تقرير من مصر

الترجمة وتحديات العصر

المؤتمر الدولي الأول للترجمة بالقاهرة

إبراهيم أولحيان

نظم المركزالقومي للترجمة، بالتعاون مع المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، المؤتمر الدولي الأول للترجمة، تحت عنوان: (الترجمة وتحديات العصر)، وذلك من 28 إلى 31 مارس 2010، وقد عرف المؤتمر مشاركة فعالة من لدن المترجمين، الذين قدموا أوراقا بحثية، وهي أكثر من 100 مداخلة في 32 جلسة، ممثلة من مختلف جهات العالم: مصر، سوريا، الأردن، العراق، السعودية، المغرب، تونس، لبنان، اليابان، جورجيا، كندا، انجلترا، أمريكا، اسبانيا، إيطاليا، تركيا...وبهذه المناسبة تم تكريم عدد من المترجمين: من مصر: مصطفى ماهر ومحمد عناني وفاروق عبد الوهاب، ومن ليبيا: اسم الراحل خليفة التليسي، ومن اسبانيا: بدرو مارتينيت مونتابيت، ومن أمريكا: روجرألن ، ومن بريطانيا: دنيس جونسون ديفيز، كما تم تسليم جائزة رفاعة الطهطاوي لهذه السنة للمترجم بشير السباعي.
ومن بين المحاور الأساسية للمؤتمر: تحولات نظرية الترجمة، الترجمة والهوية الثقافية، الترجمة وقضايا المصطلح، الترجمة والعولمة، الترجمة فيما بعد عصر الاستعمار، ميراث الترجمة والتأليف العلمي عند العرب، الترجمة الأدبية تجارب ومشكلات، الترجمة العلمية، الترجمة الآلية، مشروعات الترجمة العربية ومؤسساتها.

بالإضافة إلى الجلسات التي قدمت فيها أوراق بحثية لمناقشة مجموعة من إشكاليات الترجمة، والتي حضرها حشد غفير من المترجمين والباحثين والمهتمين، هناك محاضرات متخصصة كانت تتقاطع مع هذه الجلسات، نذكر منها: المحاضرة الافتتاحية التي قدمها: هاشم صالح بعنوان: " مشروع نقد العقل الإسلامي من خلال الترجمة العربية " والمحاضرة الثانية للكندي: جان دوليل بعنوان: "المترجمون صناع التاريخ والهوية الثقافية "، والمحاضرة الثالثة للإسباني: بدرو مارتينيت بعنوان: "الموريسكيون وحوار الحضارات ". ومن بين المشاركين نذكر على سبيل التمثيل الأسماء التالية: ثائر ديب، صبحي حديدي، عبده وازن، صلاح نيازي، عبد السلام المسدي، صلاح فضل، رشيد العناني، حمادي صمود، شوقي عبد الأمير، بول شاوول، ابراهيم فتحي، محمد عصفور، حسن صقر، فايزة القاسم، داريجان جارد فادز، نينو دوليدز، أسامة الغزولي، : كارمن رويث، ياما موتو، منذر عياشي، فيصل دراج، فاضل جكتر، منعم الفقير، عصام حمزة، إيزابيلا كاميرا...
ولقد كان للمغاربة مشاركة فعالة في هذا المؤتمر الدولي الأول المنظم بالقاهرة، لما قدمته الترجمة المغربية من أعمال ذات أهمية، ولمساهمتها في مشروع الترجمة العربي، مع مجموعة من المؤسسات التي أخذت على عاتقها ترجمة الأعمال الفكرية والأدبية والعلمية إلى اللغة العربية، للمساهمة في تنوير الفكر العربي، وإمداده بدماء جديدة تجعله يساير التطور الحضاري السريع، ومن بين هذه المؤسسات المركز القومي للترجمة بمصر، الذي يشرف عليه الدكتور جابر عصفور، ونقدم هنا عرضا مختصرا للمداخلات التي شارك بها المغاربة وهم: رشيد بنحدو، سعيد علوش، ابراهيم اولحيان، محمد الديداوي، ثريا إقبال، المهدي أخريف، فريد الزاهي، عبد الله العميد

.
رشيد بنحدو: الترجمة باعتبارها اعترافا بالآخر

يؤكد الباحث والمترجم رشيد بنحدو في مداخلته وهو يتحدث عن الترجمة بان " علة وجودها ترتهن بوجود موضوع هو الآخر نصا منذورا للترقنة، لكن هذا الآخر بدوره رهين بالترجمة أو لنقل إن وجوده يظل بمعنى ما ناقصا ما لم يترجم إلى لغة ( لغات) أخرى "، وليكتمل وجوده فهو في حاجة إلى أن يعيش الترحال والتنقل، يعني أن يتجاوز حدود لغته، ليعيش حياة أخرى، وذلك لا يتم إلا بالترجمة ، وهو ما سيساهم في تداوله عبر تأويلات أخرى جديدة أكثر ثراء. وبذلك يضيف رشيد بنحدو " بأن الترجمة هي في العمق والمطلق فعل اعتراف ب"الآخر" نصا وبالنص "آخر" هما سيان : فأن أترجم نصك من لغتك إلى لغتي لا يعني فقط أنكما، أنت ونصك موجودان بالنسبة إلي، بل يعني كذلك وبخاصة أنني سأستعمل نصك هذا لغاية (لغايات) محسوبة بسبق وترو وتصميم" ومن خلال التأطير النظري الذي بسط فيه الباحث تصوره للموضوع ، قدم مجموعة من الأمثلة التي تضيء هذا التصور وتغنيه، وبذلك يرى أن:

1.  عناية المترجمين في فرنسا منذ سبعينيات القرن العشرين بالرواية في أمريكا اللاتينية لينقلوها إلى لغتهم، وذلك اعترافا بخاصية الاختلاف فيه. ولقد كانت ترجمة هذا الأدب بمثابة طوق نجاة أنقد الرواية الفرنسية من الورطة التي آلت إليها الكتابة الروائية بفرنسا بسبب وصول موجة الرواية الجديدة ذات النزوع المفرط في التجريب وتأمل الذات إلى الطريق المسدود..

2.  كانت للترجمة الاستشراقية للتراث العربي الإسلامي غاية مغرضة، فهي في اعترافها ب" الآخر" الشرقي، لم تنظر إليه إجمالا من حيث غيريته الواجب الإقرار بها، بل من حيث دونيته الموجبة لإذلاله وذلك بغاية احتلاله.

3.  كان لترجمة " حكايات ألف ليلة وليلة" أثر خاص في تبلور نزوع فني لدى العديد من أدباء فرنسا وغيرها إلى ارتياد عوالم الشرق السحرية واستلهامها في رواياتهم وأشعارهم ومذكراتهم

4.  يتجلى الاعتراف بالآخر في ما أحدثه النقد الأدبي من انقلاب عند ترجمة النظرية الشكلانية الروسية إلى الفرنسية، فبفضل مفاهيم كثيرة جديدة جاءت بها هذه النظرية " أمكن لمناهج تحليل الأدب التخلص من ذاتية الأحكام الانطباعية، ومن حتمية المؤثرات الاجتماعية...

5.  الحساسية الجديدة في المغرب وباقي أقطار العالم العربي مدينة بالشيء الكثير لا لترجمة بعض نصوص موجة "الرواية الجديدة" في فرنسا فحسب، بل كذلك للخطابات النظرية والنقدية التي واكبت هذه النصوص. إضافة إلى ما قدمته ترجمة أبحاث الشكلانية الفرنسية إلى الخطاب النقدي العربي، من خلال تصورات ومفاهيم جديدة.

ويخلص الباحث والمترجم رشيد بنحدو إلى " أن الاعتراف ب"الآخر" من خلال ترجمة سيظل مجرد انشداد وانبهار به ما لم يرتق إلى مستوى التجاور والتفاعل والتكامل بين "الآنا" "والآخر"، باعتبار كل منهما ضروريا للآخر، ففي غياب هذه العلاقة تتكرر ثنائية العبد _السيد القائمة على اللا تكافؤ واللاندية . وهي العلاقة المثلى التي تسعى جاهدة كل ترجمة حقة إلى تحصيلها من خلال طموحها إلى مماثلة الآخر " أي أن تكون الأصل وفي نفس الوقت إلى مفارقته بخيانته"

سعيد علوش: تأصيل الهويات وإنماء خطاب عابر للثقافات

تندرج مداخلة الباحث والروائي سعيد علوش في إطار الترجمة في عصر ما بعد الاستعمار، ولذلك يؤكد بأن " الترجمة تعتبر نشاطا إبستمولوجيا بامتياز، ذلك أن المترجم يخضع لحوافز الحاجة وتأثيرات التصورات، التي تعد من بين المواجهات الأساسية للتعرف على الذات المترجمة قبل التواصل مع الآخر المترجم"، وبذلك فإن عملية الترجمة هي تحقيق لجدلية بين الذات والآخر، تتطلب من المترجم إيجاد مقابلات وظيفية وتعبيرية لخطاب إكراه وليس فقط المطابقة بين نصين ... من هنا تطرح قضية إنتاج خطاب نقدي يتداخل فيه الابستمولوجي والتاريخي والتحليلي والأخلاقي.من تم يؤكد سعيد علوش، بأننا نقف على ترجمة، تسعى إلى تفكيك مزاعم لوغوس برأسين:

1.      رأس نقد ثقافي، ما بعد استعماري، لإنماء خطاب عابر للقارات.

2.      رأس مقارن سيميائي، لتشكيل تاريخ تقريبي للأفكار والأساليب.

والخلاصة يقول سعيد علوش "أن علينا تطوير نوع من الفكر حول شعرية ترجمات ما بعد استعمارية، تلك التي تشدد على قواعد ( استيراد وتصدير) في تكوين الصور النمطية والأنطولوجية التمثيلية، المرحلة بين حداثة الرغبة في معرفة الآخر وبين الافتقار إلى الأبنية المنطقية لمعرفة الذات. من تم تطرح علينا إشكالية إزاحة الهيمنة الثقافية والانفلات من الفتوحات الجديدة ما دامت الشعوب الأكثر ترجمة ، ليست الأقل استيعادا للهيمنة، كما أن الشعوب الأقل ترجمة لاتعد أقل تبعية وخضوعا للغزو..." . وبذلك يعتمد الباحث على مفهوم الأنثروبولوجية الثقافية للترجمة، التي تعتبر " تطورا للتفكير في معادلات ثقافية تنشأ من حاجات ومصالح وقدرات، لإعادة صياغة أفكار وإنجاز أفعال، في سياق توقعات، تجلب الاعتراف بقيمة الترجمة باعتبارها شكلا للاستحواذ والفتح، في عصر عولمة، يضفي طابعا مثاليا على فاتح ومفتوح، يتكلمان لغة واحدة لتفسير هويات متضاربة"

ابراهيم أولحيان: الترجمة وتخصيب الهوية الثقافية
تندرج مداخلة ابراهيم اولحيان في محور الترجمة والهوية الثقافية، وبذلك يرى أن الترجمة لعبت دوراً كبيراً في التقريب بين الشعوب والثقافات عبر التاريخ، وساهمت في جعل الحوار ممكناً بينها، لأنها الجسر الوحيد لعبور الأفكار والمفاهيم والمعارف، ومن خلالها نستطيع مسايرة التطور والانخراط فيه، والخروج من رؤية العالم الضيقة، إلى نظرة شمولية تُبْصِرُ الأشياء في اختلافها وتقلبها، تعددها وتمايزها... فعبرها تتحقق المقارنات، وتنكشف الأوهام، وبالتالي تتلاقح الثقافات، ويتحقق الانفتاح..
وهذه هي الرؤية الإيجابية للترجمة باعتبارها فعلاً تنويرياً، وهي المهمة التي نرجو أن تقوم بها الترجمة في العالم العربي لسلوك مجرىً يأخذه إلى الانخراط في الأسئلة الكونية، انطلاقا من الخصوصية الثقافية، بعيداً عن الانغلاق أو التمركز على الذات.
وقد ناقش هذا البحث دور الترجمة في تعالقها بالهوية الثقافية، انطلاقا من أسئلة عدة أهمها: ما أثر الترجمة على الذات وعلى الآخر؟ وأين تتجلى مساهمة الترجمة في مجال المثاقفة؟ وما دور الترجمة في المرحلة الراهنة؟ وكيف تتفاعل الترجمة مع العولمة باعتبارها تُسَائِلُ الهوية؟ وكيف يمكن للترجمة في الراهن تحقيق تخصيب الهوية الثقافية؟ وما سبيلها لتحقيق الهوية المنفتحة؟
ويرى ابراهيم اولحيان أن سؤال الهوية الثقافية لا يطفو إلى السطح ولايثير الجدال والنقاش إلا مع الأزمة، ولذلك فهذا السؤال نابع من تحديات العصر بكل الوسائل إلى الانخراط في الثقافة الكونية، وقد أنتج هذا التحدي مجموعة من التصورات حول الهوية، أهمها، والذي يساير تطورات العصر هو الذي يرى أن الهوية متجددة وينبغي اختراقها، وتوسيعها بالانفتاح على الآخر، والترجمة هي سبيلنا إلى الانفتاح على التنوع الثقافي، وفي هذا الإطار تطرق البحث إلى اتجاهين:اتجاه محافظ يهاب خدش اللغة العربية، وآخر مجدد ينطلق من تصور أساسه تجديد اللغة وتطويرها بتفجير طاقاتها ووضعها في صراع مع اللغة الأجنبية، ومع ذاتها، وقد أورد مجموعة من الأمثلة توضح ذلك، وخلص إلى أن الترجمة بهذه الاستراتيجية تسهم في إغناء اللغة والثقافة المترجم إليها، وتزويدها بمصطلحات ومفاهيم وبنيات لغوية، وصيغ أسلوبية جديدة تجعلها أكثر قدرة على استقبال فكر الآخر ، واستنباته في تربتها، وتقوي في الوقت نفسه مناعتها، وهي بذلك تسهم في تخصيب الهوية الثقافية. ومن المحاور التي ناقشها البحث، محور نقد الترجمة باعتباره مسألة ذات أهمية، تصاحب الترجمة في إنجازاتها في كل مرحلة، بالقراءة والتحليل والتقويم، فلاشيء أكثر خطورة من الترجمة كما قال جاك دريدا

.
محمد الديداوي: من وحي الثلاثية الترجمية: التصرف والحرفية والتعدد

تناول الباحث محمد الديداوي موضوعه انطلاقا من إشكالية المترجم والترجمة، ويرى أن عملية الترجمة تتحكم فيها ثلاثة مستويات: القراءة، الكتابة، الترجمة. فالمترجم " مسكون بالقراءة، ذلك أنه يقرأ قبل أن يترجم ليكون الزاد الذي يساعده على الكتابة في الترجمة" ولذلك فالترجمة بالنسبة إليه هي عبارة عن قراءة وكتابة، بمعنى أن الكتابة، هي الضم والجمع، ويؤكد بأن " جودة الكتابة والترجمة تكون حسب القوة المائزة والقوة الصانعة، التي هي نبراس للمفاضلة بين الكتاب وبين المترجمين"، وعلاوة على العلاقة الحميمية القائمة بين القراءة والكتابة والترجمة، برى أن هناك عاملين رئيسيين ينمان عن البحث عن النص الأمثل، ألا وهما ثنائية الترجمة: التصرف والحرفية وتعددها، حيث الأولى تسير في اتجاه عمودي، والثانية في اتجاه أفقي، ابتغاء الأجود والأدق. ويخلص في هذه المسألة إلى " أن خير طريقة للترجمة هي التصرف بدقة، وهو التقيد إلى أقصى حد بالأصل والابتعاد عنه إلى أقصى درجة بقدر ما تتطلبه اللغة المترجم إليها، والعرب في حاجة إلى نوعين آخرين من الترجمة هما: الترجمة التأصيلية، كما يسميها طه عبد الرحمان، التي يؤصل بموجبها النص في العربية، والترجمة التعريبية التي ليست ترجمة سوى لأنه فيها استعمال لأكثر من لغة "، وهذه الأخيرة تقتضي، حسب الباحث، من الخبير العربي الذي يلم بلغة أو بلغات أخرى، أن يطلع على المعلومة في تلك اللغة أو اللغات ويأخذ زبدتها ويضيف إليها ويكيفها مع مستلزمات الثقافة الغربية. ورغم كل ذلك فالأستاذ محمد الديداوي يرى أنه " لإنجاح الترجمة لابد من مشروع ترجمي متكامل محدد المعالم، ولموقف المترجم أهمية حاسمة، لأن من يترجم ملتزما، ليس كمن يفعل ذلك مسترزقا"، ويضيف بأن" المترجم قارئ نهم مما يجعله كاتبا ملهما، لكنه قارئ مسخر وكاتب مسير ومبدع مؤطر، لأن له حدود مرسومة وشروط معلومة. ومن أوجب الواجبات التدريب على الترجمة وقواعدها وأصولها، قبل الخوض فيها تجنبا للإفساد".هكذا تكون آفاق الترجمة واسعة رحبة، وبالتالي، يؤكد الباحث، على أنه قد آن الأوان لننفتح عليها بقدرة وحنكة ودربة.

ثريا إقبال: الترجمة الأدبية وخصوصية الثقافات

في بحثها المعنون ب " الترجمة الأدبية وخصوصية الثقافات: الرواية الإفريقية نموذجا"، تناولت الباحثة ثريا إقبال هذا الموضوع انطلاقا من تجربتها في ترجمة رواية " لله الأمر" للكاتب الإغواري أحمدو كوروما الحاصلة على جوائز أهمها جائزة كونكور الفرنسية (2001)، والتي صدرت بالعربية عن المجلس الأعلى للثقافة (2005)، ولقد وقفت ثريا إقبال طويلا عند خصوصية هذه الرواية التي تعتبرها " رحلة نحو منطقة الآخر البعيدة لأسباب مختلفة قد تكون سياسية أو ثقافية أو بسبب ماض شهد عنفا فخلف وراءه حذرا أو سوء فهم. فالرواية دعوة إلى إقامة جولة سياحية ثقافية في ربوع الآخر المختلف تاريخيا عن سواه، فهي تقصي جمالي للتعرف على الاختلاف والتخلف"، إنها جولة في ثقافة/ثقافات مختلفة تعيش فيها الشخصيات مصيرها المختلف الضارب في أعماق الوجود. وتؤكد الباحثة بأنها واجهت أثناء ترجمتها لهذه الرواية عدة صعوبات وإرغامات، جعلتها تعتبر هذه الترجمة مغامرة في اللغة وباللغة، ولقد وجدت نفسها أمام هذه الإشكالية منذ العنوان الذي جاء تحت عنوان: "الله ليس مجبرا" واضطرت إلى تغييره " لأنه قد يوحي للقارئ أن الكتاب يمس بالدين مع أنه يصف الحياة المأساوية لأطفال إفريقيا في سردية تتداخل فيها أصوات ولغات وأساليب عدة. إنها آلام يصعب تصنيفها في سخرية جادة أم جدية ساخرة"، ولعل تصور أحمد كوروما للغة الفرنسية، هو ما وضع الترجمة في إشكاليات معقدة فيما يخص نقل الأعمال الإبداعية ذات الخصوصيات الثقافية المختلفة، ف "لغته تبتكر، وتبدع بحرية تامة، تنهل من الحكي والتراث الشفهي الإفريقي ومن الأساليب الشعبية، فهو يبني عالما داخل اللغة مستمدا خصوصيته من بيئته وظروفه ورحلاته مطوعا العبارة لتستوعب آلامه وأحلامه، وليقبض على الجزيئات اليومية والتفاصيل الصغيرة تاركا بصمة استثنائية في سجل الأدب المكتوب بالفرنسية". وبذلك تعرضت الباحثة إلى الموضوعات التي تشكلت منها الرواية، والتي جعلت من صاحبها يغطس إلى أعماق المجتمع من خلال عاداته وتقاليده وطقوسه وسلوكاته. في فضاء لغوي يعتمد تعدد اللغات والأصوات والدلالات، في ابتكارية تأخذ القارئ إلى الحدود القصوى للغة، وللجملة السردية، ف "هناك ثلاث لغات داخل الرواية: فرنسية فرنسا، فرنسية إفريقيا السوداء، ولغة البندجان وهي الإنجليزية على الطريقة الإفريقية". وتخلص الباحثة إلى أن "خصوصية الكتابة وغرابتها في رواية "لله الأمر" عكست ظلالها على عملية الترجمة، فالنص الأصلي غريب ومختلف في حد ذاته وقد حاولت الحفاظ على هذه الغرابة رغم ما تشكله من دهشة وعدم ألفة، لم أسع إلى إيجاد جمل توافق دائما ذوق القارئ العربي وكان رهاني هو التوصل إلى ترجمة تستقبل غرابة النص وتفرده وتجعله ينفتح على إمكانيات أخرى في القول والتسمية والفهم.

المهدي أخريف: الإقامة بين لغتين
في مداخلته التي كانت بعنوان: "الإقامة بين لغتين" يعالج الشاعر والمترجم المهدي أخريف موضوعه انطلاقا من تجربته في ترجمة أعمال الشاعر البرتغالي ماريو دوسا كارنيرو(1890-1986)، وهو من أبرز شعراء الحداثة في الأدب البرتغالي، حيث شكل هو وفرناندو بيسوا وأمادو دي سوزا كاردوس، وسانتا ريثا بينتور التيار الطليعي في البرتغال الحديثة. ويتناول الشاعر المهدي أخريف موضوعه حيث يتطرق لتجربة الشاعر سواء في حياته أو في أعماله الشعرية من خلال ثلاثة إشكاليات:
- كل حياة الشاعر مجسدة في هذا الأثر الذي يتميز بوحدة كبرى انعكست فيها كل مرحلة من مراحل حياته ،
ـ أثره الشعري هو بمثابة معرض عجيب لعالم ما بعد رمزي، عالم شعري بصري يمنحنا فرجة للحواس التي يستخدمها بطريقة فريدة،
ـ يوحد المبتدآت والأخبار والموصوفات مانحا إياها وظائف جديدة، يتلاعب بالانطباعات، يجبر قواعد النحو والصرف على الانصياع لجبروت جموحه التعبيري معديا أفعالا لازمة على نحو غير مسبوق يخلق تنافرات دلالية وإحساسات متزامنة، حيلا تعبيرية تربك عملية الفهم.
ومن خلال هذه الإبداعية في اللغة المسكونة بألم شخصي، وبمشروع شعري ينبغي تفجير الأحاسيس بتفجير اللغة وتعنيفها، تجد الترجمة نفسها أمام إشكالات متعددة، منها الرجوع إلى النص الأصلي (البرتغالي) بدل البقاء عند النص الوسيط(الإسباني)، وبذلك يؤكد المهدي أخريف قائلا: "في سبيل إنجاز ترجمة مرضية لأثره الشعري كان علي أن أقيم بين لغتين. إقامتي كانت إقامات وتنقلات، حركات متصلة من ذهاب وإياب بين اللغتين: الإسبانية والبرتغالية معا بتناغم عجيب وبإضاءات متبادلة قدمتا لي كل العون في ترجمتي لهذا الأثر الشعري الباذخ". وبذلك وقف الشاعر المترجم عند العوائق والإرغامات التي واجهت ترجمته، والتي تمثلت في خصوصية العالم الشعري لماريو دوسا كارنينو، سواء على مستوى اللغة أو على مستوى الثقافة التي يشتغل من داخلها، أو أيضا على مستوى التجربة الشخصية الحياتية المليئة بالمعاناة، فكل ذلك شكل أثرا شعريا باذخا، دفع اللغة الشعرية إلى حدود قصوى، جعل كل ترجمة متعذرة، قابلة وغير قابلة للنقل والتحويل، وتلك هي مغامرة المهدي أخريف أن يجعل هذه التجربة الشعرية تتكلم اللغة العربية بصوت برتغالي.


فريد الزاهي : بين لغة وأخرى، الكتابة والترجمة المضاعفة
انطلق الباحث والمترجم فريد الزاهي، في مداخلته من تجربته الخاصة، خصوصا في ترجمته لأعمال المبدع عبد الكبير الخطيبي . وقد وقف بالضبط عند روايته "عشق اللسانين"، والمعاناة التي كابدها مع هذا النص المتعذر ترجمته، دون أن يظفر بأي شيء، وهو ماجعله ينتقم بترجمة نص آخر للخطيبي، وهو "صيف في ستوكهولم" ، وجوهر الإشكالية يتجلى ليس فقط في أن هذا النص يشتغل على اللغة وباللغة، بل وأيضا لأنه ينتمي للأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، وهو مايجعل المترجم يعيش ماسماه الباحث بالترجمة المضاعفة، يقول: "ثمة لعبة يعيشها المترجم في حالات خاصة تتصل أساسا بترجمة ما يعود موضوعه للغته وثقافته هو. يتعلق الأمر بما يكتبه المستشرقون عن لغة وثقافة المترجم المحلية، أو ما يكون قد ترجم عن هذه اللغة المحلية وضاع أصل هذه الترجمة ...إنها حالات قصوى للترجمة، يجد فيها المترجم نفسه أشبه بمن يعيد الأصل المترجم إلى مصدره، وكمن يترجم من جديد ما تمت ترجمته من هذه اللغة التي إليها يعيد الآن ما كان منطلقا منها أصلا".
عبد الله العميد: مؤسسات الترجمة ومشروعاتها: من الاستهلاك إلى الاستيعاب
لقد قدم الباحث عبد الله العميد في بداية مداخلته صورة إجمالية للمبادرات والهيئات التي سعت، منذ نحو ثلاثين سنة، إلى تحقيق عدد من المشروعات الوطنية والعربية المتفاوتة القيمة في مجال الترجمة، وذلك في عدد كبير من البلدان العربية التي نشرت بياناتها الإحصائية. وبعد ذلك انتقل للحديث عن أهم المشروعات المعاصرة والمؤسسات الحديثة، في بعض البلدان العربية الرائدة في هذا المضمار، مبرزا أوجه التقصير وسبل تداركها في المستقبل. ثم تناول الأنشطة المرافقة لحركة الترجمة والتي لا يمكن تحقيق أي تقدم بدونها . وتشمل هذه الأنشطة كما جاء في ورقة الباحث إنشاء المعاهد المتخصصة الحديثة، والمشاركة في اللقاءات الدولية الكبرى المكرسة لتنمية أنشطة الترجمة على الصعيد العالمي، وإصدار مجلات الترجمة ومجلات المواد المترجمة، فضلا عن منح الجوائز وتنظيم الندوات الوطنية والمؤتمرات العربية والدولية الداعمة لحركة الترجمة.
وبعد ذلك انتقل الباحث إلى الحديث عن المرحلة المقبلة ، وما يتعين على مؤسسات الترجمة أن تقوم به كي تسهم في نقل حركة الترجمة من مجرد الاستيراد للاستهلاك إلى فتح مجالات جديدة تتيح استيعاب المعارف وإعادة إنتاجها

.