جملة أخيرة قصيرة من ثلاث كلمات ينهي بها محرر باب سرد في (الكلمة) قصته البديعة، ولكنها تدفعنا إلى إعادة قراءة هذه القصة المكثفة من جديد، وقد ألقت على كل تفاصيلها ضوءا باهرا يدفعنا إلى تأمل آليات العنف والدمار وهي تتخلق أو بالأحرى تتجذر في أحياء/ موتى!

وداع

سلام إبراهيم

 

انسل وحيدا تحت مطرٍ خفيفٍ لم يزل يتساقط منذ بكرة الصباح. خاض لاهثاً في وحل ممرٍ جبلي يصعد إلى مقبرةٍ مهجورة. كان مشتت الذهن لا يفكر بشيء محدد. ضايقته كتل الطين اللزجة التي تثّقل حذاءه. وجده كما جرى الأتفاق معهم. حطوه في باطن الغروب الماطر تحت شجرة لوز شاهقة ملفوفاُ ببطانية مبتلةٍ وملوثةٍ بالوحل وبقايا أنفاس لمقاتلين رحلوا. علق بندقيته بنتوء يشق ابتلال الساق المتهزع. تناول معولهم الصدئ الذي وضعوه جنب امتداد الجسد. تخفف من ملبسه، شرع يحفر في صلابة الصخور النائمة برطوبة التراب.
...........

في أوخر ليلة ثلجية صاقعة البرد ايقظهما الحرس، تأملا تبعثر أجساد المقاتلين الغاطة في سباتها العميق على امتداد غرفة الطين الرطيبة، الطويلة المرتكز سقفها الخفيض على خمسة أعمدة سميكة من سيقان أشجار يابسة. بصمتٍ ارتديا حذائيهما. حملا بندقيتهما بذلك التثاقل المغمور بالنعاس والمتقطع بهمس حفيف الأغطية، ورطوبة استناد الظهر الخدر إلى الجدار، واحتكاك حديد البندقية في الجنب الخارج لتوه من دفء الفراش. نفذا خلال كوة الباب الخفيضة إلى بياض الثلج الطالي السفوح والأودية والقمم ونفسيهما. في عتمة غرفةٍ رطبةٍ خانقةٍ تبعثرت افرشتها الوسخة في ارتجاج ضوء فانوس هزيل طالعهم وجه مصفر، مرتبك، يغالب رعشة الموت بصوته دون جدوى:
_
رفاق أنها مهمة خاصة!.
...............
..................

اشتد تهاطل المطر والعتمة. صفرت ريح مباغتة عبثت بأعالي الأشجار، فناحت بولولةٍ ازدحمت بأصوات تكسّر أفرع شائخة. كان يزيح بيديه الموحلتين الطين والصخور من باطن الحفرة التي اتسعتْ.
انهكته شؤون الطين فاسترخى جالساً على حافتها يتأمل بعينين تحجرتا همود الرجل المبتل الملفوف الساكن تحت المطر وأوراق اللوز.
-
عدتُ لا أحتمل.
-
لا تحتمل من؟!.
-
كل شيء.. كل شيء!.
-
ماذا تعني؟
- نكمن كقطاع طرق لنقتل بشراً من حيث لا يدرون.
-
هم يقتلون أيضاً.
-
مساقون قسراً بآلية الدولة وقوانينها.. أما نحنُ.. أوف..
انصت في شروده الموحل إلى ضجيج المجرى الرتيب، المنبعث من اسفل الوادي العميق، إلى وشيش تساقط حبات المطر المستمر، وتعّطفَ مفكراً في محنةِ الجسدِ الباردِ المخبوء في عتمة البطانية البالية الناقعة .. في الطين ... الصخور ... مصيره ... المطر ... تناوح الريح ... ونذالات البشر.
....................................

يمما مع أربعة مقاتلين صوب انحدار ممر ثلجي يؤدي إلى غرفة منزوية تقبع كالقبر في قعر الوادي. استخرجوا من حلكتها الرطبة العفنة ثلاثة رجالٍ بوجوههم الشاحبة المستريبة المفزوعة الممصوصة والتي فاقت صفرتها وجوه الموتى. توغلوا في عمق الوادي الصاعد رويدا .. رويدا .. كان انسلال خيوط الغبش الفضية يرش الرجال التسعة السائرين .. الحالمين بغفوة الفجر العميقة بقطراته الباعثة عميق الشجن، ويذكرهم بدفء الأفرشة المدفونة بعفن الرطوبة في غرف الطين اللاطية في أودية وعرة نسيها حتى الرب. لكلٍّ من السائرين حلمه .. واحد بطفلته والثورة وحلم العدالة
.. والآخر.. بدفء الفراش وغفوة الفجر..
..
بحبٍ منسي قديم..
..
باليقين المجهول..
..
بورطة الحياة..
..
بأمه وأبيه..
..
بغناء بلبل..
وهو.. بالمعاني والأسئلة...
انخرست الأحلام وسفر الصمت والصخور والثلج وغناء البلبل واوائل الفجر وذيول بقايا الظلمة حينما أمر الآمر بالتوقف. أوقفوهم في فسحة عاريةٍ مهجورةٍ قرب جدار صخرة كبيرة. انهمك الثلاثة بإزاحة طبقات الوفر المتجلد. ظهرت بشرة الفسحة السمراء، فارتفعت الاذرع الناحلة بتثاقل ضاربة وجه التراب المرصع والمتراص بفتات الصخر الصلد. أصوات اسنان المعاول الرتيبة المتناوبة واللهاث يكسران صمت الفجر والوجوه والبنادق والوادي والريح التي استكانتْ.
..................................

كان يغرز في ليلٍ صار شديد الحلكة أصابعه في دفء التراب والصخور اللائذة في العمق، يجمعها، يكتلها، يشمرها إلى دكنة الكومة المرتفعة يسار الحفرة. هدّه التعب فاسترخى. مسح يديه. أخرج علبة دخانه شاهده على برق عود الثقاب يستقيم بصدره الناحل ملقياً كفنه وينحني باتجاهه قبل أن يلتئم بجدار الظلمة .. سمعه يهمس بمفردات مبعثرة عن صمت الرأس العاطل والنبع ومفتاح الخلاص .. بنفس ما كان يهذي به في آخر رقداته بغرفة الطبابة الطينية قبل يومين.
.....................

ثلاثة معاول تشق فضة الغبش المظلم وصمت الثلج وعري الأشجار واستيحاش وجوه المقاتلين المفتتة الواجمة المرتبكة .. اوثقوا أيديهم إلى الخلف وصفوهم على حافة الحفر الضحلة.
-
استعدوا رفاق.
رمقه جانباً بوجهٍ متيبسٍ، هلع، مفجور بصرخة خرساء والبنادق استقامت مصوبة نحو اهتزاز الأجساد الهزيلة (في غبشة الغسق. في باحة تدفق مبتدأ النبع صَوّبَ بدقة متناهية إلى فمه المفتوح، تحت المطر الساهر منذ تباشير الفجر. كان قد أستغل أنشغال رفاقه في العشاء وتسلل من غرفة الطبابة متوجها إلى النبع مع بندقيته)
تهالك الأول صارخاً صراخ رعبٍ وتفلش متناثراً في تقلبه المبعثر. انهار الثالث بصمتٍ متكوراً في ضحالة حفرته كشجرة منخورة ملّتْ الوقوف والدنيا. وصمد الأوسط بوقفته المنحنية جذعاً مشققاً يقاوم شديد الريح بارتجاف مجنون.

(اهتزَّ.. سكن.. وأهتزَّ وسكنَ.. ارتعدَ.. ثم ضغط بسبابةٍ جامدة، انشال وانحط على حافة النبع الدافق مستلقياً على ظهره غائراً في السكون وحارزاً في سواد عينيه اضطراب الغيوم والدنيا وحبات الماء الهامي وشهقة قامات الصنوبر والبلوط)
أنهضه من سقطته وأسنده من تحت ابطيه وانحدر به عائداً إلى القاعدة، بعد دقائق تفجر سكون الغبش الطالع بزخات الرصاص، فرّن صدى الدوي في أرجاء روحيهما ليتذاوى مائعاً في جلال صمت السفوح واشجار اللوز والجوز والبلوط العارية.
أحاطوا أمره بالكتمان. منعوا سواه من رؤيته. وجدوه يغفو ملامساً حوض النبع، مبعثر الرأس. كان صاحب الوجه الأصفر الذي بعث بطلبهم في ذلك السحر الثلجي يرتعد. وآخر يغالب دمعته، والثالث لا تنم قسماته عن انفعال ما. تداولوا دونه، ثم أخبروه بالقرار.
انسل وحيداً تحت مطرٍ خفيف لم يزل يغسل الأشياء منذ تباشير الضوء. وجده بالمكان المتفق عليه. فّلَ عقدة الحبل مزيحاً البطانية الموحلة. سحبه من قدميه. انزله بتؤدة إلى باطن الحفرة. احتضنه. احسه ساخناً.. شجاعاً.. مقداماً.. جسوراً. أمالهُ بهدوء إلى أن استكان الجسد إلى طراوة الطين. ازداد صبيب السماء ضراوةً، والظلمة حلكةً، والريح نواحاً. دفع بأول قبضةٍ من الصخور المطينةِ إلى فم الحفرة.
كان يدفن روحه.