يركز مؤلفا الكتاب على انتقاد الصحف ومؤسسات البث الليبرالية الغربية وبعض الصحافيين العاملين فيها لانهما يعتبران وسائل الإعلام هذه تخدم مصالح المؤسسات المالية الضخمة التي تمولها وتدعمها، تماماً كما تفعل صحافة اليمين المحافظة التوجه.

القصف الترويجي

سمير ناصيف

 

هل يوجد إعلام غير منحاز في أمريكا وبريطانيا والدول الغربية عموما يدعم القضايا السياسية العادلة والمحقة في العالم الثالث ودول الشرق الأوسط خصوصاً؟ هذا سؤال هام يطرحه كتاب صدرَ مؤخراً بعنوان «القصف الترويجي» لكاتبيه ديفيد ادواردز وديفيد كرومويل. تركيز مؤلفي الكتاب هو على انتقاد الصحف ومؤسسات البث الليبرالية الغربية وبعض الصحافيين العاملين فيها لانهما يعتبران وسائل الإعلام هذه تخدم مصالح المؤسسات المالية الضخمة التي تمولها وتدعمها، تماماً كما تفعل صحافة اليمين المحافظة التوجه.

ينتقد الصحافي اليساري البارز ادواردز وزميله كرومويل ومجموعتهما المسماة «ميديا لينس» مؤسسات إعلامية كـ»هيئة الإذاعة البريطانية بي.بي.سي» وصحفاً مثل «الغارديان» و»الاندبندنت» ويعتبران ان عدداً كبيراً من الصحافيين العاملين فيها يخدمون السلطات المالية والسياسية الغربية وليسوا ملتزمين بالفعل الدفاع عن المظلومين في العالم.
ويشير بيلجر إلى أن تغطية «هيئة الإذاعة البريطانية» و»القناة الرابعة» في التلفزيون البريطاني لحرب جورج بوش الابن وتوني بلير ضد العراق في عام 2003 لم تختلف كثيراً عن تغطية المؤسسات الغربية الإعلامية اليمينية المحافظة بحيث مهدت مثل هذه المؤسسات لحدوث هذا الغزو عبر برامجها الوثائقية عن وجود أسلحة الدمار الشامل لدى نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بموازاة ما فعلته صحف ومحطات بث يمينية في بريطانيا وأمريكا. وهذا يخالف في رأيه ادعاءها اعتماد الموضوعية والتوازن. ان أمر ترويج الحرب على العراق لم يكن فقط في يدي محطات وصحف يمينية التوجه حسب بيلجر ومؤلفيّ الكتاب.

ويعتبر ادواردز وكرومويل ان مالكي الصحف الليبرالية كـ»الغارديان» و»الاندبندنت» البريطانيتين يفرضون أجنداتهم على الصحافيين العاملين فيها، كما تفعل الحكومة البريطانية على محطات البث الإذاعي والتلفزيوني المتأثرة بنفوذها، أو مؤسسات مثل «نيوز انترناشونال» وغيرها التي يملكها الثري الأسترالي روبرت ميردوخ أو محطات بريطانية وأمريكية أخرى مشابهة في تمويلها وتوجهها. ويرفض الكاتبان ادعاء هذه المؤسسات الإعلامية انها تعتمد الموضوعية قائلين إنها تحجب تغطية كامل الوقائع وبشكل واضح عندما تدعو الحاجة لذلك، وتكون انتقائية في الأمور التي تغطيها فهي مثلا تركز على ضخامة أعداد القتلى في بعض الأحداث الهامة في الشرق الأوسط وتحاول تقليص أعدادها في أحداث أخرى كالغزو الأمريكي للعراق عام 2003. وبالتالي، يقرأ أو يستمع الجمهور الأوروبي والأمريكي والغربي عموما إلى ما تريد هذه الوسائل الإعلامية ان يسمعه وما هو يناسب مصالح مالكيها والضاغطين على أجنداتها الذين يختارون الأشخاص الذين يحصلون على الوظائف التحريرية الرئيسية فيها ويقررون الأفضلية والأولوية للأخبار بالإضافة إلى تأثيرهم على اختيار الكتّاب والمذيعين والمذيعات في الدرجات المختلفة للمؤسسة.

ولتأكيد موقفهما يذكر المؤلفان في هذا المجال تحوير الحقيقة في الإشارة إلى قدرات النظام العراقي السابق على إصابة المدن والعواصم الأوروبية بصواريخه خلال 45 دقيقة، بينما كانت المعلومة الحقيقية أن هذه المدة هي بالتحديد المطلوبة لتحضير أجهزة الإطلاق للتصويب وليس مدى وسرعة وصول هذه الصواريخ عبر القارات. وقد استخدم رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وسائل الإعلام البريطانية وبينها «هيئة الإذاعة البريطانية تمهيداً لغزو العراق قائلاً في عام 2002 إن باستطاعة النظام العراقي السابق ضرب بريطانيا وأوروبا خلال 45 دقيقة بأسلحة الدمار الشامل، حسب الكاتبين.

خطورة الإعلام الصادر عن المؤسسات التي تدّعي أنها ليبرالية وموضوعية التوجه، في رأي الكاتبين كونها توحي بوجود اجماع بين الإعلام اليميني المحافظ واليساري الليبرالي حول قضايا أساسية ومصيرية فيما لا يتواجد مثل هذا الاجماع في الواقع ولا بين المجموعات الشعبية المؤيدة للجهتين والمختلفة في مواقفها. ويقولان في الصفحة التاسعة من الكتاب إن أحد صحافيي جريدة «الغارديان» البريطانية أكد في عام 2002 أن العراق امتلك أسلحة الدمار الشامل في ظل النظام السابق فيما لم تؤكد بعثة الخبراء التي أرسلتها الأمم المتحدة مثل هذا الادعاء. كما ادعى الصحافي جورج مونبيوت، حسب قولهما (في عام 2007 في «الغارديان») ان إيران تسعى لصناعة القنبلة النووية. وفي تقييمه للحملة العسكرية التي شنها حلف «الناتو» ضد ليبيا وأدت إلى إسقاط النظام كتب مونبيوت في تشرين الأول/اكتوبر 2011 عن هذا الهجوم العسكري: «ان هذا العمل كان الشيء الصحيح الذي يجب أن يحدث مهما كانت أسباب حدوثه». ولم يأخذ في الاعتبار ان رد بعض الصحافيين مثله الذين يكتبون ويحررون في الصحف ووسائل الإعلام الليبرالية الأخرى ان قصف دول كأمريكا وبريطانيا وفرنسا لدول في العالم الثالث والشرق الأوسط، بهدف الاستيلاء على خيراتها الطبيعية (النفط والغاز وغيرها) هو أمر مخالف للشرائع الدولية وانه يعيد العالم إلى فترة الاستعمار في القرون السابقة حسب رأي الكاتبين. ويسخران من هكذا ليبرالية ويسارية صادرة عن هكذا كتّاب في مؤسسات تدعي الدفاع عن الحريات في العالم.

ويؤكد الكاتبان بالإضافة إلى الكتّاب الذين ينتقدون مثل هذه الممارسات في مؤسسات الإعلام الليبرالية يتعرضون للاتهامات بأنهم من مؤيدي الستالينية والديكتاتورية والأنظمة القمعية في الشرق الأوسط والعالم كإيران وسوريا وكوريا الشمالية. ومن الذين تعرضوا لمثل هذه الانتقادات الكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي وغيره من المدافعين عن حقوق الإنسان.
ويتساءلان لماذا سيكون صدام حسين غبياً إلى درجة إثارة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل في وقت كانت الدول الغربية تحضر فيه لهجوم عسكري ضده؟ ولماذا ستفرش دول مثل إيران وسوريا سجادة أمام مثل هذا الغزو الأجنبي في فترات تعرف فيها قياداتها ان أمريكا وبريطانيا وحلفاءهما يفتشون عن ذريعة للقيام بهجوم عسكري ضدها؟ وبالتالي ان ما تفعله وسائل الإعلام الليبرالية هو التمهيد للهجمات العسكرية الاستعمارية ضد دول لها مصالح في تدميرها أو تقسيمها، أي ان اليسارية والليبرالية أصبحت تروّج للاستعمار بدلاً من الحلول السياسية عبر المفاوضات وتأمين وصول العدالة لأصحاب الحقوق. وأكدا أنهما لا يؤيدان الأنظمة القمعية ولكنهما يحرصان على تطبيق الشرائع والقوانين الدولية ويرفضان مبدأ إثارة النزاعات المسلحة في دول الشرق الأوسط والعالم الثالث من أجل بيع الأسلحة والسيطرة على الخيرات الطبيعية لهذه الدول.

الفصل الرابع من الكتاب يتطرق إلى الصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، ويقولان إن تغطية هذا الصراع هي «فظيعة في انحيازها في الصحف الغربية اليمينية والليبرالية بحيث إما تُغطى بانحياز لإسرائيل أو تجري طمس الحقائق الفعلية حول ما يجري بالفعل (ص 59). وهذا الأمر بدأ منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي وحتى الساعة.
ويقولان إن حقيقة الوقائع حول ما جرى ويجري في غزة في السنوات الأخيرة والحصار المريع لهذا القطاع الذي تمارسه إسرائيل وعمليات الاستيطان المستمرة في الضفة الغربية لا تجري تغطيتهما بالشكل الوافر في الإعلام الليبرالي ويتم ذكرهما كأخبار وأحداث عادية من دون الإشارة الكافية إلى احتقار الإنسانية والمبادئ الأخلاقية فيهما من الجانب الإسرائيلي وذلك بحجة الخوف من توجيه الاتهامات إلى المؤسسات الإعلامية بالعداء للسامية كما وجهت وتوجه إلى زعيم حزب العمال البريطاني جيريمي كوربن، الذي يخصص له الكاتبان الفصل الثاني بعنوان «محاولة اغتيال كوربن» وبالتالي، يرى الكاتبان أن مؤسسات الإعلام الليبرالية والصحافيين البارزين فيها يتخذون مواقف متماهية مع مواقف الصحف ورسائل الإعلام التابعة لروبرت ميردوخ ومجموعتي «التلغراف» و»الاكسبرس» الصهيونيتي التوجه. ويذكر ان أسماء بارزة في «الغارديان» من مؤيدي هذا التوجه كجوناثان فريدلاند ولوك هاردينغ وغيرهما بالإضافة إلى مذيعين ومقدمي برامج بارزين في «هيئة الإذاعة البريطانية» (ص 63).
ويعتبر الكاتبان ان إسرائيل تمارس التطهير العرقي ضد الفلسطينيين وتحاول فرض صفقات مجحفة بحقهم بدعم من أمريكا ودول أوروبية وبواسطة «القصف الترويجي» من جانب وسائل الإعلام الغربية على اختلاف توجهاتها.
ويتهمان الصحف ووسائل الإعلام الليبرالية الغربية بعدم فضح سياسات ارييل شارون وايهود أولمرت وبنيامين نتنياهو وهجماتهم ضد الشعب الفلسطيني وبالتغاضي عما يُسمى «مسؤولية الحماية» التي ربما مورست في قضايا أخرى لتحقيق أهداف استعمارية، وإلا كيف تتم موازاة هجمات إسرائيل العسكرية على غزة المستخدمة فيها أحدث وسائل ومعدات الحرب المدمرة للأرواح ببضعة صواريخ غير حديثة تُطلق من غزة للرد، كما تُصور الأمور بانحياز في أخبار تلفزيون «هيئة الإذاعة البريطانية» (ص71)؟
في الفصل الأخير من الكتاب، وبعد فصول عن ليبيا وسوريا واليمن وجيريمي كوربن وأمور داخلية أخرى يقول الكاتبان إن مسؤولا سابقاً في «وكالة الاستخبارات الأمريكية» كتب ان مؤسسات روبرت ميردوخ الإعلامية وبعض المؤسسات الإعلامية الليبرالية في بريطانيا تعتمد في أخبارها في كثير من الأحيان على ما يردها من الأخبار المحرّفة من الاستخبارات الإسرائيلية حول قضايا الشرق الأوسط، والأمر كذلك حول دور روسيا في المنطقة وتأثيرها على الانتخابات الرئاسية الأمريكية (ص 214 ـ 217) وبالتالي سميا هذا الفصل «الأخبار المحرّفة». وأضافا فيه إلى مواقفهما في الفصول السابقة ما سمياه «عدم اتخاذ المواقف حيث يجب اتخاذها». وعنيا بذلك أن من واجب الإعلامي اتخاذ مواقف إنسانية وأخلاقية في بعض الأحيان عندما يمارَسُ التعذيب وعندما تُصدّر الأسلحة المدمرة إلى دول تستخدمها لقصف وقتل الأبرياء في دول أخرى. ويلومان الإعلام الليبرالي في الغرب على تقاعسه عن اتخاذ مثل هذه المواقف إزاء ممارسات ارتكبتها جهات دولية رسمية في ليبيا وسوريا واليمن (ص 228).
ويعتبران ان ما قاله المفكر الأمريكي الليبرالي الراحل أريك فروم، في هذا المجال على صواب وهو أن الموضوعية الإعلامية والفكرية في مثل هذه الأحوال تشكل شبه جريمة أخلاقية غير مقبولة، وأن من غير الإنساني اعتماد مبدأ «هذا موقفكم وهذا موقفنا» في مثل هذه الحالات.

 

David Edwards and David Cromwell: Propaganda Blitz
Pluto Press, London 2018
312 pages.

جريدة القدس العربي