يعرض الناقد العراقي هنا لجديد نجيب محفوظ، في تلك المجموعة التي كانت منسية في أوراق الكاتب الكبير، ونشرتها دار الساقي مؤخرا. وكيف أن هذه المجموعة القصصية تنتمي لعالم نجيب محفوظ الأثير، ولكنها تقدم في الوقت نفسه شغفه المستمر في ارتياد أصقاع سردية واستراتيجيات نصية جديدة، حيث.تمتاز هذه القصص بالإيجاز الشديد، لغتها مكثفة، وتفاصيلها مختزلة ومحبوكة، وكلماتها المعدودة مقطرة بعناية، ليحل بديلاً من السرد فيها والفيوضات اللغوية والاستطرادات الكلامية التي تتميز بها الحكاية المحفوظية، الإنزياح الدلالي، والبعد الموحي بالرموز والمكملات الإشارية، لا زوائد في هذه القصص، ولا استطالات مجانية، بل هنا برق من العلامات، يضيء بِنية النص.

«همس النجوم» جديد نجيب محفوظ

حكايات قصيرة ممرّغة بضوء الشعر

هاشم شفيق

 

حين يرد اسم نجيب محفوظ في سياق حديثنا، يذهب خيالنا مباشرة باتجاه جائزة نوبل، كونه العربي الوحيد الذي نالها بجدارة، من خلال ما قدّمه للعالم من منجزات جمالية وإبداعية في حقول القصة، والرواية، وفنون السيرة الذاتية، فهو الصحافي المثابر، والكاتب المرموق، وأنيس المقاهي الأدبية والمنتديات الفكرية والفنية، وصاحب وصديق للأجيال الأدبية المتعاقبة، ساهم في إرساء القواعد الفنية الأولى لكتابة القصة والرواية الحديثتين، هو وصحبه مثل توفيق الحكيم ويوسف إدريس ومحمد عبد الحليم عبد الله ومن تلاهما، ممن عاشوا فترات زمنه من الكتّاب الذين لا يستطيع هذا المقال أن يَلمَّ بهم لكثرتهم، إنْ كانوا من مصر، أو من البلدان العربية، فهم من أشاعوا هذا الفن الحكائي، وجعلوه مقروءاً في يد العامّة.

حين نلج إلى عالم نجيب محفوظ الروائي، سنكون على موعد مع عالم عائم بالحكايا، والأبطال والشخصيات الفاعلة في محيطها، شخصيّات مدروسة بأناة ودقة، تتحرك في زمانين ومكانين واضحين، فالشخصيّات في الغالب مصرية، وكذلك هي الأزمنة والأمكنة، عالمه هو عالم واقعي، يجنح مرة ليغدو فانتازياً، وتارة يكون سحرياً، وأخرى يكون عجائبياً، يستمدّ أمثولته من أجواء غرائبية كأجواء ألف ليلة وليلة، عالم فيه غموض مُحبّب، وغلالات ضبابية توحي للقارئ بخروقاتٍ فنية ومغامرات فاتنة، تستدعي الحكاية الأنيسة، ربما هذه الحكاية تتمتع بعوامل موضوعية عامة، أو ذاتية، تختص بالإنسان وتداعياته الحياتية، يومياته، مسيرته منذ يوم مولده، وحتى النهايات، مصائبه ومشاكله وتوتراته الدرامية، المأسوية والكوميدية. فنجيب محفوظ الأستاذ والمُعلّم والباني الأول، هو ابن القاع المصري، وأيضاً ابن طبقته المتوسطة، وابن الدولة والسلطات التي عمل لديها موظفا لسنوات طويلة، فهو العارف بأسرار وحكايات الناس، البسطاء، والمتعلمين، والمهنيّين، والساسة، والموظفين الصغار، والكبار الذين قابلهم طيلة حياته، هذه الحياة التي امتدت طويلاً، في بلد تاريخي وأسطوري وواقعي مثل مصر.

كل ذلك نراه مجسّداً كحوادث كبيرة وهامة، في أعمال نجيب محفوظ الإبداعية، حتى لو أوجزت تلك الحوادث والوقائع والمشاهدات والرؤى في صفحتين أو ثلاث، أو في صفحة ونصف، أو في صفحة، وربما في بضعة أسطر، كما هو حال كتابه القصصي الجديد (همس النجوم) الذي صدر هذا العام، وهو يضم قصصاً جديدة لم تنشر من قبل في كتاب، وهي قرابة الثماني عشرة قصة، مع مقدّمة لناشرها ومخرجها إلى الضوء الكاتب محمد شعير، متسلماً هذه القصص بلذة الحصول على كنز من ابنته أم كلثوم، قصص كان يحتفظ بها والدها الروائي العالمي الكبير في صندوق يحتوي أوراقاً خاصة به، وحين تسلّمها شعير أحسّ أنه على وشك «اكتشاف مقبرة فرعونية» وفق تعبيره المجازي، الذي يدلل على أهمية هذه القصص، وهذا الاكتشاف النادر.

تمتاز هذه القصص بالإيجاز الشديد، لغتها مكثفة، وتفاصيلها مختزلة ومحبوكة، وكلماتها المعدودة مقطرة بعناية، ليحل بديلاً من السرد فيها والفيوضات اللغوية والاستطرادات الكلامية التي تتميز بها الحكاية المحفوظية، الإنزياح الدلالي، والبعد الموحي بالرموز والمكملات الإشارية، لا زوائد في هذه القصص، ولا استطالات مجانية، وهبوب لغويّ يعصف بالصفحات، بل هنا برق من العلامات، يضيء بِنية النص، ويُنير سياق القصة المرسومة كلوحة زيتية، أو الملتقطة كلقطة ذات رؤية تعبيرية، تجسِّدها صورة فوتوغرافية، مشهدها بارز، شخوصها واضحو الملامح، عددهم قليل، ولهم هيئات معلومة، ومُهندسة وفق نسق نحتي، خاص بالكلمات المرجوة للقص، ذي الفن المختزل والقصير جداً.

أبطال هذه القصص هم شيخ الحارة، أبناء الحارة، ونساؤها وأطفالها وعجائزها، والشيخ إمام الزاوية. أما المكان فهو الحارة، والقبو، والحِصْن المُجانب للحارة، والسبيل، وبيوت الحارة، ومقهى الحارة، ودكّان شيخ الحارة.

يسعى نجيب محفوظ في كل قصة إلى أن يضع المصائر المجهولة والمبعثرة والمُنتهَكة والمُعتدى عليها، من قبل أناس أقوياء، تسلطوا على الفقراء في أيام ضعفهم، في صورة المتحدي وغير المهزومين، كما ورد في القصة الاولى «المطاردة»، فبطلتها زكية، وهي امرأة من عامة الناس، لا حول لها ولا قوة، اعتدى عليها في يوم ما، صاحب دكّان الحارة، فأنجبت منه طفلاً، لم يعترف صاحب الدكان به ولا بها، ولكن هذه المرأة تصرّ على موقفها دون خوف، أمام شيخ الحارة الذي يفصل في مثل هذه القضايا، غير متنازلة عن حقها، أو مغادرة حارتها وتركها لمن اعتدى عليها في لحظة ضعف.

وكذلك هو الأمر في القصة الثانية، وهي تدور حول «ابن الحارة» الممسوس والصعلوك، والذي ينام في القبو المُترب المحاذي للحصن، فالناس في الحارة يؤمنون بقدراته التنبؤية، تتحامى من أجله وهو يتحامى من أجلهم، مدافعاً عن حقوقهم مع من يسرقهم، من أمثال الزاوي المُعلم في الحارة، فيدخل معه في معركة هو وأهل الحارة، منتصرين لأنفسهم ولابن حارتهم، داحرين بذلك الجشع المتجسِّد في المُعلم الزاوي وسيرته الناقصة، والملوّثة بالمال الحرام، المسروق من أهل الحارة.

أما أقصوصة «همس النجوم» التي أخذتْ عنوان الكتاب، فهي قصة ملمومة، ومتقشّفة في لغتها، وتكنيكها الصوري، ومن ناحية الدال والمدلول، فهي قادرة على أن تكون بمحمولها اللفظي، ومفاهيمها الرؤيوية، رواية طويلة قابلة للسرد، والروي، والديالوغ المتداخل مع شخصيات الحارة، كالطفل المتروك من قبل أبويه، وشيخ الحارة، والشيخ بشير شيخ الزاوية، والتاجر وزوجته ومغني الربابة، والعجوز جدة الصبي الذي يلهو ويلعب في الحارة، دون علم بما جرى وحصل لأمّه، مع مغني الربابة الذي ولج الحارة، ذات يوم ليغني فيها، ويُطرب ساكنيها، غنّى في الأزقة والمقاهي الشعبية، حتى تعلقت به الست بدرية أم الصبي، زوجة التاجر المعلم قدري، ذلك التاجر الذي انهار وقضى بنوبة قلبية، حال سماعه خبر زوجته، وهروبها مع مغني الربابة. أثناء تلك الحادثة، كان الصبي لا يزال صغيراً، ولا يعرف ماذا حدث لوالديه، لكنّ الحارة كلها تعرف بالواقعة، تلك التي حدثتْ فيها ذات يوم، وهزّت أركانها، وخلخلت مقام العجوز جدّة الصبي، ذلك أنها لم تتخلص أبداً من أقاويل سكان الحارة، وألسنة السوء التي تهمس بالقيل والقال.

وحده شيخ الزاوية كان يملك الرؤى البعيدة، ويسبر ما سوف يحصل لقاطنيها، من ويلات وأتراح وأفراح أيضاً، فالشيخ بشير حسب الأقصوصة المحفوظية، كان يقرأ الغيب، ويُدلي بالآتي، ويكشف المستتر، لمن هو على حافة الوقيعة، ولقد سبق وأن حذّر شيخ الزاوية التاجر قدري، من وقوع هذا الأمر، في إشارة رمزية، وقول مبطّن، وذلك ما لمسناه في الحوار الذي دار بين شيخ الحارة وشيخ الزاوية والذي جاء فيه:

«مضى الرجل يغني والحارة تبهر وتطرب حتى لاح في عالمي الخاص ما كدّر صفوي، فانتظرت حتى رأيت المُعلّم قدري قادماً فاعترضت طريقه، وقلت له إن الصقر سينقض على الدجاجة، فلم ينتبه لقولي، وحسبني أسأله إحساناً، فأعطاني بكرمه المعهود … فسأله شيخ الحارة: ألم يسألك عما تعنيه؟

ـ أبداً… ولا بدا معنياً بذلك …

ـ ولماذا لم تكاشفه بما يخبّئه القدر؟

ـ نحن لا نتجاوز الخط وإلا فقدنا النعمة!

ـ ثم ماذا؟

ـ وإذا بمطرب العشق يختفي، وتختفي معه ست بدرية حرم التاجر الكهل الثري، تاركة طفلاً في عامه الأول».

ولعل قصة «شيخون» التي تلي قصة «همس النجوم» هي الأخرى تنتمي إلى هذا العالم السيميائي، عالم الهرمونيطيقا والتقاطعات الدلالية، الحاملة لمثل هذه العلامات التي تبشر بالنبوءة، والكشف، وتقليب الغامض، والمبهم، والمستور، كونها، أي القصة، تُدلي بالرؤيا والبعيد اللامرئي، فـ “شيخون” هو رجل يذكّر ببطل “أولاد حارتنا” الرواية الممنوعة في زمنها، والتي حرّضت لجنة نوبل على منح كاتبها الجائزة الشهيرة، فالقصة هنا مختصره في صفحة ليس إلا، وفحواها يكشف عن رجل غاب زمناً عن حارته، وحين عاد إليها بعد طول غياب، اكتسب الحكمة، والوقار، والهيبة، والدراية بكشف المتواري، واللامعلوم، والمخفي في الباطن، فوقف بين الناس يساعدهم ويعالج مرضاهم، ويكشف الغبيب لهم، بحكمته وفلسفته الخاصة، فأسر قلوب أهل الحارة، لكن الصفوة في الحارة كانوا يراقبونه بحذر ولا مبالاة، وحين وقف يهتف فيهم، عند حوض البهائم في السوق، ورفع يده ولوّح بها، وسط الحشود التي أحبته هاجمه جمعٌ من الرجال وألبسوه بالقوة ثوب المجانين الهاربين من مستشفاهم، يتقدّمهم شيخ الحارة ورئيس المجموعة الذي قال له:

“يا لك من رجل متعب!”.

 

نجيب محفوظ: “همس النجوم”

دار الساقي، بيروت 2019

111 صفحة.