلفاز والصحف، لأن معجزة لم تحدث، ولن تحدث! هذا الأمل الذي كتب عنه درويش في يومية أخرى: "كلما فكّرَ بالأمل، أنهكه التعب والملل"([85]) وهو ما قد يعضد بعض تأويلات معنى الصرخة الأبدية للمسيح، "ليس الأمل نقيض اليأس، ربما هو الإيمان الناجم عن لا مبالاة آلهة بنا"([86]). فلا صدى للصدى، والخبر العاجل لم يعد خبرًا عاجلاً، غير أن آلام المسيح التي أورثته "أمجاده" بموته من أجل خطايا اقترفها آخرون، أخلفت الفتاة وغيرها ممن لم يقترفوا إثمًا- وَعْدها؛ فالفتاة الصرخة لم تَفْتَدِ بصرختها أو بجسد أبيها المُسَجَّى وأشلاء إخوتها، أرواحَ أقرانها من بعدها؛ إذ لم تتصالح آلة القتل الغاشمة مع الأبرياء، ولو لبعض الوقت، عندما "عادت الطائرات لتقصف بيتًا بنافذتين وباب"!

فبالإضافة إلى تناول النجاة المحدودة للفتاة في ضوء نجاة فرعون تتناول صرختها في ضوء "الصرخة الأبدية" للمسيح على الصليب: "ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إِيلي، إِيلي، لَـمَّا شَبَقْتاني؟ أي: إلهي، إلهي، لماذا تركتني ؟"([87]).

وهنا يمتزج المشهد المهيب للمسيح عند الصلب، بمركزيته، باعتباره أيقونة للخلاص وتحمل الآلام نيابة عن البشر بمشهد الفتاة إزاء جسد أبيها المُسَجَّى على الرمال. غير أن رمزية المسيح عبر صرخته ودمه المسال من جنبه تتأرجح في الصورة بين البنت وأبيها الممدد على الرمال، فكل منهما كان "ذبيحةً" بمعنى من المعاني، وكلاهما كان "ذبيحةَ إثمٍ"، كما كان المسيح أيضًا في "تنميط التوراة" على ما سنبـيّـن، غير أنهما كانا ذبيحتا إثم غير مختارَيْن في هذا، كما لم يفتديا به أحدا!

"دم في النخيل، دم في السحاب"

فالدم في عُرف النص دم نبيل لا يراق على التراب، وإن تناثر في الصورة الإعلامية على الرمال. دم لا يُهدر على نحو مُهيْن، كما كان يعتقد ملوك آسيا القدماء في الدم الملكي.([88]). ومن ثم اقترن الدم برمزين؛ أحدهما رمز للخصوبة هو النخيل، فالدم ليس في الملابس والأشلاء المتكومة على الرمال، كما نقلتها عين الكاميرا، الدم في "النخيل" في عرف محمود درويش الشعري حيث يُعلق القلب([89])، حيث يليق بـ "أنكيدو" أن يسند جلجامش ظِلّه عليه وهو يموت بين يديه([90])، حاضنه الذي كبر عليه([91])، خصوصيته وهويته([92])، الخصوبة والتاريخ والتجمل والفن([93])، البقاء والمنزلة الكريمة([94])، الهبة والخير والمعونة([95]). والآخر رمز للنقاء والطُهر، هو الماء نقيًا ممثلاً في السحاب. فالخيال المادي على نحوٍ عام، يجد في الماء، كما يقول "غاستون باشلار" المادة النقية بامتياز، النقية ببساطة في الوقت ذاته([96]). واجتماع هذين العنصرين؛ الدم والماء، لا يفارقان مشهد صلب المسيح أيضًا؛ إذ طُعنَ وهو على الصليب بحربةٍ في جنبه ليتأكدوا من موته: "أما يسوع، فلما وصلوا إليه ورأوه قد مات، لم يكسروا ساقيه، لكن واحدًا من الجنود طعنه بحربة في جنبه، فخرج لوقته دم وماء"([97]). ولئن كان خروج الدم في المشهد الواقعي لطعن المسيح يسوغ خروج الدم؛ فإن خروج الماء، ما لم يكن سيلانًا غشائيًّا، لا يمكن النظر إليه إلا بعين رمزية الطُهر والنقاء، إذ يشير العنصران إلى هبته الروح وحقيقية الموت؛ حيث يشير الماء إلى الروح ويشير الدم إلى الحياة الأبدية.

وفي ضوء رؤية تأويلية للعهد الجديد لا تنظر للمفاهيم المسيحية بوصفها مفاهيم جديدة، بل بوصفها تحققًا لمفاهيم العهد القديم، تُرَدُّ إليه سائر الوقائع وتجد في إشاراته نبوءة بها، أو كما يقال من أننا نرى العهد الجديد مخفيًا في العهد القديم، كما نرى العهد القديم مكشوفًا في العهد الجديد "في تنميط" واضح كما يقول نورثروب فراي يعمل بوصفه "مجازًا لغويًا يتحرك في الزمان" ([98]). في ضوء هذا تُرى صرخة هدى غالية مخفية في صرخة المسيح، كما ترى صرخة المسيح مكشوفةً في صرخة هدى غالية. بل وباعتبار أنّ حركة التنميط بين العهدين القديم والجديد كانت تعمل في اتجاهين؛ نحو المستقبل ونحو العالم الأبدي، كما يقول "فراي"([99]). فإن الفتاة تنازع المسيح "أبدية" الصرخة، يقول درويش: "فتصير هي الصرخة الأبدية". بأل التعريف، ولم لا، وقد غدت أثرًا من أثر الفراشة، خاصة بعد أن محقها التداول والتكرار، فغدت خبرًا عاجلاً، لم يعد خبرًا عاجلاً، فأثر الفراشة، نعم، قد لا يرى، لكنه أبدًا، لا يزول.

لكنها هنا تناديه:

"يا أبي! قُمْ لِنَرْجع..

لم يُجِبْها أبوها المُسَجّى على ظِلّه..."

في حين قام المسيح بعد صَلْبه، وأكل مع أصحابه الطعام، "أراهم أيضًا نفسه حَيَّا ببراهين كثيرة بعد ما تألَمَّ"([100]). لم يجبها أبوها المسجّى على ظله. لم يرجع معها. وهنا يحكم الامِّحاء والتلاشي المشهد كلّه الذي بُتِرَ لتناسل الأثر عن الأصل، وامحاء الأثر بعد امحاء الأصل؛ من الجسد للظل، ومن الصوت للصدى ومن الأب للبنت، ومن الأسرة لغيرها من الأسر. فوصف الأب بــ"المُسَجَّى على ظلّه" تعني دلالة "السكون"، كما تعني دلالة "الموت" بغياب الموصوف الشائع وصفه بتلك الصفة "الميت"([101]). غير أن هذا الوصف "مُسَجّى" يُضمَّن في التركيب معنى الوصف "مُمَدَّدُ" على تضمين الفعل سَجَّى معنى الفعل "مدَّدَ"، ومن ثم يُعَدَّى الفعل بــ"على" وهنا تمتد دلالة التسجية والتغطية الحقيقية الهائمة في التركيب لتكون لا بين جَسَد وثوب عليه، بل بين ظِلً وجَسَده الذي يَستره.

ومن الجسد والظل إلى الصوت والصدى، حيث الإدراك الوَهلي الذي يتصور الصمت والتجاهل عبر ظلمه الليل وكثافته، فالظلام الكثيف يحجب الصوت ويقيده، "تصرخ في ليل بِرِيّة، لا صدى للصدى" وعلى الرغم من أن الحدث كان عصر أحد الأيام، إلا أن الصرخة لم يحط بها سوى ظلام، "ليل برية" تمامًا كالظلمة التي عمت الأرض عند صلب المسيح ووسط لججها أطلق صرخته أيضًا. إن صدى الصرخة الذي يتردد في الصورة والقصيدة والصحف ومحطات التلفاز ينقطع عند عتبات كل، وينسرب في اللامحدود من التجاهل والفراغ. فلا صدى للصدى. إنه حاجز العتمة الذى يحجب صوت المضطهدين.

إن كينونة الاستعادة الحاضرة في كل "أثرٍ" لأصل ما مصيرها التلاشي؛ فالأب الحاضر في "مهب الغياب" يخاتل الحضور عبر ظله، والبنت الذاهبة هلعًا تخاتل الحضور عبر صرخة، والأب المسجى للموت يخلف فتاة مشبوحة بمعاينة موت عائلتها. إن الأثر في النص يبدو وكأنه آخر من كل أصل، كأن يبدو وكأنه تبع له، حضور ثانٍ للأصل، أو مضاعفة للهوية، غير أنها لا تُضاعَف إلا ليكتب لها التلاشي والامّحاء كما كان الأصل تماما. فالجسد الميت يُسَجِّي ظِلّه، والامحاء الذي يحيق بالصرخة، يحيق بصداها، ليحيل المشهدُ اليومي الحادثةَ إلى ذكرى، ويحيلها التكرار إلى عادةٍ، وشيئًا فشيئًا لا نرى الصورة ولا نسمع الصوت؛ لتموت أسرة "غالية" بين يديها كما مات محمد الدُّرّة بين يدي أبيه، وكلاهما كانا أمام عدسات المصورين، ليراهما العالم في صورة حية بأعين لم تعد تبصر من زخم ما رأت، وتصبح مشاهد القتل الفردي والجماعي اليومي مجرد فواصل في كتاب المأساة الفلسطينية، أو مجرد نقاط على دائرة المأساة اليومية. غير أن هذا الذي لم يَعُد "يُرى" "لا يزول"، لأنه ببساطة من قبيل "أثر الفراشة".

 

جامعة جورجتاون- قطر/ كلية دار العلوم- جامعة الفيوم

 

المصادر والمراجع:

-

 

القرآن الكريم

-

 

الكتاب المقدس. دار المشرق- بيروت- لبنان- ط3- 1994.

-

 

الإنجيل؛ قراءة شرقية. إعداد: نخبة من المختصين، تقديم: د. هاشم العلوي القاسمي، دار الجيل، بيروت، طـ1، 1418 هـ / 1998.

-

ابن الأثير:

النهاية في غريب الحديث والأثر. تحقيق: محمود الطناحي وطاهر الزاوي. المكتبة الإسلامية- 1383هـ/ 1963.

-

ابن حجة الحموي:

ثمرات الأوراق. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية- لبنان- ط1- 2005.

-

أبو نعيم الأصبهاني:

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا. دار الكتب العلمية- بيروت- ط2- 1423هـ..

-

أبو هلال العسكري:

جمهرة الأمثال. تحقيق: أحمد عبد السلام ومحمد سعيد بسيوني. دار الكتب العلمية- بيروت- ط1، 1988.

-

إيف ستالوني:

الأجناس الأدبية. ترجمة: محمد الزكراوي. مراجعة: حسن حمزة. المنظمة العربية للترجمة- بيروت- ط1- مايو 2014.

-

البخاري:

الجامع الصحيح. تحقيق: محب الدين الخطيب- المطبعة السلفية ومكتبتها- القاهرة- ط1- 1400هـــــ.

-

بول آرون:

معجم المصطلحات الأدبية. ترجمة: د. محمد حمود. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر- ط1- 2012م.

-

الترمذي:

الجامع الصحيح؛ سنن الترمذي. تحقيق: أحمد محمد شاكر. دار الكتب العلمية- ]د. ت)[- ]د. ط[.

-

الثعالبي:

يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. تحقيق: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، لبنان. ط1، 1983.

-

الجاحظ:

الحيوان. تحقيق: عبد السلام هارون. الناشر: مصطفى البابي الحلبي- ط2- 1965.

-

جايمس غليك:

نظرية الفوضى؛ علم اللامتوقع. ترجمة: أحمد مغربي، دار الساقي بالاشتراك مع مركز البابطين للترجمة، ط1، 2008.

-

جورج لايكوف ومارك جونسن:

الاستعارات التي نحيا بها. ترجمة عبد المجيد جحفة. دار توبقال للنشر- المغرب- ط1- 1996.

-

جورج لايكوف:

النظرية المعاصرة للاستعارة. ترجمة: طارق النعمان. كتاب إبداع- العدد 13،14- شتاء/ربيع 2010.

-

جون جريبين:

البساطة العميقة؛ الانتظام في الشواش والتعقد. عرض: د. صبحي رجب عطا الله. الهيئة المصرية العامة للكتاب- مصر- مكتبة الأسرة- سلسلة الثقافة العلمية- 2013.

-

جون كوين:

اللغة العليا؛ النظرية الشعرية، ترجمة وتقديم: د. أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، ط1، 1995.

-

د. أحمد مختار عمر:

معجم اللغة العربية المعاصرة. عالم الكتب-القاهرة- ط1- 2008.

-

د. جمال محمد أحمد سليمان:

الوجود والموجود؛ مارتن هيدجر. دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت- ]د.ط[- 2009.

-

الدميري:

حياة الحيوان الكبرى. تحقيق: إبراهيم صالح. دار البشائر. دمشق، ط1، 2005.

-

رومان ياكبسون:

قضايا الشعرية. ترجمة: محمد الولي، مبارك حنون، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1988.

-

سكوت ليلينفيلد و(آخرون):

أشهر ٥٠ خرافة في علم النفس: هدم الأفكار الخاطئة الشائعة حول سلوك الإنسان. ترجمة: إيمان أحمد عزب ومحمد رمضان داود- مراجعة: محمد إيراهيم الجندي وحسام بيومي محمود. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة- ط5- 2016.

-

الطبري:

تفسير الطبري من كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن. هذبه وحققه وضبط نصه وعلق عليه: بشار عواد معروف، عصام فارس الحرستاني. مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1993.

-

طوني بينيت وآخريْن:

مفاتيح اصطلاحية جديدة؛ معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع. ترجمة: سعيد الغانمي. المنظمة العربية للترجمة – مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت- ط1- 2010.

-

عبد الرحمن البرقوقي:

شرح ديوان المتنبي. دار الكتاب العربي- بيروت لبنان، ط1، 1986.

-

غاستون باشلار:

الماء والأحلام؛ دراسة عن الخيال والمادة، ترجمة: د. علي بخيت إبراهيم، المنظمة العربية للترجمة، طـ1، 2007.

-

فرانسوا لورسا:

علم الفوضى. ترجمة: زينا مغربل، مراجعة: د. شمس الدين خياري- كتاب العربية- منشورات مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية- السعودية- 2014.

-

الفيروزآبادي:

القاموس المحيط، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف: محمد نجيب العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 2005.

-

القرطبي:

الجامع لأحكام القرآن. تحقيق: د.عبد الله بن عبد المحسن التركي، محمد رضوان عرقسوسي. مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط1، 2006.

-

كاتي وايلز:

معجم الأسلوبيات. ترجمة: خالد الأشهب. المنظمة العربية للترجمة. بيروت- ط1- 2014.

-

الكَفَوِيّ (أبو البقاء أيوب بن موسى الحُسَيْنِي)

الكُلِّيّات؛ معجم المصطلحات والفروق اللغوية. قابله على نسخة خطية وأعده للطبع ووضع فهارسه: د. عدنان درويش، محمد المصري- مؤسسة الرسالة- ط2. ]د.ت[.

-

كلاوس هيلد:

العالم والأشياء؛ قراءة لفلسفة مارتن هيدجر. ترجمة: إسماعيل المصدق. مجلة فكر ونقد. العدد الأول- سبتمبر 1997.

-

ليونارد سميث:

نظرية الفوضى. ترجمة: محمد سعد طنطاوي- مراجعة: علا عبد الفتاح ياسين- مراجعة علمية: أ.د. انتصارات محمد حسن الشبكي. مؤسسة هنداوي للتعليم الوالثقافة- ط1- 2016.

-

ماثيو إ. ترامب:

ما الشواش، ترجمة: إبراهيم قيس جركس، صحيفة الأوان (الإلكترونية)، الخميس 3 أيلول (سبتمبر) 2009.

-

مجموعة بانوراما:

موقع بانيت وصحيفة بانوراما- عمان – الأردن-

http://www.panet.co.il/article/108774 .

-

محمد العباس:

هل يتآكل محمود درويش في أخدوعات التناص، صحيفة القدس العربي. 9 يوليو 2014.

-

محمود درويش:

الأعمال الجديدة. رياض الريس للكتب والنشر. ط1- 2004.

-

 

الأعمال الجديدة الكاملة. رياض الريس للكتب والنشر. ط1- 2009.

-

 

حوار مع عبده وازن. ج1- مجلة الحياة (اللندنية)- عدد (15592)- 10/12/2005.

-

 

أنقذونا من هذا الشعر! - مجلة الكرمل، العدد السادس- 1982.

-

 

متقدمًا من الموت... بشعرية فتية. محمود درويش: "لستُ الناطق الرسمي باسم الشعب الفلسطيني". (مقابلة معه). صحيفة الأخبار (اللبنانية)- العدد ٢١٤ السبت ٢٨ نيسان ٢٠٠٧م.

-

 

عابرون في كلام عابر. سلسلة ذاكرة الحاضر. دار توبقال للنشر- المغرب- ط3- 2015.

-

 

ديوان حصار لمدائح البحر. 1984.

-

نورثروب فراي:

المدونة الكبرى؛ الكتاب المقدس والأدب،ترجمة: سعيد الغانمي، منشورات الجمل، بغداد – بيروت، طـ1، 2010.

-

هرمين ريفاتير:

قراءة الثوابت في قصيدة النثر. ترجمة: سيد عبد الله. مجلة نزوى- مؤسسة عُمان للصحفة والنشر والإعلام- عُمان- العدد 40- اكتوبر 2004.

-

يوري لوتمان:

تحليل النص الشعري. ترجمة: د. محمد فتوح أحمد. دار المعارف. ط1- 1995.

 

 

[1] - انظر: محمود درويش: أنقذونا من هذا الشعر! - مجلة الكرمل، العدد السادس- 1982م- ص4: 13.

[2] - محمود درويش في حواره مع عبده وازن. السابق. نفسه.

[3] - يومية "كلمة واحدة" ضمن كتاب: أثر الفراشة. الأعمال الكاملة الجديدة- رياض الريس للكتب والنشر- بيروت– لبنان- ط1- 2009- ج2- ص747.

[4] - (مقابلة) بعنوان: متقدمًا من الموت... بشعرية فتية. محمود درويش: لستُ الناطق الرسمي باسم الشعب الفلسطيني. صحيفة الأخبار (اللبنانية)- العدد ٢١٤ السبت ٢٨ نيسان ٢٠٠٧م. ونلحظ في المقابل أيضًا أن درويش لم يدرج "خطب الدكتاتور"، التي نشرها في الثمانينات في مجلة "اليوم السابع" ضمن أي من دواوينه بدعوى أنها "نثر موزون مقفى"!

[5] - انظر: السابق. نفسه.

[6] - محمود درويش: مجلة الكرمل. ص13.

[7] - محمود درويش حواره مع عبده وازن. السابق.

[8] - السابق. نفسه.

[9] - نفسه

[10] - نفسه

[11] - نفسه

[12] - نفسه

[13] - انظر: يوري لوتمان: تحليل النص الشعري. ترجمة: د. محمد فتوح أحمد. دار المعارف. ط1- 1995. ص70.

[14] - أثر الفراشة. ضمن الأعمال الكاملة الجديدة. رياض الريس للكتب والنشر- بيروت- لبنان- ط1- 2009م- ج2- يومية "ليتني حجر". ص547.

[15] - السابق. يومية "اللامبالي" ص670.

[16] - انظر في بعض صفات الدوري: موسوعة المعرفة على هذا الرابط وغيره:

https://goo.gl/TxyySs

آخر اطلاع عليه: 28- 9- 2016م- الساعة السابعة صباحًا.

[17] - انظر حوار درويش مع عبده وازن (ج2)- مجلة الحياة (اللندنية)- عدد (15593)- 11/12/2005م.

[18] - أثر الفراشة. الأعمال الكاملة الجديدة- ج2- ص635.

[19] - انظر السابق. نفسه. حيث حدد درويش هذه الادعاءات تمامًا على هذا النحو.

[20] - يقول في حواره مع عبده وازن: "أسباب خلافي مع بعض الأصدقاء من شعراء قصيدة النثر هو مصدر الإيقاع الشعري، الموسيقى الداخلية. فهم يرون أن الموسيقى الداخلية لا تتأتى إلا من النثر، أما أنا فأرى أن الموسيقى الداخلية تأتي من النثر ومن الإيقاع أيضًا". انظر: عبده وازن: السابق.

[21] - موقع بانيت وصحيفة بانوراما- عمان – الأردن- 2008-02-26. http://www.panet.co.il/article/108774 . تمت مطالعته في 16يونيو- 2016- الساعة 15:35.

[22] - من يوميته "أنت منذ الآن أنت". أثر الفراشة. ج2- ص802.

[23] - إيف ستالوني: الأجناس الأدبية. ترجمة: محمد الزكراوي. مراجعة: حسن حمزة. المنظمة العربية للترجمة. ط1- بيروت- مايو 2014. ص214.

[24] - سكوت ليلينفيلد و(آخرون)، ص110.

[25] - السابق، نفسه.

[26] - السابق، ص112.

[27] - سكوت ليلينفيلد و(آخرون)، ص114.

[28] - أثر الفراشة، يومية "الكمال كفاءة النقصان"، ص699.

[29] - السابق: ص215.

[30] - فتحي التريكي: ص60.

[31] - طوني بينيت وآخريْن: مفاتيح اصطلاحية جديدة؛ معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع. ترجمة: سعيد الغانمي. المنظمة العربية للترجمة – مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت- ط1- 2010- ص721: 724.

[32] - التريكي. ص60، 61.

[33] - السابق. ص59.

[34] - السابق. ص61.

[35] - أثر الفراشة. من يومية "ذباب أخضر". ص544.

[36] - التريكي. ص62، 63.

[37] - السابق. ص63.

[38] - محمود درويش، أثر الفراشة. ص 655، 666.

(*) وقف البعض من تناص درويش في العنوان موقفًا سطحيًّا، لم يتعمقوا فيه دلالة العنوان ولا مسمى النظرية ولا تشعبات أيٍّ في الكتاب (اليوميات)، فضلا عن منطقه الشعري، وأداروا سجالاً حول تعميمات وشوارد مبتورة، تتجمع لتبدو كالقرائن، أقرب ما تقع خارج حدود التَّبَصُر النقدي، فعلى سبيل المثال يرى محمد العباس "التناص" لدى درويش "أخدوعة" يتآكل حولها. وعلى الرغم من تسليمه الصريح بالتناص آلية في انتاج الشعر؛ إلا أنه يدينه على درويش من "كثرة تطابق أقواله الشعرية مع آخرين. ومن بين تلك الإشارات، تقاطع العنوان "أثر الفراشة" مع نظرية إدوارد لورينتز". وكأـن هذا التقاطع وحده، مع تقاطعات أخر كافيًا للاتهام!

(انظر: محمد العباس: هل يتآكل محمود درويش في أخدوعات التناص. صحيفة القدس العربي، نشر بتاريخ 9 يوليو 2014، آخر اطلاع عليه: الجمعة 7 نوفمبر 2014 الساعة 1:45 ظهرًا.

http://www.alquds.co.uk/?p=190950

[39] - الشواش هو "الاختلاف" وجاء في القاموس المحيط: "بينهم شَواشٌّ: اختلافٌ". انظر: الفيروزآبادي، القاموس المحيط، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف: محمد نجيب العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 2005، مادة: شاش، ص596.

[40] - رجعنا في الكثير حول نظرية الشواش أو الفوضى إلى:

1- جايمس غليك، نظرية الفوضى؛ علم اللامتوقع، ترجمة: أحمد مغربي، دار الساقي بالاشتراك مع مركز البابطين للترجمة، ط1، 2008.

2- فرانسوا لورسا: علم الفوضى، ترجمة: زينا مغربل، مراجعة: د. شمس الدين خياري- كتاب العربية- منشورات مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية- السعودية- 2014

3- جون جريبين: البساطة العميقة؛ الانتظام في الشواش والتعقد، عرض: د. صبحي رجب عطا الله. الهيئة المصرية العامة للكتاب- مصر- مكتبة الأسرة- سلسلة الثقافة العلمية- 2013.

4- ليونارد سميث: نظرية الفوضى. ترجمة: محمد سعد طنطاوي- مراجعة: علا عبد الفتاح ياسين- مراجعة علمية: أ.د. انتصارات محمد حسن الشبكي. مؤسسة هنداوي للتعليم الوالثقافة- ط1- 2016.

5- ماثيو إ. ترامب: ما الشواش، ترجمة: إبراهيم قيس جركس، صحيفة الأوان (الإلكترونية)، الخميس 3 أيلول (سبتمبر) 2009، آخر تصفح كان بتاريخ 8 نوفمبر 2014.

http://goo.gl/essvWU

(**) – الحديث حول "المعنى" وطلبه من المعاني والموضوعات الخاصة التي يلح عليها درويش في مواضع عدة ومنها هنا في "أثر الفراشة":

- "كم البعيدُ بعيدٌ/ كم هي السُبُلُ؟/ نمشي/ ونمشي إلى المعنى/ ولا نَصِلُ" ص592.

- " ألطريق إلى المعنى، مهما تشعب وطال/ هو رحلة الشاعر. كلما ضللته الظلال/ اهتدى"! ص748، 749.

- "ما هو المعنى؟ لا أعرف. لكني قد/ أعرف ما هو نقيضه. نقيضه هو استسهال/ العدم". ص749.

- "الخطابة هي/ إعدام المعنى في ساحة عامة". ص753.

[41] - جايمس غليك، السابق- ص29.

[42] - السابق، ص39.

[43] - محمود درويش، أثر الفراشة، السابق. ص781.

[44] - السابق. ص559: 561.

[45] - لعل هذا يدعمه الاستثناء في قوله تعالى ﴿لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ﴾ النور- 29.

[46] - انظر: لسان العرب وتاج العروس. مادة (بيت).

[47] -

الدارُ دارٌ وإن زالت حوائطها

 

والبيت ليس ببيتٍ بعدما انْهَدَما

انظر: الكَفَوِيّ (أبو البقاء أيوب بن موسى الحُسَيْنِي): الكُلِّيّات؛ معجم المصطلحات والفروق اللغوية. قابله على نسخة خطية وأعده للطبع ووضع فهارسه: د. عدنان درويش، محمد المصري- مؤسسة الرسالة- ط2- 1998م- ص239.

[48] - انظر: كلاوس هيلد: العالم والأشياء؛ قراءة لفلسفة مارتن هيدجر. ترجمة: إسماعيل المصدق. مجلة فكر ونقد. العدد الأول- سبتمبر 1997م.

النسخة الإلكترونية على الرابط التالي:

http://www.aljabriabed.net/n01_14musaddak.htm

اُطُّلِعَ عليه بتاريخ 28- 9- 2016م الساعة: 6:00 صباحًا.

[49] - انظر: السابق. نفسه.

[50] - د. جمال محمد أحمد سليمان: الوجود والموجود؛ مارتن هيدجر. دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع- د.ط- 2009- بيروت- ص185.

[51] - السابق: نفسه.

[52] - هرمين ريفاتير: قراءة الثوابت في قصيدة النثر. ترجمة: سيد عبد الله. مجلة نزوى- مؤسسة عُمان للصحافة والنشر والإعلام- عُمان- العدد 40- أكتوبر 2004م. ص49.

[53] - أحيانًا ما يحيل التمثيل Allegory إلى"القصة الرمزية ... أو الجنس الأدبي المميز؛ حيث لا يكون السردي مجرد سَرْديّ" (انظر: كاتي وايلز: معجم الأسلوبيات. ترجمة : خالد الأشهب. المنظمة العربية للترجمة. بيروت- ط1- 2014- ص47. وأحيانًا ما يحيل على "أسلوب أدبي قوامه أننا عندما نتكلم عن شيء، فإنما نتكلم عن شيء آخر". انظر: بول آرون: معجم المصطلحات الأدبية. ترجمة: د. محمد حمود. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر- ط1- 2012م- ص338.

[54] - انظر: أحمد بن عبدالله الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا. دار الكتب العلمية – بيروت- 1423هـ- ط2. ج8-ص321.

[55] - انظر: الترمذي: الجامع الصحيح؛ سنن الترمذي. تحقيق: أحمد محمد شاكر. دار الكتب العلمية- (د. ت)- (د. ط)- ص 13509.

[56] - انظر: البخاري: الجامع الصحيح. تحقيق: محب الدين الخطيب- المطبعة السلفية ومكتبتها- القاهرة- ط1- 1400هـ . ج3- ص257.

[57] - انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر. تحقيق: محمود الطناحي وطاهر الزاوي. المكتبة الإسلامية- 1383هـ/ 1963م. ج5- ص218.

[58] - جمهرة الأمثال: أبي هلال العسكري. تحقيق: أحمد عبد السلام ومحمد سعيد بسيوني. دار الكتب العلمية، بيروت. ط1، 1988. ج2 ص8.

[59] - سورة البقرة. آية 26.

[60] - ابن حجة الحموي: ثمرات الأوراق. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. المكتبة العصرية، لبنان، ط1، 2005. ص51.

[61] - انظر:

- جورج لايكوف ومارك جونسن: الاستعارات التي نحيا بها. ترجمة عبد المجيد جحفة. دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1996، ص21.

- جورج ليكوف: النظرية المعاصرة للاستعارة. ترجمة: طارق النعمان. كتاب إبداع، العدد 13،14، شتاء/ربيع 2010. ص 16.

[62] - يمكننا أن نتابع كل هذا الثيمات ربما في نصوص درويش بعامة وهذا الكتاب على وجه التحديد، فعلى سبيل المثال يقول عن الأمن والهدنة: "ما زال الأفراد إذا صحوا أحياء/ قادرين على القول: صباح الخير. ثم يذهبون/ إلى أشغالهم الروتينية: تشييع الشهداء/ ولا يعرفون إن كانوا سيعودون سالمين إلى/ ما تبقى من بيوت تحاصرها جرافات ودبابات وأشجار/ سرو مكسورة. والحياة، من فرط/ لامبالاتها، لا تُرَى إلاّ تخطيطًا أوليًّا/ لأمنيّة عصيّة على التدوين: المساواة مع/ بنات آوى في الاستمتاع بكهف آمن. لكننا/ مطالبون بمهمة صعبة: الوساطة بين الله/ والشيطان للتوصل إلى هدنة قصيرة ندفن/ خلالها شهداءنا!". أثر الفراشة: ص90. فالشيطان الذي مرق من طاعة الله وخاصمه في آدم، أخذ هدنةً! وكان من الـمُنْظَرين إلى يوم يبعثون، هدنةً لم يأخذها الفلسطينيون لسويعات ريثما يدفنون شهداءهم.

[63] - محمود درويش: أثر الفراشة. من نص "سماء صافية وحديقة خضراء". ص744.

[64] - نشرت القصيدة في سياق مقالات لدرويش، ضمن كتاب حمل عنوان القصيدة نفسه. انظر: محمود درويش: عابرون في كلام عابر. سلسلة ذاكرة الحاضر. دار توبقال للنشر- المغرب- ط3- 2015.

[65] - الجاحظ: الحيوان. تحقيق: عبد السلام هارون. الناشر: مصطفى البابي الحلبي- ط2- 1965- ج5، ص402، ج3. ص320.

[66] - الجاحظ: الحيوان: تحقيق: عبد السلام هارون. ج5، ص405.

[67] - الثعالبي: يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. تحقيق: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، لبنان. ط1، 1983، ج2، ص54. يقول النص:"مالكة لا حس لها سواها، تحقرها عين من رآها، تمشي إلى الملك بندبها، وتضرب بحبوحة داره بطلبها، تؤذيه بإقبالها، وتعرفه بإراقة دمه ما لها، فتعجز كفه، وترغم أنفه، وتضرج خده، وتفري لحمه وجلده، زجرتها تسليمها، ورمحها خرطومها، تذلل صعبك إن كنت ذا قوة وعزم، وتسفك دمك وإن كنت ذا حلفة وعسكر ضخم، تنقض العزائم وهي منقوضة، وتعجز القوى وهي بعوضة".

[68] - الحيوان. ت: هارون. ج3. ص304.

  1. - انظر: النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب.

وتذكر الكتب قول الشاعر:

لا تَعْجَبُوا مِنْ صَيْد صَعْوٍ بَازياً

 

إِنْ الأسودَ تُصَادُ بِالْخِرْفَانِ

قَدْ غَرّقَتْ أَمُلاكَ حَمــــِيرَ فَأْرَةٌ

 

وَبَعوضَةٌ قَتَلَتْ بَنِي كَنْعانِ

انظر: الدميري: حياة الحيوان الكبرى. تحقيق: إبراهيم صالح. دار البشائر. دمشق، ط1، 2005، ج1. ص428.

[70] - د. أحمد مختار عمر: معجم اللغة العربية المعاصرة. عالم الكتب-القاهرة- ط1- 2008م- مادة: ب. ع. ض.

[71] - عبد الرحمن البرقوقي: شرح ديوان المتنبي. دار الكتاب العربي- بيروت لبنان، ط1، 1986. ج4 ص276، 277.

[72] - سورة البقرة: آية 26.

(*) -) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(العنكبوت- 41.

[73] - القرطبي: الجامع لأحكام القرآن. تحقيق: د.عبد الله بن عبد المحسن التركي، محمد رضوان عرقسوسي. مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط1، 2006. ج1 ص364.

[74] - سورة البقرة: آية 17.

[75] - سورة البقرة: آية 19.

[76] - الطبري: تفسير الطبري من كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن. هذبه وحققه وضبط نصه وعلق عليه: بشار عواد معروف، عصام فارس الحرستاني. مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1993، ج1 ص148.

[77] - السابق، ج1 ص150.

[78] - أثر الفراشة. ص633.

[79] - انظر: مقال انقذونا من هذا الشعر. ص 10.

[80] - يمكن مراجعة الصحف الصادرة عقب 9 يونيو 2006. انظر على سبيل المثال: BBC العربية، الجزيرة، موقع قناة العربية.

[81] - رومان ياكبسون، قضايا الشعرية، ترجمة: محمد الولي، مبارك حنون، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1988، ص28.

[82] - السابق، نفسه.

[83] - جون كوين: اللغة العليا؛ النظرية الشعرية، ترجمة وتقديم: د. أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، ط1، 1995، ص150، 151.

[84] - سورة يونس: آية 92.

[85] - أثر الفراشة. يومية "موهبة الأمل ". ص 584.

[86] - أثر الفراشة ص585.

[87] - الكتاب المقدس. دار المشرق- بيروت- لبنان- 1994- ط3- العهد الجديد- إنجيل متى، الإصحاح 27، آية 46. ص116.

[88] - انظر: كوبلاي خان؛ ملك المغول الذي أعاد بناء الصين. ترجمة: أحمد لطفي. إصدار: دار الكتب الوطنية – الإمارات.

- [89] "لأسرق قلبي المُعلّق فوق النخيل ". من قصيدة حوار شخصي في سمرقند في ديوانه "حصار لمدائح البحر".

[90] - ".. أنكيدو، سأحمل عنكَ

عمرك ما استطعت وما استطاعت

قوتي وإرادتي أن تحملاك. فمن

أنا وحدي؟ هَباءٌ كامل التكوين

من حولي. ولكني سأسند ظلك

العاري على شجر النخيل. فأين ظلك؟" من ديوان: "جدارية ". الأعمال الجديدة. رياض الريس للكتب والنشر. يناير 2004. ط1- ص515.

[91] - " خبأتَ قلبك يا أبي، عني، لأكبر فجأة وحدي على شجر النخيل

شجرٌ وأفكارٌ وزمار.. " من قصيدة : رب الأيائل يا أبي.. تربها "، من ديوان " أرى ما أريد ".

[92] - " للسماء شعوبها وحروبها

أما أنا فلي الغزالة زوجة، ولي النخيل

معلقات في كتاب الرمل.. " من قصيدة : " قافية من أجل المعلقات " من ديوانه "لماذا تركت الحصان وحيدًا". الأعمال الجديدة. ص384.

[93] - "... هذا الزحام

إلاهات مصر وسومَر تحت النخيل يُغَيِّرن أثوابهن وأسماء أيامهن، ويكملن رحلاتهن إلى آخر القافية.. " من قصيدة "سوناتا [I]" من ديوان سرير الغريبة ". الأعمال الجديدة الكاملة، ج2، ص23.

[94] - " سَتُنْجِب الأم الحزينة أخوةً كي يسكنوا

سعف النخيل، إذا أرادوا، أو سطوح خيولنا.. " من قصيدة " الهدهد، من ديوان " أرى ما أريد " .

[95] - ".. لا أهز الغياب كجذع النخيل

لأدفَعَ عني الخسارة.. " من قصيدة " قناع لمجنون ليلى "، ضمن ديوان سرير الغريبة .

[96] - غاستون باشلار، الماء والأحلام؛ دراسة عن الخيال والمادة، ترجمة: د. علي بخيت إبراهيم، المنظمة العربية للترجمة، طـ1، 2007، ص197 – 198.

[97] - الكتاب المقدس. العهد الجديد- إنجيل يوحنا– آية 33، 34. ص355.

[98] - انظر: نورثروب فراي: المدونة الكبرى؛ الكتاب المقدس والأدب،ترجمة: سعيد الغانمي، منشورات الجمل، بغداد – بيروت، طـ1، 2010، ص149 – 183.

[99] - نور ثروت فراي: السابق، ص159.

[100] - العهد القديم، أعمال الرسل 1: 3. وانظر أيضًا: الإنجيل؛ قراءة شرقية، إعداد نخبة من المختصين، تقديم: د. هاشم العلوي القاسمي، دار الجيل، بيروت، طـ1، 1418 هـ / 1998 م– ص298: 303.

-[101] في المعاجم: سَجَّيت الميت تَسجية: إذا مَددت عليه ثوباً, والتسجية: أنْ يُسَجَّى الميت بثوب، أي يُغَطّى به. انظر: لسان العرب. مادة (سجى).