يرى الناقد المصري أن الكاتب بني روايته من دورين منفصلين، ودور مشترك. أسكن في طابقه الأول، المماليك الحكام، بصراعاتهم علي السلطة والمال. وأسكن في طابقه الثاني الفلاحين، أو المحكومين، بحكم المماليك وبالفقر والعوز والذل، ولم يكن هناك سلم بين الطابقين، فعاش كل منهما في عزلة عن حياة الآخر.

ثلاث برتقالات مملوكية .. بين الماضي والحاضر

شوقي عبدالحميد يحيى

 

مثلما يلعب توقيت الكتابة دورا مهما في سبر أغوار العمل الإبداعي، فهو يلعب نفس الدور لدي القارئ عند القراءة، حيث تفرض ظروف الراهن سطوتها علي المبدع، ساعة الكتابة ، وعلي القارئ، ساعة القراءة. وبالطبع ليست الظروف الوقتية، وإنما الظروف التي تحتل حيزا من تفكير وتشكل رؤي كل من المبد عند الكتابة، والقارئ عند القراءةـ ولا شك أن رواية المبدع النوبي حجاج أدول "ثلاث برتقالات مملوكية"[1] نموذج صريح علي ذلك. فإذا كانت ثورة يناير 2011، قد مرت بالعديد من المراحل، والتجارب، التي كان من بينها، تجربة صعود من أسموا أنفسهم بالإخوان المسلمين، التي كشفت عن قاع مشحون بالمؤامرات، والتوافقات، انتظارا لساعة القنص، بعد أن كان الكثير من أفعالهم يجري تحت السطح، فلا يشعر به الكثير من العامة، الذين انخدعوا بلعبة التدين، فكان التعاطف معهم هو ما أكسبهم الكثير من المناصرين، غير أنه عندما تسطع الشمس، وينكشف الكثير مما كان مخبأ في الظلام، فإن الرؤية، بالتأكيد، تختلف. وتسير روايتنا بما نراه برؤيتنا الحالية، بعد التجربة المعيشة، علي أنها تتناول تلك الممارسات التي مارسوها في ذلك العام، الذي مازالت تعاني منه مصر حتي الآن. إلا أنه بعد إلتقاط الآنفاس في نهاية الرواية، نكتشف ذلك التاريخ الذي دونه الكاتب في نهايتها، وهو 29 / 9 / 2010 ، أي انه حتي قبل ثورة يناير، لتعلو الدهشة، كيف كتب الروائي هذه الوقائع والرؤي، التي عشناها بالفعل علي أرض الواقع، قبل أن تقع؟. وهو ما يعيد للذاكرة العديد من الأعمال الروائية التي استشرفت وقائع الثورة. خاصة إذا تذكرنا ما كان يقال عن مرسي الذي اصبح في غفلة من الزمن، رئيسا لمصر المحروسة، التي أتوا لحكمها، وكأنهم يأتون لها بالدين من جديد، بينما ما أتوا به ليس إلا الشكل، دون المضمون، وهو ما تشير إليه الرواية في { القاهرة عاصمة مصر المحروسة. ليست فقط محروسة بألف مئذنة أخذت هيآتها من مسلات الفراعين أول من أحسو بالخالق، واتجهوا إليه، ووحدوه، فعبدوه قلبا وعقلا. وليس فقط من ألف قبة أخذت أشكالا عدة، ولا من مئات أضرحة الأولياء الصالحين الذين أتوها من فيافي الجزيرة العربية، والغرب الأمازيغي، ولا حتي من مرسيليا الفرنسية، ولا حتي من الضريح اليتيم لولي أبنوسي أتي من الجنوب الإفريقي، وليس فقط من عتبات العائلة المقدسة، وأديرة المسيحية وكنائسها، خاصة الكنيسة المعلقة حيث شجرة مريم سيدة نساء العالمين، بل هي القاهرة، ومصرها المحروسة بفكرها العميق الصافي، ومعارف وعلوم كهنة الفراعين المذهلة، مصر مكتشفة الضمير الإنساني، وملهمة اليونان بعلوم وفكر الإسكندرية، ومُطعمة الرومان، ودرتها الزاهية}ص15.

عاد الكاتب إلي ذلك التاريخ، المنهل الذي نهل منه الكثير من الروائيين ، تلك هي فترة حكم المماليك لمصر، الذين عُرفوا بكثرة المؤامرات، والانقلابات، وتغييرات الولاء، فضلا عما عاناه المصريون، من جراء فرضهم الضرائب التي أرهقتهم، وأدت بالكثير من الفلاحين للهجرة من أرضهم، ليتوهوا في قاهرة مصر المحروسة، ليقرأ القارئ عن تلك الفترة، وعينه وفكره يتأمل ما حوله في وقته الراهن. فها هو أحد المماليك يصعد لكرسي الحكم، دون أن يكون قد وردت له، مجرد الحلم، في وقت من الأوقات، حيث دبر السلطان خيانة لوكيل السلطنة "شندر" الذي كان يدبر للاستيلاء علي العرش، بمساعدة النائب الآخر، الداودار العجوز ""كمال الدين" (العقرب)، فكانت الخيانة مزدوجة، وتم قتل "شندر". فهاج فارسه المملوكي ضخم الجسم، الغبي الأهبل "بنبان" واقتحم القصر حتي وصل إلي السلطان، فقتله. فرفعه "كمال الدين علي العرش، ليصبح سلطان مصر وحاكمها { شاب صغير لعب بالسيف فقط، لينتقم لسيده، يصير سلطان مصر في غمضة عين، ومفيش إيشي شئ في مخه؟! حتي لم تتم مشورة فيمن يولونه سلطانا! تسلطن السلطان هكذا من الباب للطاق! وهكذا أمر مصر المحروسة التي اسمها كالطبل، والزمر بين بلدان العالم بيضان وسودان وصفران، وحمران، وكل لون من الألوان}ص51.

وعلي الرغم من ضعف من جلس علي الكرسي، إلا أنه استمر كثيرا عليه، بفضل المستفيدين، والطامعين من ضعفه. فبعد تولي السلطان الأمجد "بنبان" {وبعد أن عُزل من عُزل، ووليَ من وليَ، بدأ عهد السلطان الأمجد "بنبان"، والذي هو من سلالة غير معروفة، فكتب عنه الكتبة نفاقا، فقالت جماعة من تدعي أنها سلاللا الأشراف، أن الأمجد "بنبان" يستحق عرش السلطنة لنبل أرومته، فهو من سلالة الرسول "محمد" – عليه الصلاة والسلام - وأكدت مقسمة ثلاث أنه حقا، وبحقيق من سلالة نقية، أبية علية، ليست فقط من شبه جزيرة العرب، بل وأيم الله من قريش! ومن صُلب الرسول ذات نفسه! وكتبت بذلك مكتوبا، وختمته، وصعدت به مسيرة بالزمر والطبل إلي القلعة، وسلمته للداودار! .. وهكذا يفعل المنافقون التابعون لكل من يتولي الأمور في كل الدهور}ص66 – 67.

ولما كان لرجال الدين من تأثير علي العامة، وهو ما كان يُنتظر منهم أن يقودوهم إلي مقاومة الظلم، وتقويم الفاسد، إلا ان ما أتوا به – علي مر العصور – كان عكس ذلك تماما {وكل ما يفعله شيوخ الثريد المجيد.. أن تدعو للراعي أن يوفقه الله بما فيه صالح المسلمين، والرعية تعلم ألا صلاح له - السلطان – هكذا تعودت.. تدعو لفرعونها.. لشيخها.. لخليفتها.. لسلطانها.. لملكها .. لكل من يصير رئيسها، حتي لو كان خسيسها.. تدعوا أن يكون رشيدا، ولا تريد أن تفعل ما يجبره أن يكون كذلك. ففعلها الضدي يكلفها لسعات كرابيج السلطة، وعذاب سجونها، وخطورة سيوفها}ص201.

وعلي الرغم من أن المنهل هو زمن المماليك، إلا أن عين الكاتب معلقة بوقته الحاضر، الذي برزت فيه جماعة (الإخوان) وما انبثق عنها من جماعات تكفيرية، وما خرج إلي السطح بعد 25 يناير، يخترع الكاتب شخصية أقرب للكاريكاتورية، وهو "الشيخ حرنكش" الشره للنساء، والذي ارتمي في أحضان من يرسلون له الأموال من الخليج، والذي لم يستطع أن يؤثر علي من تفتح قلبها، وازدادت مرارة نفسها، مما طالها ووالديها من شتات، وضياع، ومن ستمثل بعد ذلك رؤية المستقبل، وهي "نجية" الفلاحة التي أصبح جمالها لعنة عليها، فجعلها مطمعا للكثيرين، وهو ما كمن وراء هجرتها مع والديها، أو هروبهم إلي القاهرة. بعد محاولة ابن المملوك مداعبة "نجية" وخوف الفلاحين عليها ومطاردتهم له، اندفع عزازي أخو نجية ، وكسر ساق ابن المملوك، وهو ما سبب له العرج بعد ذلك، فكان عقابه الضرب حتي مات، وضُرب الوالد "إبراهيم" وإهانة كرامته، فكان الهرب إلي القاهرة. وتصر المسيحية أن تستضيفهم في بيتها، ويتعرفا علي المظاهر الدينية، وتزايد عدد أصحاب اللحي، والمنتقبات. وكذلك علي خطيب الجامع، سئ السمعة، كريه الطلعة، الشيخ حرنكش، الشهير بالشيخ المكنسة. فما هي حقيقة الشيخ المكنسة؟ { مكنسه من عمل الرقايا الكاذبة للفتيات والنساء، ليمنع عنهن الحسد، وأعمال السحر من الحاقدات عليهن، وليجلب لهن الذكران ،، ومن هؤلاء كثيرات اتهمنه سرا بمحاولة إغوائهن، لكنهن علنا يخشين سلاطة لسانه، وامتلاكه منبره الذي يؤذي به من أراد، بدون رادع ضمير. "حرنكش" لا يلقي علينا السلام، ولا يرد لنا السلام، طالما ويصا معنا! وفي الزاوية التي يؤم المصلين فيها، دائما ما يلعن النصاري واليهود، ويؤلب الناس عليهم}ص144.

و يتعرض الشيخ حرنكش لنجية التي فاح وناح جسدها، وكل نظرات الشبق لها، ليطلب منها الزواج، وكأنه ينقذها وينتشلها{ - وانت متجوز اتنين وقنيت التالتة فوقيهم!

  • ولو برضه، فهذا حلال بلال!!
  • كتك ضربتين حلال علي نافوخك، وبلوتين بلال في قلبك!
  • لمي لسانك يا حرمة. اسمعي أنا عايز أحميك من نفسك، وأحمي رجال المسلمين من الفتنة، وأحتسب أجري عند الله سبحانه وتعالي!!
  • امشي يا شيخ مكنسة بعيد عني.
  • إيع؟! مكنسة؟! شيخ من شيوخ الدين تقولي عليه مكنسة يا بت المكانس؟!!
  • امشي من قدامي أحسن والله العظيم أنتف لك دقنك!
  • سفالة فلاحين.
  • الفلاح شختة أنضف من دقنك يا شيخ يا وسخ}ص147.

ولا يتوقف الأمر علي إنحراف "الشيخ حرنكش"، حيث يبدأ ظهور الجماعات.

فيتقدم الشيخ حرنكش مكنسة لوالد نجية يطلب يدها مرة أخري{بالفعل حدث تحول غريب في حال الشيخ حرنكش مكنسة، انضم لاهثا لجماعة صحراوية الأصل، متشددة أتتها أجولة من الدنانير، فصار من بعد إملاق حاملا للدنانير، ومأكله زبد وسمن وعسل وفطير، وملبسه أنيق وتزويق، فخلع العمامة الخضراء ووضع الناصعة البيضاء}ص155.

ولما يرفض الوالد "إبراهيم" و"زكية" (زوجته) يثير الشيخ عليها في خطبه بالمسجد الذي أقيم بدلا من الزاوية التي كان يدس منها سمومه. فيذهب إليها مجموعة من الشباب المغيبين، والذين هم به متأثرين. ليقطعوا عيشها. إلا ان "نجية" زجرتهم وتهجمت علي المبربش، الذي حكي الحاوي عن والديه اللذين عانيا الفقر المدقع، حتي هجرهم الأب، فازداد الفقر عليهم. إلا ان اهل الخير ساعدوا الأم وابنها "المبربش" حتي حفظ بعض القرآن { وعمل "فقي" في المقابر، وليس له أي كيان إنساني. وبدلا من أن يرد الإحسان بالإحسان للناس، شب حقودا، حسودا، غِلاويا نفساويا يُنفس علي الناس. لتهوره يخشاه الكثيرون، من سنتين إدعي أنه غيور علي الإسلام، وأن النبي زاره في المنام.... ويحاول المبربش أن يكون زعيما دينيا}ص159.

وفي إشارة للتواطؤ بين السلطة، وتلك الجماعات، التي أسماها الكاتب جماعة "الصحراويين" {جماعة الصحراويين في أمان. الشيخ "حرنكش المكنسة" أحواله زادت رغدا، ورفعة بعد احتياج وضعة، انتقل من حيه الفقير إلي حي بالغني يفوح، ولا يحلم به فقير سنكوح، فالسلطان عنه راض، وكبار التجار عنه في رضا، فهو مع جماعته لاعن أكثر لمن يقف ضد السلطان، الذي لا يُسأل عن أفعاله}ص223.

ويضع الكاتب صورتان في المواجهة، توضح الأولي، مصر المحروسة –حين أتت إليها عائلة إبراهيم وزوجته زكية، وابنتهما نجية، بعد مقتل ابنهما "عزازي" في واقعة اعتدائه علي ابن المملوك، أتوا إلي القاهرة، فاستقبلتهم العائلة المسيحية، التي أصرت علي استضافتهم، وصاروا أصدقاء. أما الصورة الثانية، فهي تلك البذرة التي صنعتها تلك الجماعات التكفيرية، الرافضة للغير، لتعيد لنا تلك المشاهد التي تعددت في كثير من بلدان مصر بعد خلع مرسي، فنقرأها علي أن الكاتب يشير إليها، حيث {اشتكي الشيخ "المغربي" أنه حين كان جالسا عند باب القلعة، مر عليه بعض الكتبة، فقام لهم، وبالغ في تكريمهم، ظانا انهم مسلمون، ثم تبين أن هؤلاء ما هم إلا كتبة نصاري! فدخل "المغربي" أبو زعبوط علي السلطان المخبوط، وفاوضه في الكلام. وعليه فإن السلطان الأمجد "بنبان"، عمل مشورة لعلماء المسلمين، فقرروا ، وامروا المنادين أن ينادوا في أرجاء القاهرة المحروسة، وسائر أنحاء بر مصر وأشياعها.. أنه لا نصراني يُستعان به في ديوان، وحتي لا يختلط الحابل بالنابل، علي النصاري أن يلبسوا عمائم زرق. وأن تكون عمائمهم أقل من عشرة أذرع، وألا يركبوا مع مكاري مسلم، وإذا مروا بالمسلمين وهم راكبون ينزلون عن ظهور البهائم. وأن النصاري لا يدخلون الحمام الشعبي، إلا وفي أعناقهم صلبان خشب قدر قرمة كبيرة. وعلي الكل الامتثال، وإلا فالعاقبة ليس لها احتمال}ص180- 181.

  • كانت حياة المماليك قائمة علي الدسائس والمؤامرات، والطعن في الظهر، فغالبا ما تكون المرأة أحد أهم الأسلحة التي يمكن أن ترتفع بمن تهوي إلي مرتبة السلطنة، وإما أن هوي به إلي اشد العذاب، وأسوأ مصير. فأنشا الكاتب علاقة بين قطبي الرجال، وقطبي النساء، يحملن من المكر والدهاء، وغريزة الغيرة والانتقام، ما قاد سفين الرواية إلي مبتغاها. فكما كان من الرجال "بنبان" و"حفيظ السَّلولي"، كان من النساء "شمس" و "غُزلان"- اللتان أعتقد أنهما إثنتان من البرتقالات الثلاث المملوكية - {المملوك "بنبان"" وضح ميله إلي شمس، إلا أن شمس تفضل المملوك "حفيظ السّلولي"، فالسّلولي فارس قوي، وإن لم يصل لمقدرة ذاك المتهور الغبي. "حفيظ السّلولي" وسامته مترعة بحلاوة، وطراوة تعجباها، وعيناه الواسعتان العسليتان تخبئان مكرا، وخباثة ثعبانية لا تقلقانها، فهي أشد مكرا، وأعمق خباثة منه. لم تحبه ولن تحب ذكرا أبدا، هي تفضله نَزَقا وشهوة، وأساسا تستغله، لتصعد علي كتفيه إلي القمم}ص22.

بيعت ابنة الشابة المقهورة في حبها (والدة شمس) ، باعها من يمكن أن يكون أباها أو اخاها أو عمها، فقد نال أمها، الشاب الصغير، الذي عشقته، وتوهمت انه يحبها، ومن بعده نالها جده، ومن بعده كان والد الشاب وابن الجد، لتكون ثمرة أحد هذه اللقاءات ابنة تضاهي الشمس في جمالها، فكانت شمس. التي بيعت في مصر ابنه التاسعة، ووعت الدرس وترسب في أعماقها منظر أمها المخذولة في عشقها. إلي قصر الأمير "شندر"، نائب السلطنة المشهور بالغدر، وسمي "شندر الغدار" . لتكون جارية من ضمن الجواري، التي أدار أعناق كل من رآها {شمس هي الشمس إن طلعت بهت جمال "غُزلان"، وتبخر جمال بقية الجواري، خاصة أن "شمس" عينيها البحريتين تفُحان نظرات ناعسة ملهلبة لاسعة، هذا بخلاف أن "شمس" قادرة علي بث بسمة، وفرقعة ضحكة تبدوان ساذجتين، وإن حملتا في دواخلهما براكين أنوثة خبيثة لا يغلبها غلاب}ص21. وتضمر الانتقام من كل صنف الرجال، حتي ذلك الذي رأته أفضل من يمنحها الإبن الذي سيكون ذراعها في البطش، فوقع نظرها علي المملوك "حفيظ السلوي" {لكن شمس مجرد جارية، مؤهلة لتكون محظية تحت أمر مالكها، وحفيظ السّلولي عبد مملوك مؤهل ليكون جنديا عند أسياده. الزواج لهما ليس بكامل الكيف، بل الكلمة الفصل لسيدهما، الآمر العُلوي، الممسك بالسلطة، والذهب، والسيف}ص23. فيعطي السيد الآمر السماح لجنديه القوي "بنبان" باختيار زوجة من بين الجواري، فيقع اختياره علي "شمس"، فلا يجد "حفيظ السلولي مفرا من اختيار"غزلان"التي تضاهيها في جمال الشكل الخارجي، وإن لم تضاهيها في الجمال الداخلي. ويتم الزواج، غير أن العلاقة بينها وبين السلولي، التي كانت قد بدأت، دون أن تنقطع، لا حبا في السلولي، ولكن أملا فيما أضمرته من رغبة في إنجاب شاب جميل يبيق بالسلطنة، وهو مالا يتوافر في زوجها "بنبان". فكان ل"بنبان"، الذي اصبح فجأة هو السلطان. الأيام التي لا يتم فيها التبويض، ويكون التواصل مع حفيظ في أيام التبويض. ولا يخفي الأمر علي غريمتها "غوزلان" التي تُضمر الانتقام، ولتنوله حين تكشف للسلطان عن تلك العلاقة، وأن ابنه "صبيح" وابنته "هناء" ليسا من صلبه، وإنما هما أبناء حفيظ السلولي، وليكون انتقام السلطان الأمجد الطرطور"بنبان". تعذيب صديق عمره، ونائب السلطنة "حفيظ السلولي" حتي الموت، وتحبس كل من "شمس" وغُزلان" في محبس واحد لينتقما إحداهن من الأخري.

ولزيادة في الاقتراب من الوضع العصري، يترك الكاتب السلطان "بنبان" وقد ضاعت كرامته، وذهبت صحته، لينتظر الموت، دون أن يموت، أو يحدد له مصيرا ما، انتظارا لقضاء الله.

وإذا كان استمرار السلطان الطرطور في السلطنة فترة طويلة، علي غير المعتاد، رغم تهميشه، وعدم قدرته علي قيادة الأمور. تشير بما يصل للمباشرة إلي رئيس البلاد فيما قبل 25 يناير 2011، فإن نفس الإشارة إلي سطوة "شمس" وسعيها الدائب والمستميت، لتمكين حفيدها من السلطنة، كإشارة أيضا واضحة لما كان يُدبر من عملية التوريث، لتتضح الصورة وتتكشف الأبعاد علي ما أراده الكاتب من إسقاط علي فترة حكم مبارك، والتي تتفق وتاريخ كتابة العمل.

وإن قد فعلها محمد سلماوي في روايته "أجنحة الفراشة" وزين عبد الهادي في "أسد قصر النيل"، حيث قدما نموذا للخروج والاحتجاج، أو بروفة لما حدث بعدها في ثورة يناير، نجد حجاج أدول يقدم لنا أيضا بروفة لهذا الخروج، وأيضا قبل أن تقع علي أرض الواقع.

فبعد أن تصاعدت عمليات الجباية، واشتد البؤس علي عامة الناس، وصلت الأمور حد اليأس، وكأننا نشهد ما حدث في 25 يناير، حين بدأت التجمعات، ثم صارت تخرج من أمام الجوامع بعد صلاة كل جمعة، بعد أن منحوها اسما جديدا، ف {تسللوا في الظلام فرادا صامتين من الأزقة، والحارات، فتجمعوا جماعات جماعات في الشوارع، ثم صاروا حشودا يزعقون ويلعنون، ويتوعدون في الساحات متجهين إلي الجوامع الجامعة، من أول الجامع الأزهر لجامع السلطان حسن وغيرهما}ص206.

ولم يكن ذلك فقط، إنما ما تم كشفه أيضا من تخفي رجال (الإخوان) وراء الستار، بعد إشعال المشهد، انتظارا لمن الغلبة، وليركبوا الموجة بعدها، فتصفهم الرواية في عودة السلطان "بنبان" من احتفال تخريج دفعة من المماليك الفرسان، اعترض مسيرته "المبربش ومجموعته، في طريق موكب السلطان{ الشباب العدمانين قذفوا الموكب ببضع حجارة، ونادوا علي السلطان قائلين: مولانا السلطان طرطور. مش لاقيين شغل ولا مشغلة.

سريعا جماعة المبربش أنزلت الشوم لأسفل، وهربت وهي تقود الحمار وعليه المبربش الذي يلهث وهو علي ظهر الحمار! اختفوا سريعا}ص203.

{ لكن المماليك لم يستطيعوا وقف الحراك الغاضب السريع. والناس تخرج غاضبة بطلب دعوات صالحات، اوطالحات علي الغُز الفاسدين، صارت تلعنهم باقبح النعوت، وكل منهم يهدد بسكينه أو بالنبوت}ص207.

التقنية

علي الرغم من أن الكاتب لم يكن موفقا كثيرا في اختيار الصياغة الجبرتية، في محاولة منه لزرع القارئ في بطن التاريخ، الأمر الذي اضطر معه إلي الكثير من التزيد والتعنت في خلق السجع، واختلاق بعض الألفاظ مثل { بين بلدان العالم بيضان وسودان وصفران، وحمران، وكل لون من الألوان}ص51. فضلا عن إلباس راويه ثوب الجبرتي، واستعار لغته علي الرغم من أن الجبرتي نفسه لم يكن لينتقد المذهب السعودي (الوهابي)، حيث حاول تبرير الكثير من تصرفات محمد ابن عبد الوهاب، مما دعي أنصار ذلك المذهب، لاتخاذ رأيه حجة له لا عليه. إلا انه وفق كثيرا في مخالفة ذلك النهج، في ذلك اللقاء الذي تم بعد طول عذاب ورغبة بين "نجية" و"حسام"، الذي أوقفت حياتها عليه طويلا، وحلمت به كثيرا، لكن الكاتب أخرج منها باطن شخصيتها ، وبيئتها، التي تَبَين من الحوار، عندما رحات تعنفه علي أنه كان السبب في قتل أخوها "عزوز"، فيؤكد لها أن فأس أخيها (خَسرت) رجله، فتجيبه {يا ريت كان قطعها لك قادر يا كريم!

  • حرام عليكِ. أنا بحبك يا نجية.
  • حبك برص، وتلاتة خُرس.
  • ها ها . لسانك كرباج.
  • عايز إيه خلصني قبل ما نوصل حارتنا، الناس يقطعوك بسنانهم حتتك بتتك، ولو عرفوا إنك بتعاكسني.
  • حيكسروا رجلي التانية؟!
  • لأ مش رجلك يا خويا.. رقبتك وشوووووبش}ص191.

حيث يستخرج الحوار تلك البيئة التي عاشتها وتربت فيها نجية، وتكشف الطبيعة النسائي، في قاعدتها المعروفة (يتمنعن وهن الراغبات).

كما أجاد في رسم شخصية "بنبان" التي تجسد ما كان يملكه ، قبل أن يُصبح سلطانا، لنتأمل أحواله بعد فترة من السلطنة، كيف تحولت حالته، فتحول من الفارس، الذي كانت فروسيته تشفع لتشوه صورته الشكلية، وكيف أصبح بعد فترة من حكمه إلي السطان الطرطور. فالمملوك "بنبان" كان {فتي ضخم البنيان، عريض المنكبين، ... لكنه اقرب للغباء منه إلي الذكاء، .. لا يمتلك وسامة،، ففي سوق الملاحة هو غير مليح. في وجهه أنف محتل ثلث المكان، وترك الثلث للشفتين المبرطشتين. الثلث الثالث موزع علي الباقين، الجبهة المظلومة لم تنل سوي ما يكاد عرضه إصبعين.......... بنبان .. يمتلك مع جسامة جسمه شدة بأس، وجسارة متهورة لا يعقلها عقل، ولا يعرقلها حدس، هو ألعبان بالسيف، وشيطان طعن بالرمح، و جني في الرمح علي صهوة الحصان}ص22. وهو ما يشير أيضا إلي صورة مبارك قائد الضربة العسكرية في 73.

وعودة إلي العنوان "ثلاث برتقالات مملوكية"، والذي لم نستدل علي دلالة منطقية له، حيث لم نعثر طوال الرواية إلا علي تعبير واحد ورد فيه ذكر البرتقال، حين يقول حسام لأمه "قمر" {أنا احب البرتقال، لأنك تحبين البرقال}ص237. فكان لنا أن نجتهد في استخراج دلالة ، رغم ما يمكن أن توحيه من تزيد، إلا انه استكمالا لراحة الوصول، لابد من إجابة. فإذا كان الكاتب قد حددها ب"برتقالات" أي انه أنثها، فلنبحث بين النساء. ثم حددها ب"مملوكية" وهو ما يستدعي صفة البرتقال بأنه (حمضي). وإذا كنا قد تعرفنا علي اثنتين منهن "شمس" و "غُزلان" وكيف أنهما يحملان من الحموضة ما تسبب في فساد البلاد، فإنه يمكن أن نضيف إليهن "قمر" ابنة "شمس" التي دفعتاليأس إلي نفس زوجها "حسام" بشذوذها الجنسي، الذي به ترفض الاقتراب من صنف الرجال، حتي زوجها ، وما اضطرت السلطانة شمس أن تطلب من أحد المماليك أن يغتصبها وهي مخدرة، حتي تأتي بالوريث. ليصبح الثلاث مصدر فساد في مسيرة البلاد.

بني الكاتب روايته من دورين منفصلين، ودور مشترك. أسكن في طابقه الأول، مجموعة المماليك الحكام، بصراعاتهم علي السلطة والمال، مدفوعين بسلطة الجشع غير المحدود.

وأسكن في طابقه الثاني مجموعة الفلاحين، أو المحكومين، ليس بحكم المماليك فقط، وإنما محكومين كذلك بالفقر والعوز والذل، ولم يكن هناك سلم أو وسيلة للاتصال بين الطابقين، فعاش كل منهما في عزلة عن حياة الآخر.

ورأي أن هذا الانفصال لا يقيم المجتمع المبني، علي الأسس السليمة، وغاب الأمل به، في هذه الصورة. ولما كان سكان كل دور، بينه الفسدة، والصالحين كذلك. فقد ساق الفسدة إلي مصيرهم المحتوم، وانتقي من بين الصالحين واحدا من كل دور، وكأنه نوح يحمل في سفينته اثنين ليبدأ بهما حياة جديدة، حياة نموذجية. فكان "البهاء"، الذي تنصل من أهل دوره المماليك، فسمي نفسه "بهاء" ، فكان في حذف الألف واللام، تحديد الخصوصية الشخصية، خروج عن التعالي والسيادة. ومن الطابق الآخر كانت "نجية" التي يحمل اسمها الصفة أيضا، فقد نجت من فقر وبؤس سكان طابقها، ونجت في ذات الوقت من بطش وظلم سكان الدور الآخر. ليهربا من جحيم الحياة في مصر المحروسة، ولم يكن غريبا أن يسير بهما الكاتب إلي ما يراه الملجأ والمستقر والأمان، فسار بهم إلي "النوبة". ومعهما "حسام" الذي كرست جدته السلطانة "شمس" كل جهدها ليصبح سلطانا بعد السلطان الطرطور، والذي تآلف بسهولة مع عائلة والده الجديدة ، والمكونة من والده "بهاء" وزوجته "نجية" واخيه من أبيه "عزيز". ليبدأ حياة خالية من الصراع والمؤمرات والظلم، وليزرع الكاتب الأمل في غد أفضل، رغم كل سوءات الحاضر. وليثور السؤال: إذا كان المبدع يستدعي التاريخ لقراءة الحاضر. وإذا كان سعد مكاوي في "السائرون نياما" (1963) قد أشار إلي مصر في صورة "عزة" التي خطفها المماليك – كأحد القراءات – لتسقط الرواية في أحضان فترة كتابتها. وفي تصريحات لجمال الغيطاني عن "الزيني بركات" (1989)، التي تناول فيها أيضا فترة المماليك، للتعبير عن ما كان يدور في سجون عبد الناصر، وغياب الديمقراطية، فها هو حجاج أدول، يعود لنفس الفترة ليعبر في "ثلاث برتقالات مملوكية" (2011) عن فترة حكم حسني مبارك وقضية التوريث، التي كانت أحد أهم الأسباب في 25 يناير. فهل ثمة علاقة بين الماضي والحاضر؟.

 

[1] - حجاج أدول – ثلاث برتقالات مملوكية - دار العين للنشر والتوزيع – ط 1 - 2010.