أخذ "الانحلال" كجنس أدبي بالتصاعد بعد بودلير، واضعاً خطاً فاصلاً بين الجمالية القديمة والحديثة. وهو جنس متعالق مع النموّ الاجتماعي نحو فردانية اللغة الفنية، وعدم اهتمام المبدع بمحاكلة الطبيعة، بل توسله بفراديس مصطنعة، وقيامه بتحطيم وحدة النص، والتخلّص من كلّ المستلزمات التسلطّية التقليدية القبليّة.

الانحلال Décadence

عبد القادر الجنابي

 

الكلمة أصلها لاتيني decadere تعني السقوط. ارتبط معناها قبل القرن التاسع عشر بسقوط الإمبراطورية الرومانية، وهي تعبّر عن تداعي النظام وانحلاله الذي يؤدي إلى سقوطه. غير أنّها اتخذت معنى أدبياً في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، أي عندما أجرى الناقد المحافظ ديزيري نيزار في كتابه "دراسات نقديّة وأخلاقية عن شعراء الانحلال اللاتيني" (1834)، موازنةً بين أدب عصره الفرنسي والأدب الروماني المتأخر. تعتبر هذه الدراسة هي الأولى في ادخال مصطلح الأسلوب الانحلالي في الأدب، إذ بيّن انحلالاً متشابهاً بين الرومنطيقيين الفرنسيين والشعراء اللاتينيين: وصفٌ مبالغ فيه، اهتمامٌ بالتفاصيل، وإعلاء لسلطة المخيلة على سلطة العقل: "في فرنسا، موطن الأدب المعتدل والعملي، ليس للكاتب الفرنسي سوى المخيلة، ومهما كانت من النوع النادر، فإنها لا تجعل كاتباً عظيماً. ففيه تأخذ المخيلة مكان كلّ شيء، فهي التي تتصوّر، وتضطلع، إنّها ملكة تحكم من دون محاسبة. لذا لا يجد العقل مكانه في أعمال هذا الكاتب. ثمّة أفكار عملية تطبيقية، لا شيء له حياة حقيقية، لا فلسفة ولا أخلاق".

يجب التمييز بين معنيين تتضمنهما كلمة décadent، الأوّل معنى قدحي يحمل ترسبات قديمة يطلق كشتيمة: "منحط"، "انحطاطي" ...الخ، والآخر معنى أدبي يعبّر عن فترة أدبية تميّزت بأسلوب جمالي حديث عاشتها العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وأفضل ترجمة لهذا المعنى الأدبي هو انحلالي، لتتميّز عن المعنى السلبي الأول. إذ من الأفضل أن نترجم عبارة Baudelaire le décadent بـ"بودلير الانحلالي"، على أن نترجمها بـ"بودلير المنحط"، فكلمة "منحط" لها استخدام سيء وشائع.

يُعتبر الناقد الفرنسي بول بورجيه أوّل من نظّر لـ"الانحلال" كجنس أدبي آخذ، في نظره، بالتصاعد بعد بودلير، وذلك بعقده "مقارنة بين النموّ الاجتماعي نحو الفردانية والمظاهر الفردانية للغة الفنية"، موضحاً "أن قانوناً واحداً يحكم كل تطوّر وانحلال العضو الحي الآخر الذي هو اللغة. الأسلوب الانحلالي هو حيث وحدة الكتاب تتداعى لتفسح المجال إلى استقلالية الصفحة؛ والصفحة تتداعى لتفسح المجال إلى استقلالية الجملة؛ والجملة تتداعى لتفسح مجالا إلى استقلالية الكلمة".

Le style de décadence الأسلوب الانحلالي، إذاً، كما يوضح ماتي كالينسكو، "هو بكل بساطة أسلوبٌ مفضّلٌ لكل تظاهر غير مقيَّد للفردانية الجمالية؛ أسلوب تخلّص من كلّ المستلزمات التسلطّية التقليدية كالوحدة، التراتب، الموضوعية...الخ. الانحلال والحداثة يتطابقان في رفضهما طغيان التقاليد". كما أنّ "الانحلالية" تمثّل فترة أدبية فردانيّة، جريئة، متطرّفة في ثيماتها، غير خاضعة لقواعد أدبية وأخلاقية مرسومة سلفا. كتّابها لا تهمّهم الحياة الواقعية وإنّما كانوا يتوسلون بفراديس مصطنعة، وعوالم هلوسات تتسبب بها المخدرات. بفصلهم الفنّ عن الهدف المرسوم له؛ محاكاة الطبيعة، شكّلت الانحلالية خطّاً فاصلاً أساسياً بين جمالية قديمة وجمالية حديثة.

يقول بورجيه: "هناك ثلاثة أشخاص في بودلير (الباطني، الفاجر والانحلالي)، هؤلاء الأشخاص الثلاثة حديثون جداً، الأكثر حداثة هو توحدُّهم: أزمة الإيمان الديني، الحياة في باريس، والروح العلمية للأزمنة التي ساهمت في صوغ هذه الملكات الثلاث ومزجها، وهي الملكات التي كانت إلى وقت قريب، منفصلة الواحدة عن الأخرى حد التصوّر أنّ من الصعب التصالح بينها".

مفهوم الرومنطيقيين للفردانية وتمرّدهم على الأشكال الكلاسيكية والأخلاق المحافظة، ساعد على صوغ أسلوب حياتي واعٍ ذاتيّاً سمح للأفراد ليس بقبول أفضليات وميول اعتبرت تقليديّاً منحرفة ومنافية للآداب فحسب، بل أيضاً بالاحتفال بها.

بالنسبة إلى بورجيه "لا يتناقض الانحلال الاجتماعي قطعاً مع الإنجاز الفنّي؛ على العكس إنّه قد يفضي إلى خلق روائع. هذه النظرة عن العلاقة بين الفن والمجتمع تعكس المفهوم القائل إنّه كلّما كان الفساد والتداعي كبيرين، سمت بهما المُثل الفنية.

وكتب بودلير: "أَلا يبدو للقارئ، كما يبدو لي، أنَّ لغة الانحلال اللاتيني الأخير – تأوّه سامٍ لشخص قويّ البنية وقد تحوّل وهيّئ سلفاً للحياة الروحيّة – مناسباً على نحو فريد للتعبير عن العاطفة كالتي ادركها وأحسَّ بها العالَمُ الشعري الحديث".

في الواقع، الانحلال هو التيّار الوحيد في تاريخ الأدب الذي لم يكن مدرسةً لها بيانُها، ولا حركةً لها قائد. زاد الطين بلّة، أن معظم شعراء القرن العشرين تجنّبوا تعريفها، مكتفين بتسميتها بـ"المرض"، محاكاة لعنوان إحدى قصائد بودلير "عروس الشعر المريضة". إنها "فن الموت بشكل جميل"، كما قال فيرلين.

أصدر أناتول باجو ما بين 1886 – 1889، مطبوعة عنوانها "الانحلال الأدبي والفنّي"، دعا في بيانه "الشباب لينشروا فيها فهي منبر منفتح للجميع، تقبل بكلّ شيء إلا المبتذَل"! ونشر افتتاحية تعتبر بياناً، عنوانها كلمة منحوتة Décadisme أي انحلاليّة، وقد رحّب بول فيرلين بهذا النّحت اللغوي واعتبره "ضربةَ عبقرية سهلة الاستخدام وتزيح بلا شك المفهوم الانحطاطي لكلمة انحلال". الغريب أنّ باجو كتب افتتاحيته بنبرة طليعية مؤكّداً فيها أنّ الانحلال مشروع تحديثي: "كان القدماء يلائمون عصرهم. نحن أيضاً نريد أن ننتسب إلى زمننا. البخارُ والكهرباءُ هما عنصرا الحياة الحديثة، لا غنى عنهما. ينبغي أن يكون لنا أدبٌ ولغةٌ منسجمان مع تطوّر العلم. أليس هذا حقنا؟ وهل هذا هو الانحلال؟ فليكن انحلالا. نقبل الكلمة. إنّنا انحلاليون، بما أنّ الانحلال ليس سوى مسيرةِ البشر الصاعدة نحو مُثُل يظنّ الناس إنّها بعيدة المنال".

غير أنّ محاولة أناتول باجو هذه لم تؤثر كبيراً لأنّ معظم الشعراء التفّوا حول جان مورياس بسبب بيانه "الرمزيّة". تجب الإشارة هنا إلى أنَّ ثمّة عدداً من النقاد يعتبرون نزعة الانحلال فرعاً من فروع الرّمزية.

هناك أعمال روائية توصف بالانحلال كرواية هويسمان، "بالمقلوب" (1884)، ورواية غوستاف فلوبير، "سالامبو" (1862). أمّا على صعيد الشعر، فثمة سوناتة بول فيرلين "خمول" التي جاء في مطلعها:

"أنا الأمبراطورية في آخر انحلالها

ينظر البرابرة البيض الطوال يمرّون

ناظمين توشيحات بليدة بأسلوب ذهبي

حيث خمول الشمس يرقص بين الأبيات"

قصيدتا بودلير "عروسة الشعر المريضة" و"جيفة" Une Charogne (لها معنى مُضمَر هو داعرة،) التي تبدأ بسرد مشهدي يذكر فيه حبيبٌ حبيبته بـ"جيفة نكراء" سبق أن شاهدها "في صبيحة يوم جميل"، "قوائمها مرفوعة كمومس تحت أشعة الشمس... يطنّ الذباب طنينه فوق بطنها العفن الذي تسيل منه الديدان؛ كخلقٍ يُرَجّع نغماً غريباً"، ويقول لها إنّها ستكون شبيهة بهذه القاذورة، بعد أن تُغسَل وتُكَفَّن، وعندها عليها أن تقول للديدان التي ستقبّلها قضماً، بأنه "يحتفظ بشَكْلِ حبيباته المتحلّلة وجوهرهن السموي".

أمّا صفة "الانحلالي" التي كانت منتشرة وسط الشعراء الرمزيين الروس، فهذه مشكلة عويصة، لم يستطع أيّ ناقد أن يؤكّد بدقّة ماذا كانت تعني: أتعني انحلالاً في السلوك الحياتي للشعراء أم انحلالاً في المواضيع التي يتناولها بعض هؤلاء الشعراء؟ فالرّمزية سواء أكانت انحلالية أم غير انحلالية، باتت على يد الشعراء الرمزيين الروس فلسفة تصوّفية ميتافيزيقية، فكلّ واحد منهم أخذ يشعر كأنّه موئلٌ للكشف عن واقع روحاني. أصبح مصطلح "الانحلال" مائعاً في ثنائيات منبثّة في أعمالهم وسلوك بعضهم: وثنية ومسيحية جديدة؛ حالة ما وراء الخير والشر وبحوث تصوّفية؛ نزعات تكره السياسة وانهماك سياسي نشط؛ فجورية ونبالة، كونية وعنصرية سلافية؛ مجافاة اريستوقراطية للحشود وميل نبوئي مشحون برغبة المشاركة في التعليم...

يعتقد ريناتو بوغيولي أنّ ولع بعض الرمزيين بمواضيع متطرّفة كالجنس، المرض، الموت...، كان مظهراً من مظاهر احتجاجهم على تزهّد العصر السابق لعصرهم. كما أنّ الفردانيّة سمة الانحلال الرئيسة، أصبحت نرجسية لدى الرمزيين الروس، إذ كانوا يكثرون من الحديث عن أنفسهم وأعمالهم. بحيث أنّ تروتسكي كتب عن اندره بيلي هذه العبارة القدحية: "يهتمّ دائماً بأناه، يروي قصصاً عن أناه، يدور حول أناه، يستنشق أناه، ويلعق أناه".

 

(من كتاب، عنوانه "النضال ضد عبادة الماضي"، عن المركز القومي للترجمة في القاهرة)