هذه قصة عن المؤسسة الزوجية العربية: تناقضاتها وأوجاعها وتخثر تواريخها في الغربة والمنافي التي تُخرج أسوأ ما فيها، بينما أفرز التشبث بالنضال في الوطن أجمل ما فيها. حيث يزداد اعتماد طرفيها كل على الآخر وتزداد معه بزحف الشيخوخة تخريجات وتوهيمات قدرة كل طرف على الاستغناء عن الآخر.

قبلة الصباح

سلام إبراهيم

 

حمل جسده المنهك من مقعده، وسحب من أدراج مكتبته سلة أدويته المليئة، وراح يخرج الحبوب من أغلفتها مردداً بصوتٍ خافتٍ أسماء أمراضه؛ سكر، كلسترول، ضغط، بروستات، ربو، قلب، غير بخاخات التنفس والأنف، وقطرة العيون. جمّعها براحة كفه المفتوحة وتناولها دفعة واحدة مع كأس من الماء.

عاوَدَ الجلوس على مقعده بمواجهة النافذة. خلفها ندف الثلج تتساقط منذ ساعات. أرتجف بالرغم من دفء الصالة. بات شعور البرد يلازمهُ منذُ زواج أولادهم وعيشهم في سكن مستقل قبل عدة سنوات.

لم تعد تجذبه القراءة أو النزهة في الغابة القريبة، أو لقاء الأصدقاء، فَعاد لا يخرج من الشقة إلا نادراً، يحملق من شبابيكها بالوقت وهو يمضي، الشتاء بأمطاره، الربيع بخضرته، الصيف بشمسه، الخريف بألوانه، يتأمل مستعيداً تفاصيل العمر الذي مرَّ سريعاً، عنيفاً ليجد نفسه جوار عامه السابع والستين بالكاد يستطيع التنفس والنوم، فالسعال لازمه في السنوات الأخيرة محيلاً لحظاته إلى جهدٍ وعناءٍ، يحمل كيس نفايات صغير أينما تنقّلَ ليبصق فيه قطع البلغم الأخضر المتماسكة من صدرٍ يصدر صفيراً مسموعاً مع كل شهيق وزفير.

يسعل شاعراً بالسخرية من الحياة برمتها، حرارة المشاعر، الأحلام المستحيلة التي ظنَّ أن بمستطاعه تحقيقها في تغيير المجتمع، وتحقيق المساواة، وخلق بيئة تجعل الإنسان سعيدا.

يفكر كل صباح مقلباً التفاصيل فيهز رأسه وينفضه وكأنه يصحو من كابوسٍ ثقيلٍ.

العجيب في القصة كلها هو (أصراره)، فبالرغم من تكرار خطفه من الشارع والمقهى والمدرسة إلى أقبية مظلمة رطبة وتعذيبه لم يكف، ولم يفكر بالكف أصلا! فيندهش من تحمّله كل ذلك الإذلال وكأنه المهان ليس هو، حتى أنه أقدم على مغامرة كادت تؤدي بحياته بحمله السلاح في الجبل وخوضه عناء تلك الحياة البدائية التي تشبه حياة الإنسان في مراحل التاريخ الأولى، لا كهرباء لا بيوت، لا طرق معبدة، مجاميع صغيرة محصورة بين الجبال الوعرة تتظاهر بالود والرفقة لكن القسم الأغلب في الجوهر يتنافس ويحقد على بعضٍ، ويمارس كل رذائل البيئات المغلقة. ليتشرد معها بعد هزميتهم عابرين الحدود إلى دولٍ مجاورة، ليحشروا في معسكرات نائية ضيقة الغرف يُوَزَع عليهم العدس اليابس والخبز. وأمامهم مستقبل مجهول أنفرج بمحض صدفٍ ليجدا نفسيهما هنا في دولة أوربية نظامها الاجتماعي كفلَ لهما حياة مضمونة من كل النواحي. وكأنهما أنبثقا من العدم مرة أخرى.

هل كانت هي السبب في مقاومته كل الأهوال؟

هل ما يسمونه الحب جعلهما يقامران بوجودهما الحيّ؟

لم يكن لديه قناعة أيديولوجية بفكرة فرض الأفكار على مجتمعٍ ما بقوة السلاح، بالرغم من إيمانه العميق بفكرة المساواة والأشتراكية، بينما كانت في تعلقها بالعقيدة والمدينة الفاضلة شديدة الصخب، متوقدة عاطفياً مشتعلة بالحماس الذي يتغذى من عناد شخصيتها المُحبة للظهور؟!

ظن أول الأمر أن السر يكمن في الحب؟! فطَربت نفسه لذلك، لكنه في المنفى ستهتز هذه القناعة التي شُيّـدَتْ العلاقة عليها، سيشك ويتعذب كثيراً.

هي كذلك سيصيبها ما أصابه، وفي الوقت الذي كتم فيه ما تولّدَ من أضطراب مشاعر مع توسع الشك، أجهرت هي مرات وأطاحت باستقراره النفسي. فعاد قلقاً يتوقع السقوط في الهاوية عقب كل مشادة تُكَرر فيها تهديدها بتركه. البارحة أنفجرت لخلافٍ في الأراء حول فلم "الزوجة" شاهداه في السينما سوية، فقد أصرّ على سخافة الزوجة التي عيّشت زوجها طوال عمره في هاجس تركه، وهو الكاتب الذي فاز بجائزة نوبل، ويتطور الخلاف في رحلتهم لتسلم الجائزة بأستوكهولم، متضايقة من حشد النسوة اللواتي أحطن به من ضوء الجائزة، حتى أنها أختلت به، أنبتهُ وهددتهُ فيرتعب. متوسلاً كي تقول له أنها مازالت تحبه، إلى أن يسقط على السرير مصاباً بجلطة يموت فيها؛ في مشهد يقلب سير الفيلم من جوٍ أدبي مخملي إلى مأساة وفاجعة.

فكانت منحازة لموقف الزوجة التي كانت تغار وهو يتسلل من الفراش ليسهر مع كاتبة شابة معجبة معتبرة هذا الأمر خيانة لتاريخ قصتهما. مما جعله ينفعل ومشهد رعبه من تركها الذي يؤدي به إلى الجلطة والموت يتجسد أمامه فيشدد:

- مهما يكن فهذه الزوجة حقودة لئيمة، عيشته برعب الوحدة، وفي أقصى النجاح قتلته بتهديدها بالهجر وهو في توالي العمر!

- لا.. لا.. ما شفته يتسلل من فراش النوم ليسهر مع كاتبة شابة معجبة وهو بهذا العمر ويحمل أمراض الشيخوخة كلها!

- وماذا بها يتنفس! هو كاتب ويحب الجمال ومنتشي بالفوز!

- لا.. لا هو حقير وخائن ككل الرجال! وأنت تبرر خيانة الرجل وتدافع عنها، عن نفسك بالحقيقة، ألم تفعل مثله، ليس الآن بل في عزّ شبابي!

نكأت جرحاً حاولا نسيناه منذ سنوات طوال، فتجسّدت تلك الأيام العجاف التي عيشته في جحيمها وهي تسحقه بالإهمال، وعدم الاهتمام؛ مركزةً على تعلمها اللغة ودراستها ونجاحها. ثم عملها تاركةً شؤون الحياة والأطفال عليه، لم يتضايق أول الأمر بل بالعكس دعمها. وبالرغم من أمراضه قام بكل شيء بجداره، من العناية بأطفالهم والطبخ وشؤون الحياة. لكنها لما وجدته مطيعاً حنوناً تمادت في إهمالها، وصارت لا تتعامل معه كبشر إلا بمزاجها في الحنان والجنس، فصار الفراش مضطرباً لاختلاف الأحاسيس، فقد بات يضطرب من برودتها بحجة التعب، وبات لا ينفعل باقترابها لأنها لا تفعل ذلك إلا حسب مزاجها. مضاف لمشكلة السطوة الاقتصادية؛ وقتها وجد نفسه وكانه خرقة منسية وهو الجميل المحب الحنون. فشبَّ من الطوق وأنشأ علاقة مع صديقتها التي تحرشت به وهي شابة يافعة. خاض معها تجربة قصيرة رومانسية سرعان ما تحطمت وهو يكتشف نوايا المرأة الخبيثة، لكن الأمر سيكشفه لها لاحقا صديق مات. كان يعرف قصة العلاقة فأخبرها تلفونياً وكاد أن يشظي العائلة. لم ينجح، فالتعلق والتاريخ ذاد، لكن الشرخ توطد. وها هي تشهره بهذا العمر، لخلافٍ حول فيلمٍ عزمها عليه، لكي يقرب روحيهما التي يحس أنهما تتباعدا يوماً بعد أخر في خريف العمر.

تناسيا القصة فظن أنها أندثرت مع تبدد مصائر شخوصها لكنها أحيتهم بكلماتها، صرخ بها:

- هم رجعتي لنفس الشريط العتيكـ!

- مو عتيكـ بعدك تدافع عن أخطائك!.

قالتها ونهضت من الإريكة المجاورة فأدرك أنها سممت ليلته، وهشمت محاولته في رأب الصدع، فأرتشف على عجل كأسا من الويسكي كان يخبئه في رف طاولة الصالة الثاني وصرخ:

- أشتعل دين اللي خلقك، أشكد قد تحبين النكد والمشاكل!

ألتفتت نحوه قبل أن تتجاوز عتبة الصالة الفسيحة، ورمقته بسخرية وضيق وبصمت أيضاً، قبل أن تقول بصوتٍ غليظ جارح:

- والله لو ما أخاف يقولون عافته وهو مريض لتركتك غداً!.

نهض بعناء من كرسيه الهزاز المقابل للنافذة ليعد فنجان قهوة الصباح مخلفاً الندف المتراقصة تلعب بها الرياح وتجعلها ترتطم بجدران الأبنية والنوافذ وتشابك أغصان الأشجار العارية في الحدائق بين البنايات. تمهل في مدخل الشقة وتوقف جوار غرفة النوم وأرهف سمعه فتناهي شخيرها الخافت أليفاً، هو يدرك أنها تتعذب كل ليلة بعد مشادة من المشادات التي تنشب بغتةً لا يعرف كيف، فقد كانا يختلفان على أبسط الأشياء، وفي كل مرة تحاول السخرية منه وحينما يصدها بهدوء تنفعل فاقدة أعصابها لتعيد تهديدها القديم نفسه الذي أطلقته في أول سنتين وصلا فيها قبل أكثر من عشرين عاماً:

- أروح أسكن وحدي وأرتاح!.

حتى أنها في إحدى المرات رزمت ملابسها وأختفت في صباح يوم خريفي ماطر عقب مشادة عاصفة في الليلة السابقة. سيعلم لاحقاً أنها عاشت في بيت النساء التابع للبلدية، سيبذل جهدا مضنياً من أصطناع المشاعر والتمثيل كي يجعلها ترجع عن قرارها إلى أن عادت على مضض ليعيشا بتوتر من جديد.

حمل قهوته وعاد إلى كرسيه الهزاز بمواجهة الفضاء خلف النافذة الذي أزداد سطوعاً مع تقدم النهار. شم بخارها عميقاً وأرتشف متهملا. أغمض عينيه رائياً ما فعل فيه أول تهديد وكيف قلب ذلك الاستقرار العميق الذي كانا يشعران به في أقسى الظروف وأشدها، إلى اضطراب وعدم أمان. كانا في شبوب العمر أواسط ثلاثينياتهما حينما قذفت به في دوامة قلقٍ، فجعل يجفل ويتوتر عقب كل خصام، وهي تكرر التهديد نفسه. صارَّ الرعب أكبر بعد مجيء طفلهما الخامس وإحالته إلى التقاعد بعد ثبوت عجزه صحياً، بينما هي خرجت إلى الحياة أكملت دراستها، وعملت في دائرة حكومية، فضاق وقتها. وباتت تعامله بجفاء وتعالٍ وهو المحبوس في البيت يعني بالأطفال، يذهب بهم إلى المدرسة ويعود بهم ويطبخ، ويقوم بكل مهام البيت أيام عملها. أختلفت معه على أقتصاد المنزل، فهو لا يعلم كم تقبض، وألقت على كاهله مصروف البيت، ليكتشف في السنوات اللاحقة أن راتبها أكثر من ثلاثة أضعاف راتبه، تدفع منه تكاليف الإيجار والباقي لا يدري ما تفعل به، لم يتناقش معها في الموضوع ففي المرة الوحيدة التي فتح موضوع أقتصاد الأسرة كونه متقاعداً مرتبه ينقص كلما زاد مرتبها، ثارت وقلبت الدنيا وسمع كلاما عن تعبها وعملها وجهدها وختمت كلامها بالتهديد:

- تريد اطلعْ من البيت وعْش وحدك وخلي ينفعك الراتب!

كان يرتجف هلعاً مع نفسه، لكنه يتماسك امامها ويلزم الصمت. أو يخرج في نزهة طويلة في الحقول الشاسعة المجاورة ولا يعود إلا مع نزول المساء من بارٍ قريب يلجأ إليه ليشرب حتى يخفف رعبه من فكرة عيشه وحيداً بعيداً عن أطفاله الذين يعني بهم طوال الأسبوع ويحكي لهم كل مساء قصة قبل النوم وبدأ يعيطيهم دورساً يوميةً باللغة العربية ويذهب معهم في نزهات في الحقول والمدن المجاورة عند إنشغالها في العمل خلال عطلة الأسبوع وسفرها لحضور كونفرسات عمل في مدنٍ بعيدة.

ومن يومها لم يَفتح هذا الموضوع أبدا، وقنع بالموجود حسب التعبير السائد، راتبه يكفي بالكاد لأطعام خمسة أفواه مدة شهر ويكفي أيضا لمخفف الآلام والمخاوف؛ السائل السحري الذي دونه كان سينفجر ويقول طززززززززززز بكل شي ويرتكب حماقة أو جريمة ويفلش الأسرة. كان يقول مع نفسه:

- الحياة محض عناء!. هي هكذا!.

ويتناسى التفاصيل مندمجا بها.

* * *

سهر البارحة عقب المشادة والخلاف حول الكاتب الذي قتلته الزوجة مفكراً بجنونها:

- هي مجنونة قال مع نفسه، مجنونة!

دخلت عامها الثاني والستين مهرولة خلف عمره الراكض صوب النقطة، يقتربان منها يقتربان وتهدده المجنونة بالترك والعيش مستقلة، تقول ذلك بثقة يستغربها وكأنها يافعة وهي تعرف أن حتى الجنس صار مثل خاطر يخطر في سهوٍ يشبه الحلم.

سهر البارحة جزعاً وتخيلها ميتةً، وهذا ما قد يحدث في أي لحظة، تخيل موتها أو موته، وشعر بالسخرية من الخلاف وعنف أنفعالات البارحة:

- معقول معقول!. تختلف وتتقاتل أو تكاد مع رفيقة عمر حول فيلم وقصص، وأنتما توشكان على الغروب!.

- معقول!.

هتف مع نفسه، وسقط في النوم متضايقاً من كلامها وملامحها وشكل أنفعالها ونبرة صوتها تلك النبرة العجيبة المهددة المحافظة على نبرةٍ أرعبته منذ أول المنفي، الواضحة، الشارخة، التي طعنته البارحة وهي تضيف لهاجس الخشية من قول الناس عن تركه وهو مريض:

- شوف لو أحال على التقاعد سوف لا تراني في السنة غير شهر!.

سمعها بعمق وقرر مع نفسه شطبها، وكتم بعناء سيل شتائمه الذي أنهدّ:

- تفاهة.. حقارة.. وضاعة.. سخافة.. كس أم الحياة كس أمها!.

هدأ قليلا عازماً على عدم الكلام معها حتى الموت، ثم صرخ صرخة مطعون وخمد، لم ينبس بشيء. عبّ المزيد من الكؤوس ونام مثل ميت.

أستيقظ منهكاً ولم ينس أنه قرر أن يرفض كيانها ويولد من جديد. لكن حال نهضته وجدها كتلة حية تنظر نحوه بحبور. ظاهرةً من فراغ باب الصالة المفتوح، فوجد نفسه ينهض ويتقدم نحوها ليطبع قبلة الصباح على شفتيها المنفرجتين. متناسيا ماضي القصة ككل صباح.


23-10-2018