يتناول المفكر الفرنسي الشهير هنا في هذا الحوار المعمق الذي أجري معه حول العلاقة الجدلية بين السلطة والجسد في عدد من أعماله المهمة عددا من المقولات الأساسية التي طورها في تلك الأعمال والتي أصبحت من أدوات الكشف عن آليات عمل السلطة وهي تتخلل الذين يخضعون لسلطانها وتتحكم أجسادهم.

ميشيل فوكو: السلطة والجسد

ترجمة: عبدالرحيم نورالدين

 

سؤال: في كتابك )المراقبة و العقاب) قمت بتسليط الضوء على نظام سياسي يلعب فيه جسد الملك دورا أساسيا...

ميشيل فوكو: في مجتمع مثل مجتمع القرن 17م، لم يكن جسد الملك استعارة، بل كان واقعا سياسيا. كان وجوده ضروريا لاشتغال الملكية.

سؤال: وماذا عن الجمهورية «واحدة ولا تتجزأ»؟

ميشيل فوكو: تلك كانت صيغة مفروضة ضد الجيرونديين Les Girondins، وضد فكرة فدرالية شبيهة بالنمط الأمريكي. لكنها لا تعمل تماما كما يعمل جسد الملك في إطار الملكية. لا يوجد جسد للجمهورية. وعلى العكس، فجسم المجتمع هو ما صار المبدأ الجديد خلال القرن 19م. هذا هو الجسد الذي ينبغي حمايته بكيفية تكاد تكون طبية: فبدلا من الطقوس التي كان يرمم بها تمام جسد العاهل، سيتم تطبيق وصفات وعلاجات من قبيل تصفية المرضى، ومراقبة حاملي العدوى، واقصاء المنحرفين. وهكذا عُوضت التصفية عن طريق العذاب بمناهج تعقيم: علم الإجرام، علم تحسين النسل، تهميش "المنحطين"...

سؤال: هل يوجد استيهام جسدي على مستوى المؤسسات المختلفة؟

ميشيل فوكو: اعتقد أن أكبر استيهام هو فكرة جسم اجتماعي قد يكون مشكلا من كونية الإرادات. لكن الإجماع ليس هو ما يكشف عن الجسم الاجتماعي، بل مادية السلطة على جسد الأفراد ذاته.

سؤال: يُنظر إلى القرن 18 م من زاوية التحرير. أنت تصفه كإقامة لنظام مراقبة وتمشيط. هل يمكن لهذا أن يكون من دون الآخر ؟

ميشيل فوكو: كما هو الحال دائما في علاقات السلطة، يجد المرء نفسه أمام ظواهر معقدة لا تخضع لصورة الديالكتيك الهيغلي. إن التحكم في الجسد الذاتي والوعي به لم يكتسب إلا من خلال مفعول تطويق السلطة للجسد: ممارسة الرياضة، التمارين، التطور العضلي، العري، تمجيد الجسد الجميل ... يصب كل هذا في الاتجاه الذي يقود إلى رغبة المرء في جسده الذاتي بعمل ملح، عنيد ودقيق، مارسته السلطة على جسد الأطفال، وجسد الجنود، وعلى الجسد السليم. وبما أن السلطة أنتجت هذا الأثر، في اتجاه غزواتها نفسه، كان من الحتمي أن تبرز المطالبة بالجسد الذاتي ضد السلطة، وبالصحة ضد الاقتصاد، وبالمتعة ضد المعايير الأخلاقية للجنس والزواج والحياء. وفجأة، يصير ما كانت به السلطة قوية، هو ما به تُهاجَم ... زحفت السلطة داخل الجسد، وفي الجسد نفسه تجد ذاتها معرضة للخطر ... تذكروا ذعر مؤسسات الجسم الاجتماعي (أطباء، سياسيون) من فكرة الارتباط الحر أو الاجهاض ... في الواقع، ليس الانطباع بأن السلطة تترنح إلا انطباعا خاطئا، ذلك أنها تستطيع التراجع، وتغيير المكان، والاستثمار في محل آخر ... وتستمر المعركة.

سؤال: وهذا من شأنه أن يكون هو تفسير "استردادات" الجسد الشهيرة من طرف البرنوغرافيا والاشهار؟

ميشيل فوكو: أنا لست موافقا تماما على كلمة "استرداد". إنه التطور الاستراتيجي الطبيعي لأي صراع ... دعني آخذ مثالا محددا، مثال الشبقية الذاتية. لم تبدأ مراقبات الاستمناء إلا في القرن 18 م فقط. وفجأة ظهر موضوع - رعب: مرض مخيف يتطور في العالم الغربي — الشباب يستمنون. وباسم هذا الخوف أقيمت مراقبة على جسد الأطفال – عبر العائلات، لكن من غير أن تكون هي الأصل في هذه المراقبة - ، وحراسة على الجنسانية، وموضعة للجنسانية رافقها اضطهاد للأجساد. لكن الجنسانية، بتحولها إلى موضوع انشغال وتحليل، وإلى شبه هدف للحراسة والمراقبة، كانت تخلق في نفس الوقت تكثيفا لرغبات كل شخص في وعلى وبداخل جسده الخاص.

لقد صار الجسد رهان صراع بين الأبناء والآباء، بين الطفل وهيئات المراقبة. إن ثورة الجسد الجنسي هي المفعول المضاد الناجم عن هذا التقدم. كيف تَرُد السلطة؟ إنها ترد باستغلال اقتصادي (وربما ايديولوجي) للشبقنة Erotisation ، بدء بمنتوجات التسفع وصولا إلى أفلام البورنو ... و ردا على ثورة الجسد، تجدون استثمارا جديدا لم يعد يحضر في شكل مراقبة- قمع، وإنما في شكل مراقبة- إثارة :<< تَعَرَّ، لكن كن نحيفا، ووسيما ومتسفعا!. وهكذا فعلى كل حركة تصدر عن أحد الخصمين كانت تجيب حركة الثاني. لكن الأمر لا يتعلق ب "استرداد" بالمعنى الذي يستعمله اليساريون. ينبغي قبول لا- محدود الصراع ... وهذا لا يعني أن الصراع لن ينتهي في يوم من الأيام.

سؤال: ألا تمر الاستراتيجية الثورية للاستيلاء على الحكم عبر تعريف جديد لسياسة الجسد؟

ميشيل فوكو: لقد ظهرت مسألة الجسد بإلحاح متزايد خلال تقدم سيرورة سياسية – لا أعرف ما إذا كانت ثورية أم لا - . يمكن القول إن ما جرى منذ 1968 – وعلى الأرجح ما كان تحضيرا له – كان مضادا للماركسية بشكل عميق. كيف ستكون الحركات الثورية الأوروبية قادرة على الانعتاق من << الأثر ماركس>> ومن المؤسسات الخاصة بماركسية القرنين 19 م و 20 م ؟ كانت هذه هي وجهة الحركة. تعتبر أهمية الجسد، في هذه المساءلة الجديدة للهوية ماركسية=سيرورة ثورية، الهوية التي كانت تشكل نوعا من العقيدة، واحدة من القطع المهمة، إن لم نقل الجوهرية.

سؤال: ما التطور الذي عرفته العلاقة الجسدية بين الجماهير وجهاز الدولة؟

ميشيل فوكو: ينبغي أولا استبعاد أطروحة منتشرة على نطاق واسع، مفادها أن السلطة في مجتمعاتنا البورجوازية والرأسمالية، قد تكون أنكرت واقعية الجسد لفائدة الروح، والوعي والمثالة. بالفعل، ليس هناك ما هو أكثر مادية ولا أكثر فزيائية ولا أكثر جسمية من ممارسة السلطة ... ما هو نمط تطويق الجسد، الضروري والكافي لاشتغال مجتمع رأسمالي مثل مجتمعنا؟ لقد اعتقد الناس خلال الفترة الممتدة من القرن 18 م إلى بداية القرن20 م، بحسب ما أراه، أن تطويق الجسد يجب أن يكون مرهِقا، وثقيلا، ومتواصلا ودقيقا. وهو الشيء الذي ترتبت عنه هذه الأنظمة التأديبية الهائلة الموجودة في المدارس، والمستشفيات، والثكنات، وورشات العمل، والمجمعات السكنية، والعمارات، والعائلات ... وبعد ذلك، ابتداء من الستينيات، تم الانتباه إلى أن هذه السلطة الثقيلة جدا، لم تعد ضرورية بالقدر الذي كان يعتقد، وأن بإمكان المجتمعات الصناعية الاكتفاء بسلطة على الجسد أقل جُبنا. ومن هذه اللحظة، اكتشف الناس أن مراقبات الجنسانية يمكن أن تكون أقل شدة وأن تأخذ أشكالا أخرى... ويبقى من المطلوب دراسة نوعية الجسد الذي يحتاجه المجتمع الحالي.

سؤال: هل يتميز اهتمامك بالجسد عن التأويلات الراهنة؟

ميشيل فوكو: أنا أنأى بنفسي، بحسب ما يبدو لي، عن المنظور الماركسي وعن المنظور الماركسي الموازي في نفس الوقت. بخصوص الأول، أنا لست من اولئك الذين يحاولون الإحاطة بآثار السلطة على مستوى الايديولوجيا. أتساءل بالفعل، قبل طرح سؤال الايديولوجيا، ألا يكون المرء ماديا أكثر وهو يدرس مسألة الجسد وآثار السلطة عليه. ذلك أن ما يضايقني في هذه التحليلات التي تمنح الامتياز للأيديولوجيا، هو افتراض وجود دائم لذات إنسانية، أعطت الفلسفة الكلاسيكية نموذجها، وأن هذه الذات مزودة بوعي قد تأتي السلطة للاستيلاء عليه.

سؤال: لكن الوعي بأثر السلطة على الجسد في وضعية الشغل وارد في المنظور الماركسي.

ميشيل فوكو: طبعا. لكن، بينما المطالبات هي اليوم مطالبات الجسد الأجير أكثر مما هي مطالبات الأجراء، لا نسمع البتة حديثا عنها باعتبارها كذلك ... تسير الأمور كما لو أن الخطابات «الثورية» تظل مخترقة بموضوعات طقوسية تتخذ التحليلات الماركسية مرجعا لها. وإذا ما كانت مؤلفات ماركس متضمنة لأشياء مهمة عن الجسد، فإن الماركسية – من حيث هي واقع تاريخي – قد أفرطت في إخفائه لصالح الوعي والايديولوجيا.

ينبغي أيضا الانفراد من الماركسيين الموازيين كماركوز Marcuse الذين يمنحون دورا مبالغا فيه لمفهوم القمع. إذ لو كانت وظيفة السلطة مقتصرة على القمع، ولو كانت تشتغل على منوال الرقابة والتهميش وإقامة الحواجز والكبح، بالطريقة نفسها التي يتبعها أنا أعلى ضخم، ولو كانت لا تمارس إلا بكيفية سلبية، لكانت هشة للغاية. وإذا كانت قوية فلأنها تنتج آثارا إيجابية على مستوى الرغبة – بدأ الناس يعلمون بهذا- وكذلك على مستوى المعرفة. إن السلطة لا تمنع المعرفة بل تنتجها. وإذا ما تمكننا من تكوين معرفة بالجسد، فبفضل مجموعة من التخصصات العسكرية والمدرسية. إن الانطلاق من السلطة على الجسد هو الذي جعل المعرفة الفسيولوجية والعضوية ممكنة.

يعود تجذر السلطة، والصعوبات التي يشعر بها المرء عند محاولته التخلص منها، إلى كل هذه الروابط. لهذا السبب، تبدو لي فكرة القمع، التي تختزل إليها بشكل عام آليات السلطة، غير كافية للغاية وربما خطيرة.

سؤال: أنت تدرس بصفة خاصة السلط الصغيرة الممارسة في مستوى اليومي. ألا تهمل جهاز الدولة؟

ميشيل فوكو: فعلا لقد فَضّلتْ الحركات الثورية الماركسية والممركسة marxisées جهاز الدولة كهدف للصراع، وذلك منذ نهاية القرن 19 م. لكن إلى ماذا قاد كل هذا في نهاية المطاف؟ لكي تقدر حركة ثورية على الصراع ضد دولة ليست مجرد حكومة فحسب، من الضروري أن تتوفر على المعادل من حيث القوى السياسية-العسكرية، وأن تتكون إذن كحزب مُشَّكل – من الداخل- كجهاز دولة، بآليات الانضباط نفسها، والتراتبيات نفسها، وتنظيم السلط نفسه. تعتبر هذه النتيجة صعبة. في المقام الثاني، هل ينبغي اعتبار الاستيلاء على جهاز الدولة – ولقد كان هذا موضوع نقاش كبير داخل الماركسية ذاتها- كاحتلال بسيط مع إمكانية إدخال تعديلات محتملة، أم ينبغي أن يكون مناسبة لتدميره؟ أنت تعرف كيف تم حل هذه المشكلة أخيرا : ينبغي تقويض الجهاز، لكن ليس بالكامل، ذلك أن إقامة دكتاتورية البروليتاريا لا يعني نهاية صراع الطبقات ...ينبغي إذن الإبقاء على جهاز الدولة سليما بما فيه الكفاية لكي يمكن استعماله ضد الأعداء الطبقيين. وهنا نصل إلى النتيجة الثانية : يجب الاحتفاظ بجهاز الدولة على الأقل إلى حد معين خلال دكتاتورية البروليتاريا. وأخيرا، النتيجة الثالثة: من أجل تشغيل أجهزة الدولة المذكورة التي ستُحْتل دون أن تُحطم، يكون من اللائق الاستعانة بالتقنيين والمتخصصين. وللقيام بذلك تُستخدم الطبقة القديمة المستأنسة بالجهاز، أي البرجوازية. هذا ما حدث من دون شك في الاتحاد السوفياتي. أنا لا أدعي بتاتا أن جهاز الدولة ليس مهما، لكن يبدو لي أنه من بين كل الشروط الواجب توفيرها لتفادي تكرار التجربة السوفياتية، ولكي لا تتعثر السيرورة الثورية، واحد من الأشياء الأولى الواجب فهمه، هو أن السلطة ليست مستقرة في جهاز الدولة، وأن لا شيء سيتغير في المجتمع ما لم تغير آليات السلطة التي تعمل خارج أجهزة الدولة، وتحتها، وبجانبها، وفي مستوى أصغر كثيرا، ويومي.

سؤال: دعني أنتقل إلى العلوم الإنسانية تحديدا، وإلى التحليل النفسي بصفة خاصة...

ميشيل فوكو: فعلا إن حالة التحليل النفسي مثيرة للاهتمام. قام التحليل النفسي ضد نوع معين من الطب النفسي (طب الانحطاط وتحسين النسل والوراثة). هذه الممارسة وهذه النظرية – اللتان مَثَّلهما مانيان Magnan في فرنسا- هما ما شَكَّل مغايره الكبير. لعب التحليل النفسي آنذاك بالفعل دورا محررا مقارنة بهذا الطب النفسي (الذي يبقى علاوة عن ذلك، هو نفسه ما يمارسه الأطباء النفسانيون الحاليون). وفي بعض البلدان أيضا (أفكر في البرازيل)، كان التحليل النفسي يلعب دورا سياسيا إيجابيا يتمثل في فضح التواطؤ بين الأطباء النفسانيين والسلطة الحاكمة. أنظروا إلى ما يحدث في المعسكر الشرقي. ليس من يهتمون بالتحليل النفسي هم أكثر الأطباء النفسانيين انضباطا...

ومع ذلك، فإن السيرورة مستمرة في مجتمعاتنا، كما أنها نصبت بشكل مغاير...إن للتحليل النفسي، في بعض أداءاته، آثار تدخل في إطار المراقبة والتطبيع. إذا توفقنا في تغيير هذه العلاقات، أو في جعل مفعولات السلطة المنتشرة بداخلها غير محتملة، فإننا سنصعب اشتغال أجهزة الدولة أكثر...الميزة الأخرى للقيام بنقد العلاقات في المستوى الصغير جدا: بداخل الحركات الثورية، لن يعود في المستطاع إعادة تكوين صورة جهاز الدولة.

سؤال: من خلال دراساتك للجنون والسجن، نشهد تكوين مجتمع يزداد انضباطا يوما بعد يوم. يبدو أن منطقا يكاد يكون حتميا هو ما يقود هذا التطور التاريخي...

ميشيل فوكو: أحاول تحليل كيف أخذ جهاز عقابي مكانه، في بداية المجتمعات الصناعية، وكيف أقيمت آلية فرز بين الطبيعيين وغير الطبيعيين. سيلزمني في ما بعد كتابة تاريخ ما جرى خلال القرن 19 م ، وتوضيح كيف استطعنا الوصول، عبر سلسلة من الهجمات والهجمات المضادة، ومن المفعولات والمفعولات المضادة، إلى وضع القوى الحالي المعقد جدا وإلى المخطط المعاصر للمعركة. إن الانسجام لا ينتج عن تحديث مشروع ما، بل إنه ينتج عن منطق استراتيجيات تتعارض في ما بينها. ينبغي إقامة أركيولوجيا العلوم الإنسانية على دراسة ميكانيزمات السلطة التي اكتسحت الأجساد والحركات والسلوكات.

إنها تلفي ثانية، علاوة على ذلك، واحدا من ظروف انبثاقها: المجهود الكبير لبناء التخصص وللتطبيع الذي نشده القرن 19 م. كان فرويد يعلم ذلك جيدا. لقد كان يعي، بخصوص التطبيع، أنه أقوى من الآخرين. وإذن، فما هذا الحياء التقديسي الذي يكمن في القول إن التحليل النفسي لا علاقة له بالتطبيع؟

سؤال: ما هو دور المثقف في الممارسة النضالية؟

ميشيل فوكو: لم يعد مطلوبا من المثقف لعب دور الناصح. إن أولئك الذين يكافحون ويتخبطون هم من عليهم إيجاد المشروع والتكتيكات والأهداف التي ينبغي وضعها. إن ما يستطيع المثقف فعله هو إعطاء أدوات تحليل، وحاليا إنه بالأساس دور المؤرخ. بالفعل فالأمر يتعلق بالتوفر على إدراك ثقيل وممتد عن الحاضر، يسمح بتحديد مواقع خطوط الهشاشة، ومواقع نقط القوة التي تعلقت بها السلط – تبعا لتنظيم عمره الآن مئة وخمسين عاما- وأين انغرست. وبتعبير آخر، ينبغي انجاز مسح طوبوغرافي وجيولوجي للمعركة ... هذا هو دور المثقف. أما أن يأتي ليقول: هو ذا ما يجب أن تقوموا به، فالجواب بالتأكيد هو لا.

سؤال: من ينسق نشاط عملاء سياسة الجسد؟

ميشيل فوكو: يتعلق الأمر بمجموعة معقدة جدا يضطر المرء معها إلى التساؤل في الأخير، كيف يمكنها أن تكون متقنة في توزيعها، وفي ميكانيزماتها، وفي مراقباتها المتبادلة، وفي تعديلاتها، بينما لا أحد كان موجودا للتفكير في المجموع. إنها فسيفساء متشابكة للغاية. في بعض الأزمنة، يظهر عملاء اتصال. .. خذوا مثال العمل الخيري في أوائل القرن 19م : أناس يأتون للتدخل في حياة الآخرين، في صحتهم، في تغذيتهم، وفي سكناهم...ومن هذه الوظيفة الغامضة خرجت في ما بعد شخصيات ومؤسسات ومعارف...نظافة عمومية، مفتشون، مساعدات اجتماعيات، علماء نفس. وها نحن نشاهد الآن انتشارا لفئات من العمال الاجتماعيين...

طبعا لقد لعب الطب الدور الأساسي كقاسم مشترك ... كان خطابه يمر من هذا إلى ذاك. باسم الطب كانت تتم مراقبة الكيفية التي أقيمت بها المنازل، بل وأيضا باسمه كان يتم تصنيف أحمق ما، أو مجرم ما، أو مريض ما...لكن هناك – في الواقع- فسيفساء متنوعة جدا يكونها كل هؤلاء " العمال الاجتماعيين" انطلاقا من رحم غامض كما هو العمل الخيري...

ليس المهم هو النظر إلى المشروع الذي نظم كل هذا الشيء، وإنما النظر، من حيث الاستراتيجيات، إلى كيفية تموضع القطع في مواقعها.

[أجرت الحوار مجلة "أي جسد؟ بتاريخ يونيو 1975]

المصدر:

Quel corps ? FM/Petite collection maspero. François Maspero, Paris ,1978.Pages 27 à 35.

« Michel Foucault. Pouvoir et corps ».

نشر نص هذا الحوار، مع نصوص أخرى، في كتاب "أي جسد؟"، الصادر عن دار نشر "فرانسوا ماسبيرو" ( 1978 باريس، فرنسا)، ضمن سلسلة "المجموعة الصغيرة ماسبيرو" عدد 207. وتجدر الإشارة إلى أن نصوص هذا المؤَلَّف نُشرت أصلا في مجلة "أي جسد؟" التي أسسها جان ماري بروم Jean-Marie Brohm ؛ وكان أن صدر عددها الأول في أبريل 1975 واستمر صدورها إلى غاية 1997.