يرى الناقد المصري أن "سيدات القمر" ليست مرشدا سياحيا لعمان لدي الغرب، وإنما مرشد للعرب جميعا، تكشف عن الإرادة الكامنة في أعماق الإنسان العربي في اللحاق بركب التقدم، دون أن يخلع جذوره من تربته، ورسالة قوية تعلن عن قدوم دولة صغيرة(عمان) بإنتاجها الإبداعي لتفرض وجودها علي الآداب العالمية.

لماذا جوخة الحارثي؟

شوقي عبدالحميد يحيى

 

ما أن أعلنت إدارة المان بوكر العالمية، والتي تخصص للرواية المترجمة إلي الإنجليزية، عن فوز العمانية جوخة الحارثي، كأول اسم عربي يفوز بهذه الجائزة، حتي علت الدهشة وجوه الكثيرين، وسعي الكثيرون بحثا عن رواية "سيدات القمر"[i] الفائزة، لتعلو الدهشة من جديد. فالرواية العمانية عموما لم تبدأ إلا في ثمانينيات القرن الماضي، أي بعد نحو سبعين عاما من ظهور الرواية العربية، ولا تأت جوخة الحارثي في طليعة الروائيات العمانيات، حيث سبقتها بدرية الشحية – وفق الدراسات حول الرواية العمانية - بروايتها "الطواف حيث الجمر" والصادرة في العام 1999، أي أنها تسبق "سيدات القمر" بعشر سنوات كاملة. كما أن الرواية الفائزة بالجائزة هذا العام 2019 "سيدات القمر" هي فقط ثاني الأعمال الروائية للكاتبة، أي أنها لا تملك ذلك الرصيد التراكمي الذي نسلم معه بدورها في مسيرة الرواية العربية، فضلا عن عديد الأسماء العربية التي استطاعت تكوين رصيد روائي هائل، من الرجال والسيدات معا، بل والكثير منها ما يمكن أن يتجاوز "سيدات القمر" فنيا. فهو ما يُضخم حجم السؤال حول هذا الفوز: لماذا العمانية جوخة الحارثي، دون غيرها؟.

بداية ، لا يمكن إغفال دور الترجمة التي كان لها دور كبير في الحصول علي الجائزة، وحيث تتقاسم الترجمة الجائزة مناصفة مع الكاتبة، وهو ما دعت إليه الكاتبة مني السليمية في استطلاع أجرته مجلة عمانية حول أسباب عدم وصول الرواية العمانية للعالمية، بقولها{علي الترجمةإلي اللغات الأخري أن تنشط، فمن يدري آية مصادفة قد تجمع قارئا من أقاصي الأرض بنص عماني تغير خارطتة التاريخية}. إلا أن النص ذاته يظل في صدارة الأسباب التي قادته للتتويج. وهو مايؤكده المترجم والباحث أحمد المعيني، في ذات المصدر، حيث يري أن الوضع المثالي هو {أن يثبت العمل الروائي نفسه محليا وإقليميا فيُجبر الآخرين علي الإلتفات إليه، ومن ثم ترجمته إلي لغاتهم}[ii].

وللبحث عن دور النص في وصول الرواية لهذه المنزلة، نعود إلي الروائي العربي المتوج بأرفع الجوائز العالمية "نجيب محفوظ" لنبحث بين أعماله ما قد يقودنا لمعرفة سر "سيدات القمر" ووصولها للعالمية، فسنجد أن جل أعمال نجيب محفوظ – تقريبا – خرج شخوصها من الحارة المصرية، ليس مجرد مكان شعبي، وإنما كحياة القاع، الكاشفة عن حياة القمة. بمعني أن نجيب محفوظ الذي إدعي البعض عليه –قصورا في الفهم – بأنه لم يكن له رأي في الساسة و السياسة، بينما لم تخلو رواية من رواياته من الانغماس في هذه البؤرة المحركة لحياة البشر في المجتمع، وصولا إلي ذلك القاع المنبثق من الحارة الشعبية، أي ان نجيب محفوظ بانغماسه في المحلية، وصل للعالمية. وهنا نكتشف سر فوز "سيدات القمر" التي تخيرت أسرة من قاع المجتمع، لتمثل المجتمع ، وتخيرت المرأة من بين الأسرة، التي تحولت إلي مرآة عاكسة لوضع المجتع العماني، ماذا كان.. وكيف اصبح؟، لتعبر عن تاريخ منطقة ، وحياة بشر عاشوا رحلة تطور من البدوية إلي الحضر، دون أن ينقطع حبل الوصال بين مراحل الزمن، حيث يظل الماضي يلعب دوره، ويمد شعيراته لتسري في جسد الأحفاد، دون أن يكون لهم خيار فيما يفعله، ذلك الماضي، ولتتشكل لوحة تاريخية تعبر عن حقبة تاريخية في مكان محدد، ورغم ما حدث من تغير وتطور في النظر إلي الأمور، ظل الهم واحدا، متمثلا في تسلل الجذر الثقافي في الجينات الإنسانية العمانية – ومعها العربية – والمقاومة، بحثا عن الحرية والانطلاق، والتي تتبدي أول ما تبدي في الرؤية الفنية، التي يمثلها في هذه الرواية الفنان التشكيلي الذي تعلم بالقاهرة، "خالد" بن عيسي المهاجر، عندما سألته زوجته "أسماء":

{لماذا ترسم يا خالد؟

لأتخلص من الحياة في حدود خيال أبي، واصنعها في حدود خيالي أنا}ص196. ويزيد الأمر توضيحا {حين كففت أخيرا عن الحياة في حدود خياله عرفت طعم الحرية، تذوقت كيف يختار المرء الكتب التي يحبها والأصدقاء الذين يحبهم والمدن التي يحبها وكيف يتحرر حين يكون نفسه وليس مجرد امتداد أو تجسيد لمخيلة شخص آخر، حتي لو كان أباه}ص201. وهي الرؤية الإنسانية التي يتصورها كل شاب، حيث يري في الاستقلال، أو مخالفة الآباء هي الحرية. فيتصور خالد أنه قد حقق الانفصال عن أبيه بالتسكع في شوارع القاهرة والمظاهرات فيها. غير أنه عندما ماتت أخته غالية – الأبنة التي ولدت في القاهرة وعاشت وماتت فيها- تتغير زاوية الرؤية { لم أعلم أن عوالمنا مترابطة إلي هذا الحد المخيف، أنا وأسرتي ، إلا بعد أن ماتت غالية، انهارت عوالمنا كلنا، أبي وأمي وأنا وأخي، وأمام السؤال البسيط حول مكان دفنها تكشفت لي، أنا الفنان الحر، الذي توهم حريته، كم كانت الأواصر الخفية بيننا عميقة، وكم ينهار عالمي بانهيار عالمهم}ص201.

ولم يكن موت "غالية" هو فقط ما اكتشف "خالد" معه أن مصيره مرتبط بأسرته، بل كانت طبيعته الفنية، التي تُخرج مكنون النفس البشرية، وموروث البيئة الاجتماعية الثقافية، في أعماله، حتي دون أن يتعمدها، أو يدريها، فخرجت كل لوحاته أقرب أن تكون لوحة واحدة، نري فيها الخيول، رافعة ساقيها الأمامية، في وضع الحركة، بل في وضع الانطلاق {كانت قوائم الخيول في لوحاته دقيقة ومرتفعة، لا تكاد تلامس الأرض، كأنها ستطير)، لتعبر عن البيئة العربية البدوية، أو الصحراوية، التي دائما علي استعداد للنزال، وللمواجهة، وهي الملحوظة التي زرعت شيئا من الخوف في نفس زوجته "أسماء" ، وكأنه التعبير عن حالة الكر والفر المستمرين في حياة، لا العماني فقط، وإنما العربي عامة.

وفي الوقت الذي كان "خالد" يسعي فيه للخلاص من الإرث، أو للخلاص من الجين، كان هناك نوع آخر من المقاومة، والبحث عن الحرية، والاستقلال. فها هو العبد "سنجر" ابن العبد "حبيب" والعبدة "ظريفة" يفكر في السير علي خطي أبيه بالهجرة والعودة إلي موطنه الأصلي، تاركا أمه التي استسلمت للعبودية – كاشفة عن جين آخر في الكثير من البشر- في بيت التاجر سليمان، وفي التعبير عن قمة القبول بالعبودية من جانبها – كجيل سابق- والرفض من جانب ابنها – كجيل حالي-. إعتزم سنجر أن يترك البلاد ويعود إلي موطنه الأصلي، فتأخذه أمه ظريفة إلي الشوارع الشحيحة الضوء ويثور النقاش { دقت ظريفة الباب بكل قوتها: اخرج يا سنجر, هرول مسرعا : خير يا امي !! لم ترض أن تدخل غرفته ..... قالت له: صحيح اللي سمعته يا سنجر؟ تترك بلدك وأهلك وتسافر؟ قال سنجر : نعم صحيح، وتعالي معي إذا تريدي. هجمت عليه تشد رقبته: تُسمي بنتك هذا الاسم الغريب "رشا" وتريد تهاجر؟

أفلت يدها بقسوة وصاح فيها: اسمعي يا أمي، بنتي ما يهمني اسمها ولو كانت ولد سميتها محمد أو هلال أو عبد الله..

صاحت ظريفة: أيش؟ سيقتلك التاجر سليمان.. تسمي علي اسم أهله وأولاده؟ أنت جنيت يا ولد؟ تكبر راسك علي من؟ من رباك وعلمك وزوجك؟}ص98. ولم يستسلم ابنها لها، مؤكدا أنهم طبقا للقانون أحرار، فقد انتهت العبودية، وأن عليهم أن يعيشوا أحرار. ومع نظرة الذهول في عيني الأم التي تري في تسمية العبد لأبنائه بذات أسماء السادة تطاولا عليهم لا يليق، راحت تندب لصديقتها فاطمة:

{راح الولد يا فطوم، راح الولد مني، يتكلم مثل أبوه ويهذي مثله وبيروح مثله، أحرار أحرار، عذبني أبوه بهذا الكلام، ما صدقت راح حبيب وجاني ولده، أحرار ولا عبيد! أنا ايش خصني}ص94.

ولم تكن قضية الحرية فقط هي ما ركزت عليه الرواية، وإنما هناك قضية أخري، غير منفصلة عنها، وهي قضية الحب، والتي منها يمكن قراءة أوضاع المجتمع، خاصة المجتمعات العربية، والتي لا تعترف كثيرا بها، خاصة في سنواتها الفائتة، وهو ما عبرت عنه الكاتبة، فيما عقدته من مقارنات، أو إن شئنا قلنا مواجهات بين عمان الماضي، وعمان الحاضر، أو المستقبل. وهو ما نتبينه في بنات عزان الثلاث. فبينما استسلمت "ميا" كُبراهُن، لمن أتوا به كعريس، وراحت تبكي، حبيبها الذي تمنته من الله، فدخلت عالم النساء المستسلمات لقدرهن، الناظرات علي أن {الزواج هو صك إعلانها امرأة مكتملة، وهو جواز مرورها للعالم الأوسع من البيت}ص147. وهي الرؤية التي تبرهنها "مريم" أرملة القاضي يوسف حين تحكي لأسماء عن دخلتها {كان عمري ما يزيد عن أربعة عشر سنة، جاءتني أمي الله يرحمها وقالت لي: قومي يا مريم تسبحي وإلبسي هذه الملابس الجديدة وهذه الأساور وحرز الفضة، قلت لها : ليش ماه؟ قالت: اليوم عرسك علي القاضي يوسف. وبكيت حتي انتفخت عيوني وما حدا التفت لي، وفي المساء جاءت الحريم وغنين وزفوني للقاضي، وعند الباب كسرت أمي البيض علي رجلي وهمست لي: اسمعي يا مريم إياك أن يجدك الرجل بطيخة جاهزة، دافعي عن نفسك وارفعي راسنا، وقاتليه بهذه الأساور اللي في إيدك وضاربيه، لا تكوني بطيخة جاهزة، ووالله يا بنتي يا أسماء تميت شهر كامل أضاربه وأخمشه كما أوصتني أمي.. وأنا لا أخلع الأساور من يدي وأعوي بها علي وجهه كلما اقترب مني}ص125.

فإذا كان هذا هو حال الجيل الأسبق، فإن حال الجيل التالي، أو ما يمكن أن نقول عنه جيل الوسط، وتمثله الشقيقة الوسطي "أسماء" حيث {قالت سالمة لابنتيها أسماء وخولة إن ابني عيسي المهاجر، خالد وعلي، يخطبانهما، وإنها وأباهما عزان لا يجدان مانعا من الموافقة}. وطلبت أسما مهلة أعلنت بعدها الموافقة، وهي التي حكمت العقل في عملية الاختيار، فقد كانت تهوي القراءة، ولديها الكثير من الاطلاع، فكان زواجها من "خالد" زواجا عقليا. بينما رفضت الإبنة الثالثة "خولة" رفضا قاطعا وأعلنت أنها لن تتزوح انتظارا لابن عمها "ناصر". ولما عاد –ناصر- من كندا مُفلسا، تزوج "خولة"، لأنه وجد أن أمه اشترطت لحصوله علي ميراثه أن يتزوج "خولة". وسافر من جديد، وظل يأتي إليها كل عامين، ليضع في أحشائها بذرته ويمضي. إلي أن طردته زوجته الكندية، فعاد وتاب إلي "خولة" واصبح لا يكاد يخرج من البيت إلا للعمل غير أنها حينها كانت قد قررت أن تطلب الطلاق، فقد كانت عاجزة عن احتمال الماضي، تنفست الصعداء وتوقف قلبها عن الغفران، {لم تعد تحتمل الماضي، كل شئ فيه يتضخم، كل ليلة تكبر صور البنت الكندية في علاّقة مفاتيح السيارة وتنام علي وسادة خولة. كل يوم تخرج الأيام التي قضتها وحيدة في غرف الولادة في المستشفيات وتنقض عليها}ص218 – 219.

ثم يأتي الجيل الأحدث، حيث الحفيدة " لندن" ابنة "ميا" والتي تحدت باسمها كل المجتمع، واصرت علي تسميتها، كما اصرت هي نفسها "لندن" علي الزواج من "أحمد" متحدية كل الاعتراضات. لتتوافق شخصيتها علي الجانبين، الجانب الإنساني، متمثلا في حمل بذرة التحدي التي أظهرتها أمها في تسميتها، ولإصرارها علي أن تخالف المألوف في عملية الولادة، وتصر علي أن تلدها في المستشفي. وعلي الجانب الرمزي، حيث تمثل الجيل الأحدث الجيل الرافض لللاستسلام، خاصة وهي الطبيبة.إلي جانب إصرارها علي رفض استكمال زواجها من أحمد، فتخلعه ولما يزالا في فترة العَقد (الخطوبة) حينما علمت وتيقنت من خياناته، رغم إعلان ندمه، والتمسك بها. وهكذا، نستطيع القول بأن كل محاولات الحب، أو العيش بحرية، لم يكللها النجاح، حتي في علاقة "اسماء" بزوجها "خالد" والتي قد يبدو علي السطح نجاحها، خاصة أنه وافق علي استكمالها التعليم الثانوي، غلا أن ما منحه لها من حرية كان مشروطا، أن تكون حريتها في نطاق مداره، لا خارجه. ورغم محاولة "ميا" الخروج عن المألوف بتسمية، أو تنشئة بكريتها "لندن" ، إلا أن صخرة المألوف في البلاد العربية، وهي حرية الرجل، دون حرية المرأة، كانت الصخرة التي تحطمت عليها رغبة وتجربة الخروج. كما يمكن ان نضيف إلي تجارب الحب والحرية أيضا تلك العلاقة العجيبة بين "عزان" ونجية (القمر)، وما سنوضحه فيما بعد، خاصة إذا تخلصنا من النظرة الأخلاقية، وحصرناها في الرؤية الرمزية الإبداعية.

وربما كان من الأمور التي لفتت أنظار المترجمة، ولجنة التحكيم، إلي نص جوخة الحارثي، إظهار جانبين هامين لمن يبحث عن الأسباب. الأول التعريف بمنطقة جديدة، وكأنها محاولة استكشاف الإنسان علي أرض جديدة . والثاني هو مسايرة، أو موقف العمل المتناول من الرواية الحديثة.

فبالنسبة للعنصر الأول، نجد أنه من خلال شخصيات تلك الأسرة، نستطيع تلمس المجتمع العماني، وطريقة معيشته، التي بالضرورة تختلف عن ذلك العالم الذي يعيشه الإنسان في بلاده. فعلي سبيل المثال، نتعرف علي آداب الطعام في عمان، وما يمكن أن تكون عاداته في الأوطان العربية عامة فيما يرويه السارد "عبد الله" {كان الحديث عن الطعام في بيتنا أمرا معيبا، وإدا ما كنت جائعا وسألت ظريفة ماذا ستطبخ للغداء فإن الإجابة الوحيدة التي اتلقاها هي : بتشوفه. هكذا الطعام في بيتنا ، نشوفه في وقته ونأكله بسرعة دون أي أحاديث علي المائدة، ونغسل أيدينا ونحمد الله ولا نتكلم عنه أبدا، ناهيك عن انتقاده}ص82. وهو ما يجعل العربي يأكل ما يوضع أمامه، وبالكيفية التي تُصنع أو توضع بها. وهو ما يختلف بالضرورة عن طقوس الأكل في الغرب.

وكذلك من طقوس العمانيات عند الولادة، بعد أن وضعت "ميا" مولودتها البكر، وأصرت علي تسميتها "لندن"، كانت وصية الأم لإبنها (الزوج) ولد التاجر سليمان { اسمع يا ولدي يا عبد الله، هذه حرمتك تبكرت ببنت، والبنت بركة تساعد أمها وتربي إخوتها، نريد للنفساء أربعين دجاجة حية وزجاجة عسل الجبل الأصلي، وزجاجة سمن بقر بلدي، ولما تكمل لندن أسبوع أحلق شعرها وتصدق بوزنه فضة واذبح عنها شاة ووزع اللحم علي الفقراء" نطقت حروف "لندن" بتفخيم، تغير وجه عبد الله ولكنه هز رأسه وأعاد عائلته الصغيرة وحماته لبلدهم العوافي}ص13.

وتسعي "اسماء" المحبة للقراءة، ان تلعب الدور التنويري، لتزيح به ظلام الموروث الراكد والراكم علي الصدور، فتتدخل في حديث النساء الكبار قائلة { أثبت الطب الحديث أن التمر مفيد للنفساء مثلما ورد في القرآن حين هزت السيدة مريم النخلة فتساقط عليها رطبا جنيا. ..... لكن أمها شدتها من يدها: دعي عنك ميا .. ستأكل لوحدها، قالت أسماء : لماذا؟ همست زوجة المؤذن : لأن فيها نجاسة.. لا يجوز أن تشارك الناس الأكل. امتعضت أسماء، كانت متأكدة أن هناك حديث عن الرسول مفاده أن المرأة تخالط الناس في الأكل والشرب في كل حالاتها}ص22. وقد لا يخفي هنا الإشارة إلي ما تمثله "زوجة المؤذن" من سطوة علي الأخريات. مجرد زوجة المؤذن، وكأن وضعها هذا يمنحها صك الفتوي، ويفرض علي الآخرين ضرورة الانصياع.

وقد يعطي تلك الوقائع بعض المصداقية، والواقعية، ما حرصت الكاتبة علي استخدام التواريخ المحددةفي الإشارة إلي بعض الوقائع القريبة من السرد، وهو ما يقترب بها من السيرة الذاتية، وما يمنحها مزيدا من الواقع المعيش {في 20 مارس 1986 كانت لندن في الخامسة من عمرها، وكان لسالم سنتان حين وقع أبي في نوبته القلبية الأولي. وفي 26 فبراير 1992 توفي في مستشفي النهضة ولابني المتوحد محمد سنةواحدة}ص187.

ولقد دخلت المعلوماتية عالم الرواية الحديثة، بل وانتقلت من الهامش إلي المتن، في أحدث الروايات، فلم تعد الرواية للتسلية، وإنما أصبحت مصدرا للمعلومة. وهي العنصر الثاني المشار إليه. وقد استخدمت الكاتبة التواريخ الفعلية لتؤكد ثبات المعلومة، إلي جانب إلقاء الضوء علي تاريخ النضال العماني، وسعيه للخروج إلي عالم العصر. فنقرأ { كانت معاهدة السيب المبرمة عام 1920 قد قسمت عمان إلي عمان الداخل وتحكمها الإمامة، وحكومة مسقط وبعض المناطق الساحلية التابعة لها ويحكمها السلطان المدعوم بالإنجليز ..}ص136. { وهكذا أدت المطامع الاستعمارية إلي اشتعال فتيل الحرب حين دخل الجيش إلي عبري، ثم قام بقصف المناطق التابعة لدولة الإمامة في نزوي ونخل ، وفي عام 1955 اضطر الإمام غالب الهنائي وأتباعه من محاربي القبائل المتحالفة معه إلي الاعتصام بالجبل الأخضر ... وكانت مهمة معاذ إشعال النار في المناطق الخالية لإيهام جنود الإنجليز بوجود مجاهدين فيها لاستنزاف ذخيرتهم}ص137.

و {أسس أبو مسلم البهلاني أول جريدة عمانية في مطلع القرن العشرين، أسماها النجاح ,اصدرها من زنجبار حيث كان يعيش .. وديوانه هو أول ديوان عماني يُطبع}ص193.

  • كانت هجرة العرب إلي البلاد الأوروبية قد اصبحت من الظواهر الملفتة، وما اشارت إليها عديد الروايات العربية. فإن جوخة الحارثي، ارادت أن تشير إلي أن هذه الهجرة لا تخلع العربي عن وطنه، وإنما هو يحمله معه أينما حل، وكأنها تقوم بعملية زرع الانتماء في قارئها. وهو ما نجده في حديث خالد عن والده "عيسي المهاجر" الذي هاجر إلي مصر عام 1959 بعد هزيمة الإمام غالب الهنائي في حرب الجبل الأخضر، وحيث لم يكن وحده، بل ربما آلاف العمانيين، الذين شردتهم الحرب {عيسي المهاجر كان يغمض عينيه كل يوم وبفتحهما علي حقيقة هويته، يخرج في شوارع القاهرة، يسامر المصريين، ولا ينسي لحظة واحدة أنه عيسي ابن الشيخ عليّ الذي حمل هم عمان علي كتفيه، الشيخ علي كان من ضمن الوفد المرافق للشيخ عيسي بن صالح سفير الإمام يوم وقعت معاهدة السيب الشهيرة بين الإنجليز والسلطان من جهة والإمام والقبائل المتحالفة معه من جهة أخري. لم ينس فرح أبيه بالمعاهدة التي أتاحت حرية الحركة في الداخل.....}ص197. ويواصل الحديث عن أبيه:{ كل ليلة أتلو كتاب "تحفة الأعيان في تاريخ أهل عمان" للشيخ السالمي بين يديه حتي خفظته عن ظهر قلب ياخذني معه إلي كورنيش النيل في العصاري ويطلب مني إلقاء نونية أبي مسلم البهلاني كاملة}ص198.

التقنية الروائية
السارد
أحبت "ميا" عليّ بن خلف، ولم تطلب من الله إلا ان تراه ثانية، إلا انها، وتحت تأثير التقاليد في البلاد، لم تكن تستطيع أن تجهر لأحد بحبها، لذا عندما أخبرتها أمها بأنه قد تمت خطبتها "عبد الله" بن التاجر سليمان، والذي كان أبوه قد أرسله إلي بيتهم لرؤية "خولة" التي رآها أبوه هي الأجمل، إلا انه رأي "ميا" ووقع في حبها، وكان الزواج، ولم يلتفت أحد لبكاء "ميا" المعلق قلبها بشخص آخر، بينما كان "عبد الله" معلق بين السماء والأرض عندما رآها، وظل سابحا بين السماء والأرض في الطائرة الذاهبة إلي فرانكفورت، ليسرد لنا حكاية عائلة "عزان" وزوجته سالمة، وبناته الثلاث "ميا" والوسطي "أسماء، وأصغرهن "خولة" { كانت الطائرة تخترق سحبا كثيفة وعينا عبد الله تجافيان النوم علي الرغم من الرحلة الطويلة إلي فرانكفورت"}ص14. وليظل عبد الله يمثل رمز الحب من جانب واحد. ويظل معلقا في السماء ليري الأشخاص والأحداث من عل {أيتها المضيفة اللطيفة المصبوغة بعناية، ما شعورك وأنت تقضين كل حياتك معلقة بين السماء والأرض؟ أنا كنت مثلك بين السماء والأرض حين رأيتها}ص43، لتصبح نظرته كلية، ومحايدة، مثلما جاءت الرواية باكملها محايدة، وكأنها تعرض الوضع علي ما هو عليه، بين الماضي والحاضر، ولازال الصراع بينهما محتدما، بطول الرواية، وطول الزمن، وتترك قارئها يتخذ من القراءة ما يراه. وتظل الكاتبة تُذكر بين الحين والآخر بأن السارد "عبد الله" { انقشعت السحب وبدت السماء صافية بغتة من نافذة الطائرة الصغيرة}ص19. {أري من نافذة الطائرة سيل الأنوار يسيل من المدن إلي البحر، سيل متعرج ومهادن، لا يشبه العوافي الذي أغرق زيداً}ص90. – رغم ما يمنحه من مساحة لبعض الشخصيات للحديث عن نفسها – وكأنها تؤكد الحياد، الذي يعني المسالمة. حيث يظل السارد غير مشارك، فلم يكن له دور في الأحداث غير أنه من تزوج "ميا".

وأن يظل السارد معلقا بين السماء والأرض بطول الرواية، فهو تأكيد برسالة أرادتها الكاتبة وحملتها تلك الإشارة. فإذا كان إصرار "ميا" التي سبق أن ذكرنا بأنها تمثل الجيل الأسبق، علي تسمية ابنتها "لندن" واعتبرناها إشارة بالتوجه نحو "لندن" المدينة، بما تحمله من حضارة وتنوير، وخروج من أسر النمطية والموروث، فكذلك سعي "عبد الله" نحو كل المدن التي تحمل ذات الطابع، وتلك الرؤية التنويرية، التي سعي نحوها بطول الرواية، وهروبا مما علي أرض الماضي من موروث ضاق به، منذ إختياره ل"ميا" دون الأجمل منها التي رآها والده، وأردها له .. "خولة".

الحركية في السرد:
استخدمت الكاتبة أكثر من وسيلة، لتسريع إيقاع السرد، وخلق السمات التي تُنشئ الحركية، وتبتعد بالقارئ عن السرد التقليدي الذي اعتمدت عليه الرواية العمانية قبيل جوخة الحارثي، وما يخلق تيارا جديدا علي السرد العماني الذي يُعد في طور النمو. من بين هذه الوسائل، الاقتراب كثيرا من تيار الوعي – الذي بدأ في الرواية المصرية في ستينيات القرن العشرين – حيث يتنقل السرد في الفقرة الواحدة، بين عدة أزمنة، وعدة أمكنة، قد لايبدو الرابط بينها ظاهرا. كأن نقرأ في فقرة واحدة: {في السنة التي ورثت فيها تجارة أبي وانتقلنا إلي مسقط. ميا فرحت جدا، وقالت إنها لا تريد أن تظل طوال حياتها تحت سيطرة أمها، وحين ولدت محمدا توقفت عن الخياطة، قبل خمسة عشر عاما لما فتحوا الطريق الجديد في الجنوب وبنوا المصنع. كانت حنان صديقة لندن تُدرس في مدرسة إبتدائية في صلالة حين اتصلت في منتصف الليل لتخبرنا أن جماعة من المراهقين هاجموا سكن المعلمات واغتصبوا بعضهن، اغتصبوا حنان أيضا، وميا طبخت وليمة كبيرة بمناسبة البيت الجديد في مسقط ودعت كل صديقاتها، مدت سماطا طويلا وصفت عليه المأكولات. كان سالم في الابتدائي، ولم يكن محمد يبدو مختلفا عن أي رضيع آخر}ص15.

و {حين احتضر أبي في مستشفي التهضة مددت يدي نحو يده فأزاحها بكل عزم. وحين شيعنا الجنازة خذلتني ركبتاي. كان ذلك ومحمد له سنة واحدة فقط. وحين سألت ميا: هل تحبينني؟ ضحكت ضحكة عالية جدا. تهدمت كل جدران البيت الجديد من ضحكتها وهرب الأطفال}ص16.

وكذلك تكرار عمليات الاستباق والاسترجاع، التي تضع القارئ في بؤرة اليقظة ليستطيع تتبع حركة الزمن، في مثل: {حين سيأتي أطفالها، ستصمم سريرا عريضا جدا، وستحتويهم كلهم فيه، ليناموا متداخلي الأطراف كأنما ينبتون من جسدها المغروس وسطهم}ص183

{بعد سنوات ستدخل تفاصيل أخري في هذا المشهد..}ص188.

و {بعد ثلاث وعشرين سنة حين ستكسر هاتفها النقال وتضربها لن يكون بينهما أي شبه إلا في السمرة والنحافة، ستكون لندن أطول وأجمل وحكاءة لدرجة الثرثرة}ص53.

و {بعد اكثر من عشرين سنة ستكون لندن قد طُلقت في فترة العقد، وبعد طلاقها بفترة وجيزة بدأت تشعر بهذا الشعور الغامض الذيث يخدش إعتزازاها بنفسها، شعور مبهم من الحنين والغيظ والغضب والندم}ص167.

{ وهكذا، حين بلغت أسماء الخامسة والأربعين من عمرها، كان جسدها قد أنبت أربع عشرة نبتة، عاشت كلها للضوء واللون في بيت الفنان وإن تناءت عن ريشته المسكونة بسبك الخيول}ص184.

{وبعد طلاق خولة وافتتاحها صالون تجميل في أرقي الأحياء في مسقط، حاولت ميا حيازة رخصة قيادة مرة أخري. لم أستمع لابن عمتي ولم أشتر عمارة. اشتريت أسهما فانهارت البورصة. حدث تلاعب كبير لكن الصحافة سكتت. سكتت حتي عن اغتصاب حنان وزميلاتها المدرسات في الجنوب. وسكت الأهالي . من اشتري هذا السكوت الباهظ؟ جن جنون لندن ولازمت صديقتها المنهارة نفسيا في المستشفي. لازمت أنا أبي في المستشفي. أبلل شفتيه بقطرات من الماء، وأغمض عينيه}ص31.

{قالت أم ميا: بنتي ميا يا ولدي عبد الله في عيونك ولا تأخذها عني مسكد، ما أحد أحسن منها في الخياطة وما تحب الأكل والكلام الكثير. قلت له : أرجوك يا أبي أريد أسافر مصر أوالعراق أدرس في الجامعة، فشدني من رقبتي وصرخ: وحياة هذه اللحية ما تطلع من عمان.. تريد تتسفل؟ وترجع من مصر والعراق حالق لحيتك تدخن وتشرب؟}ص16.

كذلك لجأت الكاتبة لاستخدام لعبة التشويق. فبينما كان السرد يدور حول "عزان" والقمر "نجية" في الصحراء حول ابنه أحمد الذي رحل بالحمي، و {في تلك اللحظات كانت سالمة (زوجته) تتسلل من أحد بيوت العوافي بحذر شديد، لقد خرجت لتوها من لقاء هام للغاية، وأخذت تمشي عائدة لبيتها قبل أن يعود عزان من رمسته عند البدو}ص104. دون أن تخبرنا شيئا عن ذلك اللقاء الهام جدا، وليظل القارئ معلقا علي حبال الصبر والشوق لمعرفة أصل الحكاية.

سيدات القمر
ليس من اليسير وجود علاقة مباشرة بين النص والعنوان، الأمر الذي يدعونا للبحث عن العلاقة بينهما، والرابط الذي يجمعهما. فلا نجد إلا أنه مكون من كلمتين اثنتين، سيدات والقمر. فما الرابط بينهما والذي من الممكن أن يتوافق مع النص؟ وسرعان ما سنجد العلاقة قوية بينهما. فقد ارتبطت دورة القمر (28 يوم) بالدورة الشهرية للمرأة في العديد من الأساطير القديمة، ولذا كثيرا ما كان رمز إلهة القمر، إمرأة، مثل إيزيس عند الفراعنة، بينما كانت آلهة الشمس من الرجال.

  • ارتبط القمر بالكثير من عادات المرأة تحديدا. ففي السودان علي سبيل المثال وفي صعيد مصر، يجب أن ترى العروسُ الهلالَ رأي العين من النافذة أو من فوق سطح المنزل، لأن هذا "يمنع "المشاهرة"، وهي كلمة تعني منع الإنجاب أو تعثره".. وفي الريف المصري تقوم "الداية"، بإحضار أعواد ذرةٍ خاليةٍ من البذور، تصنع لها قاعدة طينيّة، و تشعلها كشمعة على ظهر المرأة التي تأخّرت في الإنجاب، ثم تطفئها بإناء فخاري، تستمرّ العملية طوال ثلاثة أيام قمريّة".. وقد أوردت جوخة في روايتها ما يشبه ذلك، حيث ارتبطت بعض تقاليد الولادة بالأساطير والخرافات، التي لازالت تفرض سطوتها علي مجتمعاتنا. فحين كانت ميا نفساء، حملت ظريفة صينية الطعام وتسير بها إلي أسفل الحصاة البيضاء الضخمة وأخذت تناجي الجنية بقيعة { يا بقيعوه يا بقيعوه.. هذا أكلك ودعي لنا أكلنا، هذا نصيبك ودعي لنا نصيبنا، هذا من خراثة ميا بنت سالمة، دعيها في حالها ولا تضريها ولا تضري المولودة ..... تنهدت ظريفة " إلا في تلك المرة حين سحروا أم عبد الله وهي في النفاس". من قبل ظريفة قامت أمها بهذا الواجب ومن قبل أمها قامت به جدتها. وكلهن يعرفن أدق الأسرار عن بقيعة الجنية التي تختص بافتراس كل نفساء لا تطعمها من طعامها}ص61.

وكذلك تتحدث "لندن" (الطبيبة) مع أبيها عن جدتها وكيف ماتت (مسحورة) فتسأله لماذا يقولون انها ماتت مسحورة. فيجيبها: {يقول الناس أنها مرضت فجأة بعد أسبوعين من الولادة، تغير لونها للأزرق وانقبضت حدقتا عينيها، أخذ العرق يتصبب منها وتتشنج، فقال الناس إن السحرة يتقاتلون عليها، ولذا تتشنج ويتصبب العرق منها، ثم فاز بها أقواهم ولذا همدت فخيل للناس أنها ماتت ودفنوها. بُهتت لندن .. هذه الأعراض قد تكون مشتركة بين عدة أمراض، ولكن الأرجح أنها أعراض تسمم، وأنا أتذكر أن جدتي سالمة أخبرتني أن العديد من الأعشاب السامة مثل بذور حب الملوك، والدفلة الحمراء والصفراء تنمو في الصحراء المحيطة بالعوافي، قالت جدتي إن بعض الضرائر كن يدسسن كميات منها في طعام ضرائرهن حتي يمرضن ويتفرغ لهن الأزواج}ص166.

  • او المعتقدات الموروثة إذن، جمعت بين النساء والقمر. ونساء القمر هنا هم من يعشن الخرافة، او من توارثنها، ولا يستطعن التخلص منها.

غير أن إشارة قد تبدو عابرة عن "نجية" البدوية، الملقبة بالقمر، كان لقبها من الضروري أن يسوقنا للبحث حول هذه الشخصية، التي تأتي من خارج عائلة عزان، لكنها تتقاطع معها، في بؤرة الاهتمام والنظر. فقد اهتمت "نجية" "بعزان" الذي عاش ويعيش في دائرة مغلقة من العادات والتقاليد والتعاليم الموروثة، فهرب منها، عندما تقدمت منه. الأمر الذي دعا صيدقتها تقول عنه ما يعني أنه ليس له في النساء، وتطلب من نجية أن تتركه، لأنه متزوج ولن يتزوج من بدوية. لترد نجية عليها بما يكشف الكثير من شخصيتها الرمزية، ليفتح آفاق التأويل حولها، إذ تقول لصديقتها: {«سيكون لي، ولن أكون له... سيأتيني حين أشاء، ويذهب حين أشاء».} فالحرية، ورفض العبودية، هي ما تنشده القمر، فضلا عن ظلال الشخصية، "نجية"، البدوية، وما تعنيه من حرية وانطلاق في الصحاري دون قيود المدينة، وفضلا عن أن تلك القيود قدغابت، كذلك، بأن لم تجعل الكاتبة لها من رقيب غير أخيها المريض، الذي تحدت الدنيا في علاجه، ونجحت. ويصير لها ما أرادت. يقع "عزان في غرامها، وتقع في غرامه، ويصبحان أسيري ذلك الحب والشوق، رغم غياب قيود (الزواج) { هذا ما أراده كليهما: الحرية في العلاقة، ولوهلة ظنا أنهما بلغا الكمال في حرية الشغف الخالصة، لا تصّنع ولا مداراة ولا كذب، لا وعود ولا آمال، اشتعال اللحظة وحسب، لا قيود من الماضي والأهم من ذلك: لا قيود من المستقبل. هذا ما أراده كلاهما وسعي إليه. .... بعد أسابيع قليلة اكتشف عزان أن علاقتهما الحرة تسقط في أعنف أشكال العبودية. وأن هذه الحاجة الملحة للآخر تقيد كلاً منهما بأعتي القيود، وتشغله عن كل شئ عداها. عرف أن الدورة اللانهائية من الاتصال والانفصال بينهما حلقة محكمة يدوران فيها عبدين مقيدين}ص78. فظهرت قيود المجتمع، والموروث من التقاليد، فتآمر عليها المجتمع، بالسحر تارة، وبتعليم أخيها الامساك بالسلاح وإقناعه بانها تفعل ما يشين. فتختفي نجية "القمر"، من حياة "عزان" وليقضي الموروث، والماضي علي مستقبلهما {أسألك أيها الآب الأول بحق آبائك العظام وأصحابك الكرام وبحق خالقك ومقدرك مدير الكل ومنشي العلويات والسفليات ومالكها إلا قطعت نجية بنت شيخة عن عزان بن مايا بحق هذه الأرواح الروحانية، وفرقت بينهما كافتراق النور والظلمة، وألقيت بينهما العداوة والبغضاء كعداوة الماء والنار، أسألك ايها الآب الأول إلا عقدت روحانية شهوة عزان بن ميا عن نجية بنت شيخة وأخذتها بقوة هذه الأرواح الروحانية كعقد الجبال وصخورها}ص183.

. وبغياب القمر، تظلم حياة "عزان". وعلي الرغم من البداية الموحية بالجنس والمادة بينها وبينه، إلا ان الكاتبة لم تنجرف لتلك العلاقة الحسية، وكأنها تحولت إلي علاقة تسامي، وحب عذري، مشمول بالشعر الغزلي الصحراوي، وكأن الكاتبة اقتطعتهما من زمانهما، ومكانهما في "العوافي" وعادت بهما إلي الصحراء في زمن غاب، أو كاد في عمان الجديدة.

وبذلك نستطيع القول بان "سيدات القمر" لم تعمل كمرشد سياحي لعمان لدي الغرب، وإنما عملت كمرشد للعرب جميعا كاشفة عن تلك الإرادة الكامنة في أعماق الإنسان العربي عامة، في اللحاق بركب التقدم، دون أن يخلع جذوره من تربته، وكرسالة قوية تعلن عن قدوم دولة صغيرة اسمها عمان، بإنتاجها الإبداعي لتفرض وجودها علي الآداب العالمية.

Em:shyehia48@gmail.com

 

[i] - جوخة الحارثي سيدات القمر – رواية - دار الآداب للنشر والتوزيع – بيروت ط1 2010

[ii] - كيف ضلت الرواية العمانية طريقها للعالمية - مجلة شرق وغرب العمانية – عدد 17 – 21 يوليو 2018.