يكشف القاص العراقي المرموق هنا من خلال هذه القصة عن عمق الفجوة بين ثقافتين! ثقافة مواجهة النفس بصرامة، والتعايش مع قراراتها، وثقافة الهروب المستمر من تلك المواجهة والتحايل عليها بالخيال. بصورة يبدو معها أن هذا الخيال ليس إلا ضربا من ترويض النفس على قبول الأوضاع الخاطئة.

جارتي الدنمركية لينا

سلام إبراهيم

 

زارتنا لينا، جارتنا الدنمركية الجميلة التي تربطنا بها علاقة تميز العلاقات في القرى الدنمركية القريبة من المدن. تحس أنها قريبة لك، تفضي لك بكل ما يشغل نفسها، هذا ما كانت تفعله، وبعد تأملٍ عميق بالأمر أدركت أنها تفعل ذلك، ليس هي فحسب بل بقية الجارات، كوننا الأجانب الوحيدين في المنطقة الذين ستموت القصة ولا تنتشر في القرية التي وجدتها لا تختلف كثيرا عن بيئاتنا المغلقة إلا بأن الخبر يبقى بحدود الخبر دون أي تداعيات اجتماعية.

كنت أشرب كشأني كل يوم، شاركتني بكأس نبيذ، لحقته باثنتين فانحلَّتْ عقدة لسانها وبدأت تشكو من رتابة العلاقة الزوجية، فتجسد أثناء حديثها وجه زوجها الطيب المسكين الحار أمامي فقدرتُ أنها ستخرجه من حياتها قريباً.
اشتبكتْ في حوارٍ مع زوجتي الحريصة على لُحمة العائلة، وأبدتْ دهشتها. فزوجها شخص مرح عملي شغول يعتني بأولادها عناية شديدة، كنتُ أنصت للحوار التقليدي حول الوفاء بالعلاقة الذي تؤكد زوجتي عليه، منسرحاً إلى حفلةِ رأس السنة المنصرمة التي نجحتُ في صيفها بجلب ابننا الكبير من العراق والذي تركناه بعمر ثلاث سنين، وأصبح في أوج مراهقته. ليلة رأس السنة تلك خرجنا من بيتنا لحظة تواري آخر ثانية من العام لنحتفل مع الجيران، فقادنا زوجها الطيب، القصير القامة، الحار الذي يهب لمساعدة أي جار يحتاج، فارداً ذراعيه ليحيط بنا ويدخلنا حديقة بيتهم المنتشرة فيها أضواء الزينة، فالصالة التي رتبت لتكون حلبة رقص، وعلى منضدة في طرفها صفت أنواع المشروبات، ويسكي، جن، فودكا، نبيذ، بيرة وأنواع المزات. اندمجتُ راقصاً مع الضيوف على أنوار الصالة الخافتةِ، كنت قد شربت كثيراً كعادتي في كل حفل .. أشرب وأضحك وأرقص حتى أسقط مثل ميتٍ في النوم ولا أدري أين. وكان ذلك يزعج زوجتي جدا، ولم أكف عنه جداً. انخرطتُ أتطوى وأتلوى على أيقاع الموسيقى تاركاً جسدي يتناغم معها، فانفردتُ ككل حفلٍ صرتُ وسط الحلقة التي أحاطتني وأنا أقفز مثل مجنون وأصرخ وأميل وأهتز إلى أن احتوتني زوجتي بين ذراعيها وكنتُ غارقا بنضحي قبلتني وهمست:
-
اهدأ .. سلام اهدأ!.
من أين يأتي الهدوء والكل سكارى مبتهجين بقدوم عام جديد، يوشكون على الطيران فرحاً، ولا يسعهم الجسد الذي جننه الخمر وفكرة الأيام.
في صخب الحفل لا أدري أين اختفت زوجتي لأجد بين ذراعي امرأة أخرى لها رائحة مختلفة أقصر قامة وأكثر جنوناً تصرخ وتتأوه وتمسح جسدها بجسدي بطريقةٍ طيّرتْ السكرة فأولادي الثلاثة حولي وزوجتي والكل يعرف بعض، أمعنتْ وشبتْ حتى قطفت شفتي وخلفها رأيت أبنتي الصغيرة بنت الثمانية أعوام تقفز من كرسيها وتهزُّ ًبيديها وهي تردّد بالدنمركية:
-
يا إلهي.. يا إلهي.. ماذا يفعل أبي.. ماذا يفعل أبي؟!.
سمعي موزعٌ بين بنتي المنتفضة وهمس المرأة غريبة الرائحة في أذني وهي تلحس وتهمس:
-
أحبك.. أحبك وما تحس بيّ!.
سأعرف من هي عقب انفجار الوضع، كانت أخت زوج جارتنا "لينا" مربية أطفال أصادفها صبيحة كل يوم منذ خمس سنوات حينما أوصل ولدي الصغير إلى بيت مربيته المجاور لبيتها. كنا نتبادل تحية الصباح الودودة المصحوبة بابتسامة دنمركية، تبدو وادعة بغض النظر عما هم فيه، ولم ألاحظ أي إشارة للمشاعر التي أبدتها وهي سكرانة.
وفيما كانت تتمايل وتهمس وتتأوه وتمسح ركبتها بوسطي بشكلٍ فاضح لمحتُ وجه زوجها الذي أعرفه عن قربٍ في حفلات المدرسة ومناسبات أخرى. كان يقف مثلما يتوارى خلف أخيها وزوجته في المسافة المعتمة لفسحة المطبخ وسلم الطابق الثاني، لمحت خطفاً، لكن انفعال وجهه لا أنساه أبدا وكأنني أراه الآن لحظة الكتابة بالرغم من مرور واحد وعشرين عاما على تلك الحفلة العابرة، وجه مخطوف مرتبك.. لا يعرف ما يفعل. لا يفارق نظره حركتها، تخيلتني بمكانه وأدركت حجم الورطة التي أنا فيها فانتزعتُ شفتي من بين شفتيها الملتهبتين وناديت على أبني الكبير الذي جلبته قبل أشهر سرّاً من العراق، ودفعتها بين ذراعيه فأحتضنها هو القادم من العراق وقحطه يستطيع مضاجعة الجدار، لا امرأة دنمركية تتمايل بين ذراعيه وتقبله. جلست على الأريكة الوثيرة مسترخيا منهكاً سابحاً بنضحي، أتنفس بعمقٍ كي استعيد توازني بعد أن خلصت من مأزقٍ مركبٍ لم أمرّ بمثله أبداً. أغمضتُ عينيّ مسترخياً في محاولة للتوازن من عنف ما جرى وضغطه. باعدتُ أجفاني ببطءٍ ومددت ذراعي إلى طاولة المشروبات تناولت كأساً من الويسكي أخذت رشفة وحدقت في فسحة الرقص الحمراء المكتظة بالجيران مغتبطاً من خلاصي، فرأيت ابني الذي يستطيع أن ينيك الحائط هههههههههههه، يحضن المربية بحنان رشيقا طويل القامة ويهبط بوجهه ليرتشف من شفتيها الملتهبتين، كانت وهي الناحلة قصيرة القامة ذائبة بين ذراعيه الفتيتين القويتين القادمتين قبل أشهر من ضيم العراق، بمثل هذي الأخيلة سرحتُ منتشياً فهو خارج مني وكل ما فيه مني فهو أنا لا فرق نشوته نشوتي، ورأيته يغرق في قبلة طويلة جعلته يحتدم حتى أطبق على ردفيها النحيفين وسحبها لوسطه وكأنه يريد أن يدخلها بجسده. لم تستمر نشوتي فقد شعرت بعينين مكسورتين تراقب الحلبة من عتمة حافة الصالة، انتصبت بجذعي الأعلى وحدقت بالفسحة المعتمة فوقعت عيني بعيني زوجها المكسورتين المذهولتين، المشلولتين، الفاضحتين عن عجز حاملها الناظر لجسد زوجته الممعنة في الالتصاق بجسد أبني المراهق هرقلي الجسد. وجواره تقف لينا تراقب المشهد متماسكة لكن حائرة كيف تتصرف. وقتها وكنت أرقب المشهد ظننت أنها أي "لينا" من أحرص البشر على لحمة العائلة، إذ سارعت حال تدخل زوجتي بفك أشتباك الجسدين وسحب ابني، وهي تصرخ بالعربية:

- ولك ما تستحي سافل بعمر أمك وتمصمص بيها!.
وهو يطأطأ رأسه وكأنه فزَّ من حلمٍ. كانت "لينا" أول من ركض لها وتعاون الثلاثة زوجها وزوج لينا ولينا على حملها إلى الطابق الثاني حيث غرف النوم، في اللحظة التي كانوا فيها يصعدون السلم خرجت إلى الحديقة فرأيت زوجتي تنهال بالنعال العراقي العظيم، الذي ذقناه كلنا من أمهاتنا المتعبات، على رأس أبني صارخة:
-
ما عندك شرف .. بكد أمك!.
تجسدتْ تفاصيل تلك الليلة و "لينا" تجلس مسترخية على الأريكة في الصالة تشكو من رتابة الحياة الزوجية.
كنت أضحك طوال الوقت، عادة لصقت بي وصارت سمة شخصيتي، لكثرة ما مرت بي من مصائب حتى وجدت الحياة مجرد مزحة أو فقاعة. وصارت النكتة والتعليق الساخر المنبثق فوراً من الخاطر يثير الضحك ويخفف ألم كل حدث.
سألتها ببساطة:
-
لينا شنو جوهر المشكلة!.
والدنمركي حقيقي يقول ما يضايقه دون تبعات، فهو لا يخشى ما بعد القول.
-
مَلّيتْ الجنس معه!.
سألتها على الفور:
-
كم عمر علاقتكما؟
- تسع سنوات!.
فهدرتُ في ضحكتي العاصفة المعروفة التي طَولت فيها. كانت تنتظرُ خاتمتها. كنا في مدخل البيت وهي تستعد للعودة لبيتها التي كانت تراه جحيماً.
قلت لها:
-
لِمَ لَمْ تسألينا عن عمر علاقتنا؟
- صحيح كم؟
قلت وأنا منهمراً في ضحكتي:
-
ثلاثون عاماً!.
رددت بذهول:
-
ثلاثون!.
وصمتت للحظات تتأملني وأنا أمعن في قهقهتي من ذهول وجهها وفمها المفغور وكأن صرخة حبست فيه قبل أن تقول:
-
أي رعبٍ عشتم فيه!.
-
رعب.. رعب..
رددت المفردة بين هدير ضحكي، واختلست النظر إلى وجه زوجتي الذي يسقط على قسماته الجميلة مصباح المدخل المتدلي، فوجدتها شديدة التعاطف مع جارتنا وهي تعلق:
-
شيء مفزع أن يشارك الإنسان شخصاً واحداً كل العمر نفس الفراش، نفس الأنفاس، نفس الألوان، نفس.. نفس.. شيء يدعو للجنون!.
انفجرتُ كبالون بضحك عاصفٍ موقناً أنها ستترك زوجها المسكين المتعلق بها جداً، أتذكره في ليلة حينما أودعا طفليهما عندنا وذهبا كل إلى حفلة في مكان عمله، كيف جاء باكراً ووجد طفليه نائمين واتصل بها كانت الساعة جاوزت منتصف الليل وسمعته كيف يتوسل كي لا تقضى الليلة في مكان آخر. كان يلح ويتوسل، ولا أدري هل جاءت أم باتت، فالمبيت يعني الكثير لدى الزوج الدنماركي أو هذا ما أحسست به من خلال هذه العلاقة. ستتركه ردَّدتُ مع نفسي، ثمَّ قلت لها:
- "
لينا" ما كو شيء ليس له حلٌ في الحياة!.
-
ورعب العيش مع نفس الجسد كل العمر كيف تحل؟
انتظرتْ وهي تلبس حذائها نهاية ضحكتي العاصفة معيدةً السؤال:
-
كيف؟
تمالكتُ نفسي بعناء وقلت لها:
-
بالخيال؟!. ففيه تحل أعصى المشاكل!.
تركت حذائها يسقط من يديها على عتبة الباب وسألتني:
-
كيف؟ أنرني؟!.
هي لا تدري كيف حللنا مشاكلنا الجنسية بالمخيلة، العادة السرية والتخييل، أجبتها:
-
تستطيعينَ "لينا" المسألة تحتاج سبعة مصابيح ملونة، كل ليلة تشكلين مصباح فكأنك تضاجعين رجلاً مختلفاً يوماً أزرق أو أحمر أو ابيض أو أزرق!.
وكدت أسقط أرضاً من الضحك وهي تحدق نحوي بذهول فقلت لها:
-
اسألي زوجتي اسأليها، فعلنا ذلك!.
حملقت بي وأنا أغرق بالضحك بعينين ساخرتين ورددت:
-
أنت يمكن مجنون!.
فانغمرت بضحكٍ أكثر عصفاً، أكملت ارتداء حذائيها، منزعجة من كل الحوار، فقلت لها أود أن أسرك بشيء بعيدا عن زوجتي. نظرت زوجتي نحوي شزرا، لكنني كنت متعاطفا مع لينا جدا وأحاول أن أقدم لها شيئاً.
ابتعدنا عن باب بيتنا، صرنا في الشارع على مسافة متساوية بين بيتينا، توقفتْ واستدارتْ نحوي متسائلةً:
-
هل أنت جاد بأن لديك حلاً سحرياً لم ترد قوله بحضور زوجتك؟
قلت لها ضاحكاً:
-
طبعاً
قالت:
-
ما هو؟
قلت لها:
-
الخيال؟!.
-
كيف؟!.
قلت لها بصوت خافت مثل همسٍ:
-
ضاجعي زوجك بالظلمة، وتخيلي غيره، هو يفعل نفس الشيء يتخيل وينتشي! وتنحل المشكلة!.
أزاحتني براحتيها بعيداً صارخةً:
-
أنتم الشرقيين كلكم مرضى .. مرضى!.
بعد أشهر عاشت وحيدة بمنزلها.

12-11-2018
دنمارك