في ديوانها تتبدى الشاعرة والرسامة التونسية وهي تبدع وليمة غاسترونومية للحس والمشاعر، فتتولد القصيدة بمعنى استبصاري تأثري يكثف الكل في صورة واحدة، ويتواتر الإيقاع الطباقي، وينشب الإغراب في كلمات تضيء وتستضيء، ويشعل بعضها بعضا.

التونسية أفراح الجبالي: من الصورة إلى اللوحة

منصف الوهايبي

 

ظهرت كلمة «صورة» أول مرة عند المسرحي الافريقي طيرنيسوس أو «تيرنس»، وهو يتحدر من أصول تونسية، في مسرحيته الساخرة «الخصي»، حيث استعملها في وصف صبية. ومنذ ذلك الوقت، تقلبت الكلمة في أطوار وأدوار شتى، سواء في الأدب أو في الفنون التشكيلية. غير أن ما يعنيني في السياق الذي أنا به، هي القصيدة «المحيزة» كما أبين لاحقا، عند شاعرة تونسية تنقلنا من الصورة إلى اللوحة، بزاد لا يستهان به من ثقافة الرسم، في باكورتها «لا بد من قوس لنهرها في نيابوليس» (دار آفاق ـ برسبكتيف للنشر2019) حيث الكلمات الألوان تملأ النص وتغني استعاراته القائمة على نوع من «التثاني» أي على عنصرين مختلفين متعارضين في وقت واحد، يكونان محور دورانه.

شاعرة رسامة تعيد الاعتبار للجسد، وتجعله معين الفن أوسيلة للتعبير عن عالمها وتمثله كما في قصيدتها «غاسترونوميا الغياب» حيث يحضر البحر وأسماكه في لوحة يمكن أن أعدها من الأرابيسك الشعري:

«بينما كنت أحضر البيتزا بغلال البحر، اكتشفتُ غيابك

قلت أكتب القصيدة بلا بحر إذن

وبينما كنت أعجن بأصابعي المكسرة، اكتشفت غيابك

جلس المحار المدور على طرف الصينية يبكي

جلس جراد البحر المقعر بجانبه يبكي

كانت أصابع الأخطبوط المقطعة لا تبكي

قلت أسكب إكليل الجبل في البحر إذن

وأسكب الزعتر واللون الأحمر الهارب

وأجلس تحت الشمس أنتظر شراعك والرحيل

بعد أن أحرقت البيتوا بغلال البحر

ولم أحضر».

في هذه القصيدة ذات الشكل المنضدي، نقف في الظاهر على لوحة في «فن حسن الأكل» أو «الذواقة» كما نترجم «غاسترونوميا»، ولكنها تتمثل جسدا مقطعا مفككا بين لعبة الحضور والغياب، وليس بإمكان العين أن تقيسه أو تستوعبه بيسر، كما لو أن المرأة عاجزة عن تخيل أكثر من مسطح في الوقت نفسه، أو أن غياب الوحدة غيابا كليا، هو ما يشدنا في هذا النمط من الشعر المكتوب ببراعة كبيرة، حيث كل مفردة أو تجزئة تُضاف إلى تفاصيل أخرى، فلا ينجم عنها سوى مجموع مفتوق، ترتقه الشاعرة باللغة. وإذا الجسد المفكك المبتور أو الموسوم بمفردات البحر أو بغلاله، يفضي إلى وحدة تتضافر الأجزاء التي تكونها في تناسق النص وتآلف أنغامه، أو لنقل إيقاعه ولعبه.

وقد ذكرنا غير مرة أنه ليس من حق القارئ أن يستنطق أو أن يسأل فنانا أو مبدعا عن المقصد من «لعبه»، إلا أن يكون سؤالا بريئا، ولا براءة في السياق الذي نحن فيه. لا يحق له ذلك أبدا لأن عالم اللعبة الشعرية منغلق على نفسه استيطيقيا، والشاعرة نفسها قد لا تعيه تماما. ولا تعنينا ها هنا الناحية السيكولوجية أو السوسيولوجية، حيث عالم الشعر يظل مهما يكن نصيبه من الواقع تخليقا لعالم افتراضي، هو «ناقص» ضرورة، شأنه شأن النقص في الأشياء أملا أو رجاء في كمال لا يأتي أبدا. وهو من ثمة، يقتضي جهدا تأويليا يتعلق به ليكون بالفعل أثرا فنيا. وهذا عمل القارئ المتمرس بالفن وبالشعر. ومثال ذلك قصيدتها «سمكة موسى»، أو «الصول» وهي السمكة التي حيكت حولها أسطورة البحر الذي ضربه موسى بعصاه، وصادف أن كانت هذه السمكة في ذلك الموقع، فانشق البحر، وانفصلت هي عن نصفها، وهبط كل نصف إلى القاع، يداري جرحا عميقا هو في القصيدة جرح الجسد:

«سمكة موسى وهي تنفلق نصفين/ ما كانت تفكر بفتات الصخر. الرمال/ ما كانت تفكر بالبحار/ الهواء كان قطراتك الفضية الندية/ ليمونة واعتصرتها كيما.. كيما أقول نصف الحب لمن يذهب أو يتشقق… خصلات من شعر آلهة وهي تنزل عتبة عتبة/ أو تغلق بابا في العرش».

شكل مجدول أو جدولي، وزمن مقسم مشظى يقودنا بدل أن نقوده، حيث تطلق الشاعرة الصورة في فضاء المتخيل وترسلها. وهي تستخدم تقنية في الشعر مستلهمة من الرسم، هي أقرب ما تكون إلى تقنية الرسام الأمريكي بولوك. وهي تقوم على أن يحمل الفنان علب الألوان بعد أن يثقبها، ثم يسحبها على اللوحة ويهزها. والشاعر/ الشاعرة لاعبة، وليست «موضوعا» للعب، وإنما اللعب هو الذي يرتقي بواسطتها إلى مستوى التمثل، ويستقل عن وعيه.

ولنا لتقريب الفكرة، أن نتمثل بما قام به زوكسيس في عمله فينوس، من استلهام خمس صبايا بديعات، أو «منتحبة رونداديني»: صورة الجسد الأجدع، أو «طوافة البحر» أو «مقاطع» لتيودور جيريكو»، فمن المعروف أنه أنجز أكثر من رسم لأعضاء مقطعة، وأعد بعض أعماله في مدرج تشريحي في مستشفى بوجون القريب من مرسمه. ويرى الدارسون أنها توقفنا على تخوم الرعب، وتصور بواقعية تراجديدية «القطع التشريحية» وقد عرضت مثل طبيعة ميتة، على لحاف أسمر، بما يشكل صورة «الجمال غير الشرعي» ومشاهد فرجوية ورؤى مهلوسة. ولا يعنينا هنا أن نبحث في شغف هذا الفنان مثلا بتمثيل ما هو دموي أو تراجيدي، فقد يكون مرده إلى ما يسميه البعض «شرور العصر» أو أثر الثورة الفرنسية فيه، وربما لدوافع ذاتية مستبهمة النشأة.

ما يعنينا أن الشاعرة وهي سليلة مدينة بحرية، لا تتهيب اختراق الحدود التي تفصل تقليديا بين عالَم الشعر وعالَم اليومي والوظيفي. والأمر لا يتعلق بمتحف لفنون الزينة، وإنما بقدرة الشعر على أن يُدرِجَ في عالمه ما هو أكثر غرابة عنه، أو قدرةَ الشاعر/ الشاعرة على مواجهة العالَم، أدفعتها إلى ذلك، أم لم تدفعها قوى حسية أو قوى روحية رمزية أو قوى حيوية خيالية، أو تفاعل خلاق مع التصور الميكانيكي الديكارتي للجسد، أو ما يسمى «الجسد الآلة». فلعل هذه القصيدة وغيرها تجد سندها في الفنون التشكيلية خاصة، وفي الفتوحات التشريحية التي دشنها العلم الحديث.

وهو ما تمثله رسامون ونحاتون وحفارون كثر، وهم يشرعون النظر إلى حقول جديدة، سواء في ضوء «جسم الإنسان الرائع» بعبارة ميخائيل أنجلو، أو ما يشبه «مطبخا مأتميا» للأجساد المقطعة. وهو ما يفصح عنه فوكو بعبارته البليغة النافذة « ما بين ذؤابة الريشة، الحادة، ومضاء النظر، سينهض المشهد بإطلاق مخزونه»:

« فيلم الدب

حين يقتل الصيادون الأم، ويدرك الجرو أن الأرض مكان حقير

لا علاقة لهذا بحزني الصباحي

وأنا أصب القهوة والحليب ولا أشرب

حين يقتل الصيادون الأم، يسقط غطاء من فوق لحمي، من فوق عظامي

ولا يصلي

أهبط الدرج حافية من خيالي…

يسقط الجرو بعد خطوتين

يخر أرضا

يبكي فينا تلك الليلة الباردة» (قصيدة اللحم البارد).

وهذه قصيدة تجمع بين القوة (العنف) والرقة، بل هما يتداخلان ويلتبسان كما في تمثال أنجلو «الليل» (حسناء مستغرقة في النوم). وقد عقب النحات على مديح الشاعر جوفانين في أن السعادة ليست في النوم، وإنما في «أن تُمسخ حجرا»، إذ يغدو الموت مصيرا محسودا، في عصر مجرم مخزٍ، بعبارته، أو «بارد» بعبارة الشاعرة.

تشتغل الصورة/ اللوحة عند أفراح على مقتضى «مبدأ الغياب»، فهي غير موجودة في ذاتها، وإنما في علاقتها بالآخر، ولعل هذا ما يجعلها تظهر جزئيا، وهي تطفو وتغرق، ولا نكاد نمسك بها، وكأنها صورة من «الرجلة» وهي نبات ورقي ينمو على ضفاف الأنهار ومجاري الماء، وعندنا في حوض البحر الأبيض المتوسط، ولكن أفراح تصوغ منها لوحة المكان/ اللامكان:

«رجلة الكراسي القديمة حيث جلسنا تلك الليلة

حيث تبادلنا القبل

وأكلنا خوخة وجبنة ومعجنات بطماطم طازجة

رجلة الكراسي القديمة حيث لم نجلس

حيث لم نتبادل القبل

حيث يأكل الليل

تلك لا تليق بولادتي».

والشاعرة هنا تقرأ وهي تكتب، تخط وتمحو، وتثبت وتنفي، وتطلق الكلمة وتقيدها، فإذا الصورة اللوحة تنفك عن زمن الواقع وتتجرد، ولا مسوغ لذلك سوى زمنيتها الخاصة. أعني تلك التي يحكمها الغياب وهو يلوي الزمن ويخلطه ويعجنه، ويعطله كمن يخرب ساعة يدوية، ويشوش نظام الأشياء، والأزمنة النحوية. ولعلها زمنية المخيال اللولبية في لوحة أشبه بنتافر لونين أو بشق الماء الذي تخلفه السفينة وراءها.

قصيدة أفراح هي «القصيدة المحيزة» كما أحب أن أسميها، أي تلك التي تضفي المكانية على الأشياء، أو تجعلها تنزل في حيز أو مكان هو مرئي ومسموع في ذات الآن. وفيها يتزاوج التعبيران الكنائي والاستعاري، وتتسع المسافة بين الدال والمدلول، فلا تصريح بالمعنى، وإنما تقويض للمواضعات اللغوية المألوفة، ومحاولة جادة للإمساك بشمولية تتطابق مع ذاتها، أو بمعنى استبصاري تأثري مكثف يتمثل الكل في صورة واحدة، وإن في سياق الإيقاع القائم على توازي التضاد. قصيدة لوحة تتسع فيها الفجوة بين الصفة والموصوف، وجسارة محسوبة على اللغة، وإغراب ينشب في الكلمات، ويقدح فيها روح الأشياء: الكلمات التي تضيء وتستضيء، ويشعل بعضها بعضا.