يواصل الناقد العراقي هنا عمله على بلورة أدوات بنيوية تحليلية للتعامل مع النص السردي العراقي، ويقصر دراسته التطبيقية على قصة قصيرة يتناول مسألة الزمن فيها واستراتيجيات التزامن أو الاسترجاع أو الاستباق الدالة، ليكشف لنا كيف يسهم مثل هذا التحليل في إضاءة النص السردي والكشف عن خوافيه.

مفاتيح الذاكرة ومستويات السرد

في حكاية «أوراق سرية من مذكرات فتاة شابة»

محمد رشيد السعيدي

 

مقدمة:
1. حكاية (أوراق سرية من مذكرات فتاة شابة)([1]) هي الأولى في مجموعة (قلعة الحاج سهراب)، الصادرة سنة 2007، للحكّاء([2]) العراقي هشام توفيق الركابي. المولود في قضاء بدرة، التابع لمحافظة واسط/ العراق، سنة 1946، والمتخرج في قسم اللغة العربية/ جامعة بغداد، في بداية العقد الثامن من القرن الماضي. فعمل مدرسا للغة العربية في الثانويات العراقية. أصدر سنة 1977 روايته الأولى (المبعدون) فحققت صدى طيبا في الوسط الأدبي العراقي. ثم أصدر (أعداد المدفع 106) سنة 1983، و(صعود النسغ) سنة 1986، و(أيوب) سنة 2000، و(ثلاث قصص) سنة 2001.

2. يتميز الركابي، وأدبه، بتمسكه بتراب وطنه، وانتصاره للكادحين من أبناء شعبه. ويشعر أن أفضل مكان يمارس فيه عشقه الأبدي ـ الكتابة ـ هي مدينته الحبيبة (بدرة). ويبدو لي أن انتقاله القسري الى بغداد أثـّر كمـّا على إنتاجه([3]). وبسبب عزلته الاختيارية، وربما بسبب مواضيع حكاياته، لم يحظَ نتاجه بما يوازيه من دراسات وقراءات نقدية، على الرغم من سرعة بيع نسخ كتبه المنشورة كلها عن وزارة الثقافة العراقية.

التحليل الزمني للحكاية:
1. ليس من السهولة، على حدّ علمي، الفصل التام بين الزمن والحدث. بمعنى: عدم إمكانية حصول فعل/ حدث في لا زمان. وفي الواقع، ليست الحياة سوى قطار سائر على سكة الزمن، من المحطة الأولى، منطلقه: الولادة، حتى المحطة الأخيرة، توقفه الأبدي: الموت. ويمتلئ زمن الحياة، دقائقه وساعاته وأيامه وشهوره وسنواته، بالأحداث. وتنطبق صورة القطار على كتابة الحكاية. فلا مناص، حين يقوم الكاتب بكتابة عمله السردي، من الإتيان بأحداث واقعة في زمن. والحدث فعل. والفعل في اللغة العربية، هو: "ما دلّ على معنى في نفسه مقترن بزمان كفعلَ يفعلُ إفعلْ"([4]).

وإذ تبدو كتابة نص سردي لا زمني عملية مستحيلة، فقد أصبح الزمن عنصرا بنائيا من عناصر الخطاب. وهو كذلك حتى في الدراسات ما قبل البنيوية، ولكنه تجلى بصور أكثر فاعلية، وتطور من كونه عنصرا يجب مراعاته منطقيا، الى مسرح لألعاب إبداعية، حيث "ارتبطت حداثة الرواية بقدرتها على التلاعب بالبنية الزمنية، لدرجة أصبحت معها زمنية الأحداث، عنوانا لتمييز نمط روائي من سواه"([5]).

2. الزمن المعيش، هو الزمن المعروف لكل انسان، وهو الغالب في الحكايات القديمة، ذلك النمط الطبيعي، الكرونولوجي، أو "زمن الساعة"([6]). أي الذي يسير بمتوالية منطقية من البداية الى النهاية([7]). والطريقة الأخرى في تقديم الزمن هي عرضه مليئا بالمفارِقات الزمنية([8])، أي تلك الالتواءات والانحرافات في المسار الطبيعي له.

3. وفي النقد، فقد: "نظر الشكلانيون الروس للعنصر الزمني نظرة مغايرة، وتمثل ذلك في ما أثاره توماشيفسكي بتمييزه بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي، والذي مثـّل انعطافة خطيرة في النقد الروائي لاسيما فيما يتعلق بالبنية الزمنية"([9]). ويذكر الدكتور سعيد يقطين تعريف المتن الحكائي: "هو مجموع الأحداث المتصلة فيما بينها، والتي يقع إخبارنا بها من خلال العمل". وتعريف المبنى الحكائي: "يتألف من نفس الأحداث بيد انه يراعي نظام ظهورها في العمل، كما يراعي ما يتبعها من معلومات تعينها لنا"([10]).

4. وقد وصل تحليل الخطاب الى مستويات هامة على يد جيرار جنيت. الذي فرّق بوضوح بين زمنين في الخطاب، هما: زمن الشيء الذي تتحدث الحكاية عنه، وزمن الحكي. وحلل مختلف أنواع العلاقات التي تربط الزمنين، زمن القصة الحقيقي، وزمن الحكاية الزائف الذي يمكن أن يكون هو نفسه زمن الكتابة أو زمن القراءة. ولكنني أظن أن الاقتصار على زمن الحكاية بوصفه زمن السرد، الذي "هو الحدث الذي يقوم على أن شخصا ما يروي شيئا ما: إنه فعل السرد متناولا في حد ذاته"([11])، في تحليل علاقته بزمن الحكاية، بمعناها الثاني عند جنيت، هو التحليل المنسجم مع هذا المنهج. لأن زمن الكتابة وزمن القراءة يقعان خارج الخطاب.

4. 1. وحسب جنيت، فإن العلاقة بين زمن القصة وزمن الحكاية تقوم على ثلاثة مستويات، هي:

أ. علاقات الترتيب الزمني بين تتابع الأحداث في المادة الحكائية وبين ترتيب الزمن الزائف وتنظيماتها في الحكي.

ب. علاقات المدة أو الديمومة المتغيرة بين هذه الأحداث أو مقاطع حكائية، والمدة الزائفة/ طول الخطاب، وعلاقاتها في الحكي: علاقة السرعة التي هي موضوع مدة الحكاية.

ج. علاقات التواتر بين القدرة على التكرار في القصة والحكي معا."([12]).

4. 2. وقد يكون تحليل الخطاب من خلال المستويين الأولين كافيا للوقوف على مظاهر بنية الزمن السردي، وفي ما يخص المستوى الثالث فإنني أرى رأي الدكتورة يمنى العيد: "يميل بعض النقاد الى عدم إدخال التواتر في مقولة زمن القص، ويرون أن التواتر يخص مسألة الأسلوب السردي الروائي"([13])، مناسبا.

حكاية «أوراق سرية ...» من منظور زمني:

1. ترد إشارة، ذات مظهر زمني ـ تأريخي، هي: "حدث ذلك في نيسان عام 1980م" ص7، بعد العنوان، لربط الوقائع بالتأريخ، ولغاية تتعلق بالدلالة على أشياء تفهم من خلال القراءة. وهي ليست بنية زمنية. وعلى الرغم من عدم تأثير تلك الإشارة على طريقة بناء المشاهد/ القصص وترتيبها في زمن الخطاب، إلا أنها ستكون مفتاحا لشفرات زمنية، كما سنرى.

2. ومن خلال عبارة: "حدث ذلك في نيسان عام 1980"، وعبارة: "أذكر أنه كان ذات نهار مشرق وجميل"، التي تفتتح الحكاية، نلاحظ:

2. 1. عادة ما تكون كتابة المذكرات في وقتها، يوميا، مع وضع تواريخ الأيام. لكن الفعل (أذكر) يدل على كتابة هذه (المذكرات) في وقت آخر، بعيد نسبيا عن زمن الوقائع.

2. 2. وبناء على ما سبق أصبح لدينا ثلاثة أزمنة: الأول: نيسان 1980، زمن الحكاية الاطارية. والثاني: زمن الحكايات الداخلية. والثالث: زمن الكتابة؛ وهو المستبعد في هذه الدراسة.

3. يمكن، أو من الأفضل، تقسيم (أوراق سرية...) الى:

  • المستوى الأول للحكي، أو حكاية الإطار([14])، والتي هي (أوراق سرية من مذكرات فتاة شابة).
  • المستوى الثاني للحكي، أو الحكايات الضمنية، والتي ستظهر جراء البحث.

3. 1. وقد قامت الحكاية الاطارية على مدة زمنية لا تزيد على بضع ساعات في يوم غير محدد من شهر نيسان 1980. وعلى الرغم من عدم إفصاح الحكاية عن بداية ونهاية ومدة مسارها الزمني، لكن قراءتها توضح أن هذه الحكاية انطلقت منذ سفر البطلة (انتصار) بواسطة الحافلة الى مدينتها الحبيبة (بدرة)، وانتقالها الى بيت أهلها "قصر الوالي في القلعة" الذي تفصله مسافة "تزيد على ثمانية كيلو مترات" عن مدينة بدرة. وبعد أن التقت بوالدتها وأخيها الصغير، عادت بأسرع ما يمكن الى (بدرة) حيث شاهدت أختها (سهاد) لبضعة لحظات، ثم "تغادر" بسيارة قريبها ـ التي سبق وأوصلتها الى بيت أهلها ـ باتجاه مدينة (الكوت)، على أغلب الظن، لأن البطلة (انتصار) تريد العودة الى جامعتها في (البصرة)، وهو المكان الذي جاءت منه.

3. 2. وحيث لم ترد في الحكاية أية اشارة الى مدتها الكلية، ولم توضح، أيضا، المكان الذي جاءت منه البطلة، بالحافلة، وعادت اليه، بسيارة قريبها، فإنه سيكون، ظنا، (الكوت)، ليمكن تقدير زمن الحكاية، بواسطة حساب أزمان قطع المسافات الفاصلة بين أماكن الأحداث، وأزمان الأحداث، بحوالي (4 ـ 5) ساعات.

4. ثمة سؤال يطرح نفسه، في أحيان كثيرة، على الكاتب، هو: من أين أبدأ؟ ولن تقوم الاجابة الفعلية على هذا السؤال، تنفيذ الكتابة، بتحديد النقطة الزمنية للشروع فحسب، بل إنها ستبين طريقة تقديم المادة([15])، ورسم خارطة لمسارات أحداث الخطاب. وإذ بدأت حكاية (أوراق سرية...) من رحلة البطلة، وانتهت بعودتها الى مكان الانطلاق ذاته، فإنها سارت بمسار خطي، أو زمن كرونولوجي.

5. إذن،لم تقدم الحكاية الإطارية لعبة زمنية، تلك التي تتعلق، غالبا، بلحظة الشروع، بل لجأت الى الطريقة التقليدية في تقديم الزمن، كعنصر أساسي، يشترك مع المكان، في البناء السردي التقليدي، ليشكلا مسرح الأحداث. لكن هذه الحكاية، البسيطة في حالة إفراغها من الحكايات الضمنية، سوف تعتمد على المفارِقات الزمنية المتعددة، لتعزيز مادتها السردية، وبناء خطابها الحكائي، وتقديم طريقة أخرى للزمن السردي، أو "التفنن في اللعب بالزمن لتحقيق غايات: التشويق، والتماسك، والإيهام بالحقيقي"([16]).

6. ضمت الحكاية الإطارية خمس حكايات تضمينية، ثلاثا منها إسترجاعية، واثنتين إستباقيتين:

الإسترجاع:
أ. حكاية جهاد:

1. تربط المفارِقات السردية، بالحكاية الأم، روابط فنية وأخرى موضوعية. أو روابط فنية ـ موضوعية في آن واحد، هي أسباب وجود المفارِقات: كانت البطلة جالسة في الحافلة، و: "الصور المرعبة تتساقط على رأسي" ص 8، حيث كانت تستعرض الأخبار الأخيرة التي سمعت بها، وتسفير أهلها([17])، لأسباب طائفية أو سياسية، في أجواء وحشية وقاسية، حسب الأوصاف الواردة في الحكاية. كانت تشعر بالخوف والهلع بسبب قصص التسفير، لذا فإنها سوف تهرب بذاكرتها الى مرابع الطفولة، الى: "أكثر المواقع التصاقا بذاكرتي، وأقربها الى قلبي [وادي الكلال]" ص10؛ وما يتعلق بذلك الموقع من ذكريات مفرحة أو حزينة، سيكون سببا لهذا الاسترجاع.

2. وإن كان السبب السابق ذاتيا، فإن السبب الموضوعي، لمفارِقة الاسترجاع هذه، ولكل الاسترجاعات الأخرى في هذه الحكاية، هو المكان: "مرابع الطفولة والصبا. القلعة. بستان القائمقام. قصر الوالي. وادي الكلال. طاحونة الشيخ سليمان.."/ ص9. لكن الملاحظة على السبب الموضوعي للاسترجاع، المكان، في حكاية جهاد، هي أن البطلة لم تسترجع الحادثة المرتبطة بالنهر وهي قربه، بل استعادت صورته من الذاكرة، واستعادت وقائع القصة، المرتبطة بحوض السباحة المملوء بماء قادم من نهر الكلال، من ذاكرتها. إذن، هنا، يتداخل السببان الذاتي والموضوعي.

3. في أغلب الأحيان، وهنا في حكاية (أوراق سرية...)، تقدم مفارِقة الاسترجاع حكاية كاملة. أما مفارِقة الاستباق فإنها لا تقدم حكاية كاملة، بل تؤدي واجبات أخرى، أقربها إثارة اهتمام القارئ، والتمسك به لإكمال قراءة الخطاب.

4. وعند هذه النقطة من حكاية (أوراق سرية...)، حين استعان السرد بالمكان لتقديم مفارِقة الاسترجاع، فإنه سيقدم استباقا صغيرا في مدخل الاسترجاع: "عند ذلك الحوض وقعت مأساة مروعة"/ ص10. ورغم أن الاستباق، هنا، لم يقدم حكاية ضمنية، لكنه قام بدوره الرئيسي، الذي هو تقديم معلومة ما عن سياقها. لأن المأساة المروعة ستقع في نهاية الحكاية الضمنية.

5. بدأت مفارِقة (حكاية جهاد) من جملة: "أنا طفلة في الخامسة من العمر..."، وانتهت بجملة: "حيث يرقد الأموات.."/ ص 11ـ 12. ولمعرفة العلاقات الزمنية الرابطة بين زمنين حقيقيين، هما: زمن حكاية (أوراق سرية...) الذي هو بضع ساعات من "نهار مشرق وجميل"، "في نيسان عام 1980م"، وزمن الحكاية الضمنية (حكاية جهاد)، نستعين بمفاتيح وردت في الخطاب، هي:

  • حدث ذلك في نيسان عام 1980/ ص 7.
  • التحاقي بالجامعة منذ عامين/ ص 10.
  • أنا طفلة في الخامسة من العمر/ ص 11.

5. 1. ومن خلال المفاتيح الثلاثة السابقة نستطيع حل الشفرة الزمنية للحكاية، للوقوف على المدى الفاصل بين مستوى الحكي الأول: نيسان 1980، ومستوى الحكي الثاني، المجهول لحد الآن، (حكاية جهاد)، وذلك بالطريقة التالية:

 

سن القبول في الدراسة الابتدائية

6

 

عدد سنوات الدراسة الابتدائية

6

 

عدد سنوات الدراسة الثانوية

6

 

عدد سنوات الدراسة في الجامعة

2

 

المجموع

20

عمر الفتاة سنة 1980

أنا طفلة في الخامسة من العمر

5

 

الناتج

15

مدى الحكاية

الجدول رقم (1)

5. 2. أجاب الجدول السابق عن مجموعة أسئلة، الأول هو تحديد أزمنة الوقائع: الأزمنة الحقيقة للأحداث، ليربط الحكاية بالواقع. والثاني معرفة المدى الفاصل بين زمن الحكاية الإطارية، 1980، وبين زمن القصة الأولى 1965، وهو (15) سنة.

6. ويمكن التوصل الى علاقة أخرى بين الحكاية الإطارية و(حكاية جهاد)، هي أن الأخيرة تقع خارج زمن الأولى. وهي ما يسميه جنيت استرجاعا خارجيا. فهي غير داخلة في الحكاية الأولى، ولا تقدم لها شيئا سوى إطالتها. لكنها جزء لا يتجزأ، وكل لحظة من حياة الانسان جزء لا يتجزأ من حياته الكلية، وقصة أخرى، افتراضية، غير موجودة في حكاية (أوراق سرية...)، الخطاب، بل هي في حكاية حياة بطلة الحكاية.

6. 1. ويمكن معرفة العلاقة الموضوعية بين الحكايتين من محتويات كل منهما على حدة. وبما أن الأولى هي الأهم، أو هي الخطاب فيكون موضوعها مركزيا، وهي تتعلق بموضوع (التسفيرات)، فإن الثانية ستكون (غيرية القصة)، لأنها تتعلق بحادثة غرق الطفل (جهاد).

6. 2. لقد أوصلنا هذا التحليل الى ثلاثة مستويات زمنية، هي:

  • زمن الكتابة، يكون زمنها حقيقيا بدلالة كونها مذكرات، وهو نيسان 1980.
  • زمن القصة الأولى (حكاية جهاد)، أيضا حقيقي، بنفس الدلالة أعلاه، 1965.
  • زمن القراءة الزائف، أو غير المحدد، على وجه الدقة.

7. ولمعرفة سعة (حكاية جهاد) نحدد بدايتها الواقعة في السطر الأول من الصفحة (11) ونهايتها بـ: "حيث يرقد الأموات" في الصفحة (12). فتكون سعتها صفحتين. ويمكن رؤية هذه العلاقة من ثلاث زوايا، هي: المدى: وهو الفترة الزمنية الفاصلة بين الزمنين. والسعة المقاسة بعدد الأسطر أو الصفحات، وأيضا السعة المقاسة بالوحدات الزمنية:

 

المدى

السعة (جغرافيا)

السعة (زمنيا)

15 سنة

صفحتان

أقل من (12) ساعة

الجدول رقم (2)

ب. حكاية الأقارب المسفرين:

1. توجد اختلافات بين المفارِقتين (أ، وب)، وكذلك توجد تشابهات. أما الاختلافات فهي:

  • المفارِقة (ب) استرجاع تكراري([18]).
  • هي استرجاع مثلي القصة، حيث كان موضوعها هو موضوع الحكاية الإطارية، وكانت المفارِقة (أ) غيرية القصة.
  • المفارِقة الأولى جاءت من الذاكرة استنادا الى شهادة عينية، أو مشاركة في الأحداث. أما الثانية فقد قامت على خبر سمعته البطلة.
  • الاستباق جاء في داخل الاسترجاع في المفارِقة (ب): "يلوي ضابط الأمن......، سأشاهده بعد قليل.... وأنا على ظهر سيارة (لوري)....."/ 15 ـ 16. بينما جاء الاستباق في المفارِقة (أ) قبل ابتداء الحكي يالمستوى الثاني.
  • عدم وجود إشارات زمنية، أو (مفاتيح) لمعرفة مداها الزمني.

وأما نقاط التشابه بينهما فتتلخص بـ:

  • سبب الاسترجاع هو المكان: "تواجهني الحوانيت المقفلة. بعضها لأقربائنا المسفرين"/ ص15.
  • استرجاع خارجي، إذ أن تسفير الأقارب تم في وقت سابق على وقت زيارة البطلة (انتصار) مدينتها.

2. وفي ظل عدم وجود دلائل زمنية لتحديد مدى هذه الحكاية، فقد يمكن الاستعانة بالمفتاح رقم (1) المذكور في (حكاية جهاد)، ولكنه يبقى تحديدا اجتهاديا، كما أنه تحديد غير محدد بدقة. ويمكن أن يكون زمن حدوثها ضمن الشهر/ المفتاح نفسه، أو قبله بقليل. وسيفيد هذا التحديد للمقارنة مع زمن الحكايات الأخرى الضمنية.

2. 1. ابتدأت المفارِقة (ب) من السطر الخامس ـ تقريبا ـ في الصفحة (15)، وانتهت بالسطر الرابع من الصفحة (17)، أي أن سعتها (السطرية) انحصرت بحوالي صفحتين.

ج. حكاية الحب:

1. قبل بداية هذه المفارِقة، كثيرا وقليلا، سطريا، وردت، في الحكاية الإطارية، استباقات، بعضها معلومات أو نتائج لهذه الحكاية. وهي:

  • زواج سهاد المبكر/ ص 17.
  • سنوات الاعداية الثلاث حفلت بأحداث سعيدة، وكذلك بالكثير من المنغصات/ ص 18.
  • شهد العام الأول، من الدراسة، إحدى أجمل قصص الحب/ ص 18.
  • حكاية رائعة نسجتها يد القدر. بطلاها أختي (سهاد) ومدرس شاب عين حديثا في الاعدادية المختلطة التي كنا ندرس فيها/ ص 18.

2. نقرأ في النقطة الرابعة استباقا دقيقا واضحا، وهو عبارة عن حكاية متكاملة الأركان، باختصار. كما ويمكن الاستعاضة عن الاستباقين الثاني والثالث بوجود الاستباق الرابع، لامتلاكه إشارات تفصيلية جامعة لاشارات النقطتين السابقتين.

3. انطلقت (حكاية الحب) هذه، المفارِقة الثالثة حسب ورودها في الحكاية الاطارية، بسبب مكاني، أيضا: "تواجهني الاعدادية المختلطة" ص 17، "الأختان تجتازان البوابة الرئيسة للاعدادية" ص 19. ويبدو التسلسل الزمني بين الحكايات الضمنية قد تخلخل بسبب دور المكان في الاستذكار. وإن كان الانتقال من زمن الى آخر، في الاسترجاعات، دون تسلسل تأريخي (كرونولوجي)، يضيف الى الحكايات ميزات فنية، فقد كان سبب الاستذكار المتواتر، أيضا، ميزة فنية.

4. ثمة مفتاحان لتحديد البداية الزمنية لهذه المفارِقة، هما (3) و(4) من الجدول رقم (1). إذن فقد وقعت هذه الحكاية قبل خمس سنوات من زمن الحكاية الإطارية. مما يعني أن مداها هو (5) سنوات. ولتحديد سعتها الجغرافية نحدد بدايتها بـ: "بدأت الحكاية هكذا.." ص 19، في السطر الثالث من الصفحة (19). وانتهت بـ: "وتغدو أختي (سهاد) والمدرس الشاب زوجين هانئين، لا تحد سعادتهما حدود.." ص 29، في نهاية السطر الثاني من الصفحة (29). فكانت سعتها الجغرافية (10) صفحات. ووردت إشارة في داخل (حكاية الحب) لتحديد سعتها الزمنية: "دام ذلك أشهرا" ص 27، منذ: "بدأت الحكاية في اليوم الأول من التحاقنا بهذه الإعدادية" ص 18، الى: "صباح أول يوم من أيام السنة الجديدة" ص 28، المرتبطة موضوعا وزمنا بـ: "بعد أقل من شهر" ص 28.

5. تبدأ الدراسة في المدارس العراقية في السادس عشر من أيلول من كل عام، وبسبب عدم التزام الطلبة، يمكن اعتبار أيام النصف الثاني من شهر أيلول تتمة لأيام العطلة الصيفية. لذا يمكن اعتبار 1/ 10 تأريخ بداية السنة الدراسية. ولا يبقى سوى ثلاثة أشهر حتى تنتهي السنة، ثم يبدأ شهر كانون الثاني من السنة الجديدة، وهو شهر الزواج، حيث تزوجت أخت البطلة قبل انتهائه، لتكون السعة الزمنية، تقديرا (100) يوما.

المدى

السعة (جغرافيا)

السعة (زمنيا)

خمس سنوات

عشر صفحات

ثلاثة أشهر + ...؟؟

الجدول رقم (3)

الإستباق:
أ. حكاية ضابط الأمن:

1. تقع هذه المفارِقة الإستباقية في المفارِقة الإسترجاعية (ب)، (حكاية الأقارب المسفرين). وبسبب هذا التلاحم بين المفارِقتين، فقد يبدو أيضا أنهما مفارِقة واحدة، مفارِقة مركبة: استباق استرجاعي. ورغم أن هذه الحالة تعبر عن وعي بأهمية المفارِقة، وقدرة على توظيفها، لكنها تربك النسيج الفني للمفارِقة، الإستباقية خصوصا.

2. نلاحظ أن وصف البطلة لـ (ضابط الأمن) "انه ذو وجه احمر، كثير النمش له ملامح جلاد متمرس"/ 15، جاء قبل الإشارة الإستباقية: "سأشاهده" بثمانية أسطر. كيف يوصف غير المرئي؟! هذا تداخل لا واعٍ، وربما لا فني، والتفاف على حركة الزمن غير مقصود، ربما، أو مقصود بطريقة تناقض الزمن الكرونولوجي والفني.

3. يـُفترَض، فنيا على الأقل، أن يقدِّم الاستباق، كالاسترجاع، حكاية متكاملة فنيا، ولكن مفارِقة الاستباق (أ)، لم تقدم قصة مستقلة موضوعا، متكاملة فنا. فهنا، في الإستباق الإسترجاعي، يوجد فضلا عن الأوصاف الخارجية للضابط، وإحساسات الناس الذين يتعامل معهم الضابط؛ وصف تكراري، لما لم تره البطلة، بل لما سوف تسمعه بعد يوم الحكاية الإطارية.

4. ستمر عملية تحديد مدى (حكاية ضابط الأمن) بإرباك/ إبداع، قائم على إيهام، مقصود أو غير مقصود. وتستدعي عملية التحديد هذه افتراضين:

  • تحديد المدى انطلاقا من زمن الحكاية الإطارية، واعتمادا على: "سأشاهده بعد قليل" ص 15. فسوف يكون المدى بحدود (30) دقيقة.
  • تحديد المدى انطلاقا من زمن الحكاية الإسترجاعية، غير محددة المدى أصلا، لإقامة افتراض على افتراض، من خلال المعادلة التالية:

مدى المفارقة الإستباقية (أ) = مدى المفارقة الإسترجاعية + (30) دقيقة.

4. 1. ولكن الافتراض الأول أكثر إقناعا.

5. أما السعة فهي صفحتان إلا سطرين، من السطر السادس في الصفحة (15) الى السطر الرابع في الصفحة (17).

ب. حكاية الأم:

1. المفارِقة الأخيرة، زمنيا وسرديا، هي حكاية أم البطلة. كانت المحطة الأخيرة، أو هدف رحلة البطلة، هي بيت أهلها. وقد التقت هناك بوالدتها، وانتهى اللقاء فعليا بـاختباء (انتصار) عن أنظار ضابط الأمن ص39، ونظرها الى مسرح الأحداث من مخبئها على "ظهر اللوري"، حتى تشاهد أمها: "تحمل حقيبتها من أمام باب القبو....... وتتبع الضابط بخطوات ثابتة لا تريم" ص 44. تقع عبارة: "سوف ينقل لي (نعيم) هذا المشهد المؤلم" ص 44، زمنيا وسرديا، في الحكاية الإطارية، لكن الاستباق الذي يبدأ فعليا من: "رغم أنها لم تسفَّر" ص 44، وينتهي بـ: "الوداع الأخير"، هو حكاية خارجية، زمنيا، عن الحكاية الإطارية. اذن هي مفارِقة مثلية القصة، خارجيتها.

2. يبدو مدى (حكاية الأم) ملتبسا، الى حدٍّ ما. فقد ابتدأ زمنيا أثناء زمن الحكاية الإطارية، في نهار اليوم النيساني من سنة 1980، وانتهى بوفاة والدة البطلة، ولم ترد أية إشارة لتحديد هذه الوفاة. صار المدى معروف الابتداء، مجهول الانتهاء.

3. وللأسباب نفسها فقد تعذر تحديد سعتها الزمنية. أما سعتها السطرية فهي (أقل من صفحتين)، لأنها بدأت من السطر السابع في الصفحة (44) وانتهت بالسطر الثاني في الصفحة (46).

الخلاصة:

1. قدمت حكاية (أوراق سرية..) الزمن بأكثر من طريقة، و/ أو عاملته بأكثر من طريقة. فهي خطية الحكاية الإطارية، واستخدمت المفارِقات والتقديم والتأخير في حكاياتها الضمنية. ولو اعتمدنا التزمين الخطي للحكايات الضمنية، من خلال الاستعانة بالجدول التالي:

المواقع الزمنية

المقاطع السردية

1965

حكاية جهاد

1975

حكاية الحب

1980

حكاية الأقرباء المسفرين

1980

حكاية ضابط الأمن

1980

حكاية الأم

الجدول رقم (4)

لجاءت بالشكل: أ ـ ج ـ ب ـ أ ـ ب.

1. 1. وحين ينظر للحكاية الأم على أنها جزء من الوقائع، فسيكون موقعها بعد (ج). فيظهر المسار الزمني الكرونولوجي في الحكاية مشوها بقصدية.

1. 2. كما نلاحظ على الفعل (أذكر)، الوارد في مطلع الحكاية، ثلاث ملاحظات:

1. 2. 1. تتعلق الأولى بالزمن، حيث خلق زمنا ثالثا، وهو الوهمي. وترك لنا زمنين، وهذا نموذج لم يقدم جنيت مثيلا له في كتابه (خطاب الحكاية).

1. 2. 1. 1. ويؤكد، في الوقت نفسه، على أن الحكاية الإطارية نفسها عبارة عن استرجاع، وما فيها من استرجاع داخل استرجاع أو استباق داخل استرجاع.

1. 2. 2. تتعلق الثانية بالصيغة: حيث أن المذكرات تكتب في حينها، وإن كتبت بعد حين فستكون (حكاية) مستعينة بالمادة الأولية الذاكراتية.

1. 2. 3. وتتعلق الثالثة بمعناه. فقد ورد في (لسان العرب): "ذكر: الذِّكْر: الحفظ للشيء تذْكُره. والذِّكْر أيضا: الشيء يجري على اللسان"([19]). إذ جاز، حسب المعجم، استخدام هذا الفعل لمعنيين هما القول والتذكر. وإن كان الأقرب (أتذكر).

1. 3. وحين نستبعد (المذكرات) صيغيا، ونعامل الخطاب على أنه حكاية، نجد هذا النوع من التقديم (المركب) ملتبسا، ولكنه الأفضل حين يعتنى به. وهو ما يتناسب مع التطور المهم للفن السردي حيث تجاوز مبدأ التسلية، التسلية فقط، الى هدف التفكير والتحليل والاستنتاج.

1. 4. ثمة فروق فنية واضحة بين نوعي المفارِقة: المثلية والغيرية، حيث تبدو الأولى مهمة جدا لاستكمال موضوع الحكاية، ولبيان القدرة الفنية في تهشيم الزمن وتقديمه بشكل فني مثير للاهتمام. أما الثانية فقد تبدو حشوية مملة تثقل الخطاب. وحيث أنني من الذين يميلون الى تقديم (الحكاية القصيرة) بما يلائم صفة (القصيرة)، بسبب بوجود تداخل مربك أحيانا، واستخدام يحتاج الى تقنين وتفنن، بين الحكاية القصيرة والحكاية الطويلة وما بينهما.

1. 5. تستطيع الحكاية الإطارية، في هذه الحكاية، رغم قصر زمنها الحقيقي، أو بالاستفادة من قصر زمنها الحقيقي، وفي غيرها، حين تكون الصناعة السردية ناجحة، أن تستغني عن الحكايات الضمنية، وتؤدي، في الوقت نفسه، الى الهدف المرجو من كتابتها.

2011

الهوامش:

 

([1]) ينظر: قلعة الحاج سهراب، قصص، هشام توفيق الركابي، دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، 2007، ص7- 52.

([2]) الحكّاء ـ حسب رأيي ـ: هو المصطلح البديل، والجامع، والدال على كل من يكتب القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا والقصة الطويلة والرواية القصيرة والرواية الطويلة والرواية. وكل هذه الأصناف السردية تندرج تحت مصطلح الحكاية، لأنها مبنية بطريقة واحدة ومن مكونات واحدة، ولا تختلف فيما بينها إلا في الكميات والحجوم، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأهمية النقدية لتلك التصنيفات في مجالات معينة.

([3]) يراجع تواريخ نشر كتبه في الفقرات الأولى للدراسة.

([4]) ينظر: جامع الدروس العربية، الشيخ مصطفى الغلاييني، راجعه ونقحه الدكتور عبد المنعم خفاجة، المكتبة العصرية، بيروت ـ صيدا، ط16، 1983، ص9.

([5]) ينظر: التحليل البنيوي للرواية العربية، الدكتورة فوزية لعيوس غازي الجابري، ط1، دار صفاء للنشر والتوزيع ـ عمّان، ط1، 2011، ص153.

([6]) ينظر: الصوت الآخر الجوهر الحواري للخطاب الأدبي، فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية ـ بغداد، 1992، ص 88.

([7]) الذي ينهض على مستوى الوقائع، وكأن لما يجري قصه واقعا زمنيا تاريخيا توالت وفقه الأحداث. ينظر: تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، د. يمنى العيد، دار الفارابي ـ بيروت، ط3، 2010، ص114.

([8]) "المفارِقات الزمنية السردية: هي مختلف أشكال التنافر بين ترتيب القصة وترتيب الحكاية". ينظر: خطاب الحكاية بحث في المنهج، جيرار جنيت، ت. محمد معتصم & عبد الجليل الأزدي & عمر حلي، المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة، ط2، 1997، ص47.

([9]) ينظر: التحليل البنيوي للرواية العربية، م. م، ص154.

([10]) ينظر: تحليل الخطاب الروائي (الزمن ـ السرد ـ التبئير)، سعيد يقطين، المركز الثقافي العربي ـ المغرب، ط4، 2005، ص29.

([11]) ينظر: خطاب الحكاية، م. م، ص37.

([12]) ينظر: تحليل الخطاب الروائي، م. م، ص76.

([13]) ينظر: تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، م. م، ص111، الهامش 4.

([14]) ينظر: ألف ليلة وليلة وسحر السردية العربية، داود سلمان الشويلي، من منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق، 2000، ص11

([15]) المتعلقة بمقولة الصيغة، وهي المقولة الثانية في كتاب جنيت.

([16]) ينظر: تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي، م. م، ص 113.

([17]) التسفير: هي عملية تهجير قام بها النظام السياسي العراقي أكثر من مرة، في العقد الثامن من القرن العشرين، لعوائل عراقية الى ايران، بحجة التبعية الايرانية في هوياتهم الشخصية.

([18]) ينظر: خطاب الحكاية، م. م، ص 61.

([19]) ينظر: لسان العرب، ابن منظور، ضبط نصه وعلق على حواشيه د. خالد رشيد القاضي، دار الأبحاث ـ الجزائر، ج5، ص45.