يكشف الناقد المغربي في تحليله لتلك السيرة كيف تتحول الكتابة إلى مرايا نصية متشابكة يسترجع من خلالها الراشد الطفل عبر تواصل، داخل- ذاتي في علاقة الراشد بالطفل وتواصل بين-ذاتي في علاقة الطفل بمحيطه بصورة تتحول فيها العودة إلى الطفولة إلى عملية مركبة: زمنيا ومكانيا وعلى مستوى الشخصية معا.

صيرورة الزمن الآخرفي سيرة «رهاب متعدد»

لعبد اللطيف محفوظ

مراد ليمام

 

إن استدعاء الطفولة في سيرة "رهاب متعدد" للكاتب عبد اللطيف محفوظ، سفر إلى مرحلة من العمر لا تعترف بالزمن، وتعيش العالم والحياة بسحر الخيال لتجعل منه منارة الوجود. فالسيرة هنا أقرب إلى الرحلة الصوفية، تفتح أبواب التذكر والاستبطان، لينطق الطفل بحكمة الراشد التي تسكن مداخل الروح. فخطاب الطفولة في سيرة "رهاب متعدد" أهم دليل على وعي الكاتب بماضيه، حين استدعاء الطفولة في لحظة تجل ذاتية يتعرى فيها الطفل أمام الراشد لتنكشف بعض أسرار الوجع، وتطفو تباريج القلق، لحظتها تنساب لغة البوح وهي تجرد غموض حواجز نفسية تشكلت لدى الكاتب انطلاقا من مواقف وأحداث أحاطت بطفولته، وآثارها على نفسيته لاحقا.

إن استعمال الكاتب لتشفيرة الطفولة - المشار إليها تحت العنوان بالواجهة الأمامية للغلاف- يؤشر على المكاشفات السيرية التي تطفو عندها ازدواجية الذات المكونة من طفل متكلم وكتابة تضم هذا الطفل. فالكاتب ينتدب نفسه باعتباره طفلا ومرشدا لهذا الطفل. إن ما حدث لهذا الطفل وانفلت منه يتحول إلى سؤال لدى الكاتب. فعدم التطابق أساسي لأنه يمكن القارئ من أن يستشعر رغبة الكاتب في أن ينكشف انطلاقا من العلاقة التي يقيمها مع ذاته مستثمرا تشفيرة الطفولة، دون أن يبرح هذه العلاقة التي تجعل الطفل ينتمي إلى مكان وزمان أعاد إدراكهما الراشد.

إن ما يكتبه عبد اللطيف محفوظ عن الطفل وبواسطته يعلمه مسبقا ما دام يكتبه، لكن الطفل الذي يتكلم عنه الآن هو أكثر مما كان عليه في الماضي. لقد تحول إلى بنية نصية تولدت من رصيد التجربة الشخصية والأكاديمية لكاتب يقدم القراءة الآنية للتعددية اللامرئية لمدلول الطفولة الماضية.

إن قرع نواقيس الطفولة في سيرة رهاب متعدد لمحفوظ استراتيجيا تستقصي مواقع من مدينة فاس، وتشخص قيما اجتماعية ترصدها ذات الكاتب ضمن حبائك النص، ليحضر الراشد في غياب الطفل تارة، ثم يغيب الراشد في حضور الطفل تارة أخرى. ففصول السيرة هنا مرايا نصية متشابكة يسترجع من خلالها الراشد الطفل عبر تواصل، داخل- ذاتي (علاقة الراشد بالطفل) وتواصل بين-ذاتي (علاقة الطفل بمحيطه)، قائم على الفهم المشهدي عبر حالات الرهاب . ويتعلق الامر –من جهة - بتقديم مشاهد من الطفولة تنحو معها السيرة منحى يمتزج داخله الواقعي بالمتخيل على نحو يجعلها متفاعلة مع البيئة الاجتماعية ومتأثرة بها. ونعاين ذاك بجلاء عندما يعبر الكاتب عن مظاهر التفاوت الطبقي والقيم الاجتماعية السائدة في فترة زمنية بفصل رهاب الماء أو رهاب التحرش مثلا، داخل إطار التفاعل الاجتماعي بين الذات الواعية والمواضيع الاجتماعية، بحيث تفعل وتنفعل الشخصية ليرتفع إيقاع الحدث أحيانا، أو يتوسطها أحايين أخرى. ومن جهة أخرى، يسمح هذا الفهم المشهدي بترجمة مدلول عن نموذج تواصل عام تتعدد دواله بحسب فصول السيرة، ليعقبها وحدة الدال بالمدلول السابق بوصفها وحدة دلالية تعكس نظاما أوليا يمثل عنصرا بسيطا من نظام ثان. ففي النظام الأول تقدم كثافة المدينة للمكان بنية دلالية تكشف عنها فصول السيرة بوصفها حاضنا لوعي الكاتب الذي يتأسس على ما هو مرجعي؛ أي المدينة التي ترتادها الشخصية في ذهابها وإيابها الدوري، انطلاقا من الشوارع و الأحياء التي تقطنها: ساحة باب الحمرة، وجنان السبيل، وشق بدنجلة، عقبة الفيران، وسويقة ابن الصافي، ودرب المتر.

مشاهد تعكسها فصول السيرة لتصنع صورة المدينة القديمة بذاكرة الكاتب، عندما يسترجعها بوصفها مدونة تستعرض جغرافية المكان الحضاري لفاس المعروض انطلاقا من تجربة الكاتب بالمكان المعاش. فالنسيج العمراني للمدينة يقدم مستوى قيميا أخلاقيا تؤسسه اللغة على ما هو مرجعي عبر تشخيص القيم الاجتماعية السائدة في الستينات والسبعينات بمدينة فاس. في هذا المكان تتحرك الشخصيات، وتتنامى الأحداث بناء على وجهة نظر السارد، ومن خلف ذاك الكاتب، حيث تحول الدوال المكان الواقعي إلى مكان فني تصنعه لغة تستطيع ان تأسر القارئ لتبعث فيه أريحية التغاضي عن متطلبات التقنيات السردية الحديثة. فبساطة اللغة والأسلوب تحصن النص مما يمكن أن يكون منفرا لدى القارئ، بوضع الصور السردية التخييلية في سياق يخدم فكرة الارتباط الحميمي بتفاصيل ذكريات الماضي الطفولي، التي تسكن الكاتب من الداخل. لكن نموذج التواصل العام للنظام الأول يطرح إمكانية عدم شمولية قراءة السيرة من قبل المتلقي، لأن الانكفاء عند حدوده، يؤدي إلى نسق من عدم الفهم الذي يوهم بوجود فهم، فيغدو هذا النمط من التواصل تواصلا مشبوها. هذا الأخير غير قادر على التعبير بشكل أدق عن إشكالية التشفير اللغوي لذاكرة الطفولة الخامدة (المسكوت عنها مقابل الذاكرة النشطة) للكاتب- الراشد.

السيرة هنا شبيهة باستعارة تحاول تسمية ماض طفولي باسم جديد، فتشوه المعنى الأصلي. إلا أن الأصل غير المسمى هو حد تترجمه الطبقة التحتية لوعي المؤلف عبر النسخ اللغوي. ومن ثمة، تعتبر صور البقاء الراسخة في نفسية الكاتب منذ طفولته في السيرة تكرارا حسيا ومرئيا لذاكرة الجسد السابقة على فعل السرد. إن هذا الأخير محاولة علاجية تلقائية عبر الدلائل اللغوية لأحداث الرهاب المخزنة وغير المستوعبة في الذاكرة النشطة، يسعى المؤلف إلى تكرار تصوير مضامينها. وبتعبير أدق يحاول المؤلف معالجة لحظات الرهاب بإعادة معايشة وخلق لحظات الخوف في أدق تفاصيله مثل حادث الغرق في رهاب الماء، أو سقوط الأصيص على رأس جواد، أو حادث إدريس بعد سقوطه من فوق سور الملعب، أو حوادث التحرش برهاب التحرش.

هنا يجرى إعادة ترميز المجال الجسدي في المرحلة الأولى من الحياة عبر تحديث معلومات المنظومة الداخلية لذات المؤلف –إثر تجاربه الشخصية أو التي عايشها –لتكتسب من خلال تجاربها القدرة على إعادة بناء الفهم الادراكي بوصفه ثقة جديدة في الذات والعالم. لذا لا أغالي إن قلت: سيرة رهاب متعدد منظومة عقلية جديدة، يطور من خلالها الكاتب فهم ما حدث للطفل انطلاقا من عملية الاسترجاع والسرد بوصفهما عمليتين لتحليل علامات الرهاب، على نحو يترجم التحول في العلاقة القائمة بين المحلل النفسي الكاتب- الراشد والطفل الخاضع للتحليل.

إن تقاطع تيار الذاكرة بالإحساس والمتخيل في سيرة رهاب متعدد لا يعني استرداد طفولة الكاتب، بل إقامة علاقة حوارية مع مطلق الذكرى مادام ما يكتب عن الطفولة الآن ينتقل في كل أبعاد الزمن من مستقبل وحاضر وماض. إنه الراهن أو صيرورة الزمن الآخر حسب تصور جيل دولوز. فسيرة الطفولة تقدم بروفيلا لما حدث بوصفه جانبا وجهيا يتمرد على إعادة إنتاج الشبه، أو تكرار الذاكري، تمسي السيرة عندها انفلاتا من الذكرى على نحو يجعل المؤلف يمتلك مشهده الخاص عن الطفولة الآن. إن العلاقة التركيبية لهذا الأخير مع ذاته باعتباره حاضرا وماضيا آتيا تعكسه بنية الزمن النحوي في السيرة من خلال هيمنة الجملة الفعلية التي تتكرر صيغتها في جميع الفصول باستثناء الأول على الشكل الآتي : الفعل الماضي (كان) +اسمها + خبرها (جملة فعلية فعلها مضارع). فإذا كان الفعل الماضي الناقص (كان) يقحم مقولة الزمن الماضي بشكل يقيد علاقة المبتدأ بالخبر عبر تعيين زمن الحصول في الخبر، فإن دلالة الفعل المضارع على الزمن الماضي في خبر كان يكسب الحياة للحدث. ومن ثمة، يصبح الفعل (كان) لفظا دالا على مطلق الحصول لذكرى الطفولة الذي يتم تخصيصه في خبر كان، بحيث يأتي الخبر فعلا مضارعا دالا على الماضي على نحو يفيد معنى الاستمرارية .

يمكن القول إن الفعل الناقص (كان) يلعب دورا بارزا في السرد القصصي المتحرك داخل السيرة، لذا نجده مهيمنا بجل فصولها علما أن خبر كان جملة فعلية صيغتها الفعل المضارع الدال على ما وقع من الأحداث ولم ينقطع. فتكون بذلك الوظيفة اللغوية للجملة الكبرى (المؤلفة من كان وخبرها الواقع جملة فعلية) إفادة الخبر. ٳن التقاء الوظيفة اللغوية والدلالة الزمنية للجملة الكبرى أثناء سرد الأحداث في السيرة يدعي عدم وجود بقية له، لكن ما تقرر من قبل الكاتب خبرا في الماضي يشير إلى وجود نظام انتقاء مميز لعلامات رهاب الطفولة في الخطاب الرمزي للسيرة. لهذا لا ينبغي أن نعول أثناء قراءتها على استذكار حياة ماضية تسويغا لقصة حصلت، بل ينبغي قراءتها بناء على مبدأ التكرار والاختلاف طالما فعل الاسترجاع - من وجهة نظرنا- لا يعني التماثل والتطابق مع ما حدث وما يعاد سرده. لذا يلزم تصور العودة إلى الطفولة لحظة من لحظات الزمن تجمع الماضي والحاضر والمستقبل في ثنائية الطفل و الراشد، التي انتهت إلى التوحد في رحم واحدة لتخرج حياة طفولة جديدة يرافقها ظل الراشد. فالبناء اللغوي لسيرة الطفولة يشيد انطلاقا من وقائع الماضي بوصفها تحققا تجريبيا ملموسا، وهو تحقق تقوم معرفة الراشد فيه على إعادة البناء، حيث تصبح المعرفة والتجارب المتراكمة نظاما انتقائيا يمارس الرقابة في إنتاج خطاب السيرة بحذف مامن شأنه أن يخدش صورة الراشد عند تلقيها.

ولتوضيح هذه المسألة أكثر، لابد من الإشارة إلى أن القصد من استعادة زمن الطفولة هو استخراج الكاتب لقصته باعتبارها تمثيلا غير بريء لوقائع مسجلة وموثقة بالذاكرة. فالإدراك المتأخر لأحداث الطفولة بعد وقوعها يرادف متابعة زمن مصور يتحول إلى زمن يعاد تصويره عبر الوساطة السردية بوصفها وساطة تحول قصة الطفولة إلى قصة خيالية . الوساطة السردية هنا وساطة مفتوحة بين تلقي الماضي وتجربة الحاضر الذي يظهر شيئا جديدا في خطاب السيرة لم يكن قد قيل أو ظهر من قبل، بحيث يشير إليه ويحيل عليه انطلاقا من العديد من المقاطع السردية. و نذكر على سبيل المثال ما يلي: تعلق الكاتب بمدينة فاس في بداية فصل رهاب الماء، أو تصور الكاتب لمفهوم الصداقة ببداية فصل ملعب الحسن الثاني، أو مفهوم التطهير ووظيفة التراجيديا من نفس الفصل، أو تحليل فكرة الزمن البرزخي بين الحياة و الموت بعد انقلاب السيارة في فصل حامة مولاي يعقوب، أو التساؤل بخصوص سبب رفض المجتمع الصداقة بين الذكر و الأنثى بتجربة الحامية في فصل رهاب التحرش، أو الربط بين الانحراف و بين الشعور بالذكورة بتجربة شق بدنجلة من نفس الفصل.

يظهر أن الكاتب يستنطق حقيقة طفولته ويعيد مساءلتها ليتحول إلى محلل يكشف عن خلفياته المعرفية على نحو يولد لدى القارئ الفضول في استكشاف علاقة الراشد بالطفل عبر استكشاف الوساطة السردية التي يتفتق عنها خطاب المؤلف. فخطاب السيرة يغري القارئ و يفتح شهيته ليقوم بنشاط ذهني مزدوج: إذ يتلقى القراءة الآنية لكاتب يحاور طفولته من جهة، ثم يعيد بناءها - من جهة أخرى- ليكتشف نصا خاصا لطفولته.

من هذه المنطلقات التحديدية، تسير حركة الزمن و السرد لتكسب بنية الزمن النحوي معنى مجازيا ينتجه خطاب السيرة في كليته بعيدا عن نظريات السرد و كيفيات تفسير البنيويين للعمل الأدبي. فالفعل الماضي (كان) يسجل الماضي الطفولي في موسوعة فريدة يخط الكاتب محفوظ صيرورتها الآن عبر الفعل المضارع الواقع خبرا لكان. فالفعل المضارع يأتي بالماضي (كان) ليتعايش مع الحاضر عبر الوساطة السردية، التي تبني العلاقة التركيبية للجملة الفعلية الكبرى (كان+ اسمها+ خبرها فعل مضارع) في لحظات تؤكد عودة الطفولة المختلفة.

أخيرا، إن تصور العودة إلى الطفولة في السيرة عملية مركبة: تركيب الزمن (العلاقة بين الزمن الداخلي وبين الزمن الفيزيائي وبين الزمن النحوي)، تركيب الطفل والراشد، تركيب المحلل النفسي والطفل.