يتناول الباحث المغربي هنا شعر الموشحات من منظور نظرية التلقي الألمانية، ويكشف عن أنه غير نمط التوقعات المألوف في تناول الشعر العربي، وفرض مع الزمن نمط توقعاته المغاير، الذي سرعان ما شجع على بروز أشكال شعرية أخرى كالزجل استفادت من تغيير نمط التوقعات وواصلته.

شعر الموشحات بلغة ياوس وإيزر

خالد هلالي

 

توطئة:
شكّل الموشّح نقطة تحول مهمة في تاريخ الشعر العربي؛ وهو إنجاز شعري اختلف في لغته وأوزانه وقوافيه وكذا طريقة توزيع الأسطر الشعرية. وهذا التجديد الشعري هو نتيجة لإفرازات الثقافات المتعايشة في شبه الجزيرة الإيبيرية، فكان طبيعيا أن تتولد ثقافة شعرية جديدة ارتكزت على المعطى الموسيقي في عملية الإبداع.

وهذا التوليد الجديد طبيعي أن يخلق جدلا وردود أفعال بين النقاد والمهتمين بالشعر، بين مؤيّد لظهور نمط إبداعي متغاير، وبين معارض ومتشدّد للقصيدة الكلاسيكية في شكلها القديم، معتبرين هذا الانزياح خروجا عمّا ارتضاه الذوق الشعري العربي منذ قرون مضت.

ردود أفعال متباينة:
هندسة الموشّح الجديدة، ستضعنا أمام قراءة أو بالأحرى مستوى من التلقي، سيحاول أوّلا تحديد خصوصياتها والوقوف على طبيعة تكوينها وتركيبها. فالموشح باعتباره نمطا إبداعيا جديدا يتميّز عن "الشكل النموذج بخصائصه الصوتية الإيقاعية الزمانية من جهة، وبشكل اشتغاله على الفضاء من جهة ثانية، حيث شكّل هذا اللون الشعري نقلة بصرية بالقياس إلى التنويعات الأخرى".([1]) ويتكوّن من عناصر محدّدة تتمثل في المطلع والدور والقفل والخرجة، وما يضمّهما من أغصان وأسماط ، وهي مكونات تشتغل وفق التوزيع البصري التالي:

مطلع =

غصن

 

غصن

 

 

سمط

 

بيت =

 

 

سمط

 

 

سمط

قفل =

غصن

 

غصن

 

وما يلاحظ أنّ هذا التنوّع في المصطلحات، يعكس مدى التجديد الشكلي والموضوعي الذي أضافه فن التوشيح، مما جعل بعض المهتمين بالشأن الشعري في بداية تلقيه الأولى، يأبون الحديث عنه في مصنفاتهم. فابن عبد ربه في "العقد الفريد"، تفادى الإشارة إلى هذا النمط، ونفس الشيء ينطبق على ابن خاقان في مؤلفه "قلائد العقيان في محاسن الأعيان ومطمح الأنفس"، أما ابن بسام فقد عزا رفضه الوقوف عندها بتفصيل إلى خروجها عن أوزان الشعر التقليدي. عبد الواحد المراكشي صاحب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" اعتذر عن إهماله الحديث عنه مبرّرا ذلك بأنّ "العادة لم تجر بإيراد الموشحات في الكتب المجلدة والمفخّمة".([2]) فطبيعة الموشح وتركيبته الجديدة، قد غيّرت أفق توقع كل أولئك الباحثين والنقاد الذين لم يتذوقوا المولود الإبداعي الجديد، بل حاولوا تقزيم خصوصياته الإبداعية. إذ التصادم بين إبداع مستحدث في شكله ومضمونه وبين أفق انتظار قديم مترسّخ في الوعي الجمعي، ممّا ينتج عنه تخييبا في أفق التلقي.

لكن بالمقابل، هناك مجموعة من النقاد تفاعلوا إيجابيا مع هذا النمط الجديد، حيث انبروا إلى تحديد خصوصياته وإثارة أسئلة جديدة ومحاولة تقديم أجوبة لها بلغة العصر. وهذا ما ينطبق على ابن سناء الملك في "دار الطراز في عمل الموشحات" الذي اقتدر التقعيد لها وإبراز خصوصياتها ومكوناتها. نفس الشيء تقريبا نجده ـ مع بعض التفاوت بين الباحثين في تفصيل الحديث عنها ـ كعبد الرحمان بن خلدون في "المقدمة"، والصلاح الصفدي في "توشيع التوشيح"، وابن بسام في" الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة". وكذلك"الموشّح في مآخذ العلماء على الشعراء" للمرزباني. ومن المؤلفات المعاصرة التي عنت بظاهرة الموشحات، نجد "في الأدب الأندلسي" لجودت الركابي، وكذلك كرامة بطرس في "الدراري السبع، الموشحات الأندلسية". ومصطفى عوض في "فن التوشيح". و"الموشحات الأندلسية" لـ زكرياء عناني. وهي مؤلفات تفاعلت مع الموشح باعتباره مادة أدبية مستحدثة، إما تقعيدا كما قام بذلك ابن سناء الملك، أو تأصيلا كما تحدثت بذلك مؤلفات المقدمة والذخيرة، أو دراسة وتحليلا وتفسيرا كما قامت به الدراسات المعاصرة. وبذاك تشكّل أفق انتظار جديد تجاوز الأفق القديم.

فالموشّحات إذن استطاعت أن تقطع مع توقّع القراء السابقين، من خلال إبداع قالب جمالي جديد، ولّد أسئلة جديدة تدعو إلى إجابة. وبذلك يكتسب هذا النص مع مرور الزمن قيمة فنية ومعرفية، تساهم في توسيع دائرة التلقي الإيجابي من جهة، ويعمل من ناحية أخرى على تخصيب المستوى الجمالي لذلك العمل، مما يساهم في تطوير التاريخ الأدبي بلغة ياوس. وهذا ما ينطبق على النص التوشيحي باعتباره نصّا تجاوز دائرة التوقّع الذي تملّكّه القارئ العربي في فترة زمنية معيّنة، وجعله يضع أسئلة متباينة بحسب طبيعة التفاعل مع هذا النص، إلا أنها أسئلة لم تجد جوابا لدى البعض غير رفض هذا النمط ومحاولة إقباره في المهد، تحت تبريرات الخروج عن النمط ([3]). متناسين أن ظهور هذا اللون الإبداعي الجديد هو استجابة لمنعطفات تاريخية ميّزت الأندلس في فترة معيّنة، من حيث الاستجابة للتحوّل الذي مسّ الذائقة الأدبية والغنائية، التي اكتسبها العرب في فترات سابقة. وشيء طبيعي أن يساعد ذلك التبدّل على تكوين نمط قرائي جديد. فالتصور المعرفي المغاير لسابقه يساهم في توسيع دائرة السؤال والجواب، وكل ذلك له دوره الفعّال في تطوير النص التوشيحي من جهة، وإغناء مستواه الجمالي من ناحية أخرى.

فالفضاء الإبداعي في شبه الجزيرة الإيبيرية جمع بين أفقين جماليين الأول نمطي يجمع بين تأليفات لفظية ومعنوية منسجمة مع التقاليد الفنية التي حكمت الإبداع الشعري لفترة محددة. وأفق آخر انزاح عمّا ترسّخ في الذهن الجمعي من معتقدات إبداعية. وهو انزياح يخالف النمط ويصوغ طريقة جديدة في الإبداع، لا تكترث للمستويات التقليدية سواء تعلّق الأمر بوحدة الوزن والقافية، أو ارتبط بطريقة توزيع المتواليات الشعرية. وذلك بابتداع هندسة استعارية تنحو منحى رصّ عقد الوشاح في شكلها وزينتها. إنّه نمط آخر خرج عن وحدة اللغة، وركب مستوى آخر أحيانا، يتمثل في العزف على كلمات لا تراعي قواعد الإعراب ولا النطق الصحيح للكلمات.

ونفس أفق التوقع ينطبق على فن الزجل ممّا دفع صفي الدين الحلي إلى محاولة رسم الملامح العامة التي تميّز الفنون المستحدثة عموما، وفن الزجل على وجه الخصوص. موضّحا أنّ "هذه الفنون إعرابها لحن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وهَن، حلال الإعراب فيها حرام، وصحة اللفظ بها سقام، يتجدد حسنها إذا زادت خلاعة، وتضعف صناعاتها إذا أودعت من النحو صناعة"([4]). وذلك نظرا لـ"كثرة أوزانه وعذوبة ألفاظه ورشاقتها"([5])، لذلك اكتسب هذا النمط الجديد مقاييس جمالية، خيّبت أفق الانتظار القديم في مرحلة أولى، وجعلت المتلقي ينخرط في اكتشاف جمالياته، وتفسير وقعه الجمالي الجديد عليه.

المصادر والمراجع المعتمدة:

 
  • [1]) ـ محمد الماكري: الشكل والخطاب مدخل لتحليل ظاهراتي، المركز الثقافي العربي، ط 1، 199 م. ص: 152.

([2]) ـ عبد الواحد بن علي المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق: عمران المنصور. دار الكتب العلمية، د ط، 2005 م، ص: 65.

([3]) ـ عبد الفتاح كيليطو: الأدب والغرابة : دراسة بنيوية في الأدب العربي . دار توبقال للنشر، الدار البيضاء. ط 2. 2006 م، بتصرف، ص: 51-52.

([4])ـ صفي الدين الحلي: العاطل الحالي والمرخص الغالي تحقيق حسين نصار، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،1981 م.: ص:1.

([5])ـ تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي: بلوغ الأمل في فن الزجل. تحقيق رضا محسن القريشي. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، د ط، 1974 م.: ص: 25.