يرى الناقد المصري أن من بين ما كتبته الكاتبة سنجد ثلاث روايات تحمل عناوينها، رسالة الهم الذي تحمله: حرية المرأة، العربية. لكنها توسع من دائرة الرؤية لتصبح المطالبة بالحرية للمرأة والرجل معا، حيث أنهما يخضعان ويعيشان تحت سماء واحدة، تهيمن السياسة عليها، وتتحكم في فضائها.

«امرأة ما» بين «نساء في بيتي»

شوقي عبدالحميد يحيى

 

في كتاب سابق تحت مسمي "دور الرواية العربية في الربيع العربي"[i]، أوضحنا كيف ارتبط شكل الرواية (المصرية) بالتغيرات المجتمعية التي واكبت الأحداث الكبيرة، من خمسينيات القرن العشرين، وحتي بدايات القرن الواحد والعشرين، الذي شهد دخول العالم مجال المعلومات، وهو ما انعكس بشكل، بدأ في التنامي، علي شكل الرواية، وهو دخول المعلومات إلي متن الرواية، حتي أصبحت أحد معالم الرواية الحديثة. إلا أنها ظلت كأحد العناصر المكونة للرواية. غير أنه بظهور رواية "نساء في بيتي"[2] للروائية "هالة البدري". سنجد أن هذا العنصر قد قفز من الهامش إلي المتن.، حتي أصبحت المعلومات والمراجع، عنصرا رئيسيا في قراءة الخطاب الروائي، كما لعب الشكل عنصرا جوهريا فيه. كما بلغت به الكاتبة حد الحرفية في ملاعبة القارئ، الذي تدعوه لأن يبذل جهدا للوصول إليه، مثل ذلك الجهد الذي بذلته هي في إنتاجها.

فقد خلت الرواية من تلك (الحدوتة) أو الحكي المعتمد على قصة لها تناميها مع الصفحات، وإنما اعتمدت على عرض الحياة الخاصة، والعامة لشخوصها، الذين أخرجتهم من قبورهم، لتعيد حياتهم، بل وتُخرج أبطال أعمالهم ليقيموا حوارا فيما بينهم، لا استعراضا لإمكانيات إبداعية، وإنما من أجل تعميق رؤيتنا للحياة، بموضوعية، خالية من أي تعصب، خاصة في رؤيتها للنسوية، التي تصاعد صوتها بعد الانفتاح علي العالم، وأصبحت الحرية مطلبا يسعي إليه الجميع، رجالا ونساء- رغم كونها إمرأة- متخلصة بذلك مما وقعت فيه أخريات كثيرات. ولتثبت من جديد أن الرواية هي ديوان العصر، وسجل التاريخ الحقيقي، وكشف ما خبأته الكتابة الرسمية، طاعة للساسة، وخنوعا للسلطان. ومؤكدة أن تحولا جديدا في الشكل الروائي، سيأخذ طريقه في القريب.

وتُعد "نساء في بيتي، ك (البوفيه المفتوح)، ولكلِ أن يختار ما يتواءم مع ذوقه، وظروفه الخاصة. فالرواية متعددة الوجوه، والمداخل. إذ هناك من سيعتبرها رواية سيرة ذاتية وغيرية، وسيجد بها ما يُعضد رؤيته. ومن سيعتبرها رواية تسجيلية، وسوف يجد بها بغيته. ومن سيعتبرها كتاب في النقد الأدبي والفني – حيث شملت آراء نقدية للأدب، شعره ونثره، كما للفنون التشكيلية والموسيقي-، ولن يعدم ما يؤيد رؤيته، ومن يعتبرها رد اعتبار لمن ظلمهم التاريخ، وظلمتهم السياسة – كقوت القلوب الدمرداشية ومحمود أبو الفتح، فبها ما يؤيد ذلك. وأراها رواية نسوية، بالمعني الشامل للنسوية، وفق ما ارتأيناه ووضحناه في مقدمة هذا الكتاب. وذلك لاعتبارات ثلاثة:

1- سابقة أعمال الكاتبة. حيث شملت من ضمن ما أخرجت المطابع لها "منتهي" 1995، "امرأة ما" 2001. و "نساء في بيتي" 2018. ومن قبلهما كان كتاب عن "المرأة العراقية" 1980. حاملة هم المرأة خارج القطر المصري. أي انها لا تحمل هم المرأة المصرية فقط، وإنما هم المرأة في أي مكان. وقد جاءت "نساء في بيتي" متحدثة عن المرأة المصرية والأوربية والأمريكية أيضا، في الرؤية الإنسانية، وليس الهم المحدود.

2- أن روايتها السابقة "امرأة ما" هي بؤرة الحركة والفعل في "نساء في بيتي"، وحولها تدور. وهو ما استدعي لديَّ تجربة الراحل خيري عبد الجواد في محاولة تجميع أعماله في رواية (الجني) التي لم يكن لها نصيب من النجاح. فضلا عن أن تجربة نساء في بيتي، مختلفة في أوجه كثيرة.

3- أن الهم الأنثوي في "نساء في بيتي" ليس مجردا، ولا ينصب على متاعب المرأة أو مشاكلها، وإنما هو ينظر إليها برؤية إنسانية، يعيش فيها الرجل مع المرأة، وطالما (يعيش) فهو يعني وجود السياسة في الخلفية، وهو ما أقتنع به تماما. وقد نجحت الكاتبة أن تجعل من السياسة، كالموسيقي الخلفية، أو التصويرية، يخفت صوتها في معظم الأحيان، ويعلو في أحيان أخري. مستخدمة مشاكل الهولوكوست، على الأوروبي، وأفعال الديكتاتوريات العربية، في الشأن المصري، والعربي.

وحيث تتمركز بؤرة "نساء في بيتي" في الهم الأنثوي، مثلما كانت الحرية مطلبا إنسانيا في "امرأة ما"، فقد يكون من الأوفق أن نلقي نظرة، قبل الدخول إليها بقراءة سريعة ل:

امرأة.. ما[ii]

تقتحم "هالة البدري" عالم النسوية في "امرأة ما"[3] بجرأة محسوبة، وبعيدة في ذات الوقت عن قضايا المرأة العادية والسطحية، والمكررة. فتقتحم بؤرة المرأة، وحصنها الحصين، لتصل إلي أحد القضايا المسكوت عنها في تناولات من تناولوا قضايا المرأة في أعمال أخري، والذي يعتبر أحد التابوهات العربية الشهيرة (الدين والسياسة والجنس)، فتصل إلي البحث عن كينونة المرأة كإنسانة، لها حق الاستمتاع بالحياة، في بؤرة الحياة، أو مصدرها. فنتعرف على "ناهد" الممزقة بين الشكل الاجتماعي، ووجودها كأنثى. فنعيش ثالك المثلث الشائع في الرواية العربية، الزوج والزوجة والعشيق، إلا أننا لا نجد هنا عشيقا بالمعني المباشر، وإنما سنجد(الحبيب).

تزوجت "ناهد" من "مصطفي" زواجا شبه تقليدي. ووفقا لتقاليد المجتمع، فقد كان زواجا عقليا، لا روحيا، فضلا عن أنه أحد أفراد العائلة، مشبعة بكل تقاليد ومورث المجتمع. فالزوجة عليها أن تتبع زوجها أينما حل، وأينما رحل، وعليها يقوم الحفاظ على البيت. وهو ما حافظت، أو حاولت الحفاظ عليه طوال رحلتها خلال "امرأة ما". غير أنها في مرحلة، شعرت معها، أن زوجها لم يعد يشبعها، وهو ما قيد صيب الكثير من الرجال، لعذر نفسي، او جسدي، كما قد يعوقه اختلاف العمر بينهما، فتلتمس له- وفقا للتقاليد - بأن عذرا ما، قد طرأ على حياته، وتدعوه للعلاج. إلى أن تنفجر فيه بعد محاولة فاشلة {لم أكن أراه تلك الليلة للمرة الأولي علي هذا النحو، ولم يغير تصرفه معي، علي العكس، لكنني كنت أخري دون أن يدرك. حين تحرش بي، سمحت لرغبتي أن تتصاعد، وألقيت بها لحظة أن تركني في قمة اشتعالي مع انطفائه وانتهائه. ورحت أصرخ بصوت مخنوق: - ثقب. مجرد ثقب.... لن أكون لك بعد اليوم، في كل مرة تَعِدُني أن تكون معي، لكنك تنساني لحظة أن تدخلني. هناك طبيب عضوي، نفسي، صديق. أقولها لك من أجلك، لا من أجل أن ينصلح الحال بيننا. لقد استمرأتّ انتظاري لرحمتك، ورضائي بقسمتي، وهو ما لن يكون بعد الآن} ص145.

تعرفت "ناهد" على "عمر" الروائي، والصحفي، من خلال كتاباته التي عشقتها، لذا لم يكن التعارف المباشر، ليأخذ الكثير من الوقت، لينصهرا كل منها في الآخر، وهو ما حول العلاقة الجسدية بينهما، إلي عزف موسيقي، علي آلتين توافقتا في الهارموني، فأخرجا أعذب الألحان التي أسكرتهما معا، ولتؤكد الكاتبة أن ذلك الانسجام، والاختلاف {معك لم تعد الميكانيكية موجودة، أو علي الأصح، غيرت من آلية حركتها. لم يعد الانتشاء النهائي غاية، ليس الهدف الرئيسي، بل هي رحلة فيها تعرجات، انحناءات، صعود وهبوط، تأخذ وقتها، نتشبع بها معا، نستكشف خلالها ما يطرأ علي رغبات كل منا} ص161. وهو ما أدي إلى الطلاق، غير الرسمي، بينها وبين "مصطفي". فقد تم انفصال كل منهما، بحياته، وقراراته، إلا انهما ينامان في سرير واحد، متحاشية أي تلامس بينهما، وكأنها تُحاذر أن يمس جسدها النار، فقط، حتى لا يلحظ ابنيهما " مها" و"يوسف" ويخرج الأمر إلي العائلة والمجتمع، الذي يراهما أوفق زوجين، وأسعد أسرة. حتى أنها عندما تأكدت من علاقة "مصطفي" بجارتهم "ريم" الشابة الجميلة، التي يخشاها كل الجيران علي أزواجهم. لم تُقِم الدنيا، أو تغضب، ظاهريا، بل حاولت أن تلاعبهما، دون أن تكشف لهما معرفتها بالحقيقة، وهو عكس ما فعلته عندما علمت أن عمر، وأثناء علاقتهما، إلتقي ب "سلمي عابد" في بيتها، وأن علاقة تمت بينهما، كان الغضب، وكان العتاب، الذي استمر لأيام، إلا انهما، لم يستطيعا القطيعة، فكانت العودة، كان السماح، دون أن تنمحي الفعلة من الأعماق، ومؤكدة أن استمرار الحياة، يقوم على الحب، أولا، والحب يفر الزلات.

لم يكن أيا من ناهد ومصطفي وعمر، وحدهم من يعيش الازدواجية، ولم يكن أيا منهم، صافيا خالصا للأخر فقط، ففي حياة كل فرد من أفراد الرواية، تلك الازدواجية، الناتجة بالضرورة عن تغير الرؤي، والمشاعر بين حين وآخر. فكان عمر متزوجا من "ريم"، تلك التي بهرته بحيوتها في البداية، إلا أنها كانت في معظم الأحيان، لا تتفهم أعماله الروائية، وتنظر لها علي أنها سيرة ذاتية له، وبالتالي أصبحت لحنا مختلفا عما يعزفه هو. وهي التي في النهاية التي أحرقت، روايته التي ظل يكتب فيها سنوات، وكان سيقدمها للنشر، رغم عودته من بيته الآخر مع ناهد، عازما علي بداية معها. حتي ناهد نفسها، لم تكن قد تخلصت من حبها الأول ل"هاني" الذي كان حاضرا في الكثير من أفكارها، حتي بعد زواجها من مصطفي. كل ذلك، في محاولة الكاتبة التأكيد علي إنسانية الإنسان، رجل كان أو امرأة، ذلك الخاضع لظروف اجتماعية ونفسية، قد تتحكم في أحكامه وتصرفاته، في لحظة معينة، قد تدفعه للتصرف خارجيا، بعكس ما يعيشه داخليا، خاصة إذا ما تحكم الموروث، وتحكمت التقاليد في تصرفاته، والتي اختصت المرأة بالكثير منها {لا تتحركي قبل أن تتطهري. كل خطوة، تلعنك الملائكة ألف لعنة.. محرم عليك أن ترفضي له طلبا لجسدك، تحريم الشرك بالله}ص172. حتي عندما مات والد مصطفي، وأرادت أن تساهم مع الأخريات في تجهيز الماء الساخن للغُسل، تقدمت منها والدته، رافضة المساعدة، بحجة أن البنت هي التي تفعل ذلك، أضمن للطهارة. تلك المحرمات التي خلقت الازدواجية التي يعيشها الإنسان العربي، والتي ترفضها ناهد، التي دمعت عيناها يوم أن قبل إصبعها، فوقعت {تحت وطأة المحرمات الكثيرة التي تصدقها ولا تريدها}، وترفضها معه الكاتبة، كاشفة عن سطوة تلك المحرمات باختيارها {تصدقها ولا تريدها} لتصنع ذلك الصراع الداخلي، الذي يُفقد الإنسان استواءه، وتوازنه.

وقد خلقت الكاتبة خطا، قد يبدو –ظاهريا - مختلفا، حين بدأ الحديث عن الألغام الموضوعة في الصحاري المصرية، في السلوم وبرج العرب، وسيدي براني، وغيرها، تلك الألغام التي تصل إلي أرقام مهولة، خلفتها الحرب العالمية في تلك الصحاري. وكأن الكاتبة تحيل إلي تلك الألغام المخبوءة تحت الظاهر، من المحاذير والمعوقات التي تقف حجر عثرة في طريق حرية الإنسان، وانطلاقه. وقد لا نبتعد كثيرا في التأويل، لو ربطنا هذه الألغام ب(الصحاري) إشارة إلي الثقافة الصحراوية، التي صنعت ذلك الموروث المُكبل للحركة، وللزمن، للإنسان العربي عموما، وللمرأة بصفة خاصة، وهو ما تسعي -الكاتبة- للتحرر منه.

مثلما كان عمل ناهد، كمفتشة آثار، وكأنها تبحث عن كنوز تحت الأرض، وما جاء ذلك للكشف عن الكنوز المخبوءه، وإنما عن السرقات لتلك الكنوز، التي يمكن أن تكون مخبؤه داخل الإنسان. فالبحث عن مكنون الإنسان وجوهره، هو المسروق من حياته، تلك الكنوز هي التي الممكن أن تطلق طاقاته الفعالة، ليعيش الحب، الذي يحقق له التوازن الحياتي، والتوافق النفسي.

يكتشف مصطفي ما يؤكد شكوكه، في مصادفات، ساقها له القدر. تأمل في جواز السفر الخاص بزوجته، بعد عودتها من فرنسا، ليتبين له أنها دخلت مصر قبل دخولها للبيت بيومين، فأين قضت هذا اليومان؟ هذه واحدة. أما الثانية، فكانت في اتصال تليفوني جاءها من سمسار عقارات، تلاقه هو، ليخبرها، بأن أصحاب الشقة التي عاينتها بنفسها، وافقوا على سعر ممتاز، فلمن تستأخر شقة أخري؟ وهو لا يعلم عن هذه الشقة شيئا. فكيف كان تصرف مصطفي إزاء هذه التأكيدات، التي تشير إلي وجود آخر في حياتها، ورغم سابق شكه، إلا أنه لا يعرف من هو.

وعلى الجانب الآخر، عاد عمر إلي بيته، بعد وقت من أسعد أوقاته مع ناهد، في شقتهما، ليجد ماجي في أبشع صورها، ويكتشف أنها أحرقت روايته، بل أحرقت حياته ولحظاته. غير أننا، أيضا، لا نعلم رد فعله. لتترك الكاتبة قارئها يسترسل مع تصوراته للنهاية التي تتفق ورؤيته. ولتستمر هي في ترك الفراغات التي تسأل القارئ أن يملأها، دافعة به إلي المشاركة، التي تمارسها كاملة، أثناء صناعة روايتها التالية "نساء في بيتي".

نسجت الكاتبة خيوط عملها بتؤدة، وكأنها تسوي وجبتها علي نار هادئة، إلا أنها لم تفقد حيويتها، ورشاقتها التي تستطيع بها الإمساك بقارئها حتي السطر الأخير، معتمدة علي:

1 – رشاقة اللغة التي تنسرب فيها الاستعارات، التي تفتح أفق التخيل عند القاري، ليعيش المادي، وكأنه عزف لموسيقي الأعضاء وتناغمها { أحاول تحطيم قالب الجنس الذي سجنتِ نفسكِ فيه، قالب السكون الذي حولك- دون أن تدرين – إلي وضعية سالبة، مثل التمثال الجميل الذي يرفض الحركة. لم أكن أريد فعلا له إيقاع رغبتي أو إيقاع رغبتكِ التي لم أجدها، بل إيقاع مشترك لجسدين متكافئين في الحركة} ص230.

2 – النقلات السينمائية، وكأن الكاتبة تحمل الكاميرا، لتصوير مشهد، لا تكتفي بعرضه من السطح، وإنما تحاول الرجوع بها إلي الأعماق، النفسية، والتاريخية، لتستخرج جذور الشخصية الإنسانية في حالاتها المختلفة، الانفعال والسكون، الحاضر والماضي، مما ساعد في معايشة بشر أحياء، لا مجرد دمي تؤدي دورا للوصول لرؤية محددة، فرغم ما بين ناهد ومصطفي من انفصال صامت، حاول يوما أن يقترب منها، في محاولة للاعتذار، حين تنبه أنه لم يعتذر من قبل، تخرج الأنثى المسالمة، المتسامحة { في إحدى الليالي، وهو عائد إلي البيت الذي لم تُسمع فيه كلمة غضب واحدة، أو شعر الطفلان أو العائلة بما يدور فيه، تذكر أنه لم يعتذر عن فعلته، فدخل إليها، وأزاح الكتاب من يدها:

  • ناهد. أنا آسف.

حين احتواها، لم تُبعد يده}ص128.

كما ساعدت تلك النقلات في حركية الفعل الدائبة، فلا تدع للقارئ مجالا للاستنامة، أو للملل.

3 – بداية الفصول المُجَهلة. حيث تبدأ دائما، إما بمنولوج، أو ديا لوج، غير أنها لا تفصح عن المتكلم، أو السامع. وما إذا كنا أمام ديالوج فعلي أم أنه مُتَخيل، بمعني، هل هناك بالفعل آخر، أم أن الشخصية هي التي تجري الحوار مع نفسها، وربما لا تفصح عن أسماء، إلا في القليل، وقد تكتفي بالإشارة التي قد تُفيد. مثيرة في القارئ شغف البحث، ولوعة الترقب. وهو ما يمسك به، دون أن يدع له فرصة الخروج عن المعايشة.

4 – رغم جرأة المدخل الذي اتخذته، تعبيرا عن ظلم المرأة، أو حقها في أن تكون أنثي، لا تحصر نفسها في دور الأم، التي عليها التضحية من أجل الأسرة، دخولا إلي أعمق أسرار الإنسانية، في مخدعها، إلا أنها لم تنزلق –لحظة – في شبق المادية، التي استخدمتها أخريات، جذبا للقراءة، وإنما صورت تلك اللقاءات، وكأننا نحلق في سماء حديقة، تتطاير العصافير علي غصونها، حتي في صميم العملية، التي تحولت إلي فعل مشاعر وأحاسيس، لا حركات ميكانيكية، ولتصنع الفارق بين مصطفي الزوج، وعمر الحبيب {ارتبكت لكنه استطاع أن يجعلني أعبر اللحظة، لم يتركني لأفكاري، لف ذراعيه حول جسدي، وراح يضغط بثقله كله، حتي اختفيت، وثدياي ينهرسان تحت صدره، وشعرت ببطنه يتلوى، كأني اعتليت سفينة في بحر تتلاطم مياهه بعنف. هاجمتني فيه موجة عالية. رفعتني حتى لمست بيدي النورس المحلق فوقها، وانتشي جسدي بشهقة كدت أبتلع فيها كل ماء البحر، ثم سحبتني موجة أكثر سرعة، لتغوص بي نحو القاع. رأيت كنوز جسده المباح لي تدعوه فرحة للولوج أكثر. تمسح عني الخوف من صدمة العشق، تقول انطلقي فبحاري عامرة. اسكني أفئدتي}.

تلك الفقرة التي جاءت ضمن استعارة من "امرأة ما"، في محاولة المقارنة بينها وبين رواية "مالينا" في روايتها التالية "نساء في بيتي"، تقوم بدور الحبل السري الرابط بينهما. حيث يمكن أن نعتبر "امرأة ماء" هي الطفل الذي أصبح شابا في "نساء في بيتي".

فإذا كانت "امرأة ما" قد تناولت البحث عن حرية الأنثى المصرية، لتحيلها إلي حرية للمرأة بصفة عامة، فتتسع الدائرة، وتتبدل الوجوه، إلا ان الرؤية الأنثوية، بمعناها الأشمل، هي محور رؤي العملين معا. وبذات الرشاقة الأسلوبية، يمكن أن نقرأ:

نساء في بيتي[iii]

من بين ما كتبته هالة البدري، كما سبق أن ذكرنا، سنجد ثلاث روايات تحمل عناوينها، رسالة الهم الذي تحمله: حرية المرأة، العربية. ثم تعود، في توسيعٍ لدائرة الرؤيا، لتقدم أحدث إنتاجها الروائي "بنساء في بيتي". حيث تصبح المطالبة بالحرية للمرأة والرجل معا، فكلاهما يخضع، ويعيش تحت سماء واحدة، تهيمن السياسة، وتتحكم علي فضائها، التي تحكمهما معا، بذات التقاليد، والمورث الذي ترفض تغييره. إلا أن ما تقدمه، إبداع، وليس عملا سياسيا، لذا وضعت الجانب الإبداعي، الإنساني، في المقدمة، ووضعت السياسي في الخلفية، في تعبير، أيضا" على الدور الخفي، والذي قد يتجاهله الكثيرون، بمن يحركون الفرد، في الخلفية، وكأن السياسة تلعب دور المخرج، الذي يدير الأحداث، والممثلين، دون أن يراهم المشاهد بنفسه، لكن المشاهد، القارئ، هو الذي يشعر بوجودهم، دون رؤيتهم.

علي الرغم من أن الزواج، هو في حقيقته، أقرب الأمور إلي الاندماج والانصهار، إلا أن الواقع يقول أن تحفزا، وترقبا، هو ما يعتمل في داخل كل من طرفي المعادلة، وهو ما سنجده في "امرأة ما" وعلي الرغم من حالة الحب – المفترضة - إلا أنها لا تخلو من ذلك التنمر بين الرجل والمرأة، ففي الوقت الذي قد تكون المرأة هي التي تسعي للتكامل بالرجل، إلا ان، حياءها، خاصة المرأة الشرقية، تتمنع، وتأبي إلا أن يكون الرجل هو البادئ، وكأنها تؤكد المقولة المعروفة (يتمنعن وهن الراغبات) كأحد الخصائص الدفينة للمرأة العربية التي تحول التقاليد المورثة بينها وبين ما تريد، وبعد وصف حالة التجاهل المتعمدة {ألغتني من حباتها كأنها تمتلك القدرة على الإلغاء. سنعرف الآن من يستطيع إلغاء من} ولتصبح تلك الرؤيا هي جوهر الخلاف بين الشرقية، والغربية، والتي تبدأ الكاتبة الدخول إليها مباشرة في "نساء في بيتي". فسنجد الدخول مباشرة إلي ما تحمله هالة البدري في كتابتها {كلما التقيت بأميرة، المتعصبة جدا للمرأة، المتحمسة للاستقلال، والمساواة، فهمت منها أن هناك تشابها كبيرا بين روايتي ورواية باخمان. وأن اختيارها لها سببه في الأساس اعتبار باخمان رائدة في الكتابة النسوية، ولم أكن كذلك، لكني تركتها تمضي في طريقها، وأنا أتحسس دفعها بحذر نحو منطقة يختفي منها التعصب، لكن الموروث الذي كانت تحمله أميرة كان أكبر من محاولاتي المحذرة} ص16. لتشير إلي أحد العناصر الرئيسية في مشكلة النسوية، وهي (الموروث) الذي حُكم علي المرأة بدخولها. فالكاتبة هنا، تعلن أن المشكلة في بؤرة اهتمامها، والإيمان بها، لا يعني بالضرورة التعصب، وهو ما تأكد بالفعل من الرؤية النهائية للعمل، على نحو ما سنري. وما صرحت به "الكاتبة" وهي تتحدث عن جرأة "جورجيا أوكيف" حين راحت تبحث عن لوحاتها وجرأتها {سألت نفسي: عما تبحثين يا هالة؟ عن الازدهار الذي تحققه الأنثى؟ قلت ببراءة: عن نفسي} ص27، لتضعنا منذ البداية إلي التماهي بينها وبين تلك البلاد التي تحررت من ذلك الموروث. وقد اختارت "أميرة المصرية عمل دراسة مقارنة بين رواية هالة البدري "امرأة ما" ورواية "مالينا" لإنجبورج باخمان" النمساوية التي تكتب بالألمانية. لِما وَجَدَته بينهما من تشابه، وما وجدته الساردة أيضا في قول باخمان {وأن الفاشية موجودة منذ زمن طويل في علاقة المرأة بالرجل} ص18.ولتؤكد الكاتبة {أظن أن هذا يجمعنا بشكل ما}. ثم تعرج على جذور المشكلة، حيث تراه في رؤية الأديان، حيث {أري أن جذور التعصب موجودة في علاقات أفراد المجتمع بعضهم البعض، خاصة على المستوي الطبقي، في فترة، أو علي مستوي التميز الديني باعتباره سلطة داخل الدين الواحد، أو تجاه الأديان الأخرى في فترة غيرها}. وتقرر الكاتبة أن تكتب رواية عن "إنجيبورج باخمان" وكأن كل ما فات، كان مقدمة، أو تمهيد حول روايتها الجديدة "نساء في بيتي"، ولتُسقط من البداية ذلك الحائط الرابع، المتوهم، بعد أن أزالت ذلك الحائط، المتوهم كذلك، بينها وبين القارئ، الذي أرادت أن تُعَيشه، ويعايشها في رحلتها الإبداعية، وكأنها تكتب روايتها (على الهواء)، باحثة، ومؤكدة، بأن مشكلة النسوية، ليست ابنة منطقتنا فحسب، وإنما هي مشكلة إنسانية، بالدرجة الأولي. خاصة وأن الدائرة تتسع أكثر، حين تقرر أن تكون الرواية عن "باخمان" و "هالة" (الكاتبة) و "أوكيف" الفنانة التشكيلية، وأيضا "قوت القلوب الدمرداشية"، للتعرف علي أوجه التشابه بينهن، رغم اختلاف الزمن والبيئة.

كما تضيف هالة رؤية جديدة تزيد الأمر اقتناعا، عندما تتحدث عن "جورجيا أوكيف" الفنانة التشكيلية، بقراءة لوحاتها، والتي تضع المرأة في بؤرة الحياة، خاصة لوحاتها المتأججة بالإيحاءات والعاطفة {اتخذت من الرحم مصدرا لنقطة الانطلاق في معظم لوحاتها، وحولت الوردة إلي نبع للحياة، فنحن لا نعرف إن كان قلب الوردة هو مركز الأنوثة، أم مركز الكون، وإن كانت بتلاتها هي روح النساء، أم روح العالم} ص23.

فالنسوية إذن هي أول ما تبادر إلي ذهن الساردة، التي تلاشت المسافة بينها وبين الكاتبة، حد التماهي، عندما علمت أن "أميرة" المصرية، تُعد رسالة مقارنة بين روايتي "امرأة ما" و "لينا". فتقرر أن تستدعي كل من يتلاقى معها في الرؤية "إنجيبورج باخمان" النمساوية التي تكتب بالألمانية، والرسامة الأمريكية "جورجيا أوكيف" الأمريكية و"قوت القلوب الدمرداشية" المصرية. وإن حضرت الطالبة المصرية أيضا "أميرة" صاحبة الدراسة باللغة الألمانية، المتمسكة بمظهرها الديني، والرافضة لفكرة الزواج، حتى التقت "راينر" الألماني، الذي أقنعها بالزواج مؤخرا، كما لو أنها تشير إلي أن أميرة ترفض الزواج علي الطريقة المصرية، أو العربية، لكنها تقبله علي الطرقة الغربية، فضلا عن الإشارة بين تمسكها بزيها العربي المحافظ، رغم تحررها العقلي الرافض للقيود. وبين هؤلاء جميعا تُجري الكاتبة جمع المعلومات، والمستندات، والرسائل، طوال جزء الرواية الأول "عندما يأتي المساء" التي من خلالها تبحث عن جوهر كل منهم، من خلال حياته المعيشة، لتأتي في الجزء الثاني من الرواية " في الليل لما خلي" وكأنها عندما هدأ البحث، راحت تتأمل، وتستنتج، وتستخرج. لذا رأينا أن المرحلة التسجيلية كانت السائدة في الجزء الأول. بينما لحظة الإبداع والتخيل، كانت هي السائدة في الجزء الثاني، باستثناء الجزء الخاص بقوت القلوب ومحمود أبو الفتح. فرأيناهن يخرجن من القبور، وبطلات أعمالهن أيضا، يجتمعن في بينها، وتدور بينهن الحوارات، والمناظرات.

  • لعبت الكاتبة بأفق التوقع عند القارئ كثيرا. فبين مرحلة وأخري، توحي للقارئ، بانها قد توصلت لأوجه التشابه، التي انحصرت في الرؤية الخارجية، مثل: الإيمان بالنسوية، نهايات الأبطال، تشابه حالات من أحببنهن، الألم في الحب. وعند كل واحدة يتصور القارئ أن الرواية قد وصلت نهايتها، غير انه يعود ليجد نفسه لا زال غارقا في بحر السؤال، ولم يصل للشاطئ بعد، ففي ص189 نقرأ {سألت نفسي مرات: ما الذي يجمعنا؟ كل مرة تأتيني إجابة: المأساة، الفضيحة، القدرة العظيمة علي الحب بعمق، المردود الشحيح جدا، النهايات العنيفة، الوحدة، الاعتصام بالفن، أظنهم كلهم مجتمعين، فإذا أفلت عنصر من واحدة منا اتفقت بقية العناصر}. ثم تستكمل خدعتها، بأن التشابه ليس في أي من هذه التشابهات، ونجد أن أمامنا في الرواية لم يزل نحو مائة وخمسين صفحة، وأنها لم تُصرح بذلك التشابه، وإنما اكتفت بتقديم كل تلك النماذج المختلفة البيئة، والمختلف أزمنة تواجدها، والمختلف ثقافتها. وتترك للقارئ أن يستنتج هو وجه التشابه، وفق ما ارتأه عند الوصول لكلماتها النهاية، التي تُعلن فيها أن زوارها الافتراضيين، الحقيقيين، والمُتخيلين، لم يعودوا يأتين إلي بيتها. فلم تعد النساء في بيتها.

ومن خلال المستندات، والمراجع، استطاعت الكاتبة أن تصور البيئة التي أفرزت كل واحدة منهن، وكيف انعكس ذلك على إنتاجهن الإبداعي. وكانت “جورجيا أوكيف" الفنانة التشكيلية الأمريكية، أكثر الممثلات للتحرر، لكنه التحرر الحسي، الذي يعبر عن انفتاح البيئة، لمثل هذا التحرر، حيث {لم يكن السبب هو إنتاجها الغزير المميز وحده، لكن الدهشة، بل الصدمة التي تسببها لوحاتها للمشاهد، الدهشة من الاعتزاز بأنوتها، وإدراكها أن سر الحياة الأنوثة، وليس الأمومة... محلقة تُعلن أن الحياة موجودة علي الرغم من الفناء.. صرخت لوحاتها بأعمق رغبة تستطيع امرأة أن تبوح بها صمتا، أو بأعلى صوت، قالت لنا إن الأنثى هي الأصل، والحياة تأتي حين تزدهر الأنثى} ص24، 25.

وعلى الجانب الآخر، نتعرف على بيئة الشرق، البيئة التي نشأت فيها "قوت القلوب الدمرداشية" المصرية، التي أنصفتها الكاتبة "هالة" وأشارت إلي سبقها في كتابة رواية المرأة العربية، وتجاهلها مؤرخو الأدب، كما تجاهلتها الدولة، بحجة أنها كتبت رواياتها بالفرنسية، وإن كان ذلك لأسباب، فكان ما وصل من رواياتها "رمزة ابنة الحريم"، "ليلة القدر"، "زنوبة" و "حفناوي الرائع" وأنه في عدد ديسمبر من مجلة الهلال، تم نشر ملخص لروايتها "زنوبة. وتقول الكاتبة –هالة- في مقال سابق لها، أوردته، عن رواية "رمزة ابنة الحريم" {لم تكن قوت القلوب مجرد متمردة ضد وضع اجتماعي، بل متأملة – وبعمق- للمعاني الإنسانية، وللظروف النفسية والاجتماعية التي نشأت وترعرعت فيها. هذا الإدراك الذي جعلها تُقدر صعوبة الوضع الذي وجدت نفسها داخله، ثقافة فرنسية رفيعة المستوي، وثقافة أصولية وفق ميراث عائلي لقيم وتقاليد إسلامية صوفية} ص37، 38. ولنتعرف على أنها ابنة شيخ الطريقة الدمرداشية. تسمعت – من وراء حجاب - في بيت أبيها علي قاسم أمين ومحمد عبده وحافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي، وغيرهم. وعاشت وسط أجواء سادت فيها تجارة الجواري، والعبيد السود الذين يخدمون في بيوت الأثرياء. كما تقول الكاتبة عن قوت القلوب {تعرفت علي قوت القلوب للمرة الأولي في سيرة نجيب محفوظ المنشورة وفيها إشارة لحصوله على أول جائزة في حياته مقدارها عشرون جنيها عن روايته "رادوبيس ..... عرفت أن قوت القلوب ابنة عائلة شديدة الثراء، أقامت مستشفيي الدمرداش وهو مستشفيي شعبي مجاني وسط القاهرة، وأن وقْفَ عائلتها يُنفق على هذا المستشفى} ص35. ورغم كل ذلك، لم يكن التعتيم عليها مصادفة، وإنما نية مبيته مع سبق الإصرار والترصد. فقد كانت خطيئتها، أنها أحبت.. محمود أبو الفتح.

والساردة، أيضا، تتحدث عن نشأتها، الشرقية –هالة -، لم تكن يوما تُحرض أحدا علي رفض الزواج في ذاته، أو ارتداء الحجاب، إلا أنها كانت النموذج المزعج الذي يُعلن فشل ما يؤمنون به. كان والدها رجل قضاء، مسلم يعرف تقاليد الإسلام، عرفت الزوجة أنه تزوج عليها، فخيرته. وقع الأب في الفخ. كان يريد الاثنين معا {بقيت أستحلفه أن يحررها ويتركها لفرصة أخري في الحياة، لربما تجد مع غيره ما لم تجده عنده، ثار بصورة لم أتوقعها... بسبب فكرة أن تذهب إلي غيره. تطايرت شرارات الغيرة من كل مسام جسده.... طاردتني التفاصيل التي كانت كفيلة بزرع عمود من الحزن في قلبي، يوشمه حتى الآن} ص85.

اختلفت، إذن، ظروف النشأة. فأين يكمن التشابه؟

في لحظة من اللحظات، تصورت الساردة، أن التشابه ليس فيهن، وإنما في الرجال الذين عرفنهم {ألم تُدركي السر حتى الآن؟ ما يجمعنا ليس بيننا نحن النساء، أو بين ظروفنا، بل من قابلنا من الرجال} ص244. غير أن اختلافا ما تواجد بينهن.

ربما كان التشابه في علاقتهن بالأب؟ وقد راينا تلك الازدواجية، وتأثير الموروث علي أباء كل من "قوت القلوب" التي تحدثت عنه فقالت {عاش أبي مثل رجال عصره، يحلم بوريث ذكر يهبه ثروته ويكون الحامي، والامتداد له، وخليفته في المشيخة، وقد تزوج عدة مرات من حرائر، ومن جوارٍ}. و"هالة"، التي تزوج والدها من أخري، ورفض تطليق الأولي، وثارت ثورته عندما جاء ذِكر أن يتركها لغيره. أي الأب في الجانب الشرقي، فماذا كانت صورته على الجانب الآخر؟

في حوار بين بطلات روايات النسوة "أنا"، "إيفان" "ناهد" تجيب "أنا" بطلة رواية "مالينا" لإنجبورج باخمان" ترد علي أسئلة "ناهد" {لا أستطيع أن أفسر أحلامي. كنت أحلم طوال الوقت بأبي وهو يؤذيني، حلمت أنه يلقي بي مرة من فوق سطح عال} ص263. لتوضح "باخمان" المؤلفة تلك الرؤي الكابوسية في روايتها، عن تحرش الأب بها، وهو ما اندهشت "هالة" له متسائلة: يحدث زنا المحارم في الشرق، للكبت الجنسي، وموانع الزواج، فلماذا عندكم أيضا؟ لتأتي الإجابة من "باخمان" {حين كتبت في روايتي "مالينا" عن تحرش الأب بطفلته "أنا"، واغتصابها، تحولت صورة الأب عندها إلي رعب. كنت أكتب عن النظام الأبوي، وليس عن الأب نفسه، الأب كرمز للسلطة، وانعكاس لما حدث في الحرب العالمية الثانية، كنت أـصور أحيانا أني تجاوزت هذه الأزمة، لكن يبدو أن هذا لم يكن حقيقيا تماما} ص335. ليدفع، ذلك الاعتراف، بنا للخروج من الدائرة الضيقة، إلى الدائرة الأوسع والتي تفتحها الساردة بتساؤلها:

{قلت: ما قصة ألمانيا معكم جميعا؟ ألفريد ستيجليتز درس الهندسة في ألمانيا، ماكس فريش يكتب بالألمانية، وباول سيلان يكتب بالألمانية، ويترجم منها وإليها، واللغة التي تُرجمت منها "رمزة" و "زنوبة" لقوت القلوب هي اللغة الألمانية، وإنجبورج باخمان من شعراء الألمانية رغم أنها ولدت في النمسا. الوحيدة التي نجت من هذه القصة هي جورجيا} ص105. فإذا كنا قد ذكرنا من قبل، أن الكاتبة صنعت من الرؤي السياسية، خلفية موسيقية، تخفت، وربما تصمت في الكثير من الأحيان، حتى لنظنها غير موجودة، ثم يتصاعد صوتها خفيفا ليصنع خلفية لبعض المواقف، أو الرؤي، مثلما اختيار ألمانيا والألمانية، مركزا لأغلب الشخصيات. الأمر الذي يعود بنا إلي الموسوعة الحرة للتعرف علي أسباب تلك التلميحات:

{ارتبطت ألمانيا بالنازية وهي حركة سياسية تأسست في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تمكن المنتمون للحزب القومي الاشتراكي العمالي الألماني تحت زعامة أدولف هتلر من الهيمنة عام 1933 على السلطة في ألمانيا وإنشاء ما سمي بدولة الزعيم والمملكة الثالثة.

لا يُعرف بالضبط عدد ضحايا النازية ولكن اتبع أن يشار إلى عدد الضحايا اليهود حوالي 6 مليون، و9 -20 مليون من الشعوب والمجموعات الأخرى: 3 مليون بولندي و3 مليون جندي أسيرروسي وحوالي مليون من الغجر، بالإضافة إلى مئات الآلاف من المقعدين والعاجزين والمثليين وغيرهم.

مع بداية الغزو النازي للاتحاد السوفييتي اتخذ القرار بإبادة الغجر في كل مكان يتم احتلاله. هناك تم قتل ما يناهز عشرة آلاف إنسان. في المرحلة الأولى تم القتل بالرصاص بعد نقلهم من قراهم إلى مكان بعيد ودفنهم في الغابات. وفي وقت لاحق ابتكروا طريقة الإبادة بواسطة شاحنات الغاز، حيث أدخلوا الغاز القاتل إلى داخل الشاحنة المحملة بحوالي سبعين شخصاً خلال سفرها من القرية إلى الغابة وهناك يتم دفنهم. بحث النازيون عن طرق أسرع وأسهل وأقل كلفة. فأنشئوا المراكز الثابتة للإبادة ولحرق الجثث. ففي المرحلة الثالثة (1941 – 1943) أقيمت معسكرات إبادة، نقل المحكوم عليهم بالإبادة من القرى – خاصة في شرق أوروبا – إلى معسكرات الإبادة بواسطة القطارات. هناك تم قتلهم بالغاز وإحراق جثثهم. معسكر تريب لينكا أقيم بمكان ناء وظل مخفياً خلال الحرب العالمية، تمّ فيه إبادة أكثر من 800 ألف شخص. عام 1942 أقيم أكبر معسكر إبادة هو معسكر أوشفيتز. كان يتسع لحوالي 100 ألف أسير في نفس الوقت. كان به خمس مبان لحرق الجثث وغرف غاز. في كل يوم تمت به عدة جولات إبادة. في كل جولة عشرات الآلاف من الضحايا. بعد القتل بالغاز الذي يستمر عشرين دقيقة فقط تنقل الجثث إلى المحرقة}[4]. فهل كان للغة الألمانية، وما تحمله من ثقافة وجود في تكوينهم، أو في كتاباتهم؟ تجيب الكاتبة على ألسنة شخوصها، ومواقفهم ما يجيب بالإيجاب:

{كان كبار كتاب الألمانية ما زالوا غارقين في محاسبة الماضي، وجلد الذات، عما تسببت فيه النازية من أذى للعالم كله} ص138.

{تطاردني الأحلام والكوابيس التي تصور النازية، ومخيمات الموت، ووسائل النقل، خاصة القطارات، والعلاج بالصدمات الكهربائية، والغاز، ومعاناة النساء، والتدمير} ص200.

{دخلت مع باخمان في اللعبة التي تلعبها في الرواية، ومفرداتها، من ذكريات، وأحلام، وأوهام، وتصورات عن الرجال الذين مروا في حياتها، خاصة "باول سيلان"، الذي استشعرت لغته، وأصداء لقصائده على طول الرواية. وفيها الكثير من الرموز التي تمثل الهولوكوست وغرف الغاز} ص269.

{بعد أيام من آخر لقاء لي مع باخمان في بيتي. قرأت بالصدفة عبارة أن الصهاينة وصفوا باخمان بالشاعرة الساقطة. تعجبت جدا وقلت كانت باخمان تحب رجلا يهوديا أقام الدنيا وأقعدها ضد اضطهاد النازي لليهود} ص221، لنصل في النهاية إلى أن ديكتاتورية أدولف ألويس هتلر (30 أبريل 1889 – 1 أبريل 1945) الألماني، والمولود بالنمسا، وصاحب الدور الأكبر في الحرب العالمية الثانية، وما سمي بالهولوكوست، أو محرقة اليهود. لتفترش مظلة الديكتاتورية الشرق الأوسط أيضا، حيث تنبثق مشكلة اليهود التي تقود إلي المشكلة الأولية (فلسطين –اليهود). كما تظهر رؤية الكاتبة في (ألمانيا والنمسا) وأن استخدامها لم يكن عشوائيا. ولنجد أن الاضطهاد، هو أيضا، الذي كان لعنة قوت القلوب المصرية لارتباط اسمها باسم محمود أبو الفتح، الذي أحبته أكثر من أبنائها الخمس. رغم ما قدمته من سبق إبداعي، ورغم أموال التبرعات التي اشتهرت بها، وعائلتها طوال وجودهم. ورغم أن محمود أبو الفتح، كان أول نقيب للصحفيين، ورغم عمله كما لو أنه سفير عربي لصالح العرب جميعا. ورغم أن محمود أبو الفتح، كان صديقا لعبد الناصر، وعندما قام الأخير بحركته فب 1952، أيدها أبو الفتح بلا تحفظ {ولكن بدأت سياسة الضباط الأحرار تنحو إلى الديكتاتورية، ظهرت تجلياتها عبر الدعوة لتطهير الأحزاب، بهدف إلغاء التعددية الحزبية، وتعطيل الدستور قبل التخلص منه – تخلص عبد الناصر من دستور 1954 بعد أن وجد أنه لا يمنح الرئيس السلطة المطلقة، فألقاه في صندوق القمامة، ليعثر عليه بعد ذلك الصحفي الراحل، صلاح عيسى، ويتولى نشره). وتقييد حرية الصحافة، وفرض الرقابة عليها، فاختلف معها محمود أبو الفتح} وتقول قوت القلوب {وبدأت المشكل لكلينا. صدر قرار بإزالة قصري القريب، وكان يقع بجوار قصر الأمير كمال الدين حسين.. توسط كثيرون كي نُنقذ القصر من دون جدوى. كان الغرض هو محو الطبقة كلها.. كنت أمتلك مكتبة كبيرة للكتب العربية، والمخطوطات النادرة. صادروا سبع وعشرين ألف كتاب، اختفت في دهاليز دار الكتب، ولم يُعرض منها إلا قليل، والباقي مصيره مجهول. أزال عبد اللطيف البغدادي قصرنا من الوجود في أربعة أيام} ص287. - وما لم تذكره هالة البدري، أن باقي القصور، سكنها الضباط الأحرار-. وتم سحب الجنسية المصرية عن محمود أبو الفتح، وكأنها هبة، سحيها (الضباط الأحرار) ليهيم أبو الفتح بين الدول، حتى تمنحه العراق الجنسية العراقية، حين كانت على غير وفاق مع الضباط في مصر. وما أن تغير الحكم في العراق، حيث تولي ضباط آخرون على وفاق مع ضباط مصر، فتم سحب الجنسية العراقية منه. ذلك الذي كان ملئ السمع والبصر، وعلى علاقة برؤساء الدول والحكومات. وتم مصادرة أملاك أسرة قوت القلوب الدمرداشية، وأُجبرت على مغادرة البلاد فهاجرت إلي إيطاليا لتتوفي بها في العام 1968.

وكما عاشت "هالة" تجربة الديكتاتورية العراقية الصدامية، حيث قضت طوال تواجدها ممنوع عليها أن تبدي رأيا، أو تتحدث في السياسة. ولا تملك غير هز الرأس، أو حاضر نعم. إلي أن عادت لبلادها، فانطلق لسانها.

وإذا كان أنور السادات، فيما حاوله من تصويب أخطاء الماضي، فمنح اسم محمود أبو الفتح أعلي الأوسمة، ليعيد للرجل بعض ما قدمه للبلاد، فقد جاءت هالة البدري، لتعيد لقوت القلوب، حقها – الأدبي – السليب، وتضعها في صدارة رواية المرأة العربية، المهمومة بهموم الوطن، حيث رأت "قوت القلوب" أن الكتابة {ضرورة وجود لشفاء جراحي، وجراح النساء المُحبطات، كتبتُ ضد الحياة الاستبدادية في النظام المعمول به. كتبت عن وضع المرأة المحتجزة تحت نير الرجال، من أجل إطلاق سراحها. كتبت ضد العنف، والحروب، بعد أن تحولت الكتابة في يدي سلاح لا غني لي عنه من أجل تأكيد ذاتي في المجتمع ككيان حي مستقل} ص116.

ومن هنا، نستطيع وضع أيدينا على ذلك التشابه الذي تعنيه "هالة"، صاحبة رواية "امرأة ما"، والتي تؤكد بالفعل أن التشابه، فوقي، وبعيد، في السلطة المتسلطة، في الديكتاتورية، التي تسري في العالم، شرقه وغربه. لذا كان اعترافها، وتأكيدها على ذلك الاختلاف، حين تقول:

{الغريب أني طوال العمر "أقاوح" أو أقاوم فكرة الظلم الواقع على المرأة، ولا أتعصب لها علي حساب الرجل، وأرفض الدخول في أي تجمع يناصر المرأة وحدها، وأقول يجب أن نناضل من أجلهما معا، لأن الظلم يقع عليهما من قوي قاهرة أكبر} ص190. ولنربط بين تلك المقولة، ومقولة "عمر" في "امرأة ما" عندما كان يُحدث "ناهد" {لم أكن أريد فعلا له إيقاع رغبتي أو إيقاع رغبتكِ التي لم أجدها، بل إيقاع مشترك لجسدين متكافئين في الحركة}ص230. ولنكشف عن شريان آخر يمتد بين الروايتين.

وهكذا تساءلت "هالة البدري" في بداية روايتها، وراحت تبحث أمامنا عن الإجابة، تُشَرِق وتُغَرِب، تسوق لنا قطرات من المعرفة بين الحين والآخر، حتي عرت شخوصها أمامنا، قائلة، ها هي حقيقتهم، وهذه هي حقيقة الأشياء، فابحثوا أنتم عن الإجابة، وقد دستها بين ثنايا السطور. إلا أنها لم تتركنا لجفاف المعلومات، والمستندات، ولا بين ظلامية رؤية الواقع، فكانت نسمات الربيع بين تلك اللغة الشفافة، التي بثتها بين الحين والآخر، خاصة في تحويل المادي إلي روحاني، وترجمة الشبقي إلي الروحي التي تنبعث من ذلك النص الذي تستعيره من "ناهد" في "امرأة ما" {أحب ضعفي نحوك، وأعشق احتواءك لي حتي أتضاءل، وأكاد أختفي ثم أتلاشي في مدارك المُغلق عليَّ} ص257. وكيف عبرت عن خلجات الأنثى، وصبرها الصامد، والتظاهر بالبرد، بينما النيران تشتعل بالداخل في{معرفة المرأة بخيانة حبيبها، والاستمرار في العلاقة هو قبض علي جمر مشتعل، قسوة، وسادية لا معقولة، إذلال وتعذيب للنفس لا يمكن أن يكون طبيعيا بأي حال}ص280.

وإلي جانب كل ما أضافته هالة البدري من معلومات – حتي لو تكرر بعضها في ثنايا الرواية -تضع عملها في مفترق طرق جديد للرواية العربية، اتبدأ تحول يتوافق روح المرحلة فإنها حافظت علي أهم خاصية من خصائص الإبداع عامة، وهي المتعة التي تصطحب القارئ طوال رحلته مع المعلومة، التي قد تفارق المتعة، إن لم يكن الممسك بها علي وعي بأصول اللعبة.

Em:shyehia48@gmail.com

 

[i] - شوقي عبد الحميد يحيي – دور الرواية العربية في الربيع العربي – الهيئة المصرية العامة للكتاب -2014.

[ii] - هالة البدري – امرأة ما - الهيئة المصرية العامة للكتاب – 2010.

[iii] - هالة البدري – نساء في بيتي - الدار المصرية اللبنانية – القاهرة – ط1 2019.