يسعى الكاتب السوري هنا، كما يقول عنوان مقاله، إلى نقد منطق الثنائيات الذي سيطر على نمط التفكير القائم، سواء على مستوى التداولي اليومي الحياتي أو على مستوى المشتغلين بالفكر والفلسفة، مع التعرف على صلاحيّات معيّنة لهذا النمط الفكري، وعلى ما ينطوي عليه من إشكاليات في الوقت نفسه.

في نقد منطق الثنائيات

(المادة والصورة- المضمون والشكل- الجوهر والعرض)

حمزة رستناوي

 

«إنَّ قانون الدّائرة هو جوهرها»

اسبينوزا

 

أوّلا- مقدمة في منطق الثنائيات:
ما يزال التفكير النمطي القائم على الثنائيات Dualities شائعا، سواء على المستوى التداولي اليومي الحياتي أو على مستوى المشتغلين بالفكر والفلسفة، وهو يعكس نسقا يقوم على التقابل والتضاد، وما كان لهذا التفكير النمطي القائم على الثنائيات أن يصمد آلاف السنوات لو لم يكن مفيدا ويؤدي غرضا يبرّر استمرار استخدامه، ولكنّهُ بالمقابل قد يوقعنا في إشكالات نظرية وعملية سنعرضها لاحقاً، إشكالات تبرِّر تجاوزه أو تقنن أشكال هذا الاستخدام، وسنقف عند ثلاث ثنائيات أولا- ثنائية المادة والصورة Material and image duality ثانيا- ثنائية الجوهر والعرض: Substance and Accident duality ثالثا- ثنائية المضمون والشكل: Content and Form duality.

بتأمّل العلاقة بين طرفي الثنائيّات السابقة، يمكن استقراء ثلاثة احتمالات: الانحياز الى الطرف الأوّل وتهميش الطرف الثاني، وفقا لصيغة المفاضلة، فالمادة والجوهر والمضمون – وفقا لهذا الاحتمال - أكثر أهمّية ومركزيّة من الصورة والعرض والشكل، وهذا ما نجد مثاله في مقولة روبير بلانشي في "أولويّة الجوهر على العرض كنتيجة لغلبة الموضوع على المحمول في القضية الحملية". [1] الانحياز إلى الطرف الثاني وتهميش الطرف الأوّل، كأن ننحاز إلى الصورة ضدّ المادة، أو إلى العرض ضدّ الجوهر، أو إلى الشكل ضدّ المضمون، ونجد تعبيرات هذا الانحياز للهامشي في مجال الفن وبعض مدارس النقد الأدبي عند الشكلانيين الروس والبنيوية الشكلانيّة* وكذلك في المنطق الصوري عند أرسطو الذي يهتمّ بشكل وصوريّة المعرفة دون مصداقها الواقعي. التكامل ما بين طرفي الثنائيّة، وهو الفهم الأكثر شيوعا ً في أوساط المُشتغلين بالعلوم والمعرفة حاليّا، فكلاهما ضروريّ، ولا نستغني عن أحدهما، من غير مفاضلة أو تفضيل.

*مدرسة الشكلانيين الروس ظهرت في روسيا بين عامي 1915-1930م اعتبرت الأدب نظاما ذو وسائط إشارية للواقع وليس انعكاسا له، وقد طورت البنيوية لاحقا بعض فروض مدرسة الشكلانيين، وركّزت على الشكل وحدة من خلال دراسة العلاقات القائمة في النظام الألسني وتحييد المضمون. "فهدف علم الأدب ليس هو الأدب في عمومه وإنما أدبيته، أي تلك العناصر المحددة التي تجعل منه عملا أدبيا".

ثانيا- ثنائيّة المادّة والصورة:
في التقليد الفلسفي المتراكم عبر القرون، لا يُنظَرْ إلى مفهوم الصورة بمعزل عن المادة "فالمادة عند المفكِّرين الإغريق الأوائل تلتبس بالطبيعة physics وتعني بشكل أولي ما يجب تحويله بفعل العمل الإنساني، ولكنّ نلاحظ هنا أن أرسطو قد جعل منها، وبشكل أكثر تحديدًا، مفهومًا مجردًا عارَضَ به الصورة من أجل التأكيد على ذلك الكمون في موضوع الجسم الذي تجسِّده تلك الصورة.[2] المادة في الاصطلاح الأرسطي هي المعنى المقابل للصورة ولها بهذا الاعتبار وجهان: الأول: دلالتها على العناصر غير المُتعينة التي يمكن أن يتألف منها الشيء، وتُسمى الهيولي أو المادة الأولى، وهي إمكان محض أو قوة مطلقة لا تنتقل إلى الفعل إلا بقيام الصورة فيها.ويقال هيولي لكلّ شيء من شأنه أن يقبل كمالا ما، أو أمرا ليس فيه، فيكون بالقياس إلى ما ليس فيه هيولي، وبالقياس إلى ما فيه موضوع.[3]

الثاني: دلالتها على المعطيات الطبيعية والعقلية المعيّنة التي يعمل الفكر على إكمالها وإنضاجها، فكل موضوع يقبل الكمال بانضمامه إلى غيره فهو مادة، وكل ما يترتب منه الشيء فهو مادة لذلك الشيء حسيّا كان أو معنويّا.[4] إذن ثنائية المادة والصورة مدرسيَّا تَجمَع ما بين مُتلازمين، فالمادة تحتاج إلى صورة توجد بها، والصورة تحتاج إلى مادة لتوجد بها كذلك، أي أنّنا أمام علاقة تكامل وتلازم بينهما، وثنائية المادة والصورة لا تختصّ بالحسّي، بل هي تُستخدم في حقل المعنويّات كذلك، حيث تطلق المادّة عند كانط على معطيات التجربة الحسية من جهة ما هي مستقلة عن قوالب العقل، فمادة الظاهرة هي عنصرها الحسي، أما صورتها فهي العلاقات التي تضبطها، وتنظم حدوثها، أمّا "المادة في المنطق الأرسطي فهي الحدود التي تتألف منها القضية أو القضايا التي يتألف منها القياس، ومادة القضية هي الموضوع والمحمول اللذان تتألف منهما، أما صورتها فهي النسبة بين الموضوع والمحمول، وهي تنقسم بهذا الاعتبار إلى كلية وجزئية وموجبة وسالبة". [5]

يميّز أرسطو في الميتافيزيقيا ما بين أربعة أنواع للعلّة: أولا - العلة المادية: ممّا يتكوّن الشيء، المادة المباطنة التي بواسطتها يظهر الشيء للوجود، فالبرونز هو علة التمثال المادية. ثانيا - العلة الصورية: وهي الصورة أو الشكل، وهي الحدّ الذي يحدّد الجوهر والفصول التي يتضمنها الشيء، كما في النسب الهندسية للتمثال. ثالثا- العلة الفاعلة: كالأب الذي هو العلة الفاعلة للطفل. رابعا - العلة الغائية: وهي التي يسعى الشيء لتحقيقها ليكون هو نفسه، كالصحة التي هي علَّة المشي الغائية فهي ما من أجله نمشي.[6] ومن الواضح أن أرسطو هنا يستخدم تعبير العلّة بمعناه المجازي أي مبادئ الشيء وليس العلة بالخاصة.

لقد كانت النظرة الأرسطية إلى العلاقة بين المادة والصورة ذات بعد ميتافيزيقي "حيث صوّر لنا العالَم الطبيعي على أنه ذلك العالم الذي يحتوي على كائنات وأشياء ذات مادة وصورة"، وكما أن الصور تتسلسل إلى أعلى مراتبها حتى نصل إلى صورة خاصة لا مادة فيها هي صورة الإله - المُحرّك الذي لا يتحرك - فإن السلسلة إن عدنا بها إلى الوراء أسفل الهيراركية فإننا نصل إلى مادة أولى First Matter لا صورة لها.[7] ربطت الأرسطيّة ثنائية المادة والصورة بثنائية أخرى هي : الوجود بالقوة potentiality والوجود بالفعل actuality، حيث أنّ مبدأ الوجود بالقوة = المادة، ومبدأ الوجود بالفعل= الصورة.

وقد عبّر أرسطو بواسطة هذين المبدأين "عن مفهوم عصره للطبيعة physics التي كانت تعني في أصلها اللغوي النمو، والنمو يعني التغيير والتحوّل ويشهد طرفي الولادة والموت أو الكون والفساد، فكانت قمة المشكلات محصورة في التمييز بين ما هو متحوّل وما هو ثابت، والطبيعة تحتوي على الماهيات الثابتة أو الصور التي تمثل الوجود الحقيقي والدور الذي يضلع به العلم محصور في اكتشاف تلك الصور النوعيّة.[8] فالتغيير يحدث باعتباره وجودا بالقوة في حدود النطاق الثابت للوجود الفعلي في الطبيعة، فالعلم الأرسطي أي العلم القديم عموما كان في أغلبه صوريّا أي بحثا عن الصورة النوعية والماهية المغروسة في الطبيعة، وليس صوريّا بمعنى شكليا مفصول العلاقة مع الواقع.

فأولى خصائص المنطق الأرسطي – وفقا لجون ديوي - هو أنّ صور ذلك المنطق ليست صورية، لأنها ليست بمعزل عن الكائنات الحقيقية التي تتألف منها المعرفة العلمية.[9] رفض وليم أوكايم 1295- 1449م مفهوم الهيولي وإمكانية الوجود بالقوّة، وربّما يكون نقده لمفهوم المادة الأرسطي هو الأهمّ إلى مرحلة ما قبل العلم الحديث، فهو يرفض الوجود الا مُتعين لأن الادراك الحسي لا يقع إلا على الموجود بالفعل، وبالتالي فإنّ الوجود بالقوة لا يمكن - حسب اعتقاده - أن يوجد، وتبعا لذلك فإنّه يرفض فكرة الهيولي، ويتصوّر كبديل عنها مادة جسمية تكون موجودة بالفعل، وإذا كانت غاية أرسطو من افتراض وجود الهيولي هو أن يفسر التغير الجوهراني، فهي غير لازمة مادام يمكن ردّ جميع التغيرات الى التغير العرضي.[10]

ثالثا- التعقيب على ثنائية المادة والصورة:
إنّ استمرار حضور التفكير النمطي القائم على ثنائية المادة والصورة ما كان له ليستمر لو لم يكن مفيدا ويؤدّي غرضا يبرّر استخدامه على المستوى التداولي اليومي الحياتي، نقول كأسا من الزجاج أو كأسا من البلاستيك، بيتا من الاسمنت أو من الخشب ونحوه، وكذلك على مستوى العلوم الطبيعيّة والفيزياء الكلاسيكية وتطبيقاتها الهندسيّة ..الخ، ولكن تلك العلاقة ما بين المادة والصورة سرعان ما تتعقد عند الانتقال الى المعارف الفلسفية والعقائدية، فالبعض يتكلم عن فلسفات مادّية تؤلّه المادّة، ما هو شكل الروح؟ هل الله مادة ؟ هل المادة خالقة ذاتها ؟ ما هي صورة الاسلام؟ وما هي مادة الروح وصورتها؟! وسنكتفي هنا بملاحظتين: - إنّ المعارف السابقة أعلاه غير قابلة للتحقق الموضوعي، بما يخرجها من حقل العلم بالخاصّة. - إنّ استخدام ثنائية المادة والصورة في السياق أعلاه هو اسقاط وتعميم لنمط تفكير صالح في مجال المحسوسات ونقلهِ الى مجال المعنويات، بغض النظر عن المردود المعرفي لهذا الاسقاط والتعميم.

إن المادة من غير شكل، أي ما يُسمّى بالهيولي هي افتراض مناف/ مستحيل البرهان، شاع استخدامه في التراث الفلسفي اليوناني وفي القرون الوسطى ونسبوا إليه دورا في عملية خلق الطبيعة والماورائيات، حيث تصادفنا مصطلحات من قبيل : العقل الهيولي أو النفس الهيوليّة مثلا. إنّ الصورة من غير مادة ما هي إلّا تجريد محض يمكن قبوله شرطيّاً على أن يقترن فيما بعد بمادة، فحالما تَرِدْ في ذهننا كلمة صورة نتساءل صورة لماذا؟ أو يمكن قبوله مشروطاً بصلاحيات نظرية وعمليّة معيّنة تبرّرهُ كما في علم الهندسة Geometry من دون أن نتساءل عن مادّة المثلث أو المربّع.

فالفهم الأرسطي للمادة كان محكوما بشرطه التاريخي بحيث يميّز جوهريا بين مادة ومادة أخرى، ولم يأخذ بعين الاعتبار صوريّة تشكّل المادة، فلكل مادة صورة، ليس بمعنى العلة الصورية- الصورة النوعية- وفق المنطق الأرسطي، بل بمعنى أنّ أي مادة هي ذاتها صورة معيّنة تختلف في صورة تشكّلها عن مادة أخرى، ونظرية العلم الأرسطية قامت على فصل جوهراني ثابت بين الموجودات، في عالم ماهوي بالفطرة أي، عالم موجود بقوّة الوجود. في العصر الحديث أخذت العلاقة ما بين المادة وصورتها أبعادا أخرى، فالمادة الواحدة – كيميائيا- سواء وجدت بشكل ذرات او جزيئات هي توجد بصور وأشكال مختلفة ومتنوعة في الطبيعة والكون، ونتعرّف على نوع المادة وهويتها من خلال صورتها وخصائصها الفيزيائية أو الكيميائية، والخصائص الفيزيائية للمادة هي صورة كما أنّ الخصائص الكيميائية هي بدورها صورة لذرات وجزيئات نتعرّف عليها بالمعاينة المباشرة وغير المباشرة باستخدام تقنيّات معيّنة.

وعقب اكتشاف قانون تكافؤ المادة والطاقة في النظرية النسبية الخاصة لأينشتاين، أي ط = ك.س² (بالإنجليزية : E=mc²) أي إن حاصل ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء يساوي طاقته، ستختفي الصورة النمطية للعلاقة ما بين المادة والصورة، باختفاء المادة ذاتها، من حيث أنّ المادة ما هي الا طاقة مكثّفة في صورة معينة، والطاقة ما هي إلا إمكان/ إمكانات مختلفة للمادّة كذلك، حيث يصحّ القول بأنّ المادة أو الطاقة تساوي صورة - أو شكل - وجودها، فلا يوجد مادّة أو طاقة بلا صورة نتحسَّسُها ونعاين آثارها وتأثيراتها. مع اكتشاف مبدأ الشك لهايزبرج عام 1927 كأهم مبادئ نظرية الكم، حيث ينصّ على "لا يمكن تحديد خاصيتين مُقاستين من خواص جملة كمّية إلا ضمن حدود معينة من الدقة." بما يعني أهمّية المُعاين وأدوات القياس في عملية المُعاينة، أي أنّ المادة وصورتها ليست واضحة أو يقينية بما يكفي لمعاينتها وتوصيفها وفقا للتصوّر التقليدي الثنائي عن المادة والصورة، وبمعزل عن المُعاين نفسهُ وجملة القياس وكفاءة أدوات القياس نفسها.

لآلاف السنين اعتقد الانسان أنّ صورة الجسم أو الشيء هي بمثابة حقيقة نهائية ثابتة وأنّها أمّ اليقين، ولم يكن يدري أنّ الصورة - التي يراها - ليستْ إلا أحد الصور الكثيرة الممكنة لهذا الجسم أو الشيء، وهي صورة الضوء المرئي المسؤول عن حاسة الابصار، وهو إشعاع كهرومغناطيسي مرئي للعين البشرية، يتراوح الطول الموجي للضوء ما بين 400 نانومتر (nm) أو 400×109 م، إلى 700 نانومتر، أي بين الأشعة تحت الحمراء (الموجات الأطول)، والأشعة فوق البنفسجية (الموجات الأقصر).[11] بما يعني أنّ للجسم أو الشيء صور مختلفة، بالأشعة تحت الحمراء، بالأشعة فوق البنفسجية، بالأشعة السينية، بالأشعة ما فوق الصوتية، بأشعة غاما ..الخ وكلّها صورة مختلفة لنفس الجسم أو الشيء، ولكل صورة منها استخدامها وصلاحيّتها سواء في حقل العلوم الطبية أو العسكرية أو الفلكية أو غيرها. إنّ صورة الجسم أو الشيء لا تتعلّق فقط بالمعاين وبجملة القياس وكفاءة أدوات القياس نفسه، بل وأيضا بمادّته، فالصورة التي نراها ما هي إلا حصيلة تفاعل وتراكب للأشعّة مع مادّة الجسم أو الشيء المنظور إليه.

رابعا- ثنائية الجوهر والعرض:
إن اصطلاح الجوهر- الماهية Essence كقولك : إنسان وفرس، ويجب ملاحظة أن اصطلاح Ousia يعني حرفيا Essence قد تغيير معناه تدريجيا ليصبح جوهر Substance خاصة مع مدرّسي العصور الوسطى المسيحية، وقد بقيت الترجمة العربية دالّة على المعنى الأصلي عند أرسطو.[12] الجوهر هو المقولة الأولى من مقولات أرسطو العشر الشهيرة، بينما المقولات التسع الباقية تكون بمثابة أعراض وهي: الكم- الكيف- الإضافة- المكان- الزمان- الوضع- الملكية –الفعل – الانفعال. وفق المعجم الفلسفي يطلق الجوهر عند الفلاسفة على معان منها الموجود القائم بنفسه حادثا كان أو قديما، ويقابله العرض، ويطلق كذلك على الذات القابلة لتوارد الصفات المتضادة عليها، ومنها الماهية التي إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع، ومنها الموجود الغني عن محل يحلّ فيه.[13]

أما العرض Accident فعَرَضَ الشيء ظهر وبدا ولم يدم، والعرب يطلقون لفظ العرَض على عدة معان فهو يدل: على الأمر الذي يعرض للمرء من حيث لم يحتسبه، أو على ما يثبت ولا يدوم، أو على ما يتصل بغيره ويقوم به، على ما يكثر ويقل من متاع الدنيا، فكأن المتكلمين والفلاسفة استنبطوا معنى العرض من أحد هذه المعاني فدلّوا به على ما لا يقوم بذاته، وهو الحال في موضوع.[14] وفي وسعنا أن نُرجع هذه المعاني كلها إلى المعنيين التاليين: - العرض ضد الجوهر، لأن الجوهر هو ما يقوم بذاته ولا يفتقر إلى غيره ليقوم به، على حين أن العرض هو الذي يفتقر إلى غيره ليقوم به، فالجسم جوهر يقوم بذاته أما اللون فهو عرض، لأنه لا قيام له إلا بالجسم، وكل ما يعرض في الجوهر من لون وطعم وذوق ولمس وغيره، فهو عرض لاستحالة قيامه بذاته. - العرض ضد الماهية، وهو ما لا يدخل في تقويم طبيعة الشيء أو تقويم ذاته، كالقيام والقعود للإنسان، فهما لا يدخلان في تقويم ماهيته.[15]

يميّز أرسطو ما بين الجواهر الكلّية والجواهر الجزئيّة، فالجواهر الجزئية مثالها إنسان ما، فرس ما ..الخ، والجواهر الكلية وهي الأنواع والأجناس، فالنوع مثل الإنسان والجنس مثل الحيوان، وبالطبع فإن أرسطو يفضِّل الجوهر الجزئي نظرا لأنه لا يُقال على موضوع ما، أي ينطبق عليه تماما تعريف الجوهر عنده، كما أن هذا يتطابق مع بحثه في الطبيعة وما بعد الطبيعة خاصة مع نظريته عن العلل الأربعة.[16] أمّا في العصر الوسيط فقد استمرّ حضور الجوهر كمفهوم مؤسّس في الفلسفة العربيّة الاسلامية، حيث أنّها كانت خاضعة لتأثير الفلسفة الأرسطية وربّما الأفلاطونيّة الى حدّ أقل، وكلاهما من فلسفات الجوهر، ونرى الفلاسفة المسلمين يردّدون ذات المصطلحات الأرسطية كالجوهر والأعراض، والكلي والجزئي، والتعريف بالحدّ والتعريف بالرسم، والكّليات الخمس وغيرها من المقولات التي تدور في فلك الماهيّة الجوهرانيّة.

فالأشياء وفقا للفارابي لا تخرج عن كونها جواهر وأعراض "الأشياء منها ما هو على موضوع لا في موضوع أصلا، وهو كلي الجوهر، ومنها ما هو على موضوع وهو في موضوع ما وهو كلي العرض، ومنها ما هو في موضوع لا على موضوع أصلا، وهو شخص العرض، ومنها ما ليس هو في موضوع ولا على موضوع أصلا، وهو شخص الجوهر".[17] والجوهر بدوره هو جواهر، فهو جنس عال وتحته أنواع "الجوهر هو الذي تقدم رسمه وذلك مثل السماء والكواكب والأرض وأجزائها والماء والحجارة وأصناف النبات وأصناف الحيوان وأعضاء كل حيوان منها. ولننزل الجنس العالي الذي يعم هذه وما أشباهها، و أشخاص هذه هي أشخاص الجوهر، وأجناسها وانواعها كليات الجوهر.[18]

أما ابن سينا فيعيد تعريف الجوهر في كتاب النجاة بما استقرّ من قبله: "الجوهر هو كل ما وجد ذاته ليس في موضوع.[19] استخدم الفلاسفة المسلمون والمتكلمين كذلك مفهوم الجوهر والأعراض كبرهان على الألوهيّة فيما يسمّونه [دليل الأعراض وحدوث الأجسام] ونجد هذا عند الجوّيني[20] والشريف الجرجاني في كتاب التعريفات[21] والغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة[22] وغيرهم. حيث يورد الايجي: قد علمتُ أن العالم إما جوهر أو عرض، قد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما إما بإمكانه أو بحدوثه، بناء على أن علة الحاجة عندهم إما الحدوث وحده أو الإمكان مع الحدوث شرطاً أو شطراً فهذه وجوه أربعة: الأول: الاستدلال بحدوث الجواهر، قيل: هذه طريقة الخليل صلوات الرحمن وسلامه عليه، حيث قال: قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ.[الأنعام: 76] وهو أن العالم الجوهري أي المتحيز بالذات حادث كما مر، وكل حادث فله محدث كما تشهد بذلك بديهة العقل.[23]

وقد عارض أبو موسى الأشعري وابن تيمية هذا البرهان ليس من مبدأ نفي الجوهر والأعراض بل من مبدأ عدم لزوم الاستدلال على الألوهيّة من هذا الطريق "أن أصل المعرفة والإقرار بالصانع لا يقف على النظر والاستدلال؛ بل يحصل بديهة وضرورة؛ ولهذا يقر بالصانع جميع الأمم."[24] ولم يتعرّض مفهوم الجوهر وثنائية الجوهر والعرض لنقد وازن في سياق الثقافة العربية الاسلامية، ربّما باستثناء أبو هاشم الجبائي ونظريّته في الحال والأحوال، بما يحتاج لتفصيل خاصّ بهِ. رفض الفلاسفة الاسميون Nominalism في أوربا العصر الوسيط مفهوم الجوهر الأرسطي، ومفهوم المثال الأفلاطوني. ولم يروا في الكلي سوى دلالة للفظ الكلي على مسمياته الجزيئة، من دون أن يستتبع ذلك وجودا في الواقع الخارجي، أو وجودا في التصوّر الذهني.

وقد أنكر روسيليونوس روسلان، وليم أوكايم وهوبس وكوندياك وجود الكليات، فالجوهر عند أوكايم ليس أكثر من مفهوم غامض "فهو لا يعلم إلا بتعريفات عامة مثلا. إنه ما يتقوّم بذاته/ ما ليس في غيره/ ما هو محلّ الأعراض". وهذه التعريفات لا تمنحنا معرفة واضحة بما هو الجوهر في ذاته، فالتجربة لا تقع إلا على أعراض وكيفيات الجوهر، لأن معرفة الشيء مالا يمكن ان تؤخذ إلا من الشيء نفسه لا من شيء آخر، ولذلك فإن أوكايم يرفض القول بأن الأعراض هي معلولات الجوهر وأن معرفتها تؤدي الى معرفته، أمّا بالنسبة الى الأعراض من جهتها فليست مغايرة له، بل مجرد أنحاء مختلفة للشيء ذاته وبالتالي يبطل التمييز بين الوجود والماهية فهما يدّلان على شيء واحد ومن هنا نقده للفلسفة الأرسطية.[25] رغم ظهور المدرسة الاسمية في أوربا العصور الوسطى عند أوكايم وروسلين وغيرهم، وهي للتذكير مدرسة لا ترى في الكلّي سوى أسماء وإشارات على غير وجه الحقيقة، إلا أنّ الفلسفة الأرسطية – وهي من فلسفات الجوهر- كانت مهيمنة إلى درجة التقديس، ومع الدخول في العصر الحديث استمرّ مفهوم الجوهر، حاضرا عند ديكارت وكانط وغيرهم من فلاسفة التنوير.

حيث يميز ديكارت ما بين موجودات مضافة مُحتاجة الى غيرها وأخرى غير محتاجة إلى غيرها باستثناء (مشيئة الله) وهو في ذلك يحيل مفهوم الجوهر إلى أبعاد ميتافيزيقية صريحة لم تكن أساسا غائبة عن نظريّة العلم الأرسطية" عندما نتصور الجوهر نتصور موجودا مُحتاج في وجوده إلى شيء آخر غير نفسه، و ليس هناك في حقيقة الأمر جوهر له مثل هذه الصفة غير الله، لذلك حق للفلاسفة المدرسيين أن يقولوا إن إطلاق لفظ الجوهر على الله والمخلوقات لا يكون على سبيل الاشتراك والتواطؤ، ولكن لما كان من طبيعة بعض الأشياء المخلوقة أن لا توجد إلا مضافة إلى غيرها، كان من الضروري تميزها من الأشياء التي لا تحتاج وجودها إلا إلى مشيئة الله. ونحن إنما نسمي هذه الأخيرة جواهر، ونسمّي الأولى صفات أو محمولات أو أعراضا[26].

أمّا الجوهر عند أسبينوزا فهو القائم بذاته، والمُدرك لذاته، وقوام هذا المعنى أمران، الأول قولنا: إن وجود الجوهر لا يحتاج إلى قيامه بغيره، والثاني قولنا: إن الجوهر هو الذي لا يحتاج تصوّره إلى حمله على غيره، وفي هذين القولين التباس بين الموضوعي والذاتي، أي بين القيم بالأعيان والقيام بالأذهان، فإذا قلنا: إن الجوهر هو الشيء لذاته، لزم عن ذلك امتناع تعدد الجواهر كما في مذهب الواحدية السبينوزية، وإذا قلنا إن الجوهر هو القائم بذاته، لم نعن بذلك انه مستقل عن الأعراض والصفات بل حامل لها.[27] ويرد مفهوم الجوهر عند أسبينوزا بصفته الحقيقة، القوانين الثابتة للعالم، ويقابله العرض حيث يقصد به "أي شيء، أو حادث فردي أو أي شكل أو صورة معينة زائلة، فأنتَ وجسمك وأفكارك وفصيلتك ونوعك وكواكبك ونجومك جميعها أعراض، جميعها صور وأشكال وهيئات من حقيقة أبدية خالدة ثابتة لا تتغير وراء هذه الاشياء العرضية".[28] فالجوهر هو الحقيقة اللامادية القديمة بخلاف الحوادث وعالم الأشياء المتغير، "والعالم نفسه مدعوم ببنائه وقوانينه بقوة الله .. وإن إرادة الله وقوانين الطبيعة اسمان يطلقان على حقيقة واحدة.[29] فالجوهر واحد والأعراض متعددة متغيرة إلا مالا نهاية.

ووفقا لاسبينوزا إنّ العقل اللانهائي يستطيع أن يدرك الجوهر اللانهائي في جميع أشكاله ومظاهره، غير أن العقل الإنساني النهائي لا يدرك ماهية الجوهر كشيء لانهائي إلا في مظهرين: كـ«امتداد» وكـ«فكر». وهاتان صفتان ملازمتان للجوهر، وليس العقل والمادة سوى صفتين من الصفات الكثيرة التي يتصف بها الجوهر الواحد الحقيقي -وهو الله- ولكنهما الصفتان الوحيدتان اللتان يستطيع العقل الإنساني أن يدركهما.[30]

ويبقى مفهوم الجوهر حاضرا كذلك في المنطق التراسندالي** والفلسفة الكانطية. فالجوهر - عند كانط - تصوُّر قبلي، فهو أولى المقولات الإضافية، وهو تصور قبلي ناشئ عن صورة الحكم المطلق من حيث أنه إسناد محمول إلى موضوع أو رفعه عنه، وأولى مقولات الإضافة إنما تنشأ عن إيضاح النسبة بين الموضوع والمحمول، وهي النسبة بين الجوهر والعرض وصورتها دوام كمية المادة [31] والجوهر عند كانط ثابت - مثلما هو عند أرسطو- لا يتبدّل، وهو مرجعيّة كل تبدُّل، وهو كمّ ثابت، إنه أشبه بمفهوم ما ورائي يتحكّم في خلفيّة

** المقولة الأساسية في المنطق التراسندالي هي أنّ العقل ينتج المعرفة الموضوعية من استدلالات- أي المعرفة بتوسط- مشروطة بحدوس ومبادي قبلية لا يمكن تجريدها من بعدها الزمني والمكاني. الوجود والظواهر وفق ما ورد في كتابه [نقد العقل المحض]: فكل ما ينتمي إلى وجود الأشياء إنما هو جوهر، حيث أنّ كلّ ما ينتمي إلى الوجود يفكر بوصفه تعيّنا وحسب، ومن ثم فإن الدائم الذي تتعين به جميع علاقات الظاهرات الزمانية بالنسبة إليه وحسب هو الجوهر في الظاهرة أي واقعي الظاهرات الذي يظل دائما هو هو أسّاً لكل تبدل، وحيث أنه لا يمكن لهذا الجوهر أن يتبدّل في الوجود فإن كميته في الطبيعة لا تزداد ولا تنقص.[32]

وتمثيلات التجربة عند كانط ثلاثة، وهو يقصد بها أنّ التجربة ليست ممكنة إلا بتصوّر اقتران ضروري للإدراكات، التمثيل الأوّل هو – مبدأ دوام الجوهر، فالجوهر يدوم مع كل تبدّل للظاهرات وكميته في الطبيعة لا تزداد ولا تنقص.[33] والتمثيل الثاني هو مبدأ التوالي الزمني أمّا التمثيل الثالث فهو مبدأ المعيّة وفقا لقوانين التفاعل والاشتراك، حيث أنّ الجواهر كلها يمكن أن تحرك معا في المكان.[34] ولوحة المقولات عند كانط تشمل الكم والكيف والاضافة والجهة، وهو يصنّف الجوهر والأعراض ضمن مقولة الاضافة وفقا لنموذجه التراسندالي والمفاهيم المحضة.[35]

أمّا عند هيجل فالجوهر هو الفكرة الكلّية، وهي موضوع الفلسفة، التي "غايتها جوهر الاشياء لا الظاهرة .. الفلسفة تنظر في جوهر الموضوع، وهذا الجوهر هو الموضوع ذاته.[36] وهو ليس بشيء آخر غير الفكر عينه، وإننا نقابل الجوهر بالظاهرة بالتغيير ... إذن الجوهر هو الشمولي الخالد ما يظل دائما كما هو.[37] فالجوهر عند هيجل كما هو عند أرسطو وثيق الصلة بالكلّي غير المُتعيّن" الجوهري بوصفه لا متناهيا هو بكل وضوح الذي لا يحدّه حدّ فيما ينتسب اليه، وإلا فإنه سيكون محصورا فلا يكون الجوهر حقا.[38] ولكنّ الجوهر الهيجلي - أي الفكرة أو الحقيقة- ليس بثابت وليس بتجريد فكري محض، فالفكرة تتحقق في التاريخ كصيرورة، وهي تظهر وتتطوّر بطريقة محض تاريخيّة، وهي تحتوي في ذاتها نقيضها وإمكانية تطوّرها في التعين، ومن خلال العلاقة بين الحسي والعقلي، بين الفكر والوجود، فالتناقضات التي تحدث في الفكرة – والتي أسماها هيجل بالجدل أو الديالكتيك - هي المحرّك لها ولتطوّرها في التاريخ.

بالمقارنة ما بين الجوهر الأرسطي والجوهر الهيجلي نجد فروقات على صعيد التغير وعلى صعيد الضبط العلمي، فإذا مقولات الزمان والفعل والانفعال هي مجرد أعراض للجوهر – في الفلسفة الأرسطية- فإنّ الحركة والتغير هي في صميم تعريف الفكرة أو الجوهر عند هيجل، وإذا كان مفهوم الجوهر عند أرسطو بسيطا فإنّ مفهوم الجوهر عند هيجل أكثر تعقيدا وأقلّ ضبطا، بحيث يبدو الجوهر كلّي القدرة، موضوعا للإيمان العقائدي على طريقة الخطابات الغنوصيّة في أحيان كثيرة، فالروح يريد أن يعرّف نفسه بنفسه مثلا! وسأثبت اقتباسات من كتابه [محاضرات في تاريخ الفلسفة] توضح ذلك: إن جوهر الكون المتخفي والمنغلق بادئ الأمر لا يملك القوة الكامنة لمقاومة شجاعة المعرفة فلا بد للجوهر من الانفتاح أمامها ومن عرض غناه وأعماقه أمامها.[39] ولنقرأ كذلك "إنّ اتحاد الجوهر مع ذاته يتم بلا وعي، على نحو فطير، لأنه بوصفه هو الجوهر، فإن النشاط اللامتناهي والمحض لا يكون متعسرا في مواجهة الوعي".[40] بما يضع تساؤلات حقيقيّة حول حلم هيجل بعلمنة الفلسفة على طريقة العلم النظرية والتجريبية.

ماتزال ثنائيّة الجوهر والعرض ومفهوم الجوهر حاضرا في النتاج الفكري والفلسفي للباحثين للمثقفين العرب بشكل صريح أو ضمني، فوفقا د. مصطفى النشار مؤلف [نظرية العلم الأرسطية] إنّ استخدام أرسطو لفكرة الجوهر في التعريف لم يكن غريبة على عصره، كما أنّ لها أهمّيتها في مختلف العصور من ناحية أخرى كطريقة في النظر الى الأشياء وتميزها عن بعضها البعض.[41] أمّا د. فؤاد زكريا فيرى أنّ أرسطو حين قال بفكرة الجوهر لم يفرض شيئا على الفكر البشري بل لخص طريقة نظر الانسان الى الأمور في حياته اليومية وأضفى عليها طابعا فلسفيا.[42] نستطيع القول إنّ ثنائية جوهر عرض، لا يمكن فهمها بدقّة خارج سياق المنطق الأرسطي ونظرية الحدود والقضايا.

وهذا ما يؤكّد عليه منطقيّ معاصر هو روبير بلانشي Blanche عن ضرورة الارتباط بين دور الموضوع في القضية الحملية التقليدية وبين فكرة الجوهر، وبالتالي عن أثر الموقف الطبيعي في المنطق التقليدي "إنّ غلبة الموضوع على المحمول في الحكم تعبّر عن أولويّة الجوهر على العرض ( أو الصفة) في المجال الأنطولوجي، وأولوية الوجود على المعرفة، في علاقات الفكر بالواقع، وإنّ واقعية الجوهر هذه لتعبّر بوضوح، ومعها منطق التصوّر الذي ترتبط به عن الفلسفة الغامضةDiffuse للموقف الطبيعي Common-sense في مدينتنا الغربية.[43] خلاصة ما سبق يمكن القول بهيمنة منطق الجوهر على تاريخ الفلسفة الغربية منذ أرسطو وإلى عصر الفلسفات الكلاسيكية في العصر الحديث ما قبل ظهور المدرسة البرغماتية، وكذلك الفلسفة العربية الاسلامية سواء في العصر الوسيط، وكذلك نجدها النتاج المعرفي لمعاصرين.

خامسا - التعقيب على ثنائية الجوهر والعرض:
يعكس النظر الى الكينونة كجوهر وأعراض، تعميما لتفكير نمطيّ قائم على الثنائيات تفكير قائم على المركز والهامش ..الأساسي والثانوي، وهو أحد أشكال وقوالب التفكير الممكنة والمتوقّعة، ولكنّه ليس بالضرورة الشكل الأفضل أو الأكثر كفاءة، وهو غالبا ما يوقعنا في مغالطات واسقاطات تعكس الحضور المُسبق لهذا النمط. وإنّ المعرفة المُستندة إلى الجوهر، تصف حقيقة، ماهية قبلية مستقلة عن الشيء، كما وجد ويوجد وسيوجد .. من دون أن تُلزم نفسها بالبرهان على ذلك، وقد تصنّفها كبداهة لا تحتاج الى برهان!

يعرّف الجرجاني الجوهر في [كتاب التعريفات] بما يلي: ماهيّة إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع، وهو مختصر في خمسة: هيولي وصورة وجسم ونفس وعقل، لأنه إما أن يكون مجرداً أو غير مجرد، فالأول - أي المجرد - إما أن يتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف أو لا يتعلق، والأول - أي ما يتعلق - هو العقل، والثاني - أي ما لا يتعلق - هو النفس. والثاني: هو أن يكون غير مجرد، إما أن يكون مركباً أو لاً. والأول - أي المركب - هو الجسم. والثاني - أي غير المركب - إما حال أو محل، فالأول - أي الحال - الصورة، والثاني - أي المحل – هو الهيولي . وتسمى هذه الحقيقة الجوهرية في اصطلاح أهل الله: بالنفس الرحمانية والهيولي الكلية، وما يتعين منها وصار موجوداً من الموجودات: بالكلمات الإلهية، قال الله تعالى: " قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا " واعلم أن الجوهر ينقسم إلى: بسيط روحاني كالعناصر، وإلى مركب في العقل دون الخارج كالماهيات الجوهرية المركبة من الجنس والفصل، وإلى مركب منهما كالمولدات الثلاث.[44] التعقيب: هذا العَرْض التعريفي للجوهر مُلتبس ويفتقد للدقّة والضبط العلمي، مُختلط بتأثيرات ميتافيزيقية ودينية، لا يقوم على برهان مُلزم. لنتوقّف عند القائلين بالتكامل Integration في العلاقة ما بين الجوهر والعرض، نحن هنا أقرب إلى القول برأي أسبينوزا الذي سبق ذكره "وإذا قلنا إنّ الجوهر هو القائم بذاته لم نعن بذلك انه مستقل عن الأعراض والصفات بل حامل لها " أي أنّ الجوهر يحتاج إلى العرض والعرض يحتاج الى الجوهر، ولا وجود لجوهر دون عرض، أو عرض دون جوهر.

التعقيب: هذا يناقض تعريف الجوهر الذي سبق ذكره أي: الموجود القائم بنفسه حادثا كان أو قديما - الموجود الغني عن محلّ يحلّ فيه- الجوهر هو ما يقوم بذاته ولا يفتقر إلى غيره ليقوم به.. الخ " فالعلاقة التكاملية المُفترضة بين الجوهر والعرض غير متكافئة، من حيثُ أنّ الجوهر حامل والعَرَض محمول، ومن حيث أنّ الجوهر هو الموضوع والعرض هو الصفة، أي يوجد ثابت مستقل بوجوده لا يستمد مشروعيته من وجود طرف آخر هو العرَض، وخير معبِّر عن ذلك هو مفهوم " الماهية، المُتصل بالثبات وحقيقة الشيء " ؟! فأي تكامل هذا بين ثابت لا تتغير ماهيته ؟! وبين عرضي مُتغير زائد عن الماهية؟! بما يؤدّي إلى تهافت المنظور التكاملي في العلاقة ما بين الجوهر والعرض.

لنتوقّف عند القائلين بالاعتماد Dependency فالجوهر- وفقا لهم هو الأساس والأعراض مجرّد إضافات، ومثاله ما سبق ذكره في الاقتباس، أي : الجوهر هو ما يقوم بذاته ولا يفتقر إلى غيره ليقوم به، على حين أن العرض هو الذي يفتقر إلى غيره ليقوم به". التعقيب: نحن هنا أمام منظورٍ تراتبيّ للوجود، مناف للبرهان، يُعلي من شأن المُجرّد في مقابل المحسوس،، يُعَبَّرْ عنه بصيغة " يفتقر إلى غيره " ويعبر تقليديا في الكتابات الفلسفية القديمة بصيغة " أشرَف من .." سأثبت مثالين لإيضاح طبيعة العلاقة بين الجوهر والعرض أحدهما من المحسوسات والثاني من المعنويات:

مثال - التفاحة التفاحة - بالمعنى المفاهيمي والإشاري - هي جوهر من النوع الجزئي استنادا للفلسفة الأرسطيّة، وهي جوهر لأنها تقوم بذاتها فليس للتفاح ضدّ، ولا تقبل الأكثر والأقل، فلا يوجد تفّاحة أكثر تفاحيّة أو أقل من تفّاحة أخرى مثلاً، واعتمادا على منطق ثنائية الجوهر والعرض: تتألف التفاحة من (جوهر تفاحي) وأعراض من قبيل: الشكل- اللون- الرائحة- الطعم- المكان- الملكية ..الخ وهذه الأعراض مُتَغيِّرة، ولا تتغيَّر التفاحة كجوهر بتغيّر الأعراض. التعقيب على المثال: لا توجد تفّاحة بدون أعراض، فلا وجود لتفاحة من دون لون ورائحة وطعم وشكل ومكان وزمان ..الخ، فجوهر التفاح " لا يقوم بذاته - وهو ليس مستقل عن الأعراض، بل ويفتقر لغيره ..الخ" والتفاحة متغيرة، وليست بـ:جوهر ثابت، وليس جوهر التفاحة بأشرف من أعراضها، فأي تغيير في الأعراض سيؤدي لتغيير في التفاحة، فلا يوجد – يقينا- تفاحة مستقلة عن أبعاد وجودها أي أعراضها، ولا يوجد جوهر ماهوي ثابت لها، والتفاحة هي تجريد يقوم على حذف واع لأعراض متغيرة تختلف بين ثمرة وأخرى، ويمكن تفهّمه ليس على سبيل الحقيقة، بل على سبيل المجاز والصلاحيّة، كأن أميز بين البرتقال والتفاح عندما أشتري الفاكهة مثلا . والتفاحة لا تحافظ على ثباتها أبدا.. بل هي صيرورة حركية لها أطوار وسياق تشكّل معيّن، ولا وجود لتفاحتين مُتطابقتين، أقله اختلافهما في الزمان والمكان ..الخ. أي أن الجوهر التفاحيّ القائم على الثبات والماهية والتطابق هو افتراض مناف للبرهان، وثنائية (جوهر تفاحي/ عرض تفاحي) عند من ينظرون إليها من منظور التكامل متناقضة مع سياقها نفسه، فهل من مبرِّر لاستمرار توصيفنا لثمرة التفاح بأنها جوهر! هل من مُبرر منطقي للنظر إلى التفاحة كجوهر وأعرض ؟! الخلاصة إنّ التفاحة هي كينونة تتشكّل من أبعاد وجودها المختلفة - التي هي أعراض- وفق صيغة معيّنة، وبشروط وسياقات معيّنة.

مثال - الوطن الوطن – بالمعنى المفاهيمي والإشاري - هو جوهر من النوع الجزئي استنادا للمنطق الأرسطي، وهو جوهر لأنه يقوم بذاته فليس للوطن ضدّ، ولا يقبل الوطن الأكثر أو الأقل، فليس ثمّة وطن بأكثر وطنيّة أو أقل من وطن آخر. التعقيب على المثال: ليس ثمّة جوهر للوطن يقوم بنفسه بمعزل عن أعراض الجغرافيا والتاريخ والسكان والإدارة السياسية والمشاعر الإنسانية ..الخ ؟! وقابلية الوطن لتوارد الصفات المتضادّة عليه : جميل/ قبيح، وطن حر/ مُحتل ..الخ لا يعني أن لهذا الوطن ماهية ثابتة ليست في موضوع . فإذا سلمنا - جدلا ً- بأن الوطن جوهر، وبأن الأعراض مساحته كذا، وعدد سكانه كذا، ومواطنيه يتكلمون اللغة الفلانية، وهو تحت الاحتلال أو حر، وهو يُحكَم بنظام جمهوري أو ملكي أو ديمقراطي.. الخ فإنّ هذه الأعراض- بما فيها الأعراض/ الأبعاد النفسية – وطريقة تشكّلها هي في حقيقة الأمر مَنْ يُشكِّلْ (جوهر الوطن). والوطن يزول – زمنيا- بزوال أعراضه، فمفاهيم مثل الوطن الروماني: نسبة للإمبراطورية الرومانية القديمة، زال تاريخيّا بزوال أعراضه، وهكذا كلّ وطن ..الخ فالأوطان يُعاد تشكّلها تاريخيا من خلال صيرورة حركية احتوائية احتمالية نسبية. لكن ماذا نقول لمن يُضحّي بنفسه في سبيل الوطن! وهذا حَدَثْ مُتَكَرِّر في التاريخ البشري؟! أليس الاعتقاد بالوطن والتضحية في سبيله برهان دامغ على كونه جوهر! لا بَلْ وجوهر فريد ونفيس؟! كإجابة على هذا التساؤل يمكن القول إنّ أهمّية مفهوم الوطن والوطنيّة واستمرار صلاحيّات التضحية في سبيل الوطن عبر التاريخ، لا يقتضي الإيمان بجوهرانيّة الوطن، لا بل إن هذه " الاعتقاديَّة الجوهرانيَّة " قد تكون مسؤولة على مُصَادَرة صلاحيّات ومصالح مفهوم الوطن لصالح شخص أو فئة أو طبقة ..الخ.

سادسا- ثنائية المضمون والشكل:

يورد المعجم الفلسفي في تعريفة للمضمون ما يلي : مضمون الشيء - في اللغة - محتواه، ومضمون الكتاب مادته، ومضمون الكلام فحواه وما يُفهم منهُ، ومضمون الشعور في لحظة معينة هو مجموع الظواهر النفسية التي يحتوي عليها ويتألف منها، ومضمون التصور في المنطق مفهومه، ولكل عملية فكرية صورة ومضمون .. وصورة الحكم مُسوِّراتة، ومضمون الحكم هو اشتماله على حدود معينة كمعنى الإنسان ومعنى الفاني ومعنى سقراط مثلا.[45]

قد ترد ثنائية المضمون والشكل ملتبسة بثنائية المادة والصورة، فالشكل هو عكس المضمون ضمن التقليد الفلسفي واللغوي السائد، ولكلمة شكل في العربية دلالات متعددة وردت في معجم لسان العرب يمكن اختصارها في أربع [46]: أولا- الشكل :الصورة والهيئة " شَكْلُ الشيء: صورتُه المحسوسة والمُتَوَهَّمة، والجمع كالجمع. وتَشَكَّل الشيءُ: تَصَوَّر، وشَكَّلَه: صَوَّرَه " قال ابن سينا : إن لكل جسم طبيعي شكلا طبيعيا، وذلك بيّن من أن لكل جسم متناه وغير متناه يحيط به حدٌّ أو حدود، وكل ما يحيط به حدٌّ أو حدود فهو مشكل[47] ثانيا - الشكل :الشبه والمثل "الشَّكْلُ، بالفتح: الشِّبْه والمِثْل، والجمع أَشكالٌ وشُكُول، تقول : هذا على شَكْل هذا أَي على مِثَاله. وفلان شَكْلُ فلان أَي مِثْلُه في حالاته. ويقال: هذا من شَكْل هذا أَي من ضَرْبه ونحوه، وهذا أَشْكَلُ بهذا أَي أَشْبَه، والمُشَاكَلَة: المُوافَقة، والتَّشاكُلُ مثله" ثالثا- الشكل : الطريقة "الشاكِلةُ الناحية والطَّريقة والجَدِيلة. وشاكِلَةُ الإِنسانِ: شَكْلُه وناحيته وطريقته. وفي التنزيل العزيز: قُلْ كُلُّ يَعْمَل على شاكِلَته؛ أَي على طريقته وجَدِيلَته ومَذْهَبه" رابعا- الشكل :التقييد وإزالة الالتباس "شَكَل الكِتابَ يَشْكُله شَكْلاً وأَشْكَله: أَعجمه. أَبو حاتم: شَكَلْت الكتاب أَشكله فهو مَشْكُول إذا قَيَّدْتَه بالإِعْراب، وأَعْجَمْت الكِتابَ إذا نَقَطَتْه. ويقال أَيضاً: أَشْكَلْت الكتابَ بالأَلف كأَنك أَزَلْت به عنه الإِشْكال والالتباس.[48] الشكليّ هو المنسوب إلى الشكل، تقول المسائل الشكلية وهي المسائل التي يهتم فيها بالشكل دون الجوهر، والرد الشكلي في المرافعات هو رد المدّعي عليه بالاستناد إلى إجراءات الخصومة دون موضوعها، وعلم الأشكال Morphology عند علماء الحياة هو علم صور الأنواع الحيوانية والنباتية وعند علماء اللغات دراسة صور الألفاظ [49]

أمّا الشكل المنطقي فهو الهيئة الحاصلة في القياس من نسبة الحد الأوسط إلى الحد الأصغر والحد الأكبر، فإذا كان الحد الأوسط موضوعا في الكبرى ومحمولا في الصغرى كان القياس من الشكل الأول كقولنا: كل إنسان فان، وسقراط إنسان،فسقراط فان. وإذا كان الحد الأوسط محمولا في المقدمتين أي في الصغرى والكبرى كان القياس من الشكل الثاني كقولنا: كل عادل كريم، وليس ولا واحد من السفهاء بكريم، فليس ولا واحد من السفهاء بعادل....الخ [50] أما مدرسة بور – ريال المنطقية فهي لا تعتقد بوجود منطق شكلي أساسا، فهناك الشكل الذي هو شكل الخطاب، وهناك عمليات العقل المنطقية التي تظهر للخارج في هذه الاشكال اللغوية، ولكنها لا يجوز ان تبقى اسيرة لها، وفهم المنطق كفن التفكير هو بالتحديد استخلاص الفكر الصحيح من ملابس الشكل اللفظي ومساعدتنا على الصعود من الشكل الى المعنى، لان المعنى هو الذي يجب ان يسمح بتأويل الشكل، وليس الشكل هو الذي يجب ان يفرض المعنى[51] إذن نحن هنا أمام مفهوم أداتي للشكل اللغوي/ المنطقي هدفه الوصول الى المعنى بوصفه غاية ومضمون، كامن في الشكل.

ينحاز هيجل الى المضمون ضد الشكل حيث "لا يجوز النظر الى الشكل فقط،فالمهم هو الجوهر، المضمون، ولا يجوز الاستسلام لغواية الشكل بحيث يوضع في المرتبة نفسها [52] ويحافظ على رؤية منفصلة لكل من الشكل والمضمون في مختلف العلوم، ولكنّه يستثني من ذلك الفلسفة " في العلوم الاخرى ينفصل الشكل والمضمون لكن في الفلسفة يكون الفكر موضوعها الخاص، إنها تهتم بذاتها وتتعين بنفسها وهي تتحقق في كونها تتعين بذاتها [53] في الفلسفة لا يتميز المضمون عن الشكل،و لا ينبغي لنا السعي لجعله نوعا فليس موضوع الفلسفة الاساسي هو العنصر الشكلي الصوري، الشكل المحض للفكر، ولكن يجب أن يكون مضمونا مُلازما للفكر ذاته [54] فالفلسفة تتميز عن غيرها من المعارف – عند هيجل- لكونها استيعاب المطلق بوصفه فكرا خالصا، على النقيض مثلا من الفنون التي تستوعب المطلق بوصفه شيئا محسوسا، بينما يترك الحالة الوسطى للدين، حيث يصبح المضمون هو نفسه الفكر المطلق، ويصبح الشكل وسطا بين الحس والعقل، وهو ما يعبّر عنه بالتمثيل أو الامتثال.

سابعا- التعقيب على ثنائية المضمون والشكل. يثبتُ هيجل درجات مختلفة للعلاقة ما بين المضمون والشكل من ناحية التميز، تبعا لمجال حضور الفكرة من الفلسفة إلى العلوم إلى الفن إلى الدين، ومن الواضح أنّه يستخدم ثنائيّة المضمون والشكل بكفاءة معيّنة، سرعان ما يلغي مفاعيلها كلّما اقتربنا من الفكرة بمعناها الفلسفي المطلق، فهي تهتم بذاتها وتتعين بنفسها وهي تتحقق في كونها تتعين بذاتها، ولنتساءل كيف تتعيّن بذاتها بعيدا عن حضورها الثقافي التاريخي! وفقا لصيغة معينة في حقل تداولي معين!! لنتوقّف عند القائلين بالتكامل Integration في العلاقة ما بين المضمون والشكل، فالمضمون يحتاج إلى شكل يتشكّل فيهِ، لشكل،فليس ثمة مضمون بلا شكل، والشكل يحتاج مضمون لكي يكون شكلَهُ. لنتوقّف أيضا عند القائلين بالاعتماد Dependency في هذه العلاقة، حيثُ درج العرف الثقافي على الإعلاء من شأن المضمون المقترن بالأساسي – الثابت – الزبدة - الهام – المعنى - الجودة ..الخ وعلى التقليل من شأن الشكل والنظر إليه : كهامشي – متغير – زائف- يرتبط بالتسويق والدعاية ..الخ.

مثال- التفّاحة وفقا لنظرية اعتماد الشكل على المضمون، للتفاح أشكال خارجية مختلفة، ولكنه في الجوهر هو تفاح والمُهم النكهة ..الخ ونقول عن الكتاب، قد يوجد بأشكال خارجية تختلف حسب الورق والغلاف والخط وتنسيق الصفحات ..الخ ويبقى الأهمّ في الكتاب مضمون أفكاره ومحتواه. التعقيب على المثال: بالعودة لمثال التفاحة، نجدها تتألف – وفقا لما سبق- من الشكل الخارجي ومضمون المادة اللحمية، فلا تفاحة بدون شكل خارجي، ولا تفاحة أيضا بدون مُحتوى ومضمون تفاحي. ولكن ما الذي يجعل التُفاح تفاحا؟! لنفترض ثمرة لها الشكل الخارجي للتفاح، ولكنّها تحتوي المادة اللحميّة للأجاص، أي شكل تفاحي ومضمون أجاصي، ماذا سنسمّي هذا الثمرة؟! تفاح أجاصي! أو ليكن (س) كائن جديد، ما العيب الذي قد تشكو منه ثنائية المضمون والشكل، من منظور تحديد هويّة الكائن؟ إنّ تغيّرا في حدّ الثنائية بدرجة وطريقة معيّنة، سيؤدي لاختلال في هويّة الكائن المُشكّل لها، إنّ ثنائية المضمون والشكل تقوم على مفهوم سكوني للوجود، وتوحي بوجود كائنات منفصلة ذات ماهيات ثابتة، تقوم على جوهرانيّة المُحتوى أي المضمون، أو هي ماهيات تقوم على ثبات العلاقة التكاملية بين المضمون والشكل. لنتساءل ما هي حدود العلاقة المُمكنة بين المضمون والشكل؟! هل تغير المضمون سيؤثر على الشكل؟ وما هو هذا التأثير؟ وهل تغير الشكل سيؤثر على المضمون؟ وما هو هذا التأثير؟ وهل هذا التأثير المُتبادل سيؤثر على هوية الكائن، وكيف؟ يبدو أنّ هناك مجالا معينا يُسمَح به لتغيير المضمون أو تغيير الشكل من دون أن يؤثر ذلك على هوية الكائن، ولكن عندما تتجاوز حدود التغيير هذا المجال فسوف يؤثر على هوية الكائن.

لنفترض وجود قطعة من الشوكولا مُصمَّمة على شكل تفاحة، هذا التغيير في المضمون سوف يؤثّر على هوية الكائن نازعاً عنه صفة الجوهر التفاحي. أو لنفترض اللُحْمَة (المضمون التفاحي) مبشورة وموضوعة في إناء، فهذا التغيير في الشكل سيؤثر على هوية الكائن نازعاً عنه صفة التفاحة كثمرة، نحن هنا أمام تصوّر يحكمه التناسب ما بين المضمون والشكل، فثمرة تفاح بحجم رأس الإنسان أو قمر الأرض سيكون غير مناسب لدواعي تتعلق بمورفولوجيا وفيزيولوجيا - طريقة تشكّل- شجرة التفاح على سبيل المثال. تاريخيّا ظهرت إشكالية التناسب بين الشكل والمضمون، أكثر ما يمكن عند دراسي الأدب والنقد الأدبي. أمّا عن الشكل المنطقي في القياس، الذي هو الهيئة الحاصلة في القياس من نسبة الحد الأوسط إلى الحد الأصغر والحد الأكبر، فالشكل المنطقي هنا يتعلق بالعلاقة بين الحدود، وهذه الحدود تُشكّل مضمون القياس وفقا لثنائية المضمون والشكل.

إنّ اختلاف أشكال القياس الأرسطيّ ما بين صالحة وفاسدة يَتَحوَّى ضمنا الاشارة إلى المضمون والحكم عليه من جهة الما صدق، فمثلا لا يصلح الشكل الفاسد للقياس مع المضمون الكاذب لمادة القياس، والعكس كذلك، بما يتجاوز النظرة التقليدية إلى المعرفة المنطقية – بالمعنى الأرسطي- باعتبارها معرفة شكلية وصورية.

إنّ ثنائية المضمون والشكل أزعم بأنّها غير كافية، وغير مطابقة لتحديد شروط وجود الكائن وقنونة المعرفة به، من أوجه عديدة: أولا - إن صحّ تحديد المحسوسات بوصفها مضمونا وشكلا،فهذا أقل دقّة في توصيف التصورات الذهنية، فالمثلث في الهندسة الاقليدية هو شكل مُجرّد من المضمون، وإذا كان للنقطة شكل فما هو مضمونها ؟! ولنأخذ كذلك على سبيل المثال الأعداد ليكن العدد 2: فهو كشكل عددي (رقم - بالرسم الهندي) من غير مضمون، ولكن ربَّ قائل يقول إن الرقم 2 مضمونه مُتغيّر فقد يكون تفاحتين أو رجلين أو حذاءين ..الخ. نقول إن الرياضيات ليست انعكاسا مباشرا للمحسوسات وعالم الوجود الخارجي بل هي تستمد مشروعيتها من المرجعية البرهانية الافتراضية الخاصة بها، فما هو مضمون 2 أو -2 مثلا! فالتصورات الذهنية ليست مجرد تمثيل وصفي لمادة الوجود الخارجي بأي حال من الأحوال. ثانيا- إن أي تغيير في أحد طرفي الثنائية سيؤدي إلى تغيير في هوية الكائن، بما قد يودي إلى اضطرابها ومثالها التفّاح المكعّب، أو تفّاحة من تراب! ثالثا- إنها ثنائية تقوم على تصوّر سكوني للوجود، توحي بوجود كائنات منفصلة ذات ماهيّات ثابتة، تقوم على الجوهرانية.

فثمرة التفاح مثلاً متغيرة المضمون والشكل باستمرار، ابتداء من خلقها وحتى تحللها، هذه الثنائيّة تصلح لتوصيف سكوني للشيء، والسكون هو حالة افتراضيّة مفيدة، فالتفاحة مثلاً ما هي إلا طريقة تشكُّل حركية ديناميكيّة تشمل المضمون والشكل معا، مع ملاحظة أنّنا نقصد بالشكل هنا الشكل الخارجي والهيئة. إنّ ثنائية المضمون والشكل لا تصلح لتحديد شروط الوجود وإمكانات المعرفة به على نحو دقيق، فالشكل التفاحي قابل للتحوُّل إلى أشكال أخرى،و كذلك المضمون التفَّاحي بما قد نسمِّيه : تفاح معطوب - تفاح أجاصي – مكعب تفاحي- مبشور التفاح.. الخ. رابعا- إن ثنائيّة المضمون والشكل تقوم على فهم إسقاطي، فإذا سلَّمنا من واقع الذوق الفطري أو البداهة العامة Common Sense بوجود مضمون وشكل لثمرة التفاح فهل تنسحب هذه المقولة لتشمل كل كينونة ؟! فمثلاً ما هو مضمون وشكل : اللون الأحمر- الفوتون- الطفولة- الحب- الحزن ..الخ؟!

ثامنا- الخلاصة ما يزال نمط التفكير القائم على منطق أو مبدأ الثنائيات شائعا، سواء على مستوى التداولي اليومي الحياتي أو على مستوى المشتغلين بالفكر والفلسفة، ورغم الاعتراف بصلاحيّات معيّنة لهذا النمط الفكري ولكنّهُ بالمقابل قد يوقعنا في إشكالات نظرية وعملية كثيرة عرضنا لبعضها في أعلاه. *ناقشنا ثلاث ثنائيات شهيرة تعكس منطق الثنائيات، هي على التوالي: ثنائية المادة والصورة- ثنائية الجوهر والعرض- ثنائية المضمون والشكل. وناقشنا كذلك ثلاث احتمالات تحكم العلاقة الداخلية ضمن كل واحدة من هذه الثنائيات، وهي على التوالي : التكامل ما بين طرفي الثنائية - الانحياز الى الطرف الأول الاساسي- الانحياز الى الطرف الثاني الهامشي. عرضنا كذلك لصيغ ظهور وتطور هذا المنطق كما ظهر في فلسفة أرسطو ومن ثم في التراث الفلسفي العربي الاسلامي، والمدرسة الأسمية في أوربا في العصر الوسيط، ومن ثم استمرار حضور منطق الثنائيات عند بعض فلاسفة العصر الحديث كديكارت وكانط وهيجل. ناقشنا كذلك كيف أنّ هذا المنطق يعكس تفكيرا نمطيا مهيمنا، غير مطابق لشروط الكائن وقنونة المعرفة به، وناقشنا قصوره عند الانتقال من الحسّي الى المعنوي، وكذلك عند الانتقال الى المعارف السياسية والعقائدية، ثم عرضنا لزحزحة هذا المنطق مع الاكتشافات العلمية الحديثة في الفيزياء.

summery

Actually mental pattern based on the duality logic or duality principle is still common، whether on the usual daily level or at the level of thinkers and philosophers; despite of admission that this mental pattern has some certain benefits. On the other hand، the duality logic faces many theoretical and practical problems. We discussed three famous dualities ; they are: duality of the Material and Image، duality of the Substance and Accident، and duality of the Content and Form. We also discussed three possibilities which controls the internal relationship within each one of these dualities . These possibilities are: integration- Bias to the first part i.e. Centre - Bias to the second part i.e. margin. In addition، we discussed the emerging and developing forms of this logic in Aristotle’s philosophy، then in the Arab-Muslim philosophical heritage، and in the Nominal School in Europe، during the medieval era. Also، we explained the existence of this logic in some modern-day philosophers as shown in the works of Descartes، Kant، and Hegel .We also discussed why the duality logic reflects dominant stereotype thinking which can’t be identified with the conditions and regulations related to the being knowledge. We indicated the deficiency of this concept when it is applied to incorporeal، to political، and to religious knowledge. Finally، we indicated the necessary need for reassessment of this logic according to the modern scientific discoveries in physics.

Hrastanawi@gmail.com

تاسعا- الهوامش.

[1] نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان، فؤاد زكريا، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية 1977 م، ص29 .

[2] موقع معابر، نسخة الكترونية من قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دروزي وأندريه روسل، تعريب أكرم أنطاكي، عن موقع معابر، على الرابط: http://maaber.50megs.com/philosophy/matter.htm

[3] المعجم الفلسفي، جميل صليبا،دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982،ج 2،ص 306

[4] المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ج2، ص 306

[5] المعجم الفلسفي، مرجع سابق،ج2، ص 307

[6] نظرية العلم الأرسطية، د. مصطفى النشار، ط2، دار المعارف، القاهرة 1995، ص 185 والاحالة الى: Aristotie،metaphysics.B.V.ch.2p.1013a،engitrans.p.533

[7] نظرية العلم الأرسطية، مرجع سابق، ص 196

[8] نظريّة العلم الأرسطيّة،مرجع سابق، ص 196

[9] المنطق - نظرية البحث -،جون ديوي، من مقدمة الكتاب لزكي نجيب محمود، القاهرة، دار المعارف 1969م، ط2، ص24

[10] موقع الأوان، مقال العصور الوسطى ليست عصور ظلام نموذج المذهب الاسمي وقلب الطاولة على ارسطو، تاريخ 4 شباط 2015م، بقلم عماد إجحا، الرابط: http://www.alawan.org/article13807.html

[11] موقع موسوعة ويكيبيديا، مادة ضوء [عدل] آخر تعديل 2016 الرابط: https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B6%D9%88%D8%A1

[12] نظرية العلم الأرسطيّة، مرجع سابق،ص85

[13] المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ج1، مادة الجوهر،ص 424-227

[14] المعجم الفلسفي، مرجع سابق،ج2، مادة عرض، الصفحات 68-71

[15] التعريفات، الشريف الجرجاني، المطبعة الخيرية المنشأة بجمالية مصر سنة 1306 للهجرة،ط1، مادة الجوهر،ص35- 36

[16] نظريّة العلم الأرسطيّة،مرجع سابق، ص87

[17] المنطق عند الفارابي، ج1، نص التوطئة،دار المشرق، بيروت، ط1، 1985م،ص90

[18] المنطق عند الفارابي، ج1،،دار المشرق، بيروت، ط1، 1985م، ص91

[19] النجاة في المنطق والالهيات، ابن سينا، تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار الجيل،ص126

[20] الارشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، الجويني، القاهرة، مطبعة السعادة 1950م،ص39

[21] التعريفات، الشريف الجرجاني، المطبعة الخيرية، جمالية مصر، ط1، 1306 للهجرة، ص79

[22] تهافت الفلاسفة، أبو حامد الغزالي، القاهرة، دار المعارف، ط6، 2010م،ص39

[23] المواقف،عضد الدين الايجي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1997م، ج3، ص12

[24] نقض أساس التقديس، ابن تيمية، تحقيق موسى بن سليمان الدويش، مكتبة العلوم والحكمة، 1425، نسخة الكترونية على موقع أهل الحديث، ج2-ص473

[25 ] موقع الأوان، مقال العصور الوسطى ليست عصور ظلام نموذج المذهب الاسمي وقلب الطاولة على ارسطو، مرجع سابق.

[26] المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ج1، مادة الجوهر، نقلاً عن كتاب : مبادئ الفلسفة لديكارت

[27] المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ج1، مادة الجوهر، ص 424-227

[28] قصة الفلسفة، ول ديورنت، مكتبة المعارف، بيروت، ط 6- 1988م،ص 215

[29] قصة الفلسفة، مرجع سابق، ص218

[30] موقع موسوعة الماركسية، حرف السين، مادة اسبيتوزا، على الرابط:

https://www.marxists.org/arabic/glossary/index.htm

[31] المعجم الفلسفي، مرجع سابق،ج2، مادة عرض، الصفحات 68-71

[32] نقد العقل المحض - عمانويل كانط،ترجمة موسى وهبة،مركز الانماء القومي بيروت، ص 137

[33] نقد العقل المحض، مرجع سابق، ص137

[34] نقد العقل المحض، مرجع سابق، ص137

[35] نقد العقل المحض، مرجع سابق، ص89

[36] محاضرات في تاريخ الفلسفة، هيجل، ترجمة د. خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية، بيروت، ط2، ص76

[37]محاضرات في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص77

[38] محاضرات في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص50

[39] محاضرات في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص15

[40] محاضرات في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص51

[41] نظرية العلم الأرسطية، مرجع سابق ص90

[42] نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان، مرجع سابق، ص29 .

[43] نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان،مرجع سابق، ص29 .

[44] التعريفات، الشريف الجرجاني، المطبعة الخيرية المنشأة بجمالية مصر سنة 1306،ط1، مادة الجوهر، ص35 - ص 36

[45] المعجم الفلسفي،مرجع سابق،ج2،مادة المضمون، ص 386

[46] موقع الباحث العربي، نسخة الكترونية من قاموس لسان العرب - ابن منظور – مادة :شكل، على الرابط: http://www.baheth.info/all.jsp?term

[47] النجاة في المنطق والالهيات، ابن سينا، تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار الجيل،فصل أن لكل جسم طبيعي شكلا طبيعيا، ص 78

[48] موقع الباحث العربي، نسخة الكترونية من قاموس لسان العرب - ابن منظور – مادة :شكل، مرجع سابق.

[49] المعجم الفلسفي، مرجع سابق، ج1، مادة الشكل،ص 707

[50] المعجم الفلسفي،مرجع سابق، ج 1، مادة شكل، ص 707

[51] المنطق وتاريخه من أرسطو وحتى راسل، مرجع سابق، ص 253

[52] محاضرات في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص232

[53] محاضرات في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص76

[54] محاضرات في تاريخ الفلسفة، مرجع سابق، ص296