للأمكنة ذاكرة متقدة مشبعة بتواريخ ورموز، وأحيانا نستعيد عبرها أمجاد وعبر. هنا الشاعر العراقي يعبر الى طريق مكان عمر قرون، وصمد في وجه المسح والحروب والويلات، واليوم يشكله الشاعر في قصيدته ذاتا واحدة لا تفترق عن فعل الاستمرار والوجود.

الطريق إلى كركوك

ليث الصندوق

 

ألرياحُ السودُ قطعانُ ذئابٍ

بعضها ينهشُ بعضاً

والنجومُ الحُمرُ أشلاءُ ضحايا

تتدلى من كلاليب الغروب

دخلَ الأحبابُ في قوقعة الصمت

وغابوا طيّ أمواج الدماء

عبثاً تمحو مَمَاحي الصَبر

عن سَبّورة الذكرى وجوهَ الغائبين

فالأيامى يتتبّعن خطاهم في فناجين النحيب

... واستمرّتْ ناسِجاتُ الموت في لُعبتِهنّ

كلما مزّقنَ جيباً

عُدنَ يُخفين ضحاياهُنّ في باقي الجيوب

واستمرّ القيصرُ المذعورُ يقتادُ نبيّاًّ

كلّ فجر للصليب

بعدَ عَهد الكَيّ لم تبرأ من الأشواق تيسينُ ( 1 )

ولم تفلحْ فقاعاتُ الصوابين

بأنْ تقتاد مَعْ أوضارها

شمسَ اليتامى للغروب

... هكذا من دون أن تُركَلَ بالأقدام

تدّحرجُ هَوناً كُرةُ الدهر اللعُوب

هكذا كركوكُ في خاصّتها ( 2 ) تغسلُ قمصانَ العذاباتِ

وتكويها

وتطويها لكي تلبسَها في يوم عيدٍ

وعلى زيتونة الحِرمان أثمارٌ تدلّتْ

هيّ أعذاقُ شِفاهٍ ، وقلوب

أصغرُ العُمّال من ميتتهِ عاد إلى كاوراباغي (3)

بعدَ أنْ حَنّ إلى أترابهِ

عادَ في أكفانهِ يحملُ للعب رصاصاتِ المُغيرين ،

وبُقيا رُقيةٍ من أمّهِ

سَدّ بها ما حفرَتْ تلكَ الرصاصاتُ

بلَوْحَي رئتيهِ من ثقوب

**

مُدنٌ مرّتْ على قاطرة الذكرى سواها

وتلاشتْ ،

ثمّ عادتْ ، وتلاشتْ كالذنوب

مدن كُثرٌ على خارطة الأحلام

كالناس لها قلبٌ ، ورغباتٌ ، ودمع

لم تكن تُشبهُ كركوكَ

فكركوكُ – كما أعرفها – تُشبهُ أمي

فكلا تدييهما يمتحُ من ذاتِ الحليب

**

لم تكُ البلدةُ في ذاكرتي محضَ قِلاع ، وجُسور ، وبيُوت

كان للقلعة أحضانٌ (4) ،

وللجسر شفاهٌ ،

والبيوت

عندما تضربُها عاصفةُ الوجد تلوب

ولذا أوثقتُ للبلدةِ رجلَيّ وعنقي بسلاسِل

وأنا آسَفُ أنْ يُفزعَها ما في طِباعي من عُيوب

عندما إنفرطتْ سِلسِلةُ الحُبّ افترقنا

هي غابتْ في ثلوج الذكريات

وأنا نثّرتُ

ما جَمّعتُ في أجران عُمري من حُبوبْ

كلما لاقيتُ وَجهي في المرايا

زغتُ من رُكن لركنٍ

خوفَ أن يقتلني هذا الغريبْ ؟

**

بعدَ أعوام تبيّنتُ بأني

كنتُ عُمري كلّهُ أحملُها تحتَ ثيابي

وأنا أجتازُ أشواكَ الخطوب

فلقد كنا معاً نحيا ، ولم يعرفْ كِلانا

إننا تحت شموس الشوق كالثلج نذوب

 

(1) تيسين أو تسعين، منطقة في الجنوب الغربي من كركوك عاشت كغيرها من مناطق كركوك احداثاً متتالية من القمع والتعسف.

(2) نهر يمر بكركوك، وهو من روافد نهر العظيم ، والأخير هو أحد روافد نهر دجلة، ويطلق أهل كركوك على النهر التسمية التركمانية (خاصة صو) .

(3) كاورباغي وهي منطقة بساتين الزيتون في كركوك القديمة، شهدت أول إضراب عمالي في العراق لعمال النفط في 3 تموز 1946 ضد شركة نفط العراق البريطانية (IPC) وضد حكومة ارشد العمري الداعمة لها وقد جوبه الإضراب بالقسوة المفرطة ، وسقط جراءها (16 ) شهيداً و (30) جريحاً من العمال.

(4) قلعة كركوك ، هي في الأصل حصن دفاعي بني بأمر من الملك الأشوري آشور ناصر الثاني ( 884 – 858 ) ق . م . مرّ بها الأسكندر المقدوني في طريقه إلى بابل ، وبعد وفاته واقتسام مملكته صارت كركوك من نصيب القائد سلوقس الذي أعاد بناء القلعة ووسعها وسوّرها وأسكن من حولها بعض العشائر، قال عنها ياقوت الحموي في معجم البلدان (أنها في وطأ من الأرض حصينة بين داقوقا وأربل، رأيتها على تل عالٍ، ولها ربض صغير). شهدت القلعة منذ ثمانينات القرن المنصرم محاولات محمومة لتشويه معالمها والعبث بتاريخها.